نصائح إيمانية للأئمة
رمضان صالح العجرمي


الحمد لله الذي أنزل القرآن ويسَّره، ورفع مقام مَن عظَّمه وقدره، ووفَّق للقيام به مَن اختاره وبصره، وأقام لحفظه خيرته من بريته الخيرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، خير مَنْ تَخلَّق بالقرآن، وقام به آناء الليل وأطراف النهار، وعلى أصحابه رهبان الليل وفرسان النهار، وبعد:
فإن الإنسان لا يشرف إلا بما يعرف، ولا يفضل إلا بما يعقل، ولا يَنجُبُ إلا بمن يصحب؛ ولما كانت الصلاة أعظم العبادات ومقامها من أعلى المقامات بعد التوحيد، كانت إمامة الناس في هذه الصلاة أعلى مقام وأشرفه، وأفضله على الإطلاق، ولم لا؟! ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي إمامًا بالناس في الصلوات؛ لذا فقد كان مَن يصلي بالناس إمامًا من أشرف هذه الأمة، وأفضل هذه المِلَّة؛ فهم حَمَلة القرآن؛ أعظم وأشرف كِتاب؛ غير أن هذا الشرف المنيف والسُّؤْدد الشريف لا يُنال إلا إذا اتَّصَف هذا الإمام بأوصاف معينة دلَّ عليها كتابُ ربنا، وأرشد عليها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، والتزمها الصحابة الكِرام، وعمل بها سلف هذه الأمة الأعلام.
ولا بُدَّ لهذا الإمام أن يبتعد عن كل أمر يبعده عن الوصول لتلكم الدرجة العالية والمنزلة السامية من صفات ذميمة وأفعال شائنة، وأن يقف عند كل حَدٍّ حدَّه الله في كتابه أو حَدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِه.
وهذه بعض النصائح الغالية، وبعض الصفات التي ينبغي للإمام أن يتَّصِف بها حتى يفوز الفوز العظيم في الدنيا والآخرة، وحتى ينجو بإذن الله من ضياع الأجر والخسران المبين في دنياه وأُخْراه، ومع هذه النصائح بعض التحذيرات، والنهي عن بعض الصفات التي ينبغي ألا تكون في مسلم فضلًا على أن يكون إمامًا للناس.
أولًا: ما ينبغي أن يتَّصِف به إمام الناس في الصلاة:
1- أن يكون القرآنُ ربيعًا لقلبه:
فالقرآن ربيع قلوب أهل الإيمان، فكما أن الربيع زمان فيه إظهار آثار رحمة الله وإحياء الأرض بعد موتها، فكذلك كلام رب العالمين سبحانه يظهر من تباشير لطف الله من الإيمان والمعارف، وتزول به ظلمات الجهالة والهموم، ويكون القرآن نور قلبه، فيستضيء به، وينشرح صدره به، ويكون القرآن هو الدواء الذي يستأصل جميع الأدواء، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: ((اللهُمَّ *إني *أسألُكَ *بكُلِّ اسمٍ هو لك سمَّيْتَ به نفسَك، أو أنزلْتَه في كِتابِكَ، أو علَّمْتَه أحدًا من خَلْقِك، أو استأثرت به في عِلْمِ الغيبِ عندك، أن تجعلَ القرآنَ الكريمَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاء حزني، وذَهابَ هَمِّي))؛ صحَّحه الألباني عن ابن مسعود.
2- أن يكون لك وِرْدٌ من الدعاء أن يوفقك الله تعالى:
لا شك أخي الكريم، أن المُوفِّق هو الله، وأنه سبحانه هو المُعين، ولاشَكَّ أن الدعاء هو مِفْتاح كل خير، وهو استعانة من عاجز ضعيف بقويٍّ قادر على كل شيء، استغاثة ملهوف بربٍّ رؤوف، ولا شَكَّ أن الإمامة خطرها كبير، فلا بُدَّ لك من طلب العون من الله المعين، وطلب التوفيق والسداد منه سبحانه، وليكن هذا الدعاء في أفضل الأوقات على الإطلاق، فنحن بدون توفيقه وعونه لا شيء، فيا حبَّذا لو كان الدعاء في الثُّلث الأخير من الليل أو عند الأذان، أو بين الأذان والإقامة، أو آخر ساعة من يوم الجمعة تخلو بربِّك وتدعوه وأنت خاشع القلب، منكسر بين يديه، متضرع، قد رفعت أكُفَّ الضَّراعة له، تسأله التوفيق والعون والسداد، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أصحابه هذا الدعاء العظيم؛ قال صلى الله عليه وسلم لحصين بن عبيد رضي الله عنه قل: ((اللَّهُمَّ ألْهِمْني رُشْدي، وأعِذْني مِن شَرِّ نَفْسي))؛ صحَّحه الألباني.
