تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 32

الموضوع: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان

    معركة بدر الكبرى.. والفتح الرمضاني الأول.
    (1)


    شكل انتصار المسلمين في غزوة بدر الكبرى فاتحة الانتصارات في شهر رمضان؛ شهر الفتوحات والانتصارات والخيرات والتمكين. فإن ما في رمضان من القيم الإيمانية والمعاني السامية لمن شأنه أن يضيف للمسلمين صبرا لا ينقطع وعزيمة لا تنفد وإقداماً لا حدود له. وما إن تذكر الأحداث المهمة في تاريخ المسلمين والتي حدثت في رمضان؛ فإن أول ما يحضر في بال كل مسلم غزوة بدر الكبرى التي انتصر فيها المسلمون بقيادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جحافل الكفر وصناديد الباطل من قريش.
    تاريخ الغزوة ومكان وقوعها


    وقعت غزوة بدر في صبيحة يوم الاثنين 17 رمضان السنة 2هـ، وكان موقعها في أرض بدر، وهي محطة لمرور القوافل المتجهة إلى الشام والعائدة إلى مكة المكرمة، وكانت تمثل سوقاً من أسواق العرب المشهورة، ساعدها في ذلك موقعها الجغرافي بين مكة والمدينة أسفل وادي الصفراء.
    أسباب الغزوة

    بعد الإذن بالجهاد في العهد المدني، بلغ المسلمين تحرك قافلة كبيرة تحمل أموالاً عظيمة لقريش عائدة من الشام بقيادة أبي سفيان (صخر بن حرب)، فانتدب النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه للخروج، وتعجل بمن كان مستعدًا للخروج دون انتظار سكان العوالي لئلا تفوتهم القافلة، ولذلك لم يكن خروج المسلمين بكامل طاقتهم العسكرية في معركة بدر، فهم خرجوا لأخذ القافلة، ولم يكن في حسبانهم مواجهة جيش قريش.
    وقد خرج من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، منهم من الأنصار بضع وأربعون ومائتان، ولم يكن معهم إلا فرسان، وسبعون بعيًرا يتعاقبون على ركوبها. علم أبو سفيان بخروج المسلمين لأخذ القافلة، فسلك بها طريق الساحل، وأرسل لاستنفار أهل مكة، فاستعدت قريش للخروج دفاعًا عن قافلتها، وحشدت كل طاقتها، ولم يتخلف منهم إلا القليل، فقد رأت قريش في ذلك حطًا لمكانتها، وامتهانًا لكرامتها، وضربًا لاقتصادها، وبلغ عددهم نحوًا من ألف مقاتل، ومعهم مائتا فرس يقودونها.
    الوقائع ما قبل بدء الغزوة



    خارطة تُظهر مسير الجمعين إلى بدر

    ظهرت الخلافات في جيش المشركين بعد نجاة القافلة بين مريد للعودة دون قتال المسلمين حتى لا تكثر الثارات بين الطرفين، وبين مصر على القتال كأبي جهل، وقد غلب رأي أبي جهل أخيرًا، ولم يعد هدف قريش نجاة القافلة، بل تأديب المسلمين، وتأمين طرق التجارة، وإعلام العرب بقوة قريش وهيبتها. ولما بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- نجاة القافلة، وإصرار قريش على قتاله -صلى الله عليه وسلم- شاور أصحابه عامة، وقصد الأنصار خاصة فتكلم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، والمقداد بن عمرو من المهاجرين، فقالوا وأحسنوا، وفهم سعد بن معاذ -رضي الله عنه- مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال وأحسن فسرّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بقول سعد بن معاذ رضي الله عنه.
    أحداث الغزوة وبداية المعركة


    وصل المسلمون إلى بدر قبل المشركين، وأشار الحبُاَبُ بن المنذر -رضي الله عنه- على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل ماء بدر خلفه، فقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- مشورته وأخذ برأيه. وبين صلى الله عليه وسلم مصارع رجال من أهل بدر بأسمائهم، فقال: «هذا مَصْرَعُ فُلانٍ غَدًا إن شَاءَ الله تَعَالى، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلانٍ غَدًا إن شَاءْ الله تَعَالى». في صبيحة يوم المعركة جعل صلى الله عليه وسلم جيشه في صفوف للقتال، وبقي صلى الله عليه وسلم في قبة (عريش) -بمشورة سعد بن معاذ- يدير المعركة، وجعل صلى الله عليه وسلم يكثر من دعاء ربه، حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُر} [القمر: 45].
    ورمى صلى الله عليه وسلم المشركين في وجوههم بالحصى، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} [الأنفال: 17]، فأثبت سبحانه وتعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ابتداء الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه صلى الله عليه وسلم. وبدأت المعركة بتقدم عتبة بن ربيعة، وتبعه ابنه الوليد، وأخوه شيبة طالبين المبارزة، فخرج لهم شباب من الأنصار، فرفضوا مبارزتهم طالبين مبارزة بني عمومتهم، فأمر صلى الله عليه وسلم عليا ابن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث -رضي الله عنهم- فقتل حمزة عتبة، وقتل علي شيبة، وأثخن عبيدة والوليد كل واحد منهما صاحبه، ثم مال علي وحمزة على الوليد فقتلاه، واحتملا عبيدة، وتأثرت قريش بنتيجة المبارزة، وبدأت الهجوم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أمر أصحابه برمي المشركين بالنبل إذا اقتربوا من المسلمين ودنوا.
    ثم التقى الجيشان في ملحمة كبيرة، وأمد الله سبحانه وتعالى المسلمين بالملائكة يوم المعركة، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 9-10]. وبعد المواجهة قتل من المشركين سبعون رجلاً، منهم الذين بَيّنَ صلى الله عليه وسلم مصارعهم من أهل بدر بأسمائهم قبل المعركة، ما أخطأ أحد منهم الموضع الذي حده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان من بين القتلى عدد من زعماء قريش، منهم: أبو جهل (عمرو بن هشام)، قتله معاذ بن عمرو ابن الجموح ومعاذ بن عفراء وهما غلامان، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود، وأمية بن خلف، قتله وابنه عليًا بلال بن رباح، مع فريق من الأنصار وغيرهم. وأمر صلى الله عليه وسلم بسحب قتلى المشركين إلى آبار ببدر، فألقوا فيها، وكان عدد الأسرى من قريش سبعون رجلاً، وفر بقية المشركين، لا يلوون على شيء، تاركين وراءهم غنائم كثيرة في أرض المعركة، ودفن صلى الله عليه وسلم شهداء المسلمين، وهم أربعة عشر شهيدًا.
    نتائج الغزوة

