تعامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الأقليات غير المسلمة بالمدينة

الإسلام دين التسامح:

بعد هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أصبح سيداً عليها، ومن ثَمَّ عاشت معه في داخل المدينة أقلية غير مسلمة من المشركين واليهود، وعندما امتدَّت الدولة الإسلامية إلى مساحات أوسع صارت فيها أقليات من النصارى -كذلك- تمتعت كلها بالحرية الدينية، فكل أقلية تمارس شعائرها كما تحبُّ، وهذا الحرية أقرَّها الإسلام كمبدأ منذ نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لترتقي بها الإنسانية، وتسعد في ظلِّها البشرية.

الحرية الدينية للأقليات غير المسلمة:

وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير شاهد على تمتع الأقلية غير المسلمة بالحرية الدينية، رغم ما قاساه الصحابة الكرام الأوائل من مشركي مكة؛ إلاَّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي اكتوى أيضاً بنار القسوة والتعذيب - لم يَرُدَّ على الكافرين والمشركين بهذا الأسلوب، ولم يعاملهم بالمثل عندما أنعم الله عليه بالنصر والتمكين، ولم يرتضِ يوماً أن يفرض عليهم عقيدة لم يقتنعوا بها بعدُ امتثالاً لأوامر القرآن الكريم التي يقول الله جل جلاله فيها: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[يونس: 99]، وهو ما طبَّقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل منه دستوراً للمسلمين في تقرير الحرية الدينية.

ومما يؤكِّد هذه الحقيقة ما ورد في سبب نزول الآية: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)[البقرة: 256]، فقد جاء أنه كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصران قبل مبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قَدِمَا المدينة في نفر من النصارى يحملون الزيت، فلزمهما أبوهما، وقال: لا أدعكما حتى تُسلما، فأبيا أن يسلما؛ فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فأنزل الله - تعالى -: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) الآية، فخلَّى سبيلهما[1].

وهكذا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والد الابنين المتنصرين والمخالفَين له ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقيدة بأن يَدَعَهُما وما يعتقدان، ويخلِّي بينهما وبين ما يعبدان، حتى وإن كان له عليهما حقُّ الطاعة!

كما أقرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحرية الدينية كذلك - في أول دستور للمدينة، وذلك حينما اعترف لليهود بأنهم يشكِّلون مع المسلمين أُمَّة واحدة[2].

التعامل مع غير المسلمين بالعدل:

كما كان تعامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع غير المسلمين تعاملاً قائماً على العدل؛ من ذلك ما رواه عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - قال: كنَّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين ومائةً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟)) فإذا مع رجلٍ صاعٌ من طعامٍ أو نحوه، فعجن، ثم جاء رجل مشرك مُشْعانٌّ (ثائر الرأس) طويلٌ، بغنمٍ يسوقها، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((بَيْعاً أَمْ عَطِيَّةً؟)) أو قال: ((أَمْ هِبَةً؟))[3] قال: لا، بل بيعٌ. فاشترى منه شاةً، فصنعت، وأمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بسواد البطن[4] أن يشوى، وايم الله ما في الثلاثين والمائة إلاَّ قد حزَّ[5] النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - له حزَّةً[6] من سواد بطنها: إن كان شاهداً أعطاها إيَّاه[7]، وإن كان غائباً خبَّأ له، فجعل منها قصعتين، فأكلوا أجمعون، وشبعنا ففضلت القصعتان، فحملناه على البعير[8].

فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فرقة من جيشه قوامها مائة وثلاثون رجلاً يحتاجون إلى طعام، يمرُّ بهم رجل مشرك بغنم، فيشتري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه شاة بثمنها، ولم يتَّجه إلى إكراه الرجل على إعطائهم الشاة بدون ثمن مع توافر القوَّة لدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومع شدَّة احتياجهم، ومع كفر الرجل، وفساد عقيدته؛ إنه العدل في أرقى صوره.

