محمد علي باشا ودوره في إدخال القوانين الأوروبية مصر
محمد وفيق زين العابدين


بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، الحمد لله الذي رفَع لنا في كل ثَغرٍ عَلَمًا، وأجرى لنا في جوار كل بحرٍ ما يُضاهيه كرَمًا، وجعل في هذه الأُمة من المسلمين إلى اليوم مَن يَزيد الناس عِلمًا، ويَمحو من الظلمات ظُلمًا.

يرجع التشريع الوضعي في أصوله التاريخية إلى القانون الفرنسي بصفة خاصة إبان كانت مصر خاضعة للحكم العثماني [1]، وقد كان نابليون أول من حاول استبدال القانون الوضعي بالشريعة الإسلامية في العصر الحديث، فبعد احتلاله لمصر عام 1798م أنشأ محاكم (القضايا) في الإسكندرية ورشيد ودمياط، وكانت تتكون من اثني عشر تاجرًا نصفهم مسلمين والنصف الآخر نصارى يرأسهم قاض نصراني، وجعل اختصاصها النظر في المسائل التجارية ومسائل المواريث، هذا فضلًا عن إنشائه محاكم (الطوائف غير الإسلامية) من النصارى واليهود، حيث كان يتولى رئيس كل طائفة المحكمة الخاصة بطائفته، للنظر في منازعتهم، وكان الهدف من ذلك تقليص دور المحاكم الشرعية، لكن سرعان ما حُلت هذه المحاكم وتلاشت بخروج الفرنسيين من مصر، وأُعيد الاختصاص العام للمحاكم الشرعية في نظر الخصومات والقضايا.

ويعتبر محمد علي باشا هو أول والي عثماني يسن القوانين الوضعية في الديار المصرية والأقطار التي كانت واقعة تحت سلطانه [2]، غير أنها لم تكن قوانين بالمعنى الفني الحديث بل كانت أشبه ما تكون باللوائح والقرارات، ففي عام 1830 م وضع محمد علي قانونًا لضبط أحوال الزراعة سماه (قانون الفلاح) [3] وكانت عقوباته: الضرب بالكرباج والنفي والحبس والإعدام، وكانت العقوبة تقع على المجرم أحيانًا وعلى شيخه أحيانًا، وعليهما تارةً وعلى القائم مقام تارةً أخرى، وتتفاوت العقوبات بحسب قدر الجاني ومنزلته وما إذا كان رفيعًا أو وضيعًا.


ولما كثُرت اللوائح والقرارات التي أصدرها محمد علي، قامت الحكومة بتوحيدها وانتزعت من مجموعها قانونًا عامًا أطلقت عليه اسم (قانون المنتخبات) فكان أول تقنين وضعي عام [4].

وفي عام 1833 م أصدر محمد علي لائحة (ترتيب مجلس أحكام ملكية) وكانت تعني بطرق المرافعات.

كما تقلص في عهد محمد علي دور المحاكم الشرعية، حيث أنشأ (المجالس القضائية) إلى جانب المحاكم الشرعية، وكانت مهمتها لا تقف عند حد الفصل في الخصومات التي تُعرض عليها، بل تعد اختصاص بعضها إلى التشريع ووضع القوانين، فأنشأ أولًا (مجلس الحقانية) عام 1842 م، ثم أصبح فيما بعد يُعرف ب (مجلس الأحكام)، وكان لهذا المجلس حق التشريع وصنع القوانين واللوائح لتسري على الناس كافة فوق أصل اختصاصها وهو نظر جميع القضايا الخاصة بالعسكرية أو بالأهالي التي تقدم إليها.

ثم وفي عام 1845 م أنشأ محمد علي (مجلس تجار الإسكندرية) وكان يضم في عضويته عددًا من التجار المصريين والأوروبيين، ويختص بنظر الخصومات التجارية بين الأهالي والأوربيين وبين الأهالي وبعضهم البعض، وفي العام التالي أنشأ (مجلس تجاري) في مصر على غرار مجلس ثغر الإسكندرية، وفي عام 1847 م تم إنشاء (المجلس الخصوصي) برئاسة إبراهيم باشا ابن محمد علي، وكان هذا المجلس هو أعلى المجالس في الديار المصرية إذ كان قائمًا مقام السلطة التشريعية وكان ينظر في عظائم الأمور الكلية وله سلطة سن اللوائح وإصدار القرارات لجميع مصالح الحكومة ودواوينها بيد إنه لم يستمر طويلًا حيث أُلغي عقب وفاة إبراهيم باشا عام 1848 م.

واستمرت هذه المجالس فيما بعد عهد محمد علي، وقويت وتعددت في عهد عباس الأول، حتى أصبح لكل مديرية من مديريات الديار المصرية (مجلس قضائي) تتبعه [5].

وفي عهد إسماعيل باشا وقبل إنشاء المحاكم المختلطة صدر الأمر العالي عام 1871 م بإنشاء (مجالس قضائية محلية) في المراكز والبلاد الصغيرة، وكانت على خمسة أنواع: (مجلس الدعاوى)، (المجالس المركزية)، (المجالس الابتدائية)، (المجالس الاستئنافية)، (مجلس الأحكام)، ولكل من هذه المجالس اختصاصها بحسب نوع الجزاء في المواد الجنائية، وبحسب قيمة الدعوى في المواد المدنية.