ويا لها والله من دعوة عظيمة النفع، عظيمة الأثر، ينبغي لكل مسلم ألا يفتر عنها أبدًا، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((رب أعنِّي ولا تُعِنْ عليَّ، وانْصُرني ولا تنصُرْ عليَّ، وامكُرْ لي ولا تمكُرْ عليَّ، واهْدِني ويسِّرِ الهُدى لي))؛ صححه الألباني.
وأدعية النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة، فاحرص أخي الكريم على أن يكون لك وِرْدٌ من هذه الأدعية.
3ــ أن تهتمَّ بقلبك:
عن النعمان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ))؛ الصحيحين.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (وفي الجملة القلب هو الأصل، فإذا عمر القلب بالإيمان بالله وحبِّه، وتعظيمه وخوفه ورجائه، والتوكُّل عليه، وإخلاص الدين له؛ طابت الجوارح وصلحت).
والقلب هو موضع نظر الربِّ عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم: ((*إِنَّ *اللَّهَ *لَا *يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ؛ وَلَكِنْ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَإِلَى أَعْمَالِكُمْ))؛ مسلم.
ولهذا فإن أمر استقامة القلب أمرٌ عظيمٌ، فإنَّ كثيرًا من الناس ربَّما يُعنى باستقامة الظاهر، ويغفل عن إقامة الباطن على طاعة الله، وحسن الإقبال عليه، والقلوب تتسلَّلُ إليها أدواء وأسقام وأمراض كثيرة تُضعِف الإيمان، وتنقص ما فيها من طاعة للرحمن، وأنت أيها الإمام أوْلَى الناسِ بالاهتمام بالقلب وإصلاحه، ينبغي أن يكون قلبُك خالصًا لله، لا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، ولا يتكلم إلا لله، ولا يسكت إلا لله، ولا تحب إلا لله، ولا تبغض إلا لله، ولا تُحرِّك ساكنًا إلا لله، ولا تُسكِّن مُتحرِّكًا إلا لله، فهذا الذي ينفعك النفع العظيم يوم تلقى الله وتقف بين يديه سبحانه؛ كما قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان كثيرًا ما يدعو بصلاح القلب، فكان يقول: ((واهدي قلبي)).

4- أخلص النية لله:
أخي الكريم، إن أعظم ما ينبغي عليك فعله هو أن تكون نيَّتُك خالصةً لله وحده، فتكون صلاتك كلها لله، قال ابن القيم رحمه الله: (فيفرغ قلبه لله فيها، ويستفرغ جهده في إقباله فيها على الله، وجمع قلبه عليها، وإيقاعها على أحسن الوجوه وأكملها، ظاهرًا وباطنًا، فإن الصلاة لها ظاهر وباطن، فظاهرها الأفعال المشاهدة والأقوال المسموعة، وباطنها الخشوع والمراقبة وتفريغ القلب لله، والإقبال عليه بكُليَّتِه بحيث لا يلتفت قلبه عنه إلى غيره، فهذا بمنزلة الروح لها، والأفعال بمنزلة البدن، فإذا خلت من الروح كانت كبدن لا روح فيه)، ويقول أيضًا: (وملاك ذلك كله: الإخلاص والصدق، فلا يتعب الصادق المخلص، فقد أقيم على الصراط المستقيم، فيسار به وهو راقد، ولا يتعب؛ ومن حرم الصدق والإخلاص فقد قطعت عليه الطريق، واستهوته الشياطين في الأرض حيران، فإن شاء فليعمل، وإن شاء فليترك، فلا يزيده عمله من الله إلا بُعْدًا؛ وبالجملة: فما كان لله وبالله فهو من جند النفس المطمئنة).