التعامل مع غير المسلمين تعامل الرجل لأهله:

كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعامل غير المسلمين المحيطين به معاملة الرجل لأهله؛ فها هو ذا أنس - رضي الله عنه - يروي موقفاً عجيباً من مواقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول: "كان غلامٌ يهوديٌّ يخدم النبي ‏‏- صلى الله عليه وسلم - ‏فمرض؛ فأتاه النبي‏ ‏- صلى الله عليه وسلم - ‏يعوده؛ فقعد عند رأسه؛ فقال له: ((أَسْلِمْ)) فنظر إلى أبيه وهو عنده؛ فقال له: أطع ‏أبا القاسم. ‏فأسلم فخرج النبي‏ - صلى الله عليه وسلم - ‏وهو يقول: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ))[9].

بل ويُقِرُّ أسماء بنت أبي بكر[10] - رضي الله عنها - على صلتها لأمها فتحكي - رضي الله عنها - فتقول: "قَدِمَتْ عَلَيَّ ‏ ‏أُمِّي[11] ‏وهي مشركةٌ في عهد ‏‏قريشٍ ‏إذ عاهدوا رسول الله ‏- صلى الله عليه وسلم - ‏ومدَّتهم مع أبيها، فاستفتت رسول الله ‏- صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله إنَّ‏ أمِّي قدمت عليَّ وهي ‏راغبةٌ ‏أَفَأَصلها؟ قَالَ‏: ((‏نَعَمْ صِلِيهَا))[12].

وما أبلغ وأروع الموقف الذي علَّمَنا إياه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما مَرَّت به جنازة يهودي، فعن ابن أبي ليلى أنَّ قيس بن سعدٍ[13] وسهل بن حنيفٍ[14] كانا بالقادسيَّة، فمرَّت بهما جنازةٌ، فقاما، فقيل لهما: إنَّها من أهل الأرض[15]، فقالا: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّت به جنازةٌ فقام، فقيل: إنَّه يهوديٌّ، فقال: ((أَلَيْسَتْ نَفْساً))[16]. فها هو ذا النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعِّلم أُمَّته احترام غير المسلمين حتى الموتى منهم.

وما أجمل أن نختم بموقف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع يهود خيبر تم بعد هزيمتهم وقبولهم الصُلحَ معه - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا في موقف ضعف، والمسلمين في موضع قوَّة، ويستطيع المسلمون - في هذا الموقف - أن يفرضوا رأيهم بالقوة إن أرادوا، ولكن تعامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع هذا الموقف تعاملاً آخر؛ فروى سهل بن أبي حَثْمة - رضي الله عنه - أنَّ نفراً من قومه انطلقوا إلى خيبر، فتفرَّقوا فيها، ووجدوا أحدهم قتيلاً، وقالوا للذي وُجِدَ فِيهِمْ: قد قَتَلْتُمْ صاحبنا، قالوا: ما قتلْنَا ولا علمنا قاتلاً، فانطلقوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلاً، فقال: ((الْكُبْرَ الْكُبْرَ))[17]. فقال لهم: ((تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ؟)) قالوا: ما لنا بَيِّنَةٌ! قال: ((فَيَحْلِفُونَ؟ )) قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُبطل دمه فوداه[18] مائةً من إبل الصَّدقة[19].

فالقتل تمَّ في أرض اليهود، والاحتمال الأكبر أن يكون القاتل من اليهود، ومع ذلك فليس هناك بينة على هذا الظنِّ، والأمر في مجال الشكِّ والتخمين، وهذا لا يُفلِحُ في الدعوى؛ ولذلك لم يعاقِب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اليهودَ بأي صورة من صور العقاب، بل عرض فقط أن يحلفوا على أنهم لم يفعلوا، وليس هذا فقط بل دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية القتيل من بيت المسلمين؛ ليسكِّن من ثائرة الأنصار، وبذلك تهدأ الفتنة دون ضرر لليهود.

