شهادة الزور من الكبائر


شهادة الزور من الكبائر العظام، والجرائم الجسام؛ لما تسببه من ضياع الحقوق، وتغيير الحقائق، عن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبائِرِ ثَلاثًا»، قَالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «الإِشْراكُ بِاللهِ وَعُقوقُ الْوالِدَيْنِ» وَجَلَسَ، وَكانَ مُتَّكِئًا، فَقالَ: «أَلا وَقَوْلُ الزّورِ» قَالَ: فَما زَالَ يُكَرِّرُها حَتّى قُلْنا: لَيْتَهُ سَكَتَ. (متفق عليه)، والإشارة إلى أن شهادة الزور لا تقتصِر على كونها أمام المحاكم والقضاء، بل لها أنواع كثيرة في حياة الناس بجوانبها.
أولاً: قبح شهادة الزور وخطورة آثارها
شهادة الزور من أشد أنواع الكذب افتراءً وبهتانًا، قال -تعالى-: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (النحل: 105)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَإيَّاكُمْ والكَذِب، فإنَّ الكذبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُور، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ} (متفق عليه).
شاهِد الزور فاسق
شاهِد الزور فاسق مجرم آثم، يُري عينه ما لم ترَ، ويُسمِع أذنه ما لم تسمع، قال -تعالى-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36)، وقال الله -تعالى- عن عباده المتقين: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان: 72).
شاهد الزور مضلل
شاهد الزور يضلل القاضي والحكم وطالب الشهادة، ولو كان القاضي من أعدل الناس وأعلمهم: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» (متفق عليه).
شاهد الزور مفسد
شاهد الزور يفسد المجتمع، ويضر بالأبرياء، ويناصر الفاسدين والمجرمين والظالمين: قال -تعالى-: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} (هود: 113).
شهادة الزور خطر كبير
شيوع شهادة الزور خطر كبير، وعلامة على فساد المجتمع: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: تَسْلِيمَ الْخَاصَّةِ، وَفُشُوَّ التِّجَارَةِ، حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ، وَقَطْعَ الْأَرْحَامِ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ، *وَكِتْمَانَ *شَهَادَةِ *الْحَقِّ، وَظُهُورَ الْقَلَمِ» (رواه أحمد، وصححه الألباني). ولذلك كانت شهادة الزور من الكبائر العظام التي تقارب الشرك بالله: قال -تعالى-: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (الحج: 30).
ثانيًا: عقوبة شاهد الزور في الدنيا والآخرة
عقوبة شاهد الزور تتفاوت بحسب الظلم الذي تسبب فيه، وتزداد إثمًا إذا صاحبتها يمين: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (رواه مسلم).
ينال سخط الله -تعالى
شاهد الزور يمشي ويعيش في سخط الله حتى يتوب: قال رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
تطارده دعوات المظلومين
شاهد الزور يمشى ويعيش في الدنيا تطارده دعوات المظلومين: قالَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اتَّقِ دَعوةَ المظلومِ؛ فإنَّهُ ليسَ بينَها وبينَ اللَّهِ حِجَابٌ» (متفق عليه). وقالَ: «*دَعْوَةُ *الْمَظْلُومِ *تُحْمَلُ *عَلَى *الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وعن *جابر بن سمرة قال: «شَكَا أَهْلُ الكُوفَةِ سَعْدًا إلى عُمَرَ -]-، فَعَزَلَهُ، واسْتَعْمَلَ عليهم عَمَّارًا، فَشَكَوْا حتَّى ذَكَرُوا أنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فأرْسَلَ إلَيْهِ، فَقالَ: يا أَبَا إسْحَاقَ إنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، قالَ سعد: أَمَّا أَنَا واللَّهِ فإنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بهِمْ صَلَاةَ رَسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ما أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلَاةَ العِشَاءِ، فأرْكُدُ في الأُولَيَيْنِ وأُخِفُّ في الأُخْرَيَيْنِ، قالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بكَ يا أَبَا إسْحَاقَ، فأرْسَلَ معهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إلى الكُوفَةِ، فَسَأَلَ عنْه أَهْلَ الكُوفَةِ ولَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إلَّا سَأَلَ عنْه، ويُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ منهمْ يُقَالُ له أُسَامَةُ بنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، قالَ: أَمَّا إذْ نَشَدْتَنَا؛ فإنَّ سَعْدًا كانَ لا يَسِيرُ بالسَّرِيَّةِ، ولَا يَقْسِمُ بالسَّوِيَّةِ، ولَا يَعْدِلُ في القَضِيَّةِ، قالَ سَعْدٌ: أَما واللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بثَلَاثٍ: اللَّهُمَّ إنْ كانَ عَبْدُكَ هذا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وسُمْعَةً، فأطِلْ عُمْرَهُ، وأَطِلْ فَقْرَهُ، وعَرِّضْهُ بالفِتَنِ، وكانَ بَعْدُ إذَا سُئِلَ يقولُ: شيخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قالَ عبدالمَلِكِ: فأنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ علَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وإنَّه لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي في الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ» (رواه البخاري).
الإفلاس يوم القيامة
شاهد الزور يأتي يوم القيامة مع المفلسين، وإن كان له من الأعمال الصالحة ما له: قال -تعالى-: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (الزخرف: 19)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَتَدْرُونَ مَا *الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: *الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ: «إِنَّ *الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، *وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» (رواه مسلم).
يهوي في النار
شاهد الزور يهوي في النار بشهادة زور واحدة؛ فكيف بمَن تكررت منه شهادة الزور؟!: قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبا مِنْ أَرَاكٍ» (رواه مسلم). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ» (رواه البخاري ومسلم).
ثالثًا: هل لشاهد الزور توبة؟
جماهير علماء المسلمين على قبول توبته: قال -تعالى-: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53)، لكن توبة شاهد الزور وقبول شهادته لابد فيها من إصلاح ما أفسد في شهادته، وأن يقر بأنه شهد زورًا، وأن يضمن ما تسبب في ضياع الحقوق من الأموال أو غيرها، أو أن يستسمح من تسبب في ظلمه، ولا يكون الحج أو العمرة سببًا في غفران ضياع حقوق الناس كما يتوهمه بعضهم، فلا بد من الاعتراف بشهادة الزور أمام الجهات المختصة، أو استسماح مَن ظلمه بشهادة الزور، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ *كَانَتْ *عِنْدَهُ *مَظْلِمَةٌ *لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْ هُ *مِنْهَا، *فَإِنَّهُ *لَيْسَ *ثَمَّ *دِينَارٌ *وَلَا *دِرْهَمٌ، *مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ» (رواه البخاري).
الشيخ: سعيد محمود