    أصبحت شوكة المسلمين قوية، وأصبحوا مرهوبين بين قبائل الجزيرة العربية كلها، وتعزَّزت مكانة الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، وارتفع نجم الإسلام فيها، ولم يعد المتشكِّكون في الدَّعوة الجديدة والمشركون في المدينة يتجرَّؤون على إظهار كفرهم، وعداوتهم للإسلام؛ لذا ظهر النِّفاق، والمكر، والخداع، فأعلنوا إسلامهم ظاهرًا أمام النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. وازدادت ثقة المسلمين بالله تعالى وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. ودخل عدد كبير من مشركي قريشٍ في الإسلام، وقد ساعد ذلك على رفع معنويات المسلمين الذين كانوا لا يزالون في مكَّة، فاغتبطت نفوسهم بنصر الله، واطمأنَّت قلوبهم إلى أن يوم الفرج قريب، فازدادوا إيمانًا على إيمانهم، وثباتًا على عقيدتهم.
    كسب المسلمون مهارةً عسكريَّةً، وأساليبَ جديدةً في الحرب، وشهرةً واسعةً داخل الجزيرة العربيَّة، وخارجها. أمَّا قريش، فكانت خسارتها فادحةً، فإضافةً إلى أنَّ مقتل أبي جهل بن هشام، وأميَّة بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وغيرِهم من زعماء الكفر؛ الَّذين كانوا من أشد القرشيِّين شجاعةً وقوةً وبأسًا، لم تكن خسارةً حربيَّةً لقريش فحسب، بل كانت خسارةً معنويَّةً أيضًا؛ ذلك: أنَّ المدينة لم تعد تُهَدِّدُ تجارتَها فقط، بل أصبحت تهدِّد أيضًا سيادتها ونفوذها في الحجاز كلِّه. وبذلك تعدُّ غزوة بدر رغم صغر حجمها معركة فاصلة في تاريخ الإسلام، ولذلك سماها الله -عز وجل- بيوم الفرقان، ففرق بها سبحانه بين الحق والباطل؛ فأعلى فيها كلمة الإيمان على كلمة الباطل، وأظهر دينه، ونصر نبيه وحزبه.
    ****************************** ***************
    (1) معظم الصور والخرائط الموجودة فى (معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ) منقولة من موقع ويكيبديا



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان


    غزوة أحد

    إسلام ويب

    (2)




    لم تهدأ ثائرة قريش بعد هزيمتهم المنكرة في غزوة بدر ، وما خلّفه ذلك من مقتل خيرة فرسانها ، وجرحٍ لكرامتها ، وزعزعة لمكانتها بين القبائل ، فأجمعت أمرها على الانتقام لقتلاها ، وألهب مشاعرها الرغبة الجامحة في القضاء على الإسلام وتقويض دولته .
    ولم يكن ذلك الدافع الوحيد لاستعادة هيبتها ، إذ كانت تجارة قريش قد تأثّرت بشدّة من الضربات المتكرّرة التي نفّذتها سرايا المؤمنين ، وما قامت به من التعرّض للقوافل التجارية من أجل قطع الإمدادات والمؤن التي كانت تأتيهم من الشام وما حولها ، فكان لذلك أثره في إنهاك قريش وإضعافها .
    لهذا وذاك ، قام أبو سفيان في قومه يؤلّب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجمع القوّات ، حتى بلغ لديه قرابة ثلاثة ألف رجل ومائتي فارس ، من قريش وما حولها من القبائل العربية ، ثم أمر أبو سفيان الجيش بأخذ النساء والعبيد ، حتى يستميت الناس في الدفاع عن أعراضهم ، وانطلقوا ميمّمين وجوههم شطر المدينة .


    وهنا أحسّ العباس بن عبدالمطّلب بخطورة الموقف – وكان يومئذٍ مشركاً – فبعث برسالة عاجلةٍ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره فيها بخبر القوم ، ويبيّن له إمكانات الجيش وقدراته الحربية ، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد الاستيثاق مما ورد في هذه الرسالة ، فأرسل الحُباب بن المنذر بن جموح رضي الله عنه ليستطلع الخبر ، فعاد إليه مؤكّدا ما ورد في الرسالة .
    واجتمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه ، وشاورهم في الخروج من المدينة للقاء العدو ، أو البقاء فيها والتحصّن بداخلها ، فاختار بعضهم البقاء في المدينة ، ومال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الرأي ، بناءً على أن جموع قريش لن تقوى على القتال بين الأزقة والطرقات ، ويمكن للنساء والأبناء المشاركة في الدفاع عن المدينة من شرفات البيوت وأسطحها ، كما أنّ التحصّن فيها سيتيح فرصة استخدام أسلحةٍ لها أثرها في صفوف العدوّ كالحجارة ونحوها .
    بينما اختار الخروجَ إلى العدوّ الرجالُ المتحمّسون الذين حرموا من شهود يوم بدر ، وتاقت نفوسهم إلى الجهاد في سبيل الله ، وطمعوا في نيل الشهادة ، فألحّوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج لقتالهم ، وقالوا له : " يا رسول الله ، كنّا نتمنّى هذا اليوم وندعو الله ، فقد ساقه إلينا وقرب المسير ، اخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنا جبنّا عن لقائهم " ، وأمام هذا الإلحاح لم يجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بُدّاً من اختيار هذا الرأي ، فدخل بيته ولبس عدّة الحرب .
    ولما أفاقوا من نشوة حماسهم بدا لهم أنهم أكرهوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمر لم يرده ، وشعروا بحرج بالغ ، فتلاوموا فيما بينهم ، وأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمزة بن عبدالمطلب ليعتذر عن ذلك فقال : " يا نبي الله ، إن القوم تلاوموا وقالوا : أَمْرُنا لأمرك تبع " ، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى أن من الحزم المضيّ قدماً في اختياره ، فقال : ( إنه لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله ) .


    وفي ليلة الجمعة تأهّب الناس للخروج ، واستعدّوا للقتال ، وعيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - من يقوم بحراسة المدينة ، ثم تحرّك الجيش المكوّن من ألف رجل وسلكوا طريقاً مختصراً تمرّ بأرض رجل منافقٍ ضريرٍ يقال له "ربعيّ بن قيظيّ " – وفي رواية " مربع بن قيظيّ " ، فلما أحسّ الرجل بالجيش جعل يحثو التراب في وجوههم ويقول : " لا أحلّ لكم أن تدخلوا حائطي " ، وذُكر أنه أخذ حفنةً من ترابٍ ثم قال : " والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربتُ بها وجهك " ، فتواثب القوم إليه ليقتلوه لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهَرهم وقال : ( لا تقتلوه ؛ فهذا أعمى القلب أعمى البصر ) .