هكذا كان يتعامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الأقليات غير المسلمة في المدينة تعاملاً قائماً على العدل والرحمة والتسامح.

-------------------

[1] انظر: الواحدي النيسابوري: أسباب النزول ص53، والسيوطي: لباب النزول ص37.
[2] ابن هشام: السيرة النبوية 1/501، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/260، والسهيلي: الروض الأنف 2/345، وابن كثير: السيرة النبوية 2/321.
[3] وفيه جواز بيع الكافر، وإثبات ملكه على ما في يده، وجواز قبول الهدية منه، انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 4/410.
[4] سواد البطن: هو الكبد، أو كل ما في البطن من كبد وغيرها. انظر المصدر السابق 5/232.
[5] حزَّ: قطع، وقيل: قطع بغير إبانة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة حزز 5/334.
[6] الحزة: هي القطعة من اللحم وغيره. انظر: النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 14/17.
[7] أعطاها إياه: هو من القلب وأصله أعطاه إياها.
[8] البخاري: كتاب الهبة وفضلها، باب قبول الهدية من المشركين (2475)، ومسلم: كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره (2056).
[9] البخاري: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلَّى عليه؟ وهل يُعرَض على الصبي الإسلام؟ (1290)، والترمذي (2247)، والحاكم (1342)، والنسائي في سننه الكبرى (7500).
[10] هي أسماء بنت أبي بكر الصديق، كانت تحت الزبير بن العوام، وكان إسلامها قديماً بمكة، ثم هاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله ابن الزبير، فوضعته بقباء، وقد توفيت بمكة في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين بعد مقتل ابنها عبد الله بن الزبير بيسير. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة 6/12، وابن حجر العسقلاني: الإصابة، الترجمة رقم (10791).
[11] هي قُتيلة بنت سعد من بني عامر بن لؤي امرأة أبي بكر الصديق، وهي أم عبد الله وأسماء، ذكرها ابن الأثير في الصحابيات، وقال: تأخر إسلامها، قدمت إلى المدينة وهي مشركة بعد صلح الحديبية. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة 6/242.
[12] البخاري: كتاب الهبة وفضلها، باب الهدية للمشركين (2477، 5634، 3012)، ومسلم في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين (1003).
[13] قيس بن سعد بن عبادة: أحد دهاة العرب، وأهل الرأي والمكيدة في الحروب، وكان شريف قومه، وكان من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكان صاحب الشرطة من الأمير، وقد أعطاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم فتح مكة، ومات بها سنة 59 أو 60 هـ. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة 4/272، وابن حجر العسقلاني: الإصابة، الترجمة (7176)، وابن عبد البر: الاستيعاب 3/350.
[14] سهل بن حنيف بن واهب، شهد بدراً وكل المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثبت يوم أُحُد، استخلفه عليٌّ - رضي الله عنه - حين خرج من المدينة إلى البصرة، كما شهد مع علي صِفِّين وولاه على فارس، مات بالكوفة سنة 88هـ. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة 2/335، وابن حجر العسقلاني: الإصابة، الترجمة رقم (5323)، وابن عبد البر: الاستيعاب 2/223.
[15] من أهل الأرض أي: من أهل الذمة، وقيل لأهل الذمة أهل الأرض لأن المسلمين لما فتحوا البلاد أقروهم على عمل الأرض وحمل الخراج، وقيل: معناه جنازة كافر من أهل تلك الأرض، انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 3/180، والنووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 7/30.
[16] البخاري: كتاب الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي (1250)، ومسلم: كتاب الجنائز، باب القيام للجنائز (961).
[17] الكُبْر الكُبْر: أي قدِّموا في الكلام أكبركم. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 12/233، 234.
[18] وداه: أي دفع دِيَتَه، والدية هي حقُّ القتيل. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 12/235. ابن منظور: لسان العرب، مادة ودي 15/383.
[19] البخاري: كتاب الديات، باب القسامة (6502) وهذا لفظه، ومسلم في كتب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب القسامة (1669).