وكانت هذه المجالس تحكم وفقًا لما يظهر لها دون التقيد بثمة قانون أو عرف حتى أُطلق عليها (محاكم قانون همايوني) [6]أي قانون الهوى والفوضى، كما أن حالة قضاة تلك المجالس من العلم ومن اللغة ومن الكتابة كانت من أضعف ما يكون.

كما أن العقوبات التي كانت توقعها هذه المجالس كانت تتفاوت بحسب قدر الجاني ومنزلته وما إذا كان رفيعًا أو وضيعًا، فإذا ما وقعت جريمة على النفس أو المال وكانت لا تستوجب إلا التعزير فقط يُنظر إلى حال الجاني وشأنه: فإن كان من يستوجب التعزير من أصحاب الرتب أو السادات الكرام وجب إحضاره إلى (مجلس الأحكام) وتعزيره بما يليق، وإن كان من أوساط الناس لزم تعزيره بالحبس أو النفي بحسب ما يقتضيه الحال، فإن كان من آحاد الناس فإنه يؤدب بالحبس أو النفي أو الضرب بالعصا بحسب ما يقتضيه الحال، وإذا وقعت الجريمة على العرض: فإن كان الفاعل من الأهالي أو الخدمة الصغار فإنه يؤدب بالضرب من خمسين إلى خمسمائة كرباج، وإن كان من وجوه الناس فإنه يُحبس بمحل خدمته مدةً (من شهر إلى سنة)، وفي جرائم الجرح والضرب الذي تزيد مدة علاجه عن عشرين يومًا: إذا كان الجاني من وجوه الناس يحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة ويُلزم بدفع نفقات علاج المجني عليه ومقابل كسبه حتى يتم له الشفاء، وإذا كان الجاني من عوام الناس فيضرب من ثلاثمائة إلى خمسمائة كرباج ويُلزم بدفع نفقات علاج المجني عليه ومقابل كسبه حتى يتم له الشفاء، وفي جرائم الجرح والضرب البسيط الذي لا تزيد مدة علاجه عن عشرين يومًا: إذا كان الجاني من وجوه الناس يحبس من خمسة عشر يومًا إلى ثلاثة أشهر، وإذا كان الجاني من عوام الناس فيضرب من خمسين إلى ثلاثمائة كرباج [7].

وفي عام 1850 م صدر قانون التجارة العثماني الذي كان مستمدًا من القانون التجاري الفرنسي الصادر عام 1807 م، وكان (قانون التجارة العثماني) هو الواجب التطبيق في الديار المصرية، وقد نصت المادة (40) منه على أنه إذا لم يوجد نص فيه بخصوص المسألة المعروضة وجب تطبيق القانون الفرنسي.

ثم صدر قانون الجزاء العثماني الصادر عام 1858 م الذي كان مستمدًا أيضًا من القانون الفرنسي [8]، وقانون الأراضي الأميرية الصادر في ذات العام، ثم قانون التجارة البحرية عام 1861 م، فقانون أصول المحاكمات التجارية عام 1864 م.

وكانت القوانين تصدر في الأصل باللغة التركية التي لا يفهمها المصريون فيستأثر الولاة بتفسيرها وتأويلها والحكم بمقتضاها حسبما يشاءون [9].

ونتيجة ضعف الخلافة الإسلامية وتزايد (الامتيازات الأجنبية) في الدولة العثمانية بصفة عامة وفي مصر بصفة خاصة، فقد قويت سلطة سفراء وقناصل الحكومات الأجنبية حتى حالت دون محاكمة رعاياها أمام المحاكم الشرعية، وأصبح هذا عرف عام صار فيما بعد قانون بموجب (اللائحة السعيدية) المعروفة ب (لائحة البوليس السعيدية) الصادرة في الخامس عشر من أغسطس عام 1857 م، فصار الأجانب بموجبها يحاكمون أمام القناصل التابعين لهم.

وقد حاول إسماعيل باشا لما تولى رئاسة الحكومة المصرية عام 1863 م إصلاح الأمر بإعادة إخضاع الأجانب للمحاكم الشرعية، لكن نوبار باشا وزير الخارجية - الأرمني الأصل - رأى أنه لا سبيل للحكومة إلى ذلك وأن سبيل إصلاح الوضع الفوضوي لمحاكمة الأجانب هو إنشاء المحاكم المختلطة، فرفع في عام 1867 م تقريرًا إلى الخديوي إسماعيل يعرض فيه إصلاح الوضع القائم بإنشاء (محاكم مصرية مختلطة) لمحاكمة الأجانب بصفة خاصة، وكانت هذه المحاكم مؤلفة من قضاة أجانب ومصريين تمتد ولايتهم لجميع المسائل المدنية والتجارية والجنائية، باستثناء المسائل المتعلقة بالعقارات تظل خاضعة للمحاكم الشرعية، وأوصى بإصدار قوانين تقوم المحاكم الجديدة بتطبيقها، وقد أثار هذا التقرير خلافات شديدة بين رجال الحكومة، وفي النهاية وافقت الدول صاحبة الامتيازات على الفكرة بعد مفاوضات دامت سنتين قضاها نوبار باشا في التنقل بين عواصم أوروبا [10]، فشُكلت لجنة استشارية من ممثلي بعض تلك الدول [11] عقدت اجتماعاتها عام 1869 م في القاهرة احتفالًا بافتتاح (قناة السويس)، وانتهت إلى الموافقة على تأسيس (المحاكم المختلطة) بشرط سن قوانين خاصة مستقاة من القوانين الفرنسية تطبقها هذه المحاكم، وأن يكون قضاتها خليط من المصريين والفرنسيين والألمان والإنكليز.