    رسم لغزوة أحد والتفاف خالد بن الوليد مع خيالة قريش حول قوات المسلمين.
    واستمرّ الجيش في مسيره حتى بلغوا بستاناً يُقال له " الشّوط " ، عندها انسحب عبدالله بن أبي بن سلول بحركة ماكرة ومعه ثلث الجيش يريد أن يوهن من عزائم المسلمين ويفتّ في عضدهم ، ويوقع الفرقة في صفوفهم ، مبرّراً ذلك حيناً باستبعاده أن يحدث قتالٌ ، وحيناً باعتراضه على قرار القتال خارج المدينة ، وقائلاً : " أطاعَ الولدانَ ومن لا رأي له ، أطاعهم وعصاني ، علام نقتل أنفسنا ؟ " ، ولقد حاول عبدالله بن حرام رضي الله عنه أن يثنيهم عن عزمهم ، وقال لهم : " يا قوم ، أذكّركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيّكم عندما حضر عدوّهم " ، فردّوا عليه : " لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسْلمناكم ، ولكنّا لا نرى أن يكون قتالٌ " ، وسجل القرآن هذه الأحداث في قوله تعالى : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين ، وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون } ( آل عمران : 166 - 167 ) .
    وكاد هذا الموقف أن يؤثر على المؤمنين من بني سلمة وبني حارثة فيتبعوهم ، ولكن الله عصمهم بإيمانهم ، وأنزل فيهم قوله : { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليّهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ( آل عمران : 122 ) .
    وفي يوم السبت وصل الجيش إلى جبل أحد وعسكر هناك ، واختار النبي - صلى الله عليه وسلم - أرض المعركة ، وقام بتقسيم أفراد الجيش إلى ثلاث كتائب : كتيبة المهاجرين بقيادة مصعب بن عمير رضي الله عنه ، وكتيبة الأوس بقيادة أُسيد بن حضير رضي الله عنه ، وكتيبة الخزرج يحمل لواءها الحُباب بن المنذر رضي الله عنه ، وردّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صغار السنّ ومنعهم من المشاركة ، وبلغوا أربعة عشر غلاماً كما يذكر علماء السيرة ، ولم يستثن من الصغار سوى رافع بن خديج رضي الله عنه لبراعته في الرمي ، و سمرة بن جندب رضي الله عنه لقوّته الجسديّة .


    ثم عرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه فانتخب منهم خمسين رامياً ، وأمّر عليهم عبدالله بن جُبير رضي الله ، وجعلهم على جبل يُقال له " عينيْن " يقابل جبل أحد ، وقال لهم : ( إن رأيتمونا تخْطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا هَزَمْنا القوم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم ، وانضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا ، إنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم ) ، ثم تقدّم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصفوف فسوّاها ، ووضع أشدّاء المؤمنين في مقدّمتهم ، وقال : ( لا يُقاتلنّ أحدٌ حتى نأمره بالقتال ) .
    وفي هذه الأثناء حاول أبو سفيان أن يُحدث شرخاً في صفوف المؤمنين ، فعمد إلى الأنصار قائلا : " خلّوا بيننا وبين ابن عمّنا ؛ فننصرف عنكم ، ولا حاجة لنا بقتالكم " ، فقبّحوا كلامه وردّوا عليه بما يكره ، فجاء رجلُ يُقال له " أبو عامر الراهب " من أهل المدينة ، فأراد أن يثنيهم عن حرب قريش فقال : " يا معشر الأوس ، أنا أبو عامر " فقالوا له : " فلا أنعم الله بك عيناً يا فاسق " ، فلما سمعهم قال : " لقد أصاب قومي بعدي شرٌّ " .
    وبدأت المعركة بمبارزة فريدة تبعها التحام بين الصفوف ، واشتدّ القتال ، وحمي الوطيس ، وكان شعار المسلمين يومئذٍ : أمِتْ أمِتْ ، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - سيفاً له وقال : ( من يأخذ هذا السيف ؟ ) فبسطوا أيديهم يريدون أخذه ، فقال : (من يأخذه بحقه ؟ ) ، فأحجم القوم ، فقال أبو دجانة رضي الله عنه أنا آخذه يا رسول الله بحقه ، فما حقه ؟ ، فقال له : ( أن لا تقتل به مسلماً ، ولا تفرّ به عن كافر ) ، فدفعه إليه ، فربط على عينيه بعصابة حمراء ويجعل يمشي بين الصفين مختالاً في مشيته ، قائلاً :
    أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
    ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
    فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع ) ، يقول رواة السيرة : " فأخذ السيف فجعل يقتل به المشركين حتى انحنى " .
    وبدأت ملامح النصر تظهر من خلال المواقف البطوليّة التي أظهرها المسلمون واستبسالهم في القتال ، ومع تقهقر قريش وفرارهم أوّل الأمر ظنّ الرماة انتهاء المعركة ، ورأوا ما خلّفته من غنائم كثيرة فتحركت نفوسهم طمعاً في نيل نصيبهم منها ، فتنادوا قائلين : " الغنيمةَ أيها القوم ، الغنيمةَ ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟ " ، فقال أميرهم عبد الله بن جبير : " أنسيتم ما قال لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، فلم يلتفتوا إليه وقالوا : " والله لنأتين الناس فلنصيبنّ من الغنيمة " فغادروا أماكنهم متجهين صوب الوادي .
    ووجد خالد بن الوليد في ذلك فرصةً سانحة كي يدير دفّة المعركة لصالح المشركين ، وبالفعل انطلق مع مجموعة من الفرسان ليلتفّوا حول المسلمين ويحيطوا بهم من كلا الطرفين ، ففوجئ المسلمون بمحاصرتهم ، واستحرّ القتل فيهم ، وفرّ منهم من فرّ ، وتساقط الكثير منهم جرحى ، وفي هذه الأثناء انقطع الاتصال برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
    وكان في المشركين رجلٌ يُقال له " ابن قمئة " عَمِدَ إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه فأجهز عليه ، وشبه مصعباً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل الرجل يصيح : " قد قتلتُ محمداً " ، وسرت هذه الإشاعة بين الناس سريعاً ، فتفرّق المسلمون ، وقعد بعضهم عن القتال وقد أذهلتهم المفاجأة ، في حين استطاع الآخرون أن يثوبوا إلى رشدهم ، ويطلبوا الموت على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، منهم أنس بن النضر رضي الله عنه ، والذي لقي الله وفي جسده بضعٌ وثمانون ما بين ضربة سيفٍ ، أو طعنة رمح ، أو رمية سهم ، حتى إن أخته لم تتعرّف عليه إلا بعلامة كانت بإبهامه ، وأنزل الله فيه وفي أمثاله : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } ( الأحزاب : 23 ) .


