حِكَمُ الصيام وغاياته


الفرقان

رمضان من مواسم الخيرات التي امتن الله -تعالى- بها على عباده، ليقوّى إيمانهم، وتزداد فيه تقواهم، وتتعمق صلتهم بربهم، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183)، والمتأمل في النصوص الشرعية الواردة في الصيام، التي تتحدث عن حِكَم الصيام وغاياته في الشريعة وفي واقع المسلمين، يجد بوناً كبيراً لدى أكثر عامة الأمة وكثير من الشباب بين الواقع والواجب.
ويعد الجهل بأهداف الصيام وحِكمه وغاياته في الشريعة لدى كثير من المسلمين، وقيامهم بالتطبيق تقليدًا ومسايرة للمجتمع من دون التأمل والدراسة من أبرز أسباب هذا التباين، فإن البشر -إن لم يكونوا واعين لحكمة التشريع الإلهي وثمراته في الدنيا قبل الآخرة-، فإنهم لن يطبقوه على تمامه، أو على الوجه الصحيح، ويمكن إيجاز أهم تلك الحِكم فيما يلي:
(1) تحقيق التقوى
تعد التقوى من أبرز حكم الصيام؛ يقول الرازي: «إن الصوم يورث التقوى لِما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى، فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهوّن لذات الدنيا ورياستها؛ وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، فمن أكثر منه هان عليه أمر هذين، وخفّت عليه مؤونتهما، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهوّناً عليه أمر الرياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى..».
(2) التربية على الصبر
وقوة الإرادة
التربية على الصبر من أبرز مرامي الصيام، حتى سمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - شهر الصيام: بشهر الصبر؛ إذ في الصوم: «تربية لقوة الإرادة على كبح جماح الشهوات وأنانية النفوس، ليقوّى صاحبها على ترك مألوفاته أكلاً أو شرباً أو متاعاً، فيكون قويّ الإرادة في الإقدام على أوامر الله، وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - التي من أعظمها حمل الرسالة المحمدية والدفع بها إلى الأمام، ساخراً بما أمامه من كل مشقة وصعوبة، والصوم يمثّل ضربًا من ضروب الصبر، الذي هو الثبات في القيام بالواجب في كل شأن من شؤون الحياة»؛ إذ يصبّر فيه الإنسان نفسَه على طاعة الله -تعالى- بالوقوف عند حدوده فعلاً وتركاً، قال -تعالى بعد أن ذكر شيئاً من أحكام الصيام-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} (البقرة: 187)، كما يضبطها ويمنعها عن لذّاتها طواعيةً وامتثالاً لأمر الله -تعالى- وطلباً لثوابه، وفي ذلك من التربية على قوة العزيمة والإرادة ما يجعل الإنسان متحكماً في أهوائه وشهواته.
(3) التربية على الاستسلام
والخضوع لله -تعالى
يربي الصيامُ المسلم على ضبط نفسه الأمارة بالسوء، ويمكّنه من السيطرة عليها والإمساك بزمامها؛ بحيث لا يكون مستسلماً لها بل مستسلم لأوامر ربه خاضع منقاد لنواهيه، مؤْثر لمحابِّه -سبحانه-، مقدم لها على رغائب الجسد وشهواته.
(4) الخوف من الله -تعالى- ومراقبته
الصيام عبادة خالصة بين العبد وربه؛ ولذا فإنه يربي في المسلم الخوف من الله -تعالى- ومراقبته والتطلع لثوابه؛ إذ بإمكانه أن يُظهر الصيام أمام الخلق وهو غير صائم أصلاً، سواء أكان عن طريق تناول شيء من المفطرات، أم بمجرد فقدان النية، وإن أمسك عنها طوال النهار، وفي ذلك من ظهور صدق الإيمان وكمال العبودية وقوة المحبة لله -تعالى- ورجاء ما عنده ما جعل جزاء الصيام عند الله -تعالى- أعظم من جزاء جل العبادات، قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ماشاء الله -عزوجلّ-، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي..» قال ابن القيم: «والعباد قد يطّلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم».
(5) التفكر في ملكوت الله -تعالى
لما كان فضول الطعام والشراب والكلام والمنام ومخالطة الأنام مما يزيد القلب شعثاً ويشتته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله -تعالى-، أو يُضعفه أو يعوقه ويوقفه، اقتضت رحمة الله -تعالى- بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات، وشرع لهم من العبادات في أثنائه من اعتكاف وقيام ودعاء وتلاوة قرآن ما يذهب فضول الكلام والمنام ومخالطة الأنام، كما أن القلب في حال الصيام يتفرغ للتفكر في آيات الله -تعالى- وملكوته؛ لأن الإفراط في تناول الشهوات يستوجب الغفلة، وربما يقسي القلب ويعمي عن الحق، قال ابن رجب: «وخلوّ الباطن من الطعام والشراب ينوّر القلب ويوجب رقَّته ويزيل قسوته ويخليه للذكر والفكر».
(6) معرفة العباد لما هم فيه من نعم
يحصل للأغنياء نتيجة امتناعهم عن الطعام والشراب في نهار الصيام مشقة، فيوجب ذلك لهم معرفة قدر نعمة الله -تعالى- عليهم بالغنى؛ حيث مكنهم من تلك النعم طوال العام مع ابتلاء عبادٍ له آخرين بالحرمان؛ مما يستوجب الشكر لله -تعالى- على ذلك، كما أن الفقراء ينظرون في العطايا التي يعطاها العباد خلال هذا الشهر من خلوّ الذهن للتفكر والعبادة والذكر نتيجة الجوع وخلوّ البطن، ويرون أن حالهم مقاربة لذلك في غالب العام، وأنهم مؤهَّلون لاستغلال تلك النعم طوال الوقت مما يستدعي شكرها، كما أن الصيام يجعل الأغنياء يتذكرون حال من حولهم من إخوانهم الفقراء، ويدعوهم إلى رحمة المحتاجين ومواساتهم بما يمكن من ذلك.
(7) قوة الأجساد وصحتها
الأصل في مشروعية الصيام أنه يقوّي الإيمان، ويُكسب العبدَ التقوى التي تحجزه عن المعاصي والآثام، إلا أن له حِكماً وفوائد أخر، من أبرزها ما اتضح في عصرنا من تقويته للأجساد وأثره في صحتها بالوقاية من العلل والأمراض الجسمية والنفسية.
حِكَم الصيام وغاياته
- تحقيق التقوى ومراقبة الله عز وجل
- التربية على الصبر وقوة الإرادة
- الاستسلام والخضوع لله -تعالى
- التفكر في ملكوت الله -تعالى
- معرفة العباد لما هم فيه من نعم
- قوة الأجساد وصحتها