وفي نهاية عام 1875 م أُنشئت (المحاكم المختلطة) بموجب (لائحة ترتيب المحاكم المختلطة)، كما وضعت لها عدة تقنينات في مجالات: المرافعات المدنية والتجارية، المعاملات المدنية، تحقيق الجنايات (الإجراءات الجنائية)، العقوبات، التجارة، التجارة البحرية، بواسطة محام فرنسي يُدعى (مونوري) [12] وآخرين، قاموا بنقلها عن القوانين الفرنسية نقلًا مشوهًا، وصدرت في ذات العام واستمر العمل بقانون العقوبات الوضعي حتى عام 1937 م، وبالقانون المدني الوضعي حتى عام 1949 م.

ولم تسلم حتى (المحاكم الشرعية) من التأثر بالقانون الفرنسي، حيث تألفت في أواخر عام 1880 م لجنة لإنشاء (محاكم أهلية) للمصريين على غرار (المحاكم المختلطة)، وفي نوفمبر 1881 م وضعت اللجنة (لائحة ترتيب المحاكم الأهلية)، بيد إن قيام الثورة العرابية حال دون دخول هذه المحاكم حيز التنفيذ، ثم ما لبث أن أعادت الحكومة النظر في (لائحة ترتيب المحاكم الأهلية) بعد تدخل الإنكليز للقضاء على الثورة العرابية، وأصدرت الأمر العالي رقم (83) في يونيو عام 1883 م بإنشاء (المحاكم الأهلية)، وقد قامت اللجنة التي أعدت لائحة ترتيبها بوضع تقنينات خاصة لتطبقها هذه المحاكم على المتقاضين المصريين، منها: قانون المرافعات المدنية والتجارية، القانون المدني، قانون تحقيق الجنايات (الإجراءات الجنائية)، قانون العقوبات، قانون التجارة، قانون التجارة البحري، أُخذت جميعها من القوانين الفرنسية والقوانين الموضوعة للمحاكم المختلطة [13]، وصدرت في ذات العام باللغة الفرنسية، ثم تُرجمت إلى العربية، وفي نهاية العام افتتح الخديوي توفيق المحاكم الجديدة رسميًا، التي عقدت منذ بداية العام الجديد جلساتها، واقتصر اختصاصهاالإقليم ي في أول الأمر على الوجه البحري ثم امتد عام 1889 م إلى عموم الإقليم المصري.

ومع تزايد النفوذ الأجنبي بمصر والذي انتهى باحتلال الإنكليز مصر والقضاء على استقلالها تزايدت التقنينات الوضعية [14]، وكان انحسار الشريعة الإسلامية في مجال التشريع الجنائي وسياسة العقاب كاملًا.

ولم يُكتف بذلك بل قُننت الدعارة والفجور فصدرت في 15 يوليو سنة 1896 م لائحة بيوت العاهرات المستبدلة بلائحة بيوت العاهرات الصادرة بتاريخ 16 نوفمبر 1905 م، والتي نصت في مادتها الأولى على أن: (يُعتبر بيتًا للعاهرات كل محل تجتمع فيه امرأتان أو أكثر من المتعاطيات عادة فعل الفحشاء، ولو كانت كل منهن ساكنة في حجرة منفردة منه أو كان اجتماعهن فيه وقتيًا)، ونصت في مادتها الخامسة على أن: (يجب على كل من يُريد فتح بيت للعاهرات أن يُخطر المحافظة أو المديرية بذلك بالكتابة قبل فتحه بخمسة عشر يومًا على الأقل، ومتى كان للبيت أكثر من مدير واحد يجب على كل منهم أن يوقع على الإخطار ويكون مسؤولًا كذلك في حالة وقوع مخالفة)، ونصت في الفقرة الأولى من مادتها الخامسة عشر على أن؛ (كل مومسة تكون موجودة في بيت للعاهرات يجب أن تتقدم لإجراء الكشف الطبي عليها مرة في كل أسبوع بمعرفة الطبيب المنوط بمكتب الكشف، وإن لم يوجد فبمعرفة طبيب مصرح له بذلك من طرف مصلحة الصحة).. إلى آخر ما نصت عليه اللائحة من تقنين لوضع بيوت الدعارة وحماية العاهرات والمومسات [15]، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وفي فبراير عام 1904 م تم تعديل بعض التقنينات لما تبين من تناقضها واختلالها نتيجة نقلها عن القوانين الفرنسية بصورة مشوهة، فصدر قانون العقوبات رقم (3)، وقانون تحقيق الجنايات (الإجراءات الجنائية) رقم (4)، وكلاهما وإن عالج بعض التشوهات والتناقضات في القانونين السابقين عليهما إلا أنهما التزما كذلك أفكار القانون الفرنسي، بالإضافة إلى بعض أفكار مستمدة من قوانين أخرى مثل القانون البلجيكي والقانون الإيطالي والقانون الهندي.

