أحوال السلف في رمضان


الفرقان

كان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- يهتمُّون بشهرِ رمضان اهتمامًا بالغًا، ويحرصون على ساعاتِه الثمينة أشدَّ الحرص في شتَّى الطاعاتِ والقرباتِ، فكانوا يحرصون فيه على قراءة القرآن، وعلى قيام الليل، وعلى الإنفاق والبذل، وكانوا يجتهدون في العشر الأخيرة منه، ويحرصون فيها على إدراك فضل ليلة القدر.
ومن مظاهرِ استغلالِهم لهذا الشهرِ الكريمِ ما يأتي:
أولاً: حرصُهم على قراءةِ القرآنِ
فهذا الأسودُ بنُ يزيدٍ - رضي الله عنه - يُروى عنه أنَّه كان يَعكُف على القرآنِ في رمضانَ حتى يختمَه كلَّ ليلتينِ، وكذلك كان يفعلُ سعيدُ بنُ جبير، وكان قتادةُ يختمُ القرآنَ في سبعٍ، وإذا جاءَ رمضانُ خَتَمَ في كلِّ ثلاثٍ، فإذا جاءَ العشرُ خَتَمَ كلَّ ليلةٍ، وهذا مالكُ بنُ أنسٍ كان إذا دَخَلَ عليه رمضانُ يُقبلُ على تلاوةِ القرآنِ من المصحفِ، ويتركُ كلَّ شيءٍ حتى مدارسةَ الحديثِ، وهذا سفيانٌ الثوريُّ كان إذا دَخَلَ عليه رمضانُ تَرَكَ كلَّ مشاغلِ الدنيا، وأقْبلَ على قراءةِ القرآنِ، وكذا الإمامُ البخاريُّ كان يجلسُ بعدَ صلاةِ القيامِ ليختمَ القرآنَ كلَّ ثلاثِ ليالٍ، وكان الزهريُّ إذا دَخَلَ عليه رمضانُ يتركُ قراءةَ الحديثِ، ومجالسةَ أهلِ العلمِ، ويُقبلُ على تلاوةِ القرآنِ من المصحفِ.
ثانيا: قيامُ الليلِ في رمضانَ
قيامُ الليلِ في رمضانَ هو دأْبُ الصالحينَ، وصفةُ المحبينَ، أثنى عليهم ربُّ العالمينَ في كتابهِ بقولِه: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}(الفر قان: 64)، روى مالكُ في الموطأِ عن عبداللهِ بنِ أبي بكرٍ -رضي الله عنهما- أنه قال: سمعتُ أبي يقولُ: «كنَّا ننصرفُ في رمضانَ من القيامِ فيستعجلُ أحدُنا الخدمَ بالطعامِ مخافةَ الفجرِ»، يقولُ نافعُ مولى ابنِ عمرَ -رضي الله عنهما- سمعتُ ابنَ أبي ملكيةَ يقولُ: «كنتُ أقومُ بالنَّاسِ في شهرِ رمضانَ فأقرأُ في الركعةِ الحمدُ للهِ فاطرِ ونحوِها، وما يبلغني أنّ أحداً يستثقلُ ذلك»، وقال يزيدُ بنُ خَصْفةَ عن السائبِ بنِ يزيدِ: «كانوا يقومونَ على عهدِ عمرَ بنِ الخطابِ -رضي الله عنهما- في شهرِ رمضانَ بعشرينَ ركعةٍ، وكانوا يقرؤونَ بالمائتينِ»، فأين الذينَ يتسابقونَ في الخروجِ مِنَ المسجدِ ويُخففونَ التَّراويحَ حتَّى أنَّهم لا يُقيمونَ رُكوعهَا ولا سُجودُها؟ أينَ خُصوصيةَ هذا الشهر المبارك؟
ثالثًا: الإنفاقُ والبذلُ في رمضانَ
كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أجودَ النَّاسِ، وكانَ أجودَ ما يكونُ في رمضانَ، كان أجودُ بالخيرِ من الريحِ المرسلةِ، وقد قالَ - صلى الله عليه وسلم - عندمَا سُئلَ عن أيِّ الصدقةِ أفضلُ: «صَدقةٌ في رمضَانَ»(رواه الترمذي، وقال الألباني في الترغيب والترهيب: «إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما»، ولمَّا عَلِمَ السَّلفُ فَضْلَ ذلكَ أقبلوا عليه بنفوسٍ راضيةٍ، فهذا ابنُ عمر -رضي الله عنهما روي عنه أنَّه كان لا يفطرُ في رمضانَ إلا مع المساكينِ، ويحافظُ على ذلكَ باستمرارٍ، فإذا مَنَعَهم أهلُه عنه لم يتعشَّ تلكَ الليلةِ!
وهذا واثلةُ بنُ الأسقعِ -رحمه الله- يقولُ: «حَضَرَ رمضانُ ونحنُ في أهلِ الصُّفةِ فَصُمنَا، فكنَّا إذا أفطرنَا أتى كلُّ رجلٍ منَّا رجلاً من أهلِ السَّعةِ فأَخَذَه فانطلقَ به فعشَّاه»، وهذا أحمدُ بنُ حنبلَ يأتي إليه سائلٌ فيدفعُ إليه رغيفينِ كان يُعدِّهما لفطرِه، ثمَّ يَطوي ويصبحُ صائماً، كما وَرَدَ أيضاً أنَّ داوودَ الطائيَّ ومالكَ بنَ دينارٍ كانَا يؤثرانِ بفطورهِما وهما صائمانِ، وكان الشافعيُّ يقولُ: «أُحبُّ للرجلِ الزيادةَ بالجودِ في شهرِ رمضانَ اقتداءً برسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - ولحاجةِ النَّاسِ فيه إلى مصالحِهم، ولتشاغلِ كثيرٍ منهم بالصَّومِ والصلاةِ عن مكاسبهِم».