    وبينما كان المسلمون في محنتهم تلك ، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يواجه الموت ، فقد خلُص إليه المشركون فكسروا أنفه وسِنّه ، وشجّوا وجهه الشريف حتى سالت منه الدماء ، فجعل يمسح الدم عنه ويقول : ( كيف يفلح قوم شجّوا نبيّهم ؟ ) .
    وأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأمور لن تعود إلى نصابها إلا بكسر هذا الطوق المحكم الذي ضربه المشركون ، فصعد إلى الجبل ومعه ثُلّة من خيرة أصحابه ، واستبسلوا في الدفاع عنه ، وخلّد التاريخ قتال أبي طلحة رضي الله عنه حتى شُلّت يمينه وأثخنته الجراح ، ووقفة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها وهي ترمي بالقوس تدافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتصدّي سعد بن أبي وقّاص للذود عنه ورميه للمشركين بالنبال ، وحماية أبي دجانة للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث جعل نفسه ترساً له عليه الصلاة والسلام حتى تكاثرت السهام على ظهره .

    تفاصيل معركة أحد
    ومضى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من أصحابه يشقّون الطريق نحو المشركين ، فأبصره كعب بن مالك رضي الله عنه فنادى بأعلى صوته : " يا معشر المسلمين ، أبشروا فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، فأسكته النبي - صلى الله عليه وسلم - لئلا يتفطّن إليه المشركون ، لكن الخبر كان قد وصل إلى المسلمين ، فعاد إليهم صوابهم ، وارتفعت معنويّاتهم ، لتعود المعركة أشدّ ضراوة من قبل ، وأقبل أبي بن خلف على فرس له هاتفاً بأعلى صوته : " أين محمد ؟ لا نجوت إن نجا " ، فهبّ إليه قومٌ ليقتلوه ، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - منعهم من ذلك ، ولما اقترب منه طعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ترقوته ، فاحتقن الدم فيه ، وجعل يصيح ويقول : قتلني والله محمد ، فقال له المشركون : ما بك من بأس ، فقال : " والله لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين " ، فلم يلبث قليلاً حتى مات .
    وكان الأصيرم - عمرو بن أقيش- يأبى الإسلام ، فلما كان يوم أحد ، قذف الله الإسلام في قلبه ، فأسلم وأخذ سيفه ، فقاتل ، حتى أُثخن بالجراح ، ولم يعلم أحد بأمره ، فوجده قومه وبه رمق يسير ، فقالوا : والله إن هذا الأصيرم ، ثم سألوه : " ما الذي جاء بك ؟ أنجدةً لقومك ، أم رغبة في الإسلام ؟ " ، فقال : " بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت " ، ومات من وقته ، فذكروه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فشهد له بالجنة ، ولم يصل لله سجدة قط .


    وعلم الله ما بعباده من الهم والغمّ ، والخوف والألم ، فأنزل عليهم نعاساً ناموا فيه وقتاً يسيراً ، ثم أفاقوا وقد زالت عنهم همومهم ، وفي ذلك يقول الله عزوجل : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم } ( آل عمران : 154 ) ، يقول أبو طلحة رضي الله عنه واصفاً تلك الحال : " كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد ، حتى سقط سيفي من يدي مراراً ، يسقط وآخذه ، ويسقط فآخذه " .
    وانكشفت المعركة عن مقتل سبعين صحابيّاً وجرح العديد منهم ، بعد أن انصرف المشركون مكتفين بالذي حقّقوه ، و لحقت الهزيمة بالمسلمين لأوّل مرة في تاريخهم نتيجة مخالفتهم أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنزل الله في شأن هذه الغزوة نحواً من خمسين آية في سورة آل عمران ، واصفاً أحداثها ، ومبيّناً أسباب النصر والهزيمة ، وغيرها من الدروس والعبر ، والحق أن هذه الغزوة زاخرة بالأحداث المهمّة ، والمواقف البطولية ، حال دون ذكرها خشية الإطالة ، ولنا معها وقفة أخرى نتناول فيها الأحداث التي أعقبت هذه الغزوة ، والله الموفّق والهادي إلى سواء السبيل .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان



    غزوة الخندق (غزوة الأحزاب)
    (3)


    مجيء الأحزاب ومقاومتهم
    وصل في شوال عام 5هـ إلى حدود المدينة المنورة عشرة آلاف مقاتل مشرك من قريش وغطفان وبني سليم وغيرهم، ولم يكتف رسول الله بحفر الخندق، بل جمع الصحابة ثلاثة آلاف، ونظم نقاط الحراسة للخندق، وفرق للقتال، وكتائب للمقاومة، حتى يمنع المشركين من تخطي الخندق تحت أي ظرف.

    وكان وقع المفاجأة مهولا على المشركين، إنها مكيدة ما عرفها العرب من قبل في فنون القتال، لقد أعدوا العدة لكل شيء، إلا أمر هذا الخندق المدهش.
    بدأ المسلمون في رشق المشركين بالنبال لكي يمنعوهم من عبور الخندق أو ردمه، وحاول المشركون بكل ضراوة أن يقتحموا الخندق، ونجح بعضهم فعلا في العبور من مكان ضيق في الخندق بفرقة على رأسها أحد أبطالهم اسمه عمرو بن عبد ود، ومعه عكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم، ولكن تصدى لهم المسلمون، حيث حدثت مبارزة رهيبة بين عمرو بن عبد ود وعلي بن أبي طالب حتى قتله البطل الإسلامي العظيم علي بن أبي طالب، وهرب بقية الرجال الذين جاءوا معه، وتكررت محاولة المشركين مرة واثنتين، وعشرة، وتصدى أسيد بن حضير في كتيبة من مائتي مسلم لفرقة فرسان خالد بن الوليد واستطاع أن يردهم منهزمين

    رسم توضيحي يبين غزوة الخندق
    كان الصراع يدور لفترات طويلة حتى أنه في أحد الأيام ظل المسلمون يدافعون عن الخندق من قبل صلاة العصر إلى ما بعد المغرب فضاعت عليهم صلاة العصر، وكان هذا الحدث فريدًا في السيرة، وانزعج المسلمون بشدة لأنهم أضاعوا الصلاة، وقال كما جاء في البخاري عن علي: "مَلأَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهَمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ".

    بل إن مسند أحمد والشافعي ذكرا أن الكفار أضاعوا على المسلمين في يوم آخر صلاة الظهر والعصر والمغرب، فصلاها المسلمون جميعا مع صلاة العشاء.
    كانت المقاومة فعلاً شرسة، وأصيب فيها بعض الصحابة، وطال الحصار.
    لم يكن يومًا أو اثنين، ولا أسبوعًا أو اثنين، بل لمدة شهر كامل، وكان الموقف صعبًا على المسلمين، كما كان صعبًا على الكافرين.. {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104].
    خيانة بني قريظة
    وأسقط في أيدي الكافرين، واحتاروا في كيفية حل موقفهم ذلك، حتى جاءهم الحل أخيرًا، وكان من عند اليهود.