وفي عام 1936 م ظهرت الحاجة إلى توحيد التقنينات المطبقة أمام المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية، فتشكلت لجنة لتعديل القانون المدني والقانون التجاري وقانون المرافعات [16]، ولجنة لتعديل قانون العقوبات وقانون تحقيق الجنايات [17]، ولم تتم اللجنة الأولى عملها، في حين أتمت اللجنة الثانية عملها في العام التالي حيث صدر في يوليو عام 1937 م القانون رقم (57) بشأن تحقيق الجنايات (الإجراءات الجنائية) الموحد للمحاكم المختلطة والأهلية، والقانون رقم (58) بشأن العقوبات الموحد للمحاكم المختلطة والأهلية، ونص كلاهما في مادة إصدارهما الأولى على إلغاء القانونين الجاري العمل بهما أمام المحاكم الأهلية والمختلطة، والاستعاضة عنهما بقانوني تحقيق الجنايات الموحد والعقوبات الموحد، ومن الجدير بالذكر أن القانون الأخير هو ذاته قانون العقوبات المطبق إلى يومنا هذا مع ما أُدخل عليه من تعديلات طيلة السنوات الماضية.

وفي يونيو عام 1938 م تشكلت لجنة لتوحيد (القانون المدني) المطبق أمام المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية، وكانت مكونة من أساتذة وقضاة مصريين وفرنسيين، يرأسهم أستاذ فرنسي شهير هو الدكتور (إدوارد لامبير) [18]، وبينهم: الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الدكتور سليمان مرقص، كما عاون اللجنة القاضيان: استونيت، وساس، اللذان كانا قاضيين بالمحاكم المختلطة.

بيد أن عمل اللجنة سالفة الذكر طال لسنوات ولم يكتمل، وتم حل اللجنة، ثم أُعيد تشكيلها وعُهد للدكتور عبد الرزاق السنهوري برئاستها، واستطاع السنهوري أن يُتم مشروع القانون الذي حمل رقم (131) وصدر في نهاية يوليو عام 1948 م، وكان يقول أنه استمد مواده وبنوده من نحو عشرين (مدونة قانونية) من التقنينات الوضعية المقارنة [19]، وقد نص في (مادة إصداره الأولى) على إلغاء القانون المدني الجاري العمل به أمام المحاكم الأهلية والقانون المدني الذي تطبقه المحاكم المختلطة والاستعاضة عنهما بالقانون المدني الموحد، لكنه لم يدخل حيز التنفيذ إلا في منتصف أكتوبر 1949 م مع إلغاء (المحاكم المختلطة)، وظل هذا القانون ساريًا منذ ذاك حتى يومنا هذا مع ما أُدخل عليه من تعديلات، وقد نص هذا القانون في (مادته الأولى) على أن: (تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها، فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكم القاضي بمقتض العرف، فإذا لم يوجد فبمقتض مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم توجد فبمقتض مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة)، فقدم النصوص الوضعية والعرف على (مبادئ الشريعة).

وبذلك أُقصيت الشريعة ولم يبق للمحاكم الشرعية سوى الأحوال الشخصية، وحتى هذه لم تسلم من محاولة النيل منها حيث طالب محمود عزمي وعزيز ميرهم وغيرهم عام 1923 م - بمناسبة وضع الدستور المصري الأول - بإلغاء المحاكم الشرعية وإخضاع مسائل الأحوال الشخصية للقانون المدني، لكن محاولتهم في هذا الوقت باءت بالفشل [20].

وفي سبتمبر عام 1952 م صدر القانون رقم (180) بإلغاء نظام الوقف على غير الخيرات المعروف بالوقف الأهلي في خطوة غير مسبوقة أدت إلى الحد من (نظام الوقف الإسلامي) [21]، تلتها خطوة لا تقل عنها خطورة هي إلغاء المحاكم الشرعية ودمج اختصاصها في اختصاص المحاكم العادية في نهاية سبتمبر عام 1955 م بموجب القانون رقم (462)، وأُلغيت كافة القوانين المتعلقة بترتيبها واختصاصاتها وتنظيم عمل المحامين والخبراء أمامها [22]، مع بقاء نظر قضاة المحاكم العادية مسائل الأحوال الشخصية طبقًا لتقنينات الأحوال الشخصية - التي تعتمد في غالب نصوصها على الشريعة الإسلامية - أو للراجح من المذهب الحنفي في حالة خلو هذه التقنينات من نص يعالج المسألة المعروضة.


