وقفات مع قصة يوسف -عليه السلام (1)
قصة كفاح نبي للاقتداء والتطبيق




قصة يوسف -عليه السلام-، تحكي معاناة نبي من أنبياء الله -تعالى- وتعرضه لصنوف من المحن والابتلاءات، محنة كيد الإخوة، ومحنة الخوف والترويع في قعر الجب، ومحنة الرق والعبودية، ومحنة الإغراء وسطوة الشهوة في بيت امرأة العزيز، ومحنة السجن بعد رغد العيش في القصر، ثم محنة النصر والتمكين وهو يتحكم في أقوات الناس، وفي يده خزائن طعامهم، وأخيراً محنة المشاعر الإنسانية وهو يواجه إخوته الذين ألقَوه في الجب، وكانوا السبب المباشر لكل هذه المحن والابتلاءات التي تعرض لها، ولنا مع هذه القصة وقفات نستعرضها من خلال هذه السلسلة.
وردت قصة يوسف -عليه السلام- في القرآن الكريم فيما يزيد على مائة آية متصلة، تسلسلت الآيات في عرض أحداثها بطريقة مشوقة وسهلة وهادفة، تضع الأحداث في سياق مترابط ومتكامل، يحرك مشاعر القارئ، ويأخذ بتلابيب قلبه، والسورة مكية، نزلت في تلك الفترة الحرجة من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الذين كانوا معه في مكة، ففي الوقت الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعاني فيه الوحشة والغربة بعد موت زوجته خديجة -رضي الله عنها- وعمه أبي طالب، نزل القرآن في تلك الحال؛ ليقص على النبي الكريم قصة أخيه يوسف -عليه السلام- وهو يعاني صنوفا من المحن والابتلاءات.
واقع الإنسان والبيئة والمجتمع
وقد جسدت هذه القصة واقع الإنسان والبيئة والمجتمع بدقة وواقعية، ومن ثم تصلح القصة نموذجا لبيان حال الإنسان، وهو يخوض رحلة اكتشاف الذات، ثم تأمُّل ردود أفعاله وهو يواجه مشكلات الحياة بقسوتها وتقلبها وعنفوانها.
طبيعة النفس البشرية
لم تكتف القصة بذلك، بل كشفت لنا طبيعة النفس البشرية بكل أهدابها وكهوفها ومغاراتها، وأثبتت أن النفس كالوعاء يمتلئ بما يملؤه به صاحبه، فعرضت صورا من نقاء النفس البشرية، وكيف يمكن أن تكون زكية طاهرة، وعرضت كذلك صورا أخرى مضادة لذلك النقاء، لتبقى التباينات والتناقضات ما بقيت الحياة، ولا يملك سليم الفطرة مستقيم السلوك إلا الانجذاب التام للنماذج الطاهرة، والنفرة الكاملة من النماذج المضادة.
البطل الرئيس للقصة
أما البطل الرئيس للقصة، فهو شاب يافع، بدأت معنا السورة بذكر تجربته منذ أن كان طفلاً صغيراً، ولم تتركنا إلا وهو وزيرٌ مرموقٌ، وكانت الأحداث الأكثر سخونة في حياته تتركز في فترة عنفوان شبابه، وهي المرحلة التي تعرض فيها لأكبر فتنة من الممكن أن يتعرض لها شاب في حياته، وهي فتنة إغراء زوجة مسؤول كبير، عرضت نفسها عليه في ظروف استثنائية، واحتياطات مُحْكَمة، تجعل الوقوع في وحلها أسهل ما يمكن.
مشكلات معقدة
وقد تعرض نبي الله يوسف -عليه السلام- لمشكلات معقدة منذ نعومة أظفاره، لكن ما لبث أن خرج منها متصفا بشخصية سوية، متزنة، هادئة، إيجابية، تنشر الخير والجمال، وتلتزم بالعفة والنقاء، وتعطي المجتمع أفضل ما لديها، في الوقت الذي حرمها المجتمع من أبسط حقوقها، فكان من الممكن أن يثأر البطل لنفسه، وينتقم ممن أساء إليه، لكنه لم يفعل، رغم أن خصومه كانوا سبباً لكل بلاء وشقاء تعرض له في حياته.