    فاليهود مثلما جمعوا هذه الأعداد كلها ما زالوا يفكرون في استئصال المسلمين، وبدءوا يفكرون في الطريقة التي تمكنهم من ذلك، وكان مع المشركين أحد زعماء اليهود، وعتاتهم وهو حيي بن أخطب، وكان من أشدهم كفرًا وحقدًا وغلاًّ وحسدًا، فكر في الأمر، فلم يجد له مخرجًا إلا في يهود بني قريظة.
    بنو قريظة كما ذكرنا كانوا في الجنوب الشرقي للمدينة، فلو فتحوا الباب من جهتهم لدخول المشركين المدينة، لانتهت المدينة، فماذا يحدث لو حاربوا مع المشركين، وراقت تلك الفكرة للمشركين جدًّا، ولم يتبق إلا إقناع بني قريظة بمخالفة العهد مع رسول الله، والسماح للمشركين بدخول المدينة لاستئصال الشعب المسلم بكامله، وذهب حيي بن أخطب لأداء مهمته القذرة والتقى بزعيم بني قريظة كعب بن أسد، فقال حيي: إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، وبغطفان على قادتها وسادتها، وقد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يرجعوا حتى نستأصل محمدًا ومن معه.
    قال كعب: جئتني والله بذل الدهر، ويحك يا حيي، فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقًا ووفاءً.
    لكن حيي ظل يكلم كعبًا ويزين له، ثم وعده إن تخلت قريش وغطفان عنه أن يدخل معه في حصنه، ويتحمل معه ما يحدث بعد ذلك.

    وتحت تأثير شيطان بني النضير وقع شيطان بني قريظة، وقرر التحالف مع المشركين لتنفيذ ما ذكره حيي: لا نبرح حتى نستأصل محمدًا ومن معه.
    وقضى التحالف ليس فقط بفتح باب للمشركين لدخول المدينة، بل وتجهيز فرق عسكرية للحرب ضد المسلمين. كارثة! المدينة على أبواب هلكة قريبة.. ماذا يحدث لو تمكن عشرة آلاف مسلح إضافةً إلى يهود بني قريظة من اقتحام المدينة؟ لا أحسب أن أحدًا كان سيبقى حيًّا في المدينة آنذاك.
    يجب أن نضع هذا الأمر في اعتبارنا لكي نفهم رد فعل الرسول على بني قريظة لِمَا بدر منهم من خيانة.
    على الفور نقلت المخابرات الإسلامية إلى رسول الله نبأ خيانة اليهود له، نعم، كان رسول الله على حذرٍ من اليهود، يعلم أنهم لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، ولذلك وضع عليهم هذه المراقبة.
    وخبروني بالله عليكم: هل من قبيل المصادفة أن يخون مائة بالمائة من اليهود في تعاملهم مع الرسول؟ هل من قبيل المصادفة أن يظهر الانحراف في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة؟
    لا شك أن هذه ليست مصادفة ولا شك أن هذا الواقع لا بد أن ندركه جميعًا، ذكره ربنا I في كتابه حيث قال: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100].
    هكذا في كل مرة، يجب أن يخونوا، ويغدروا، وهذه ليست مصادفة، هذه قاعدة، وطبيعة متأصلة في نفوسهم، لا عهد لهم ولا ذمة.

    وصل الخبر للرسول، وقبل أن يتخذ أي قرار أراد أن يستوثق من الخبر، أرسل مجموعة من الصحابة للتأكد، فيهم سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة وغيرهم، وقال لهم أمرًا في غاية الأهمية قال: "انْطَلِقُوا حَتَّى تَنْظُرُوا أَحَقٌّ مَا بَلَغَنَا عَنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ أَمْ لاَ؟ فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْحَنُوا لِي لَحْنًا أَعْرِفُهُ وَلاَ تَفُتُّوا فِي أَعْضَادِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى الْوَفَاءِ فَاجْهَرُوا بِهِ لِلنَّاسِ".
    هذه هي الحكمة النبوية، والقيادة الذكية، كثيرًا ما ينشر المسلمون أخبار خطط وتسليحات وإمكانيات العدو على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون، فيشعر المسلم المشاهد لذلك أنه لا أمل، ويحبط، وييئس من المقاومة، لكن الرسول r يعلمنا أنه ليس كل ما يعرف يقال.
    ذهبت المجموعة الإسلامية إلى بني قريظة، ولما تكلموا معهم جهر يهود بني قريظة بالسوء، وسبوا الرسول وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد.
    رجع الصحابة بسرعة إلى رسول، وقالوا: عضل وقارة. أي غدر كغدر عضل وقارة بالصحابة عند ماء الرجيع.
    حزن الرسول حزنًا شديدًا لهذا الخبر لدرجة أنه تقنع بثوبه (غطى رأسه بالثوب) ومكث طويلاً، وفكر فيما سيحدث.
    ثم رفع رأسه فجأة وقال للمسلمين بصوت عال: "اللّهُ أَكْبَرُ، أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرِ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ".
    يحاول قدر المستطاع أن يرفع من همة الصحابة.
    انتشار خبر خيانة بني قريظة

    وعلى الرغم من محاولاته لتجنب انتشار الخبر إلا أن الله شاء للخبر أن ينتشر، وهذا لحكمة واحدة، الابتلاء والتنقية والتمييز بين صفوف المؤمنين وصفوف المنافقين.

    كل ما حدث من الأحزاب وحصار المدينة كان درجة من درجات الابتلاء، أما الآن فقد وصل المسلمون إلى ما أسميه بمرحلة الزلزال، المرحلة التي يزلزل فيها المسلمون زلزالاً لا يثبت فيه إلا الصادقون حقًّا، أما المنافقون مهما كانت درجة نفاقهم فلا شك أنهم سيقعون، وصف الله هذا الأمر في سورة الأحزاب حيث قال: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10، 11].