المصدر: من كتاب: "تطبيق الشريعة .. بين الواقع والمأمول" للكاتب.




[1] أول قُطر إسلامي بدأ فيه إلغاء الشريعة الإسلامية هو الهند، إذ كانت تُطبق الشريعة الإسلامية فيها حتى عام 1791 م، حيث أخذت سلطات الاحتلال الإنكليزي للهند تسن القوانين الوضعية في بعض ولايات الهند، حتى تم إقصاء الشريعة في أواسط القرن التاسع عشر كليةً في معظم ولايات الهند، ولم يبق منها نافذًا إلا ما كان يتعلق بمسائل النكاح والطلاق وغيرهما من مسائل الأحوال الشخصية، ثم حذت بعض سلطات الدول العربية ومنها الحكومة المصرية التي استبدلت القوانين الوضعية المأخوذة من القانون الفرنسي في الغالب بالشريعة الإسلامية، ولم يبق أيضًا مطبقًا منها إلا مسائل الأحوال الشخصية، بل حتى مسائل الأحوال الشخصية لم تسلم في بعض البلاد الإسلامية من التعديلات الوضعية، ففي ألبانيا وتركيا وتونس وغيرها يمنع تعدد الزوجات وتشوب كثير من مسائل النكاح والإرث مخالفات شرعية، وفي الجملة لم يعد هناك دول إسلامية تطبق الشريعة الإسلامية اللهم إلا أفغانستان والسعودية، والأمر لا يخلو فيهما أيضًا من المآخذ والسلبيات بشأن سياسة تطبيق الشريعة، ولله الأمر من قبل ومن بعدُ.

[2] والسبب في ذلك أن محمد علي كان مفتونًا بالأوربيين وكان يقلدهم تقليدًا شديدًا، حتى إنه كان كلما وضع قانونًا ذكر في مقدمته أنه إنما يتشبه بممالك أوروبا لوضع النظامات الجديدة في مصر، وكان يكرر هذه العبارة في مقدمات جميع القوانين واللوائح التي يصدرها، فيقول في أحد القوانين التي أصدرها عام 1837 م: (إن الممالك المختلفة الكائنة بأوروبا موجود لكل منها قوانين متفرقة بحسب طبيعة وأخلاق ودرجة تربية أهلها، وجاري إجراء حكم أمورهم الملكية على مقتضاه) أي في مصر، ويقول في مقدمة الأمر العالي الذي أنشا به (مجلس الحقانية) عام 1842 م والذي عُرف فيما بعد ب (مجلس الأحكام): (ولذا توجد دقة واعتناء كثير لهذا في أوروبا.. وحيث إن الأوربيين رجال قد دبروا أشغالهم ووجدوا السهولة لكل مصلحة، ونحن مجبرون على تقليدهم..) إلى أن قال: (إن جميع الأحكام السياسية تنظر في هذا المجلس، ويلزم الحكم فيها، وبعد العلم بما يقدم لدى نجابتكم تستعملون وتستفهمون من المُترجم بك عما هو جاري في أوروبا)، ويقول في المادة التاسعة من لائحة (تشكيل دواوين الدولة) أنه يتم اختيار أعضاء المجالس (بطريق الانتخاب من بين أصحاب اللياقة والمفهومية حكم الجاري بممالك أوروبا).


[3] بين فيه أحكام الغصب ونقل الحدود، واستعمال ماشية الغير بدون رضاه، وسرقة الفواكه والغلال والدجاج والغنم، وأحكام المهملين في الحرث والزرع، وعقوبة من يمتنع عن دفع الدين، ومن يمتنع عن إرسال أنفار إلى الجهادية، ومن يظلم الأهالي من المشايخ عند جباية الأموال، ومن يحمي ممولًا لجأ إليه هربًا من دفع الأموال الأميرية، ومن يكسر السواقي، ومن يحرق الأجران، ومن يكذب على الحكام، ومن يذبح إناث الحيوانات أو ذكورها قبل الثالثة من عمرها.

