مبطلات الصوم


الفرقان




يتساءل كثير من المسلمين في هذه الأيام عن مبطلات الصوم، ولمعرفة ذلك نذكر أولا ركنيْ الصيام، وشروطه مجملة، ثم نوضح مفسدات الصوم، فالصوم أحد أركان الإسلام الخمسة الدالة على الانقياد والاستسلام، «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان».
وللصوم خصوصية تعبدية لإصلاح القلوب، لأنه محل لرجاء حصول التقوى لارتباطه بها في قوله -تعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وجزاء الصوم له خصوصية عند رب العالمين، كما في الحديث «قال اللَّه: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به…» الحديث.
أولاً: رُكْنا الصيام
والصيام في حقيقته مركب من ركنين أساسيين، لا يتصور حصوله من دونهما:
الركن الأول: النية
ومعناها القصد، وهو اعتقاد القلب فعل شيء، وعزمه عليه من غير تردد، والمراد بها هنا قصد الصوم، والدليل على أن النية ركن لصحة الصيام، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»، وهو يعم كل عمل، وقوله في حديث حفصة -رضي الله عنها-: «من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له».
ومحل النية القلب، ولا يشرع التلفظ بها، وهو خلاف السُّنَّة؛ لأنها عمل قلبي لا دخل للسان فيه، وحقيقتها القصد إلى الفعل امتثالاً لأمر الله -تعالى-، وطلباً لثوابه، ويشترط في النية لصوم رمضان التبييت، وهو: إيقاع النية ليلاً، لحديث حفصة المتقدم، وتصح النية في أي جزء من أجزاء الليل، وينبغي على العبد أن يبتعد عن وسواس الشيطان في النية؛ فإن النية لا تحتاج إلى تكلف، فمن عقد قلبه ليلاً أنه صائم غداً فقد نوى، ومثله ما لو تسحر بنية الصوم غداً.
الركن الثاني: الإمساك
الإمساك عن المفطرات من طعام، وشراب، وجماع، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس: ودليل ذلك قوله -تعالى-:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}(البقر ة:187)، والمراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود، بياض النهار وسواد الليل، وذلك يحصل بطلوع الفجر الثاني أو الفجر الصادق؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم»، وقد أجمع أهل العلم على أن من فعل شيئاً من ذلك متعمداً فقد بطل صومه.
ثانيًا: شروط الصوم
وهناك شروط ذكرها أهل العلم لا بد من توفرها حتى يجب الصوم على العبد، وهي: أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً مقيماً قادراً خالياً من الموانع الشرعية.
فلا يصح الصوم من الكافر
فإن أسلم في أثناء الشهر، صام الباقي، ولا يلزمه قضاء ما سبق حال الكفر، ويقضي اليوم الذي أسلم فيه، إن أسلم في أثناء النهار، نص عليه الإمام مالك، والإمام أحمد وغيرهما.
ولا يجب الصوم على الصغير
غير البالغ لعدم التكليف، ولكنه يصح منه، ويكون في حقه نافلة، ولو أفطر في أثناء النهار فلا شيء عليه، ويستحب تدريبه على الصوم ليعتاد عليه، ولئلا يجد صعوبة فيه حال البلوغ، فقد ثبت في الصحيح من حديث الرُبيِّع بنت معوِّذ -رضي الله عنها- أنها قالت في صيام عاشوراء لما فُرض: «كنا نُصَوِّمُ صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العِهْنِ، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار».
ولا يجب الصوم على مجنون
ولو صام حال جنونه، لم يصح منه؛ لأن الصوم عبادة مفتقرة إلى النية، والمجنون لا يتصور منه النية، وفي الحديث الصحيح عن علي -رضي الله عنه- مرفوعاً: «رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل».
ولا يجب الصوم على غير القادر لمرض دائم، أو كبَر
وعليه إطعام مسكين عن كل يوم، ولا يجب على المسافر، والمريض مرضاً عارضاً، ولكنهما يقضيانه حال زوال عذر المرض أو السفر؛ لقوله -جل وعلا-: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة:184).
ولا يجب الصوم على الحائض والنفساء
ولا يجب الصوم على الحائض والنفساء، بل يحرم عليهما، ولا يصح منهما؛ لوجود المانع الشرعي، ولو جاءها الحيض أو النفاس في أثناء الصوم، بطل صوم ذلك اليوم، ويجب عليها أن تقضي الأيام التي أفطرتها بعد رمضان.
والطهارة ليست شرطاً لصحة الصوم
والطهارة ليست شرطاً لصحة الصوم، فإذا تسحر الجنب، وشرع في الصوم، ولم يغتسل، صح صومه، وكذلك لو طهرت المرأة من الحيض في الليل ولم تغتسل، وصامت يومها التالي صح الصوم منها.
ثالثًا: مبطلات الصوم في شهر رمضان
مبطلات الصوم ثمانية: مُفسدات الصوم هي المُفطرات، وهي الجماع، والأكل، والشرب، وإنزال المني بشهوة، وما بمعنى الأكل والشرب، والقيء عمداً، وخروج الدم بالحجامة، وخروج دم الحيض والنفاس، هذه ثمانية مفطرات.