ويقول ابن الجوزي رحمه الله: (الإخلاص مسك مصون في القلب يُنَبِّه ريحه على حامله؛ العمل صورة والإخلاص روح، إذا لم تخلص فلا تتعب)، تأمَّل قوله: (يُنَبه ريحه على حامله)؛ فإن الإخلاص لا يحتاج منك إلى إظهار وإعلام؛ وإنما يظهر ذلك في حركات الإنسان وسكتاته، وتظهر آثاره عليه، وأما الذي يتصنَّع للناس، ويسعى لإعلامهم بعمله وصلاح قلبه، فهذا الذي يفسد قلبه، ولا يزيده ذلك إلا شينًا في قلوب الخلق).
فلا بُدَّ من انشغالك أيها الإمام بأمر الإخلاص؛ إذ إنه بدونه ضاع العمل، ولم يبقَ منه شيء، قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((*أَنَا *أَغْنَى *الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ))، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ لا يقبل من العمل *إلا *ما *كان *خالصًا له، وابتُغي به وجهه))، ويقول ابن القيم رحمه الله: (إن العامل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملًا يثقله ولا ينفعه).
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ بالله من الرياء؛ عن أَبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((أَيُّهَا النَّاسُ، *اتَّقُوا *هَذَا *الشِّرْكَ؛ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ))، فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ أَنْ يَقُولَ: وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: ((قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُك َ لِمَا لَا نَعْلَمُ))؛ حسَّنَه الألباني.
5- أن يتأدَّب بآداب القرآن ويتخلَّق بأخلاقه:
ينبغي لمَنْ علَّمَه الله القرآن وفضَّله على غيره، فكان إمامًا للناس أن يتأدَّبَ بآداب القرآن، ويتخلَّق بأخلاق شريفة يتميَّز بها عن سائر الناس، فأوَّل ما ينبغي له أن يستعمل تقوى الله في السِّرِّ والعَلَنِ باستعمال الورع في مطعمه ومشربه ومكسبه، وأن يكون بصيرًا بزمانه وفساد أهله، يحذرهم على دينه، مقبلًا على شأنه، حافظًا للسانه، مميزًا لكلامه، إذا تكلَّم تكلَّم بعِلْم، وإذا سكت سكت بعلم، يحبس لسانه كحبسه لعدوِّه، فالله يقول: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]
ولا يمدح نفسه بما فيه، فكيف بما ليس فيه؛ فالله يقول: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32]
ولا يغتاب أحدًا، ولا يحقر أحدًا، ولا يسيء الظَّنَّ بإخوانه، قد جعل القرآن والسُّنَّة دليله إلى كل خلق حسن، وأدب جميل، متواضع في نفسه، إذا قيل له الحق قبله من صغير أو كبير، فالله عز وجل يقول: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215]، وهذا سليمان يقول له ذلكم الطائر: ﴿ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ﴾ [النمل: 22]
وكذلك ماقِت للكِبْر، خائف على نفسه منه، فالكبر صفة إبليس؛ كما قال الله تعالى: ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ص: 74]
لا أن تقضى له الحوائج، ولا أن يُقدَّم في المجالس، عفيف النفس، لا يطمع فيما في أيدي الناس، بعيد عن كُلِّ شُبْهة.

يطلب الرفعة من الله لا مِن المخلوقين، فهو يعرف أن المكانة الحقيقية هي عند الله؛ كما قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10] إذا صلَّى لم يكن همُّه آخر السورة، يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وفي صلاته، يقرأ مترسلًا، يتدبَّر الآيات إذا مَرَّ بآيات الإحسان، سأل نفسه: متى أكون من المحسنين؟ وإذا مَرَّ بآيات وصف من الأوصاف الحميدة حاسب نفسه وعاتبها: متى أكون من الخاشعين؟ متى أكون من المتقين؟ متى أكون من الصابرين؟ متى أكون من المخبتين؟ يحمل نفسه على أن تتصف بهذه الصفات، ثم هو أيضًا يُذكِّر نفسَه بالآخرة: متى أرغب في الآخرة؟ متى أتزوَّد ليوم ميعادي؟ متى أكون راضيًا عن الله؟ متى أقصر أملي؟ متى أتأهَّب ليوم موتي؟ متى أُفكِّر في الموقف وشِدَّته؟ متى أحذر ما حذرني منه ربِّي؟ متى أُفكِّر في المنقلب؟ متى أفقه ما أتلو؟ متى أغلب نفسي على هواها؟ متى أستحي من ربي؟ يحاسب نفسه وهو يمُرُّ على هذه المعاني العظيمة الجليلة ويقف معها؛ فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآة يرى بها ما حسن من فعله، وما قبح منه، فمن كانت هذه صفته، أو قارب منها، فقد تأدَّب بآداب القرآن، وتلاه حقَّ تلاوته، ورعاه حقَّ رعايته، ونفع نفسه وأهله ووالديه، فاللَّهُمَّ نسألك مِن فضلك.