[4] وذكر بعض الكُتاب أن (قانون نامة) كان بمثابة أول قانون وضعي فيه تبديل للشرع الحنيف.
والذي وقفت عليه أن (قانون نامة) لم يكن تقنينًا بالمعنى الصحيح، بل هو أشبه ما يكون بالقوانين الإدارية في زماننا، فقد كانت يُبين هيئة الحكومة وأعمدتها الأربعة: الوزراء والقضاة والعسكر والدفتر دار، ومدى سلطة كل منهم واختصاصه وكيفية اجتماع الديوان، والشارات التي يحملها الوزراء والنظام الداخلي للجيش وفرقه، والقصر السلطاني والاحتفالات والأعياد ونظام إدارة المقاطعات، وفي ذلك يقول الأستاذ الدكتور عبد المنعم إبراهيم الجميعي - أستاذ التاريخ الحديث بكلية التربية بجامعة القاهرة – في مقاله (دور الدين في التوجه السياسي للدولة العثمانية) بمجلة التاريخ العربي (العدد 20، ص 199): (حرص العثمانيون على تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقًا صارمًا، وأخضعوا رعاياهم غير المسلمين لنظام الملل، وكان الدين والدولة عندهم أمرًا واحدًا، والقرآن والسُّنة هما المصدران الأصيلان لسياستهم، وكان الطابع الديني الإسلامي بمثابة السمة الواضحة في تشريعات الدولة وفتوحاتها، ويؤكد ذلك (قانون نامة) الذي وضعه السلطان سليمان القانوني، والذي التزم بمبادئ الشريعة الإسلامية، كما يؤكده ما كان للهيئة الإسلامية من مركز مرموق.. ومن هنا فتح العثمانيون باسم الإسلام العديد من الأمصار التي لم تطأها قدم مسلم من قبل)، ويقول الدكتور سالم الرشيدي في كتابه (محمد الفاتح): (إن القوانين التي تُنسب إلى حكام الدولة العثمانية ليست من هذه القوانين المناقضة لشرع الله، بل هي أشبه ما تكون بالقوانين الإدارية في زماننا).
ونسبه بعض الكُتاب إلى السلطان العثماني محمد الفاتح رحمه الله، لكن المؤرخين لحياة السلطان الفاتح رحمه الله نفوا صحة ذلك كالدكتور سالم الرشيدي في كتابه (محمد الفاتح)، والأستاذ علي همت بركي الأفسكي (رئيس محكمة النقض الأسبق في تركيا) في كتابه (الحياة العدلية في عهد السلطان محمد الفاتح).
وقد ذهب الدكتور محمود شمام في مقاله (انتزاع الملك للمصلحة العامة) بمجلة مجمع الفقه الإسلامي (العدد الرابع) أن السلطان سليمان القانوني (900: 974 ه) كلف شيخ الإسلام أبا السعود الآمدي فجمع عدة قوانين خاصة بتنظيم الدولة وهيكلها الإداري في مجموعة عُرفت باسم (قانون نامة)، وهو ما نحى إليه أيضًا الأستاذ الدكتور عبد المنعم إبراهيم الجميعي - أستاذ التاريخ الحديث بكلية التربية بجامعة القاهرة – في مقاله (دور الدين في التوجه السياسي للدولة العثمانية) بمجلة التاريخ العربي (العدد 20، ص 199).
ونسبه حاجي خليفة في كشف الظنون (2 / 1314) للوزير الأعظم لطفي باشا (المتوفى عام 950 ه)، ونسبه في موضع آخر (2 / 1314) لبعض التجار جمعوه للسلطان سليم خان في حدود عام 900 ه، وفي موضع آخر (2 / 1315) إلى خواجة نصير الدين محمد بن عبد الله محمد بن محمد الطوسي (المتوفى عام 672 ه)، ونسبه الأستاذ عزيز خانكي بك المحامي في مقال (التشريع والقضاء قبل إنشاء المحاكم الأهلية) المنشور في الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية (1 / 64) إلى محمد علي باشا أصدره عام 1253 ه (1837 م) وكان يتضمن حصر السلطة في سبعة دواوين وتنظيم اختصاصاتها هي (الديوان العالي، ديوان الإيرادات، ديوان الجهادية، ديوان البحر، ديوان المدارس، ديوان الأمور الإفرنجية والتجارة المصرية، ديوان الفابريقات).
والذي تلخص لي مما تقدم أن (قانون نامة) لم يكن قانونًا واحدًا، بل هو مجموعة قوانين وضعت في أزمنة مختلفة بإشارة بعض سلاطين الدولة العثمانية، وليست قانونًا واحدًا كما ظن البعض، ويُحتمل مع تعدد هذه القوانين أن يكون قد شاب بعضها تبديل للشرع الحنيف في بعض مسائلها، في حين ظل بعضها غير مناقض لشرع الله عز وجل وأهمها (قانون نامة) الذي وضعه السلطان سليمان القانوني (900: 974 هـ)، وبذلك يمكن الجمع بين أقوال المؤرخين في شأن مناقضة (قانون نامة) للشرع، والله تعالى أعلم.

[5] أنشأ عباس الأول عام 1852 م خمسة مجالس للأقاليم: (مجلس طنطا) ويختص بنظر الدعاوى والمنازعات التي تنشب بين أهالي مديريات الغربية والمنوفية والبحيرة، (مجلس سمنود) ويختص بنظر الدعوى بمديريات الدقهلية والشرقية والقليوبية، (مجلس الفشن) للدعاوى التي تنشب في مديريات الجيزة والمنيا وبني مزار وبني سويف والفيوم، (مجلس جرجا) لمديريات أسيوط وجرجا وقنا وإسنا، (مجلس الخرطوم) لقضايا السودان.
وأما سعيد باشا فقد قام بإلغاء هذه المجالس ثم إعادتها أكثر من مرة، فقام بإلغاء (مجلس الأحكام) مرتين الأولى في عام 1855 م ثم أعاده في العام التالي، والثانية في عام 1860 م ثم أعاده في العام التالي حيث بقي قائمًا حتى إنشاء المحاكم الأهلية لوجه بحري عام 1883 م ولوجه قبلي عام 1889 م، وكذا قام بإلغاء (مجالس الأقاليم) عام 1860 م ثم قام بإعادتها.