(1) الأكل والشرب والجِماع
أما الأكل والشرب والجماع فدليلها قوله -تعالى-: {فَالْآنَ بَـشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَـاشِرُوهُنَ ّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (البقرة:187).
(2) إنزال المني بشهوة
وأما إنزال المني بشهوة فدليله قوله -تعالى- في الحديث القدسي في الصائم: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي»(9)، وإنزال المني شهوة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»، والذي يوضع إنما هو المني الدافق، ولهذا كان القول الراجح أن المذي لا يفسد الصوم حتى وإن كان بشهوة ومباشرة بغير جماع.
(3) ما كان بمعنى الأكل والشرب
ما كان بمعنى الأكل والشرب، وهو الإبر المغذية التي يستغنى بها عن الأكل والشرب، لأن هذه وإن كانت ليست أكلاً ولا شرباً لكنها بمعنى الأكل والشرب؛ حيث يستغنى بها عنهما، وما كان بمعنى الشيء فله حكمه، ولذلك يتوقف بقاء الجسم على تناول هذه الإبر، بمعنى أن الجسم يبقى متغذيا على هذه الإبر، وإن كان لا يتغذى بغيرها،أما الإبر التي لا تغذي ولا تقوم مقام الأكل والشرب فهذه لا تفطر، سواء تناولها الإنسان في الوريد، أو في العضلات، أو في أي مكان من بدنه.
(4) القيء عمدًا
القيء عمداً، أي أن يتقيأ الإنسان ما في بطنه حتى يخرج من فمه، لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومَن استقاء عمداً فليقض»، والحكمة في ذلك أنه إذا تقيأ فرغ بطنه من الطعام، واحتاج البدن إلى ما يرد عليه هذا الفراغ، ولهذا نقول: إذا كان الصوم فرضاً فإنه لا يجوز للإنسان أن يتقيأ لأنه إذا تقيأ أفسد صومه الواجب.
(5) خروج دم الحيض والنفاس
وهو خروج دم الحيض والنفاس، فلقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرأة: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم»، وقد أجمع أهل العلم على أن الصوم لا يصح من الحائض، ومثلها النفساء.
رابعًا: شروط إفساد الصوم
هذه المفطرات وهي مفسدات الصوم لا تفسده إلا بشروط ثلاثة، وهي: العلم، والذكر، والقصد.
أي أن الصائم لا يفسد صومه بهذه المفسدات إلا بشروط ثلاثة:
الشرط الأول: العلم
وهو أن يكون عالماً بالحكم الشرعي، وعالماً بالحال أي بالوقت، فإن كان جاهلاً بالحكم الشرعي أو بالوقت فصيامه صحيح، لقول الله -تعالى-: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}(ا لبقرة:286)، فقال الله -تعالى-: «قد فعلت»، ولقوله -تعالى-: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}(الأحز اب:5).
ولثبوت السنة في ذلك. ففي الصحيحين عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- أنه لما نـزل قوله -تعالى-: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَـاشِرُوهُنَ ّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}، جعل تحت وسادته عقالين أبيض وأسود، وجعل ينظـر إليهمـا، فلمـا تبين له الأبيض من الأسود أمسك، فلما أصبح غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بما صنع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل»، ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء؛ لأنه كان جاهلاً بالحكم؛ حيث فهم الآية على غير المراد بها، وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: «أفطرنا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم غيم، ثم طلعت الشمس» ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالقضاء؛ لأنهم كانوا جاهلين بالوقت؛ حيث ظنوا أنهم في وقت يحل فيه الفطر، لكن متى علم أن الشمس لم تغرب وجب عليه الإمساك حتى تغرب، ومثل ذلك لو أكل بعد طلوع الفجر يظن أن الفجر لم يطلع، ثم تبين أنه طلع فإنه لا قضاء عليه، لكن متى علم أن الفجر لم يطلع وجب عليه الإمساك.
الشرط الثاني: التذكر
وأما التذكر فضده النسيان، فمن تناول شيئاً من المفطرات ناسياً فصيامه صحيح تام، لقوله -تعالى-: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}(ا لبقرة:286)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَن نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه»، لكن متى تذكر، أو ذكره أحد وجب عليه الإمساك.
الشرط الثالث: القصد
وأما القصد فهو الاختيار، وضده الإكراه وعدم القصد، فمن أكره على شيء من المفطرات ففعل فلا إثم عليه، وصيامه صحيح، لقوله -تعالى-: {وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}(الأحز اب:5)، ولأن الله رفع حكم الكفر عمن أكره عليه، فما دونه من باب أولى، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله -تعالى- تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن ذرعه القيء أي غلبه فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض»، ومَن حصل له شيء من المفطرات بلا قصد فصومه صحيح ولا إثم عليه، مثل أن يتمضمض فيبلع شيئاً من الماء بلا قصد.
خصوصية الصوم
للصوم خصوصية تعبدية لإصلاح القلوب، فهو محل لرجاء حصول التقوى لارتباطه بها في قوله -تعالى- {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وجزاء الصوم له خصوصية عند رب العالمين، كما في الحديث «قال اللَّه: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به...» الحديث