6ــ أن يتعلم العلم النافع:
إن الذي يؤم الناس ينبغي له أن يتعلَّم أحكام دينه ولا يقصر في ذلك، ومن باب أوْلَى أن يتعلَّم أحكام الإمامة، فلا يصحَّ أن يكون إمامًا، ولا يعرف ماذا يفعل إذا عرض له شيء في صلاته؟ والله تعالى رفع شأن العلم وأهله وبيَّن مكانته وفضله؛ فقال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، وقال عز وجل: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].
قال النووي رحمه الله: (الاشتغال بالعلم من أفضل القرب، وأجل الطاعات، وأهم أنواع الخير، وآكد العبادات، وأولى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات، وشمَّر في إدراكه والتمكُّن فيه أصحاب الأنفس الزكيات، وبادر إلى الاهتمام به المسارعونَ إلى الخيرات).
7ـ أن يكون له وِرْدٌ من العبادة بعيدًا عن أعين الناس:
إن الخبيئة الصالحة زينة العبد في خلوته، وزاده لآخرته، وهي كنز من كنوز الحسنات، مشبعة بالإخلاص، مجبولة بالصدق، محصنة بالكتمان، لا يثبت عليها إلا الصادقون الذين ملأ حُبُّ الله وخشيته قلوبَهم، فتوجَّهوا إليه سبحانه وحده بعيدًا عن العيون والأنظار في أجواء إيمانية صافية لا تشوبها شائبة من طلب السُّمْعة أو الشهرة أو المدح أو الثناء أو رياء عمل؛ لا يطَّلِع عليه أحد إلا الله، عمل لا يستطيع فعله المنافقون ولا المُراءون؛ حيث رغب فيها القرآن في قوله تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271]
ورغب فيها رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بقوله: (( *سَبْعَةٌ *يُظِلُّهُمُ *اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ- وذكر منهم- وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ))، وأنت أيها الإمام، يا من عملك ظاهر، يطَّلِع عليه القريب والبعيد والعدوُّ والصديق أحوج الناس لأن يكون لك خبيئة عمل صالح بينك وبين ربِّك، تبكي بين يديه، تبثُّ إليه شكواك، وتُرتِّل فيها آيات بيِّنات، تستغفر فيها من خطاياك، تُلِحُّ فيها على مولاك، تُردِّد فيها الآيات، تُطيل فيها الركوع والسجود والقيام والقنوت، تشكو فيها نفسك الأمَّارة بالسوء إلى الله، تتحصَّل بها على لذة العبادة ومُناجاة الله.

قال وهب بن منبه رحمه الله: (ولا تظن أن العلانية هي أنجح من السريرة، فإن مثل العلانية مع السريرة كمثل ورق الشجرة مع عرقها، العلانية ورقها، والسريرة عرقها، إن نخر العرق هلكت الشجرة كلها؛ ورقها وعودها، وإن صلح صلحت الشجرة كلها، فلا يزال ما ظهر من الشجرة في خير ما كان عرقها مستخفيًا لا يرى منه شيء، كذلك الدين لا يزال صالحًا ما كان له سريرة صالحة يصدق بها علانيته).
وقال مسلم بن يسار رحمه الله: (ما تلذَّذ المُتلذِّذُون بمثل الخلوة بمناجاة الله تعالى)، وقال ابن الجوزي رحمه الله: (من أصلح سريرته فاح عبيرُ فضلِه، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في السرائر؛ فإنه ما ينفع معها فساد الظاهر).