معاناة مكتملة الأركان
فهل رأيتم معاناة مكتملة الأركان، متنوعة الألوان، مثل المعاناة التي تعرض لها ذلك البطل، وحتى لا يتسرب اليأس والإحباط إلى قلوبنا، يجب ألا ننسى أن هذا البطل المبتلى، هو نبي مصطفىً من الله -عزوجل-، والله يحب أولياءه وأنبياءه، ولا يرضى لهم أن يتألموا أو يتعرضوا للإيذاء، ولكن أحيانا يكون القليل من الألم موصلا للمزيد من النعم، ولله في ذلك حكم عديدة، يسهل إدراكها بقليل من التأمل، ومن هذه الحكم ما عبر عنه القرآن بلفظ التمايز، قال -تعالى-: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
الكريم ابن الكريم
هذا الشاب البطل هو نبي الله يوسف -عليه السلام- الذي وصفه نبينا -[ في حديث ابن عمر عند البخاري بقوله-: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم»، وعن أبي هريرة -]- قال: سُئل رسول الله -[-، أي الناس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم» قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: «فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله» قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: «فعن معادن العرب تسألوني؟» قالوا: نعم. قال «فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا».
الواقعية في أعمق صورها
والمتأمل في هذه القصة يجد أن الواقعية تتفجر منها بطريقة ظاهرة لا مثيل لها، فمن إحدى جوانب الواقعية المهمة في هذه القصة أنها تقلبت بين معاني الفرح ومعاني الحزن، وغيرها من المعاني، التي يجب أن يعيَها الشباب عن حقيقة الدنيا، بأنها لا تستقيم لأحد على حال، ومن الطبيعي أن تتأرجح فيها ظروف الإنسان النفسية والاجتماعية والمادية، فالدنيا ليست دار نعيم حتى يسلم الإنسان فيها من وقوع المصائب والمتاعب، ولكن المحك: هو أن ينجو الإنسان بنفسه وسط هذه الأعاصير ليصل إلى بر الأمان، دون أن تؤثر فيه المصائب بالسلب فتوقعَه في الجحود والنكران، أو تؤدي به إلى التذمر والتمرد على القدر، ودون أن تؤثر فيه النجاحات بالسلب أيضاً، فينسي نعمة ربه ويغتر في نفسه، ويظن أن القوة والحول بيده.
قصة كفاح قابلة للتطبيق
إن قصة كفاح نبي الله يوسف -عليه السلام- قابلة للتطبيق وصالحة للاقتداء، وقصة نجاح يوسف -عليه السلام- تكمن في سر تفوقه في أنواع من العلوم لم يتعلمها في جامعة، ولم يدرسها في أكاديمية، ولكن الله علمه إياها من لدنه؛ مكافأة له على صبره واعتصامه وتوكله، فقد اجتهد الشاب فيما هو متاح لديه، فأنعم الله عليه بأنواع من العلوم والمهارات والمعارف، مكنته من النجاح في الحياة العملية، بما عجز عنه رجال الدولة وأساطين الحكم.
وقد بدأت القصة بالرؤيا التي قصها يوسف على أبيه، فينبؤه أبوه بأنه سيكون له شأن عظيم، وينصحه بألَّا يقصها على إخوته؛ كي لا يثير حسدَهم فيغريهم الشيطان به فيكيدوا له، ثم تسير القصة بعد ذلك، وكأنما هي تأويل للرؤيا ولما توقعه يعقوب من ورائها، حتى إذا اكتمل تأويل الرؤيا في النهاية، أنهي القرآن سياق القصة.


أحمد الشحات