كيف تمت بيعة علي رضي الله عنه؟
علي محمد الصلابي



تمّت بيعة علي - رضي الله عنه - بالخلافة بطريقة الاختيار، وذلك بعد أن استشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - على أيدي الخارجين المارقين الشذّاذ الذين جاؤوا من الآفاق، ومن أمصار مختلفة، وقبائل متباينة لا سابقة لهم، ولا أثر خير في الدنيا، فبعد أن قتلوه - رضي الله عنه - ظلماً وزوراً وعدواناً- يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين؛ قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمبايعة علي - رضي الله عنه - بالخلافة، وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الإطلاق في ذلك الوقت، فلم يدّعِ الإمامة لنفسه أحد بعد عثمان - رضي الله عنه -، ولم يكن أبو السبطين - رضي الله عنه - حريصاً عليها، ولذلك لم يقبلها إلاّ بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة، وخوفاً من ازدياد الفتن وانتشارها، ومع ذلك لم يسلم من نقد بعض الجهّال إثر تلك الفتن كموقعة الجمل وصفين التي أوقد نارها وأنشبها الحاقدون على الإسلام كابن سبأ وأتباعه الذين استخفهم فأطاعوه لفسقهم، ولزيغ قلوبهم عن الحق والهدى، وقد روى الكيفية التي تم بها اختيار علي - رضي الله عنه - للخلافة بعض أهل العلم:
فقد روى أبو بكر الخلال بإسناده إلى محمد بن الحنفية قال: كنت مع علي - رحمه الله - وعثمان محاصر قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة، قال: فقام علي - رحمه الله - قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه، فقال: خلَّ لا أمّ لك، قال: فأتى علي الدار وقد قُتل الرجل - رحمه الله - فأتى داره فدخلها فأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه، فقالوا: إن هذا قد قتل، ولابد للناس من خليفة، ولا نعلم أحداً أحق بها منك، فقال لهم علي: لا تريدوني؛ فإني لكم وزيراً خير مني لكم أميراً، فقالوا: لا والله لا نعلم أحداً أحقّ بها منك، قال: فإن أبيتم عليّ فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد فبايعه الناس، وفي رواية أخرى عن سالم بن أبي الجعد عن محمد بن الحنفية: فأتاه أصحاب رسول الله فقالوا: إن هذا الرجل قد قُتل، ولابد للناس من إمام، ولا نجد أحداً أحق بها منك أقدم مشاهد، ولا أقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عليّ: لا تفعلوا فإني لكم وزيراً خير مني أميراً، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد، فإنه ينبغي لبيعتي ألاّ تكون خفياً، ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين، قال: فقال سالم بن أبي الجعد: فقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد كراهية أن يشغب عليه، وأبى هو إلاّ المسجد، فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا، وبايع الناس.
ومن هذه الآثار الصحيحة بعض الدروس والعبر والفوائد منها:
1- نصرة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لعثمان - رضي الله عنه -، ودفاعه عنه، وهذا متواتر عن علي - رضي الله عنه -، بل كان أكثر الناس دفاعاً عن عثمان - رضي الله عنه -، جاء ذلك بأسانيد كثيرة، وشهد بذلك مروان بن الحكم فقد قال: ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم يعني علياً عن عثمان.
2- زهد علي - رضي الله عنه - في الخلافة، وعدم طلبه لها أو طمعه فيها، واعتزاله في بيته حتى جاءه الصحابة يطلبون البيعة.
3- إجماع الصحابة من المهاجرين والأنصار والناس عامة في المدينة على بيعته، ويدخل في هؤلاء أهل الحل والعقد، وهم الذين قصدوا علياً، وطلبوا منه أن يوافق على البيعة، وألحّوا عليه حتى قبلها، وليس للغوغاء وقتلة عثمان كما في بعض الروايات الضعيفة والموضوعة.
4- إن علياً كان أحق الناس بالخلافة يومئذ، ويدل على ذلك قصد الصحابة له، وإلحاحهم عليه ليقبل البيعة، وتصريحهم بأنهم لا يعلمون أحق منه بالخلافة يومئذ.
5- أهمية الخلافة، ولذلك رأينا أن الصحابة أسرعوا في تولية عليّ، وكان يقول: لولا الخشية على دين الله لم أجبهم.