ثانيًا: الأمور التي ينبغي عليك أن تتجنبها:
1- الرياء:
إن أعظم الأمور التي يجب على الإمام أن يتجنَّبها ويبتعد عنها هو الرياء؛ فهو أعظم الآفات خطرًا، وأعمها وقوعًا وانتشارًا، وأخوف عقبة ينبغي إزالتها، وهو الداء العضال، والمرض الفَتَّاك، وهو أخفى من دبيب النمل؛ لذلك جاءت نصوص الكِتاب والسُّنَّة بالترهيب منه، وتحذير أهل الإيمان منه، وعده من عظائم الذنوب؛ بل من الشرك بالله، ولك أن تتخيَّل إمامًا يُصلِّي بالناس ويقرأ القرآنَ خيرَ الكلام وأفضله على الإطلاق، والناس يثنون عليه، ويمدحونه، وهو -والعياذ بالله- ممقوت مذموم عند الله، توعَّده الله بالويل والهلاك؛ كما قال تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ﴾ [الماعون: 4 - 6]، ووصف بأخص صفة للمنافقين وهو الرياء؛ كما قال الله: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142]، وليس له ثواب ولا أجر في الآخرة؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: **((*وَرُبَّ *قَائِمٍ *لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ))؛ صحَّحه الألباني.

وإنَّ من مقت الله للمُرائين تكذيبهم، والأمر بسحبهم وإلقائهم في نار جهنم أمام العالمين جزاءً وفاقًا؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: ((*وَرَجُلٌ *تَعَلَّمَ *الْعِلْمَ *وَعَلَّمَهُ، *وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنْ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ))؛ مسلم.
2- إيَّاك والعُجْب:
والعجب هو أن ترى في نفسك ما ليس في غيرك، أخي المبارك، إن داء العجب من أخطر الأدواء على المسلم، فإنه يدعو إلى الكِبْر، ويدعو إلى إهمال الذنوب ونسيانها، ويوصل العبد إلى الغرور، ويجعل العبد يفتر عن العمل الصالح، ويظن المسكين أنه قد فاز، وأنه قد استغنى، وهو الهلاك الصريح والعياذ بالله تعالى، والعُجْب ذمَّهُ الله في كتابه، وذَمَّه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته؛ قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا ﴾ [التوبة: 25]
وقال عز وجل: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات: 17]
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس: ((لو لم تكونوا تذنبون خشيت عليكم أكثر من ذلك العجب))؛ السلسلة الصحيحة للألباني، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبِعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ))
وقال مسروق رحمه الله: (وبحسب الرجل من الجهل أن يعجب بعمله)، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (الهلاك في شيئين: العجب والقنوط)، ثم قال: (والمعجب يظُنُّ أنه قد ظفر بمراده فلا يسعى)
فاحذر أخي من أن تعجب بصلاتك، أو بحُسْن صوتك، أو بثناء الناس عليك، فإنَّ عاقبة ذلك وخيمة، ونتيجته مخزية، نعوذ بالله من الخزي والبوار.

أخي، قبل أن تعجب بعملك تفكَّر: هل قبل عملك أم لا؟ ثم تذكَّر أنَّ أعدى أعدائك هي نفسك التي بين جنبيك، ثم تذكَّر عاقبة العجب وقُبْحه عند الله، واعلم أن الذي وفَّقك هو الله؛ والله لولا الله ما عملت عملًا، ولا تقرَّبت بطاعة، ولا تلوت آيةً.
3- إياك واللحن:
عذرًا أخي الإمام، اعلم أنك مُتقِن والحمد لله، وقد أجازك شيخٌ متقنٌ، ربَّما أكثر من شيخ؛ ولكن الذي أقصده باللحن هو قول مالك بن دينار رحمه الله: (تلقى الرجل وما يلحن حرفًا في القرآن، وعملُه كلُّه لحن)؛ هذا هو المقصود اللحن في أعمالك لا في أقوالك؛ أن يخالف قولك عملك وفعلك، ألَّا تعمل بهذا القرآن، أن تقيم حروفَه ولا تقيم حدوده، أن يحدث هذا منك يا حامل القرآن فهذا والله جُرْمٌ عظيمٌ، ووصَفَ اللهُ مَنْ فَعَل هذا بوصفين من أشدِّ أوصاف الزجر والوعيد، قال تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 175، 176]، وقال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 5]
وعن أنس رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم**: ((أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ *تُقْرَضُ *شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ وَفَتْ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ وَلا يَفْعَلُونَ، وَيَقْرَءونَ كِتَابَ اللَّهِ وَلا يَعْمَلُونَ)؛ صححه الألباني.

قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: (الزبانية أسرع إلى حملة القرآن الذين يعصون الله منهم إلى عبدة الأوثان حين عصوا الله سبحانه بعد القرآن)، وقال الحسن رحمه الله: (والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل)، واسمع إلى موعظة شيخ القُرَّاء ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ينبغي لحامل القرآن أن يُعرَف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببُكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون).