    مرحلة الزلزال، مرحلة خطيرة، لا بد منها قبل أن يأتي النصر، ولكن إذا أتت فمعناها أن النصر قريب إن شاء الله.
    وفي الآية الأخرى، يقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
    لكن المنافقين طبعًا وضعهم مختلف، المشركون من حول المدينة واليهود. لا أمل مطلقًا في نظرهم في النجاة {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب:12].
    وكان أحدهم يقول: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
    وبدأ المنافقون في التسرب من الصف.. الفرار {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13].
    بدأ الصف المسلم، والحمد لله، ينقى من الشوائب، من المنافقين، وهذا كله من مبشرات النصر.
    والرسول r قائد عملي، يجب أن يأخذ ردود أفعال واقعية، الجيش الإسلامي في حراسة الخندق في شمال المدينة، في منطقة خارج المدينة المنورة، النساء والأطفال في داخل المدينة، واليهود إلى جوارهم، فأول ما فكر فيه رسول الله إرسال مجموعة من الجنود لحماية النساء والأطفال.
    والجدير بالذكر أن ما يروى من قصة دفاع السيدة صفية -رضي الله عنها- عن الحصن ضد اليهود، ورفض حسان بن ثابت أن يهاجم اليهودي هذه القصة لا أساس لها من الصحة، السند فيها منقطع، وفيها طعن لا يصح في صاحبي جليل.
    أرسل رسول الله r فرقة لحماية لجبهة الداخلية للمدينة المنورة، ويجب أن نفكر في الموقف الجديد بسرعة، لقد أصبح الحصار الآن من قريش وغطفان واليهود ماذا نفعل؟
    يتوجب على المسلمين بدايةً فك هذا التحالف الرهيب، فكيف يتم ذلك الأمر؟ ومع أي جهة نبدأ؟ مع قريش أم مع اليهود أم مع غطفان؟
    محاولة الرسول فك التحالف
    فكر رسول الله في فك التحالف من خلال العرض المادي، والإغراء بالمال. المنطق يقول إن أي محاولة مع قريش ستفشل، فالعداء طويل، وهم أصلاً لم يأتوا من أجل المال، وكذلك الوضع مع اليهود؛ لأن حقدهم على الرسول كبير جدًّا، كما أنهم خونة، لا يمكن الاطمئنان إلى كلامهم، لم يتبق إلا غطفان، هذه القبيلة التي لم تأتِ ناقمة على رسول الله، وليس بينه وبينها عداء، وإنما جاءت من أجل مال خيبر، أي أنه من الممكن أن تنسحب، أو تفك ارتباطها بالباقين إذا أعطيت مالاً.

    وفعلاً عقد r لقاءً مع زعماء غطفان: عيينة بن حصن، والحارث بن عوف، لا تذكر المصادر تفاصيل ذلك اللقاء، لكنه يبدو أنها كنت فرصة، فرصة سريعة جدًّا، لدرجة أن الرسول لم يجد وقتا لإشراك الصحابة في اللقاء أو أن اللقاء كان على مستوى عالٍ جدًّا من السرية، فلم يشرك فيه أحد من الطرفين، المهم أن اللقاء تم بين الرسول r ممثلاً للمسلمين، وعيينة بن حصن والحارث بن عوف ممثلين عن غطفان، وبعد مشاورات ومداولات، استقر الطرفان على إعطاء غطفان ثلث ثمار المدينة لسنة كاملة على أن تعود غطفان وتترك حصار المسلمين، لكن الرسول علق هذه المفاوضات على قبول مجلسه الاستشاري للفكرة، وخاصةً سعد بن معاذ وسعد بن عبادة سيدي الأوس والخزرج، فلماذا هذان الرجلان بالذات؟
    أولاً: لأنهما قريبان في مساكنهما في المدينة من غطفان، ومن ثَمَّ فهما أدرى الناس بهم وبما يصلح معهم.

    وثانيًا وهو الأهم: أن ثمار المدينة هذه التي ستكون ثمنا لفك الحصار ليست ملكًا للرسول، وإن كان هو زعيم الدولة، وإن كان هو النبي، ولكنه يحترم تمامًا الملكية الشخصية للأفراد، وهذه الثمار ملكية شخصية للأوس والخزرج.
    ولهذا بعد اجتماع الرسول مع زعماء غطفان، قام باجتماع آخر بسرعة مع السعديْن: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وعرض عليهما الاتفاق الذي وصل إليه مع زعماء غطفان، وكان رسول الله يعتقد أن هذا العرض عرض مغرٍ لإنقاذ المدينة من الحصار (كان هذا بعد نحو شهر من الحصار)، فماذا كان رد فعل زعيمي الأوس والخزرج؟
    لقد رحبا بالعرض بدايةً، ثم قال سعد بن معاذ بمنتهى الحكمة: يا رسول الله أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟
    إذ إنه لو كان أمر من الله أو رسوله لما جاز له أن يفكر فيه أو يناقشه أصلا، فلا بد من السمع والطاعة، أما إن كان رأيًا بشريًّا فيمكننا حينئذٍ مناقشته، وعرض الرأي فيه.

    فقال لهم رسول الله: "بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ، وَاللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلاَّ لِأَنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ". فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا وهؤلاء مع الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعًا أو فيضًا، أفحينما كرمنا الله بالإسلام، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف وحتى يحكم الله بيننا وبينهم.
    هكذا تكون عزة المسلم، أعجب الرسول برأي سعد جدًّا على الرغم من مخالفته لرأيه، وقال له: "أَنْتَ وَذَاكَ".
    فأمسك سعد بن معاذ بالصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
    وراسل رسول الله زعماء غطفان، وأعلمهم برأي المجلس الاستشاري ورفض المساومة.
    والحقيقة أن رأي السعدين كان في منتهى العمق والحكمة، ليست نظرة عنترية غير مدروسة بل هي رؤية إستراتيجية رائعة، فمستقبل المدينة قد يتحدد بهذه المفاوضات فليست المشكلة فقد ثلث ثمار المدينة، ولكن المشكلة أن غطفان ستحقق انتصارا غير مقبول على الدولة الإسلامية، وستهتز صورة الدولة الإسلامية أمامها وستهتز أمام الجزيرة العربية بكاملها، وهؤلاء ليسوا من الزعماء النبلاء الشرفاء، بل هم مجرد مرتزقة مأجورين، وسيفتح هذا الباب الابتزاز المستمر للمدينة المنورة كلما احتاجوا إلى مال جاءوا المدينة. أما هذه الوقفة الصلبة الجريئة فإنها -ولا شك- ستهز غطفان من الأعماق، وبالذات أنهم لا يفكرون إلا في المال والدنيا، وطالِب الدنيا ضعيف، ضعيف جدًّا أمام طالب الآخرة.
    ويجب ألا ننسى أن ديار غطفان قريبة من المدينة، وقريش إن آجلاً أو عاجلاً ستعود إلى ديارها بمكة، أما غطفان فباقية، ولهذا يجب أن نحافظ جيدًا على صورة قوية راسخة أمامهم، وهكذا كان القرار في منتهى الحكمة، وأقره الرسول r دون تردد، وليعلم الجميع أن الشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، وكان من الممكن جدًّا أن يوحي الله I بهذا الرأي إلى رسوله مباشرة، ولكن حدوث هذه القصة بهذه الصورة يفتح للمسلمين أبواب الفكر والإبداع وإبداء الرأي لمصلحة الأمة الإسلامية.
    ابتلاء سعد بن معاذ
    وكأن الله أراد أن يختبر الصدق في كلام سعد بن معاذ، فحدث أمر شاق على المسلمين كثيرً، ولكنه كان حلمًا لسعد بن معاذ.