[6] كلمة تركية بمعنى الفوضى والتحكم الجبري.

[7] ذكر هذه العقوبات وغيرها الأستاذ عزيز خانكي بك المحامي في مقال (التشريع والقضاء قبل إنشاء المحاكم الأهلية) المنشور في الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية (1 / 87: 88).

[8] ومن غرائب الأمور أن اللجان التي تشكلت لوضع (القانون الفرنسي) استمدت كثيرًا من بنوده من (الموسوعة القانونية الكبرى للرومان) المعروفة ب (موسوعة جوستنيان) آخر أباطرة الرومان، وهي بمثابة القانون الروماني القديم، والمصدر الرئيسي لهذه الموسوعة كان (قانون الألواح الإثنى عشر) وهو أول قانون دون في روما، ويذكر الأستاذ الدكتور محمود السقا في كتابه فلسفة وتاريخ القانون المصري ومراحل تطوره (22): أن (قانون الألواح) المشار إليه اعتمد في قواعده على (قانون صولون) الذي اعتمد بدوره على (قانون بوكخوريس) القانون المصري الفرعوني المدون قبل عام 595 قبل الميلاد.

[9] حيث كانت الوقائع المصرية تطبع وتنشر في زمن محمد علي باللغة التركية، ثم بعد حين صارت تطبع وتنشر باللغتين التركية والعربية، ولم تكتب باللغة العربية وحدها إلا في عهد سعيد باشا، وحتى عندما صارت تكتب بالعربية، فإنها كانت تُترجم عن أصلها التركي بصورة في الغالب ما تكون مشوهة وفي غاية الضعف والركاكة بحيث لم يكن يفهمها التركي ولا يفهمها المصري.

[10] وكانت فرنسا هي أكثر الدول اعتراضًا على إنشاء (المحاكم المختلطة) حتى أنها لم تبد موافقتها صراحةً إلا في عام 1876 م بعد إنشاء (المحاكم المختلطة) بالفعل، ذلك لأنها كانت أكثر الدول استفادةً من نظام (الامتيازات الأجنبية)، والعجيب أنها لم تعلن موافقتها إلا بعد أن حصلت على تعديل (لائحة ترتيب المحاكم المختلطة) بعد صدورها في أكثر من موضع.

[11] وهي انكلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا وروسيا.

[12] وكان بمثابة أمين سر نوبار باشا وزير خارجية الخديوي، وكان له دور كبير في صياغة مشروع (المحاكم المختلطة) والتوسط لدى الدول صاحبة (الامتيازات) للموافقة على المشروع.

[13] وعلى سبيل المثال يقول الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري في الوسيط في شرح القانون المدني (1 / 14: 15) عن القانون المدني الموضوع للمحاكم الأهلية: (وأول ما يعيب هذا التقنين أنه محض تقليد للتقنين الفرنسي العتيق، فجمع بين عيوب التقليد وعيوب الأصل الذي قلده: فهناك مسائل ذات خطر كبير.. ولا نجد لها أثرًا في التقنين الفرنسي.. فمبدأ التعسف في استعمال الحق ونظرية الاستغلال.. وحوالة الدَّيْن والإعسار المدني كل هذه المسائل الخطيرة لا نعثر على نص واحد فيها لا في التقنين الأصيل ولا في التقنين المقلد، وحتى فيما احتواه هذان التقنينان من النظريات والأحكام منها فقد ورد ناقصًا مبتورًا.. ففي تقنيننا القديم فضول واقتضاب، وفيه غموض وتناقض، ثم هو يقع في كثير من الأخطاء الفاحشة..).

[14] وقد كان استعمار الدول الإسلامية أهم أسباب دخول القوانين الوضعية هذه البلاد، فالإنكليز فرضوا القوانين الإنكليزية في الهند والسودان، والفرنسيين فرضوا قوانينهم في الجزائر والمغرب وتونس ومصر (منذ احتلالهم لها قبل الإنكليز)، والإيطاليين فرضوا قوانينهم في ليبيا (بعد احتلالهم لها عام 1911 م).

[15] الغريب في الأمر أن هذه اللائحة ظلت سارية حتى عام 1951 م حين أُلغيت بموجب المادة (14) من القانون رقم 68 لسنة 1951 م بشأن مكافحة الدعارة.

[16] أعضاؤها هم: صليب سامي، لينان دابلفون، مترمري جراهام، موريس دي فيه، مسيو ألفريد، إسكولي، وجميعهم من القانونين الفرنسيين والإنكليز اليهود والنصارى.

[17] كان من بين أعضائها: شيفاليه أنطونيونيتا، ليون باسار، فان أكر.