4- إياك أن يكون همُّك إرضاء الناس وإمتاع الناس بحسن صوتك وتحسين القراءة:
أخي الإمام، بعض الأئمة شُغْلُه الشاغل وهَمُّه الأكبر أن يكون عدد المصلين كبيرًا، فيطرق كل سبيل حتى يجمع الناس، فتجده يُحسِّن صوته، ويُخفِّف الصلاة إلى درجة الإخلال بها، فيترك السُّنَّة الثابتة؛ خوفًا من ترك الناس للمسجد، أو ذهابهم لمسجد آخر، فاحذر أخي الكريم، ولا بُدَّ أن يكون اهتمامنا بالكيف لا بالكم، أن يكون اهتمامنا بتدبُّر القرآن ووصول الناس للهدف من سماعه.

5- إياك والاستعجال في القراءة وعدم التمهُّل والترتيل:
أخي الإمام، إنَّ الاستعجال وعدم التمهُّل والترتيل فيه إغفال لعجائب القرآن، وترك لمحرك جليل من محركات القلوب، واسمع إلى نصيحة ابن مسعود حين قال: (لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه، وحرِّكوا به القلوب، ولا يكن هَمُّ أحدِكم آخر السورة)، كيف سيتأثر المُصلُّون بكلام ربِّ العالمين سبحانه؟ كيف سيخشعون؟ كيف سيصلون إلى ثمرة هذا القيام إذا كان إمامهم همُّه آخر السورة؟ يقول الحسن رحمه الله: (يا بن آدم، كيف يرقُّ قلبُك، وإنما هِمَّتُك آخر السورة).

والاستعجال في القراءة فيه تفويت لما ينفع القلب ويزيد الإيمان، يقول ابن القيِّم رحمه الله: (فقراءة آية بتدبُّر وتفهُّم خيرٌ من ختمة بغير تدبُّر ولا تفهُّم، وأنفع للقلب وأدْعَى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن)، وهذا ما نريده من تلاوتنا لكتاب الله؛ أن تعالج قلوبنا، أن نتحصَّل على زيادة الإيمان ونصل إلى التلذُّذ بتلاوة القرآن.
قال الآجري رحمه الله: (ينبغي لقارئ القرآن أن يكون همُّه عند التلاوة للسورة إذا افتتحها: متى أتَّعظ بما أتلوه؟ ولم يكن مراده: متى أختم السورة؟ وإنما مراده: متى أعقل عن الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأن تلاوة القرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة)، ويقول ابن القيم رحمه الله: (إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألْقِ سمعَك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلَّم به سبحانه منه إليه).
أخيرًا السمت الصالح:
أخي الإمام، ينبغي لمن وفَّقَه الله وكان إمامًا للناس أن يكون ذا سَمْتٍ حَسَنٍ؛ حسن المظهر في طريقة حديثه وصمته، ودخوله وخروجه، وملبسه ومأكله ومشربه، مميزًا لكلامه، قليل الخوض فيما لا يعنيه، قليل الضحك، قليل المزاح، باسط الوجه، طيِّب الكلام، متواضع، لا يحقر أحدًا، مُتَّبِعًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في كل كبيرة وصغيرة، في هديه ودلِّه وسمته، صاحب سكينة ووقار، واستقامته في منظره وهيئته، والسمت الصالح من أخلاق الأنبياء)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (اعلموا أنَّ السَّمْت الصالح في آخر الزمان خيرٌ من بعض العمل)، وقال الأوزاعي رحمه الله: (كنا نضحك ونمزح، فلمَّا رأينا أن الناس قد اقتدوا بنا حسبنا ألا يسعنا التبسُّم)، ويقول ابن مفلح رحمه الله: (كان الإمام أحمد يحضر مجلسه من طلبة العلم أكثر من خمسة آلاف طالب، فخمسمائة يكتبون والبقية يتعلَّمون مِن حُسْن أدبه وسَمْتِه).
بعض الأئمة:
تجده يُصلِّي حاسر الرأس، يُصلِّي بثياب لا تليق، وبعضهم تجده مُسْبِلًا ثيابَه، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تليق بمن هو إمام للناس.

نسأل الله لنا ولكم العِلْم والنفع والرفع والأمن غدًا مما نخشى، اللهم ارزقنا الإخلاص والصدق في القول والعمل، والسِّرِّ والعَلَن يا رب العالمين.