6- إن الشبهة التي أدخلوها على بيعة عليّ كون الخوارج الذين حاصروا عثمان، وشارك بعضهم في قتله؛ كانوا في المدينة، وأنهم أول من بدؤوا بالبيعة، وأن طلحة والزبير بايعا مكرهين، وهذه أقاويل المؤرخين لا تقوم على أساس، وليس لها سند صحيح، والصحيح أنه لم يجد الناس بعد أبي بكر وعمر وعثمان كالرابع قدراً وعلماً وتقًى وديناً، وسبقاً وجهاداً، فعزم عليه المهاجرون والأنصار، ورأى ذلك فرضاً عليه فانقاد إليه، ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلي لأدّى ذلك إلى فتن واختلافات في جميع الأقطار الإسلامية؛ فكان من مصلحة المسلمين أن يقبل عليّ البيعة مهما كانت الظروف المحيطة بها، ولم يتخلف عن عليّ أحد من الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وقد خلط الناس بين تخلّف الصحابة عن المسير معه إلى البصرة، وبين البيعة؛ أما البيعة فلم يتخلّف أحد عنها، وأما المسير معه فتخلّفوا عنه لأنها كانت مسألة اجتهادية، كما أن علياً لم يلزمهم بالخروج معه كما سيأتي التفصيل - بإذن الله - عند حديثنا عن موقعة الجمل.
7- لابد من الحذر من مبالغات الإخباريين التي تزعم أن المدينة بقيت خمسة أيام بعد مقتل عثمان وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، وتزعم أن الغوغاء من مصر عرضت الأمر على عليّ فرفضه، وأن خوارج الكوفة عرضوا الخلافة على الزبير فلا يجدونه، ومن جاء من البصرة عرضوا على طلحة البيعة، فهذا لا يثبت أمام الروايات الصحيحة، ولا يصح إسناده، كما أن المعروف تمكن الصحابة من المدينة، وقدرتهم على القضاء على الغوغاء لولا طلب عثمان - رضي الله عنه - بالكف عن استخدام القوة ضدهم، وقد فصلت ذلك في كتابي "تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان"، والصحيح أن بيعة عليّ كانت عن طواعية واختيار من المسلمين وليس لأهل الفتنة دور في مبايعة عليّ، وإنما كل من كان من الصحابة في المدينة هم الذين اختاروا أمير المؤمنين علياً.
8- بلغت الروايات الصحيحة والشواهد في بيعة عليّ إحدى عشرة رواية كما سيأتي تفصيل بعضها بإذن الله.
أحقية علي بالخلافة:
إن أحق الناس بالخلافة بعد أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، وهذا ما يجب على المسلم اعتقاده والديانة لله به في شأن ترتيب الخلافة الراشدة، وقد ورد الإيماء إلى أحقية خلافة على - رضي الله عنه - في كثير من النصوص الشرعية منها:
1- قال - تعالى -: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً)[النور: 55]، ووجه الاستدلال بها على حقيقة خلافة علي - رضي الله عنه - أنه أحد المستخلفين في الأرض الذين مكّن الله لهم دينهم.
2- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي تمسكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجذ)) ووجه الدلالة في هذا الحديث على أحقية خلافة عليّ - رضي الله عنه - أنه أحد الخلفاء الراشدين المهديّين الذين أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وحافظوا على حدود الله، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وساروا بسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العدل، وإقامة الحق.
3- قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء)) وفي هذا الحديث إشارة إلى أحقية عليّ - رضي الله عنه -، إذ إن خلافته كانت آخر الثلاثين من مدة خلافة النبوة التي حدّدها النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، وبموجب هذا قال أهل العلم قال أحمد بن حنبل: حديث سفينة في الخلافة صحيح، إليه أذهب في الخلفاء، وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: إن قوماً يقولون إنه ليس بخليفة قال: هذا قول سوء رديء فقال: أصحاب رسول الله كانوا يقولون له: يا أمير المؤمنين أفنكذبهم؟ وقد حج، وقطع، ورجم؛ فيكون هذا إلاّ خليفة؟.
وقال ابن تيمية في حديث سفينة: وهو حديث مشهور من رواية حماد بن سلمة، وعبد الوارث بن سعيد، والعوام بن حوشب عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه أهل السنن كأبي داود وغيره، واعتمد عليه الإمام أحمد وغيره في تقرير خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة، وثبته أحمد، واستدلّ به على من توقف في خلافة علي من أجل افتراق الناس عليه حتى قال أحمد: من لم يربع بعليّ في الخلافة فهو أضلّ من حمار أهله، ونهى عن مناكحته.