[18] وهو أستاذ عبد الرزاق السنهوري الذي طالما فاخر به، يقول (لامبير) في مقدمته لكتاب (الخلافة وتطورها) للسنهوري: (لقد وجدت ضالتي المنشودة أخيرًا في على يد السنهوري، وهو من أنبغ تلاميذي الذين درّست لهم خلال حياتي العملية).
وقد قام (لامبير) وحده بوضع نصوص الباب التمهيدي ونصوص عقد المقاولة والتزام المرافق العامة والعمل والتأمين، فضلًا عن اشتراكه مع باقي أعضاء اللجنة في مراجعة وصياغة باقي مواد القانون.

[19] وكان السنهوري يفخر بما أتمه من عمل منشدًا:
جهود منهكات مضنيات
وصلت الليل فيها بالنهار *

وكنت إذا استبد اليأس يومًا
أسل عزيمة الأسد المثار


[20] وجدير بالذكر أن بعض القضاة قد تصدوا لمحاولات التغريب والانحراف عن الشريعة التي كانت تتم في تلك العقود، منها محاولات قام بها القاضي الأستاذ محمد سليمان عنارة - نائب رئيس المحكمة الشرعية العُليا - من ذلك محاضرته التي ألقاها عام 1936 م تحت عنوان (بأي شرع نحكم؟!) والتي دعا فيها إلى اتخاذ التشريع الإسلامي أساسًا للتقنين، ولم يترك فيها مأخذًا إلا بيَّنه ومنْبَتًا للباطل إلا فنده، ثم جاءت محاولات الشيخ العلامة القاضي أحمد محمد شاكر – نائب رئيس المحكمة الشرعية العُليا - من خلال محاضرته التي ألقاها في الثالث من إبريل 1941 م والتي لم يترك فيها شاردة ولا واردة إلا أتى عليها، وقال في ختامها: (هذه كلمة حق وصيحة في واد إن ذهبت اليوم مع الريح قد تذهب غدًا بالأوتاد).
المقارنات التشريعية بين القوانين الوضعية المدنية والتشريع الإسلامي (1 / 76 )
ثم رده على عبد العزيز باشا فهمي - رئيس محكمة النقض - في كتابه (حُكْم الجاهلية) وقد فند فيه الشبهات التي أوردها عبد العزيز باشا مستدلًا بها على أفضلية القوانين الغربية على الشريعة الإسلامية، وسنأتي على بعض ما ذكره العلامة أحمد شاكر رحمه الله في الفصل الأخير من هذا الكتاب.

[21] اتجه جمال عبد الناصر لما تولى حكم مصر إلى سياسة التأميم والتمصير ليتحكم في الثروة المصرية بزعم حفظ حقوق الفقراء من الشعب المصري، وكان مما خطط له الاستيلاء على الأوقاف الإسلامية، وعليه فقد قام بالفصل بين (وزارة الأوقاف) وممتلكاتها، وأخضع الاثنين لسيطرة (الحكومة المصرية)، لكنه خصص (وزارة الأوقاف) للإشراف على المساجد والدعاة وخطب الجمعة، بينما أنشأ (هيئة للأوقاف) للإشراف على كل ممتلكات الأوقاف داخل وخارج مصر لصالح (الحكومة المصرية)، وكذا جعل للحكومة الإشراف على (الأزهر) حيث ضمه ومؤسساته للدولة بعد أن كان مستقلًا عنها، فتحول العاملون فيه إلى موظفين في الدولة يأخذون مرتبات من خزانة الحكومة بدلًا عن ريع الأوقاف الذي كانوا يستحقون جزءًا منه نظير أعمالهم.
ثم لما تولى محمد أنور السادات ومن بعده محمد حسني مبارك حكم مصر تحولت مصر من (النظام الاشتراكي اليساري) إلى (النظام الاستثماري الرأسمالي) وانعكس هذا على (هيئة الأوقاف) التي تمتلك أثمن وأغلى العمارات السكنية والأراضي الزراعية وأراضى الفضاء المعدة للبناء في وسط القاهرة وحولها وفى سائر المدن المصرية، فثارت ثم ازدادت الرغبة لدى ذوي النفوذ والوجهاء في السيطرة على هذه العمارات والأراضي والاستيلاء عليها من (هيئة الأوقاف)، ومن أجل ذلك وُضِع نظام (استبدال الأوقاف) كي تنتقل كثير من العمارات والأراضي الباهظة الأثمان من ملكية (هيئة الأوقاف) إلى ملكية ذوى النفوذ والوجهاء، بينما تمتلك (هيئة الأوقاف) بدلًا عنها مساحات من (الخرابات) و (الصحراء).

[22] وقد أثار إلغاء (المحاكم الشرعية) غضب الغيورين على الشريعة وعلى رأسهم شيخ الأزهر آنذاك الإمام محمد الخضر حسين رحمه الله (1293: 1377 هـ) الذي استقال من منصبه احتجاجًا على إلغاء المحاكم الشرعية وإدماج اختصاص القضاء الشرعي ضمن اختصاص القضاء العادي، حيث كان يرى أنه يجب توسيع اختصاص المحاكم الشرعية، لأن الشريعة الإسلامية ينبغي أن تكون المصدر الأساسي للأحكام والتشريع.
منقول