    لقد أصيب سعد بن معاذ البطل الإسلامي الشاب، أصيب بسهم في ذراعه أو كتفه وكانت الإصابة شديدة خطيرة.
    وكانت أزمة فوق الأزمات، وهذا زعيم الأوس وهذا حكيم المسلمين وهذا المطاع في قومه وهذا الحبيب ليس فقط لرسول الله بل لله رب العالمين، سعد بن معاذ قيمة كبيرة جدًّا في الإسلام، كانت أزمة كبيرة جدًّا، فماذا كان رد فعل سعد لهذه الإصابة؟ شاب يصاب إصابة قاتلة وهو في السابعة والثلاثين من عمره، ماذا يقول؟
    قال سعد يدعو الله: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدًا أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدُهُمْ فِيكِ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ وَأَخْرَجُوهُ، اللَّهُمَّ فَإِنَّنِي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْءٌ، فَأَبْقِنِي لَهُمْ حَتَّى أُجَاهِدَهُمْ فِيكِ، وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ فَافْجُرْهَا وَاجْعَلْ مَوْتَتِي فِيهَا".
    يا الله! شاب عنده 37 سنة يرجو الله ألا يموت حتى يجهز على قريش، ويتمنى ألا يلتئم جرحه لكي يموت شهيدًا، عندما يصبح الموت أمنية.

    هذه موتة شهيد، يدعو الله ألا تفوته فرصة الشهادة في سبيل الله.
    ثم قال في آخر دعائه: "وَلاَ تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ".
    حتى في لحظاته الأخيرة لا ينسى غدر بني قريظة، ولا ينسى هموم الأمة الإسلامية.
    وكفى الله المؤمنين القتال
    تأزم الموقف جدًّا لم يعد في الصف المسلم أحد من المنافقين، وبذل المسلمون جهدهم كله، حفروا الخندق في وقت قياسي، تحملوا في سبيل الله الجوع والبرد، حموا الخندق، ودافعوا عنه بأرواحهم، قاتلوا بضرواة، تعبوا، كافحوا ، قاموا بالمشاورات، واجتهدوا في الدعاء؛ لأن النصر من عند الله.

    كان المسلمين يدعون الله تعالى أيام الأحزاب يقولون: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا. وكان الرسول يقول: "اللُّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ".
    بعد أن بذل المسلمون كل طاقتهم، ووسعهم ومحاولاتهم، يأتيهم نصر الله، ولا شك، ويأتيهم بطريقة إلهية، وترتيب رباني، حتى يعلم الجميع، ويوقنوا أن النصر من عند الله، وجاء جنود الرحمن في الأحزاب، وسأختار منهم ثلاثة جنود فقط من جنود الرحمن نتحدث عنهم.
    الجندي الأول: نعيم بن مسعود
    نعيم بن مسعود رجل من المشركين لا يتوقع إسلامه أبدًا في هذا التوقيت، بل يكاد يكون مستحيلا، ذلك أنه من قبيلة غطفان المحاصرة للمسلمين، كيف لرجل من الجيش القوي المحاصر للمسلمين، بعد أن مر شهر على الحصار، وقد ينهار المسلمين في أي لحظة وخاصة بعد خيانة اليهود، كيف له أن يترك جيشه القوي لينضم لجيش المسلمين الضعيف المهدد بالانهيار في أي لحظة؟!

    جاء نعيم بن مسعود إلى الرسول يقول له: يا رسول الله، إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني ما شئت.
    فقال رسول الله: "إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا مَا اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ".

    ولم يأمره بشيء يعمله، ولكن يشاء الله أن يلهمه بفكرة لم ترد على ذهن أحد من المسلمين، ولا رسول الله نفسه، ونعيم بن مسعود شخصية معتبرة قيادية معروف عند اليهود وعند قريش، فذهب مباشرة إلى يهود بني قريظة وقال لهم، وهم يحسبونه مشركً، ويعلمون أنه من قادة غطفان، فله معرفة بواقع الأمور وما يجري خلف الأبواب، قال لهم: قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم. قالوا: صدقت. قال: فإن قريشًا ليسوا مثلكم، البلد بلدكم، فيه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم، ولا تقدرون أن تتحملوا منه إلى غيره، وإن قريشًا قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمدًا، فانتقم منكم.
    فقالوا: وما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي.
    ثم ذهب نعيم إلى قريش مباشرةً، وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم. قالوا: نعم. فقال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمدٍ وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم.
    ثم ذهب إلى غطفان وقال لهم نفس الكلام.
    قريش شعرت بالقلق وكذلك غطفان، أرسلوا رسالة سريعة إلى اليهود وبتدبير رب العالمين كانت يوم السبت، قالت قريش لليهود: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمدا. فاعتلت اليهود بالسبت وقالوا: لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن.
    قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى اليهود، وقالوا: إنا والله لا نرسل إليكم أحدً، فانهضوا معنا نناجز محمدًا.
    فقالت اليهود: صدقكم والله نعيم.
    فدبت الفرقة بين الفريقين، وتفتت الأحزاب، وهكذا، بحكمة الله وتدبيره، يسلم نعيم بن مسعود في هذا الوقت، ويلهمه الله بالفكرة التي ينجح بها في تفتيت الأحزاب، ورد كيدهم.. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
    الجندي الثاني: الريح
    والريح جندي هائل من جنود الرحمن، وربنا بعث ريحًا شديدة وقاسية البرودة على معسكر الكافرين لم تترك لهم خيمة إلا واقتلعتها، ولم تترك قِدرًا إلا قلبته، ولم تترك نارًا إلا أطفأتها، ووصلت شدة الريح وخطورتها إلى الدرجة التي دفعتهم لأخذ قرار العودة دون قتال وفك الحصار.. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].

    لماذا لم تأت الريح منذ اليوم الأول؟! لماذا انتظرت شهرًا كاملا؟!

    كان ذلك لكي يمتحن المؤمنين، ويتميز الصادق من الكاذب، والمؤمن الصادق من المنافق.
    ولماذا لم تهلكهم هذه الريح تمامًا مثلما أهلكت عادًا وثمود؟ لأن كثيرًا من هؤلاء الكفار سيسلمون بعد ذلك، ويتكون منهم جيش الإسلام.
    سبحان الله! الكون يجري وفق نواميس غاية في الدقة والإعجاز.
    الجندي الثالث: الملائكة
    يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9]

    وسنرى فيما بعد في حديث بني قريظة أن الملائكة شاركت في الحرب بل شارك جبريل بنفسه.
    هزيمة الأحزاب
    وتم نصر الله وأرسل رسول الله حذيفة بن اليمان إلى معسكر الكفار ليطمئن على سير الأحداث، وعلى فعل الرياح بهم وعلى أثر الفرقة التي أحدثها نعيم بن مسعود، فعاد حذيفة بالخبر الجميل وبالنصر العظيم.
    لقد عزم الجميع على الرحيل.
    كل ذلك بدون قتال.
    قال: {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25].
    وانتهت واحدة من أعظم معارك المسلمين مع أنه لم يحدث فيها قتال، وكان الله يريد أن يقول لنا، ليس المطلوب هو تحقيق النصر، ولكن المطلوب هو العمل من أجله، المطلوب هو قرار الجهاد، والثبات في أرض المعركة، المطلوب هو صفات الجيش المنصور، أما النصر فينزل بالطريقة التي يريدها رب العالمين، وفي الوقت الذي يريده الله.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان



    نبذة عن فتح مكة
    - الإسلام سؤال وجواب
    (4)



    الحمد لله.