رابعًا: استغلالُ العشرِ الأخيرةِ منه
استغلالُ العشرِ الأخيرةِ منه والحرصُ على سنةِ الاعتكافِ في رمضانَ، فقد حَرصَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليها أشدَّ الحرصِ «فكان يعتكفُ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ حتَّى قَبَضَه اللهُ»(رواه مسلم)، وعن عائشةَ -رضي الله عنها- أنَّها قالتْ: «كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذا دَخَلَ العشرْ أحيا اللَّيلَ، وشدَّ المئزرَ، وأيقظَ أَهلَهُ»(رواه البخاري مسلم)، وهكذا سارَ السلفُ من بعدِه.
خامسًا: تركُ الهَزلِ وحفظُ الجوارحِ
كانَ من عادةِ السلفِ أيضًا تركُ الهَزلِ في رمضانَ وحفظُ الجوارحِ عن كلِّ ما يشينُ، كانَ أبو هريرةَ - رضي الله عنه - يقولُ: «إذا كنتَ صائماً فلا تجهلْ ولا تسابُّ أحدًا، وإنْ جُهِلَ عليكَ فقل: إنِّي صائمٌ»، وكانوا حريصينَ على استثمارِ أوقاتِهم، واغتنامِ ساعاتِ ليلهِم ونهارهِم، حتى كانَ أحدُهم أشحَّ على وقتِه من صاحبِ المالِ على مالِه، قالَ ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -: «ما نَدِمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غَرَبتْ شمسُه نَقَصَ فيه أجلي، ولم يزددْ فيه عملي».
سادسًا: السلف والجود في رمضان
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في شهر رمضان إنّ جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ فيعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن فإذا لقيه جبريل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة»، قال المهلب: وفيه بركة أعمال الخير وأن بعضها يفتح بعضا ويعين على بعض، ألا ترى أن بركة الصيام ولقاء جبريل وعرضه القرآن عليه زاد في جود النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدقته حتى كان أجود من الريح المرسلة؟ وقال ابن رجب: قال الشافعي - رضي الله عنه -: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم ولتشاغل كثير منهم بالصّوم والصلاة عن مكاسبهم، وكان ابن عمر -رضي لله عنهما- يصوم ولا يفطر إلاّ مع المساكين، وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل.
سابعًا: السلف وتنوع القربات
كان للسلف في كل باب من أبواب القربات أوفر الحظ، وكانوا يحفظون صيامهم من الضياع في القيل والقال وكثرة السؤال، لذا تجد كثيراً منهم قد لازم المسجد ليحفظ صيامه وينقطع عن الناس ويتفرغ للعبادة، فعن طلق بن قيس قال: قال أبو ذر - رضي الله عنه -: إذا صمت فتحفظ ما استطعت، وكان طلق إذا كان يوم صومه دخل فلم يخرج إلاّ لصلاة (أخرجه ابن أبي شيبة). وكانوا حريصين على استثمار أوقاتهم، واغتنام ساعات الليل والنهار كما مر معنا، وكان أحدهم أشح على وقته من صاحب المال على ماله، وقال ابن القيم -رحمه الله-: إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.
خلاصة رمضان عند السلف

الإمساك عن تعاطي المفطرات الحسية والمعنوية، وفعل ما يرضي الله، وكانوا يحتسبون نومتهم كما يحتسبون قومتهم، ويتنافسون في الطاعات والقربات، ويفرون من مقاربة المعاصي والسيئات، ويحفظون صيامهم من المفطرات، ويعملون بكتاب الله وسنة رسوله، ويوصي بعضهم بعضاً بألا يكون يوم صوم أحدهم كيوم فطره، فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك، ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء».