السلطان الغزنوي .. فاتح الهند
موسوعة لينكولن /محمد السيد


من يطِّلع على تاريخ المشرق الإسلامي يتجلى أمامه نجم الدولة الغزنوية، ويتجلى ذلك في دورها السياسي والحضاري، فضلاً عن جهودها في نشر الإسلام في البلاد الوثنية، والدفاع عن مكتسبات الخلافة الإسلامية، ومن أعظم شخصيات هذه الدولة التي استطاعت أن تصنع تاريخها في سجل من ضياء، هو يمين الدولة وأمين الملة السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي (357 ـ 421هـ/966ـ 1029م) ، وقد اهتم بشخصيته عدد من المستشرقين، فدرسوا سيرته وغزواته ومنجزاته الحضارية والعلمية، أما نحن المسلمين فمن المؤسف حقًّا ألا يعرف الكثير منا شيئًا عن هذا السلطان السني العظيم ومملكته في بلاد الأفغان.


يعتبر السلطان محمود الغزنوي من الشخصيات العظيمة في التاريخ الإسلامي، فهو يتصف بصفات الحاكم المسلم، التي أكسبته مكانة بارزة في التاريخ، فقد ساهم بغزواته في توسيع رقعة العالم الإسلامي، وكان من أكبر أسباب انتشار الإسلام في شبه القارة الهندية، وله العديد من المنجزات الحضارية، والبصمات العلمية في التراث الإسلامي.


وقد ارتبطت شخصية السلطان محمود الغزنوي ومكانته في التاريخ بفتوحاته التي لم تُسبق في شبه القارة الهندية، ويحمل هذا الارتباط معاني العرفان والإحسان العظيمة من هذا السلطان الغازي تجاه المنتمين إلى هذه القارة، فهو يمثل الباب الذي دخل منه هذا الدين العظيم إلى هندوستان وتشرف أهلها به.


توليه الحكم
جد السلطان محمود هو "البتكين" وهو ينتمي إلى سلالة تركية من بخارى في تركستان، والبتكين كان لديه صهر ابنته وهو "سبكتكين"، في عام 977م نجح في توسيع مملكته إلى شمال بخارى وإلى غرب قندهار وخراسان وإلى شمال النهر هندوس، توفي سلطان البتكين في عام 378هـ / 997م، وعهد بالإمارة لابنه الأصغر سلطان إسماعيل، لكن محمود ثار ضد أخيه الأصغر سلطان إسماعيل وتولى حكم البلاد.


صفاته
تحلى السلطان محمود الغزنوي بقيم إسلامية مُثلى كان لها أعمق الأثر في ازدهار مملكته والتفاف الناس حوله في محبة ووفاء، فكان مسلمًا قوي العقيدة تواقًا إلى نشر الإسلام، وكان سند والده في غزواته وحروبه، وبلغت فتوحاته في بلاد الهند حدًّا لم تبلغه رايات الإسلام من قبل، ودخلت في دين الله أفواجًا عديدة من أهل الهند، وعده المؤرخون واحدًا من كبار الفاتحين في تاريخ الإسلام، حتى قيل إن فتوحه تعدل في المساحة فتوح عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأوردت كتب المؤرخين التي تعرضت لسيرته أنه كان صادق النية في إعلاء كلمة الله تعالى، مظفرًا في غزواته، ما خلت سنة من سني ملكه عن غزوة أو سفرة، وكان ذكيًّا بعيد الغور، صائب الرأي، وكان مجلسه مورد العلماء، وكان محبًّا للعمل قامعًا للبدع ناشرًا للسنة، وكان السلطان محمود مُكرِمًا لأمرائه وأصحابه.


عبادته

روى أن السلطان محمود الغزنوي كان في أول عمره وأمره يجلس بعد صلاة الفجر يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاثمائة ألف صلاة حتى يرتفع النهار، ويقعد الناس على بابه ينتظرون خروجه، ويشق عليهم الانتظار لقضاء الحاجات وفصل الخصومات ونظام مصالح العباد، فلما كثر ذلك منه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يقول له: ما هذا التطويل الذي تطوله على الناس حتى يضجر الضعفاء وذوو الحاجات من القعود على بابك والانتظار؟! فقال: إنما أقعد لأني أصلي عليك صلاة معلومة ولا أقوم حتى أفرغ منها فقال: إن هذا يشق على الضعفاء وأولي الحاجات، ولكن أعلمك صلاة مختصرة كل واحدة منها بمائة ألف تقرؤها ثلاث مرات فتلك ثلاثمائة ألف ثم تخرج لمصالح المسلمين فيحصل أجر تلك الصلوات وأجر نفع المسلمين والمساعدة في قضاء حوائجهم فتعلَّمها وواظب عليها مدة، ثم رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول له: ماذا فعلت حتى أتعبت الملائكة في كتابة ثوابك، قال: ما عملت شيئًا إلا الصلاة التي علمتني إياها.


حبه للعلم والعلماء
كان السلطان محمود الغزنوي يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم ويحسن إليهم، وكان حنفي المذهب ثم صار شافعيًّا، وكان مولعًا بعلم الحديث، يستمع إلى علمائه، كما كان فقيهًا.. له مؤلفات، ولا يكاد يسمع بعالمٍ له مكانة حتى يستدعيه إلى دولته، فاستقدم أبا الريحان محمد بن أحمد البيروني المتوفى سنة 440هـ/ 1049م الذي نبغ في علوم كثيرة، في مقدمتها الرياضة والفلك، وعُدَّ من أعظم رجال الحضارة الإسلامية، وتُرجمت كتبه إلى اللغات الأوروبية، وأطلقت روسيا اسمه على جامعة أنشأتها حديثًا.


وأصبحت غزنة مركز الدولة الغزنوية في عهد السلطان محمود منارةً للعلم ومقصدًا للعلماء، وغدت عامرة بالمساجد والقصور والأبنية التي لا تقل بهاءً وجمالاً عن المنشآت الهندية التي اشتهرت بدقة التصميم وجمال العمارة.


ضبطه أمور الدولة
قضى محمود الغزنوي الفترة الأولى من حكمه في تثبيت أركان دولته، فجدير بالذكر أن الدولة الغزنوية ظهرت في المجال الإسلامي ظهورًا قويًّا واضحًا في عهد السلطان محمود الغزنوي الذي استطاع أن يعتلي العرش سنة 388هـ / 998م، وبذل جهودًا كبيرة في سبيل ترسيخ نفوذ دولته، فكان لدى السلطان محمود إستراتيجية في توسيع حدود دولته وتوسيع رقعتها من خلال انتهاجه سياسة التوسع على حساب الكيانات السياسية المجاورة لحدودها، فحرص على السيطرة على إقليم خراسان عقب انهيار الدولة السامانية، ومن بين إمارات المشرق التي انضوت تحت سيادته: إمارة سجستان، وإمارة غرجستان، وإمارة بلاد الغور، وإمارة خوارزم، وإمارة جرجان وطبرستان وإمارة الجوزجان، وقد استدعت هذه السياسة التوسعية بناء الجيش وإعداده وأسلحته وإدارته ونفقاته، وكان الشغل الشاغل للقائد المجاهد طيلة مسئولياته في إدارة شئون الدولة هو نشر المذهب السُنِّي في إقليم المشرق والدفاع عنه ضد الفرق والطوائف المناوئة له، وقد انعكست تلك السياسة الدينية على الدولة الغزنوية بعلاقتها بدار الخلافة العباسية السُنيَّة.


السلطان محمود الغزنوي.. فاتح الهند
أهم ما امتاز به عهد السلطان محمود الغزنوي وذاع به صيته هو الجهاد الإسلامي الذي رفع راياته في شبه القارة الهندية، وبلغ في فتوحاته إلى حدود هضبة الدكن، فاعترفت به الخلافة العباسية سلطانًا مستقلاًّ، ومنحه الخليفة العباسي القادر بالله (381: 422هـ/991 :1030م)، العديد من الألقاب الفخرية ذات الدلالات الدينية، كان أهمها لقب: "يمين الدولة وأمين الملة" الذي اشتهر به اعترافًا من دار الخلافة بفضله في رعاية الركن الأيمن من المشرق الإسلامي.


تعددت حملاته على الهند حتى بلغت أكثر من سبع عشرة حملة، وظل يحارب دون فتور نحوًا من سبع وعشرين سنة، بدأت من عام390هـ / 1000م ، وكانت حملته الأولى الذي قاد فيها عشرة آلاف مقاتل، والتقى عند مدينة بشاور بجيش "جيبال" أحد ملوك الهندوس، وحقق نصر غاليا، ووقع الملك الهندي في الأسر، وأخذوا من عنقه قلادة قيمتها ثمانون ألف دينار، وغنم المسلمون منهم أموالاً عظيمة وفتحوا بلادا كثيرة .


ثم تعددت حملات الغزنوي، وفي كل مرة كان يحقق نصرا، ويضيف إلى دولته رقعة جديدة، ويبشر بالإسلام بين أهالي المناطق المفتوحة، ويغنم غنائم عظيمة، حتى توج فتوحاته في الهند بفتح بلاد "الكجرات"، ثم توجه إلى مدينة "سومنات" سنة 416هـ / 1025م ، وكان بها معبد من أكبر معابد الهند، يحوي صنما اسمه "سومنات" وهو أعظم أصنامهم، فكان الهندوس يعظمونه، فقطع الغزنوي الصحاري المهلكة حتى بلغها، واقتحم المعبد، وهزم الجموع الغفيرة التي حاولت إنقاذ المعبد، ووقع آلاف الهندوس قتلى، وسقط المعبد في أيدي المسلمين، وكانت حصيلة جهود محمود الغزنوي أن أتمّ فتح شمال شبة القارة الهندية، ونشر الإسلام في ربوع الهند ، وأقام بدلا من بيوت الأصنام مساجد الإسلام"، وغنم الغزنوي أموالا عظيمة قُدرت بنحو عشرين مليون دينار، وعاد إلى غزنة سنة 417هـ /1026م وظلت ذكرى هدم معبد سومنات عالقة في ذاكرة الهندوس لم يمحها كرّ السنين، ولا تغيرها الأحول، حتى إذا ما ظفرت الهند باستقلالها عمدت إلى بناء هذا المعبد من جديد في احتفال مهيب.


لم يكن الغزنوي مدفوعا في فتوحاته برغبة جامحة في كسب الغنائم أو تحقيق مجد يذكره له التاريخ، ولكن قاده حماسه لنشر الإسلام، وإبلاغ كلمة التوحيد في مجتمع وثني، وكانت تلك الحملات مسبوقة بطلب الدخول في الإسلام، وإلى هذا أشار السير "توماس أرنولد" في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" بقوله: وفي الحق أن الإسلام قد عُرض في الغالب على الكفار من الهندوس قبل أن يفاجئهم المسلمون.


قالوا عنه

وصف ابن كثير السلطان محمود الغزنوي في كتابه البداية والنهاية بأنه : "الملك العادل الكبير المثاغر المرابط المؤيد المنصور المجاهد يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين صاحب بلاد غزنة وفاتح أكثر بلاد الهند قهراً وكاسر بُدودِهم ( أصنامهم) وأوثانهم كسراً وقاهر هنودهم وسلطانهم الأعظم قهراً ، وقد سار في الرعية سيرة عادلة وقام بأعباء الإسلام قياماً تاماً ، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها، وعظم شأنه في العالمين، واتسعت مملكته وامتدت رعاياه ، وطالت أيامه ولله الحمد والمنة " .


ويذكر أبن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ أن السلطان محمود الغزنوي كان : "إلباً على القرامطة والإسماعيلية الشيعية وعلى المتكلمين ، فصلب من أصحاب الباطنية خلقاً كثيراً ، ونفى المعتزلة إلى خرسان وأحرق كتب الفلسفة والنجوم


وفاته

ظلَّ السلطان محمود الغزنوي يواصل جهاده حتى مرض، حيث أصابه مرض الملاريا أثناء غزواته الأخيرة وطال به مرضه نحو سنتين، ومع ذلك لم يحجب نفسه عن الناس أو يمنعه المرض من مباشرة أمور رعيته حتى توفي قاعدًا في 23 من شهر ربيع الأول سنة 421هـ/ 29 من أبريل 1030م، وعُمرهِ 59 سنةِ بعد أن أنشأ دولةً واسعةً، ضمّت معظم إيران وبلاد ما وراء النهر وشمال الهند كله، ونشر الإسلام فيها.