وقال شارح الطحاوية: ونثبت الخلافة بعد عثمان لعلي - رضي الله عنهما - لما قُتل عثمان، وبايع الناس علياً؛ صار إماماً حقاً واجب الطاعة، وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوّة كما دل عليه حديث سفينة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خلافة النبوّة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)).
4- عن عكرمة قال لي ابن عباس ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد فقال: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفض التراب عنه، ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن، وفي رواية مسلم عن أبي سعيد قال لعمار حين جعل يحفر الخندق، وجعل يمسح رأسه، ويقول: بؤسى ابن سمية، تقتلك فئة باغية، قال ابن تيمية بعد ذكره لقوله - صلى الله عليه وسلم - تقتل عمار الفئة الباغية: وهذا يدل على صحة إمامة عليّ، ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داعٍ إلى الجنة، والداعي إلى مقاتلته داعٍ إلى النار، وإن كان متأوّلاً، أو باغٍ بلا تأويل، وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين قال: وعندما أنكر يحيى بن معين على الشافعي استدلاله بسيرة علي في قتال البغاة المتأولين، قال: أيجعل طلحة والزبير معاً بغاة؟ رد عليه الإمام أحمد فقال: ويحك وأي شيء يسعه أن يصنع في هذا المقام يعني: إن لم يقتد بسيرة عليّ في ذلك لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة - إلى أن قال -، ولم يتردّد أحمد ولا أحد من أئمة السنة في ذلك، فلو قال قائل: إن قتل عمار كان بصفين وهو مع عليّ، والذين قتلوه مع معاوية، وكان معه جماعة من الصحابة فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار، فالجواب أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها، وهو طاعة الإمام، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة عليّ، وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك لكونهم معذورين للتأويل الذي ظهر لهم.
قال النووي بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بؤسى ابن سمية تقتلك فئة باغية)) قال العلماء: هذا الحديث حجة ظاهرة في أن علياً - رضي الله عنه - كان محقاً مصيباً، والطائفة الأخرى بغاة، لكنهم مجتهدون، فلا إثم عليهم لذلك، وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أوجه: منها: أن عماراً يموت قتيلاً، وأنه يقتله مسلمون، وأنهم بغاة، وأن الصحابة يقاتلون، وأنهم يكونون فرقتين باغية وغيرها، وكل هذا وقع مثل فلق الصبح صلى الله وسلم على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلاّ وحي يُوحى.
5- عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أوْلى الطائفتين بالحق)) وفيه أيضاً: أنه قال: ((تكون في أمتي فرقتان، فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق))، وجاء بلفظ: قال: ((تمرق مارقة في فرقة من الناس، فيلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق))، وجاء بلفظ: ((يخرجون على فرقة مختلفة يقتلهم أقرب الطائفتين من الحق)) فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((على حين فرقة)) - بضم الفاء - أي: في وقت افتراق الناس أي: افتراق يقع بين المسلمين، وهو الافتراق الذي كان بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما -، والمراد بالفرقة المارقة هم أهل النهروان كانوا في معسكر علي - رضي الله عنه - في حرب صفين، فلما اتفق علي ومعاوية على تحكيم الحكمين خرجوا، وقالوا: إن علياً ومعاوية استبقا إلى الكفر كفرسي رهان، فكفر معاوية بقتال علي، ثم كفر علي بتحكيم الحكمين، وكفروا طلحة والزبير، فقتلتهم الطائفة الذين كانوا مع عليّ، وقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الطائفة التي تقاتلهم أقرب إلى الحق، وهذه شهادة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي وأصحابه بالحق، وهذا من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه أخبر بما يكون، فكان على ما قال، وفيه دلالة واضحة على صحة خلافة عليّ - رضي الله عنه -، وخطأ من خالفه.
بيعة طلحة والزبير - رضي الله عنهما -:
عن أبي بشير العابدي قال: كنت بالمدينة حين قُتل عثمان - رضي الله عنه -، واجتمع المهاجرون والأنصار فيهم طلحة والزبير فأتوا علياً فقالوا: يا أبا الحسن هلمّ نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به..فاختاروا، فقالوا: والله ما نختار غيرك... الخ الرواية، وفيها تمام البيعة لعلي - رضي الله عنه - والروايات في هذا كثيرة ذكر بعضها ابن جرير في تاريخه وهي دالة على مبايعة الصحابة - رضي الله عنهم - لعلي - رضي الله عنه -، واتفاقهم على بيعته بمن فيهم طلحة والزبير، كما جاء مصرحاً به في الرواية السابقة، وأما ما جاء في بعض الروايات من أن طلحة والزبير بايعا مكرهين فهذا لا يثبت بنقل صحيح، والروايات الصحيحة على خلافه، فقد روى الطبري عن عوف بن أبي جميلة قال: أما أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين يقول: إن علياً جاء فقال لطلحة: ابسط يدك يا طلحة لأبايعك، فقال طلحة: أنت أحق، وأنت أمير المؤمنين، فابسط يدك، فبسط عليّ يده فبايعه، وعن عبد خير الخيواني أنه قام إلى أبي موسى فقال: يا أبا موسى هل كان هذان الرجلان - يعني طلحة والزبير - ممن بايع علياً؟ قال: نعم، كما نص على بطلان ما يُدّعى من أنهما بايعا مكرهين الإمام المحقق ابن العربي، وذكر أن هذا مما لا يليق بهما، ولا بعلي، قال - رحمه الله -: فإن قيل بايعا مكرهين «أي طلحة والزبير»، قلنا: حاشا لله أن يكرها، لهما ولمن بايعهما، ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك؛ لأن واحداً واثنين تنعقد البيعة بهما وتتم، وهذا اجتهاد مرود، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعاً، ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما، ولا في بيعة الإمام، وأما من قال: يد شلاّء، وأمر لا يتمّ؛ فذلك ظن من القائل أن طلحة أول من بايع ولم يكن كذلك، فإن قيل فقد قال طلحة: بايعت واللجّ على قفي! قلنا: اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في (القفا) لغة (قفي)، كما يجعل في (الهوى) (هوي) وتلك لغة هذيل لا قريش، فكانت كذبة لم تدبر، وأما قوله: (يد شلاّء) لو صح فلا متعلق لهم فيه، فإن يداً شلت في وقاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتمّ لها كل أمر، ويُتوقّى بها من كل مكروه، وقد تم الأمر على وجهه، ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه.
إن الروايات التي تقول بأن طلحة والزبير أُكرها على البيعة باطلة، وهناك روايات صحيحة أشارت - كما ذكرت - إلى بيعتهما لعلي - رضي الله عنهم -، وهناك رواية صحيحة أوردها ابن حجر عن طريق الأحنف بن قيس وفيها أن عائشة وطلحة والزبير - رضوان الله عليهم - قد أمروا الأحنف بمبايعة علي - رضي الله عنه - بعدما استشارهم فيمن يبايع بعد عثمان - رضي الله عنه -.
إن سابقة علي - رضي الله عنه - وفضله، والتزامه بأحكام الكتاب والسنة، وتمسّكه الشديد بالعمل بهما، وتعهّده في خطبه بتطبيق الأوامر والنواهي الشرعية ما كان ليفتح لأحد باب الطعن في ولايته على المسلمين، ويمكن القول إن علياً كان أقوى المرشحين للإمامة بعد مقتل عمر - رضي الله عنه -، فالفاروق عيّنه في الستة الذين أشار بهم، وهو واحد منهم، على أن الأربعة من رجال الشورى وهم عبد الرحمن، وسعد، وطلحة، والزبير بتنازلهم عن حقهم فيها له ولعثمان تركوا المجال مفتوحاً أمام الاثنين، فلم يبق إلاّ هو وعثمان، وهذا إجماع من أهل الشورى على أنه لولا عثمان لكانت لعلي، وبعد موت عثمان، وقد قدّمه ورجّحه أهل دار الهجرة صار مستحقاً للخلافة، على أنه لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموجودين في ذلك الحين أحق بالخلافة منه - رضي الله عنه - فهو من السابقين والمهاجرين الأولين، وابن عمّ رسول الله، وصهره، بالإضافة إلى ذلك له من القدرة والكفاءة ما لا يُنكر، وله من الشجاعة والإقدام، والذكاء والعقلية القضائية النادرة، والحزم في المواقف، والصلابة في الحق، وبعد نظره في تصريف الأمور، فكل هذه العوامل تجعله - بلا منازع - المرشح الوحيد لإمامة المسلمين في تلك الفترة الحساسة من حياتهم، ومع هذا كله فإن خلافته صحّت بعدما انعقد إجماع المهاجرين والأنصار عليه، ومبايعتهم له.