    أولا:
    الهدف من فتح مكة هو الهدف العام الذي تشترك فيه جميع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه ، وهو دعوة الناس إلى الإسلام ، ومنع الفتنة ، وإزالة الحواجز التي تصدهم عن دين رب العالمين .
    قال الله تعالى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) البقرة/193
    وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ) رواه البخاري (25) ومسلم (22).
    ثم كان هناك هدف خاص لفتح مكة؛ وهو نصرة النبي صلى الله عليه وسلم لحلفائه من خزاعة لما اعتدت عليهم قريش وحلفاؤها.
    ففي السنة السادسة من الهجرة النبوية: عقد النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش صلحا -صلح الحديبية- لمدة عشر سنين، وخيروا القبائل والناس ؛ من شاء أن يدخل في حلف النبي صلى الله عليه وسلم دخل ، ومن شاء أن يدخل في حلف قريش فله ذلك.

    روى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، قالا - وهما يذكران صلح الحديبية - :
    ( هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهن النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ... وَكَانَ فِي شَرْطِهِمْ حِينَ كَتَبُوا الْكِتَابَ أَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ، فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ، فَقَالُوا: نَحْنُ مَعَ عَقْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ، فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ ... ) رواه الإمام أحمد في "المسند" (31 / 212 - 218)، وحسنه محققو المسند.
    وفي السنة الثامنة من الهجرة النبوية، هاجمت بنو بكر بمعونة قريش قبيلة خزاعة حليفة المسلمين فقتلوا منهم جماعة، وبهذا نقضت قريش وحلفاؤها صلح الحديبية، فسار النبي صلى الله عليه وسلم لنصرة حلفائه من خزاعة.
    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
    " وكان سبب ذلك أن قريشا نقضوا العهد الذي وقع بالحديبية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغزاهم ...
    قال ابن إسحاق: وكان بين بني بكر وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام، فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية الدِّيَلي من بني بكر ، في بني الدِّيَل ، حتى بيّتَ خزاعة [ بيتهم : يعني هاجهم ليلا ] ، على ماء لهم يقال له الوَتير، فأصاب منهم رجلا يقال له مُنبه، واستيقظت لهم خزاعة ، فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال .
    وأمدت قريش بني بكر بالسلاح ، وقاتل بعضهم معهم ليلا في خفية .
    فلما انقضت الحرب خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد فقال:

    يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
    فانصر هداك الله نصرا أيدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
    إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
    هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
    وزعموا أن لست أدعو أحدا ... وهم أذل وأقل عددا
    قال ابن إسحاق: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نصرت يا عمرو بن سالم ) فكان ذلك ما هاج فتح مكة .
    وقد روى البزار من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة بعض الأبيات المذكورة في هذه القصة، وهو إسناد حسن موصول" انتهى من "فتح الباري" (7 / 519 - 520).
    ثانيا:
    باشر النبي صلى الله عليه وسلم كل أسباب القوة والنصر، امتثالا لقوله تعالى:
    ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ) الأنفال (60).
    - فأمر المسلمين بالتجهز، وأمر أهله بتجهيزه.
    قال ابن هشام رحمه الله تعالى:
    " وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنها، وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بنية: أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ " انتهى. "سيرة ابن هشام" (4 / 39).

    - وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إخفاء الأمر عن أهل مكة حتى يباغتهم ، وقد يسَّر الله له ما أراد ، فلم تشعر قريش بالأمر حتى نزل جيش المسلمين قريبا من مكة بمرّ الظهران.
    نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه "المطالب العالية" (17 / 459) من مسند إسحاق بن راهويه بسنده عَنِ ابن عباس رَضِيَ الله عَنْهما، قَالَ: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ ... فَنَزَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ ظهران، فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ النَّاسِ، فِيهِمْ أَلْفٌ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَسَبْعُمِائَةٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَقَدْ عَمِيَتِ الْأَخْبَارُ عَلَى قُرَيْشٍ، فَلَا يَأْتِيهِمْ خَبَرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَدْرُونَ مَا هُوَ فَاعِلُهُ )، وصححه الحافظ ابن حجر.
    - أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالإفطار ليتقووا به في غزوتهم، لما اقتربوا من العدو، وكانوا في شهر رمضان.
    روى مسلم (1120) عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ ، فَكَانَتْ رُخْصَةً ، فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ : إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا ، وَكَانَتْ عَزْمَةً ، فَأَفْطَرْنَا) .
    جاء في "عون المعبود شرح سنن أبي داود" :
    "فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْفِطْر لِمَنْ وَصَلَ فِي سَفَره إِلَى مَوْضِع قَرِيب مِنْ الْعَدُوّ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ الْعَدُوّ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِع الَّذِي هُوَ مَظِنَّة مُلَاقَاة الْعَدُوّ , وَلِهَذَا كَانَ الْإِفْطَار أَوْلَى وَلَمْ يَتَحَتَّم . وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِقَاء الْعَدُوّ مُتَحَقِّقًا : فَالْإِفْطَار عَزِيمَة ، لِأَنَّ الصَّائِم يَضْعُف عَنْ مُنَازَلَة الْأَقْرَان ، وَلَا سِيَّمَا عِنْد غَلَيَان مَرَاجِل الضِّرَاب وَالطِّعَان , وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِهَانَة لِجُنُودِ الْمُحِقِّينَ وَإِدْخَال الْوَهْن عَلَى عَامَّة الْمُجَاهِدِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ" انتهى .
    - لما اقترب من مكة بدأ يتخذ الإجراءات العسكرية التي ترعب قريشا وتقعدها عن القتال، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل بمر الظهران أمر أصحابه ليلا بإيقاد النيران، وهذا ما أرعب عيون قريش.
    ورد عند ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2 / 135):
    " ثم نزل مر الظهران عشاء، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشا مسيره ، وهم مغتمون لما يخافون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان بن حرب يتحسس الأخبار وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا، فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء ، فلما رأوا العسكر أفزعهم " انتهى.
    وكانت هذه المباغتة دافعا لأبي سفيان ليقدم على النبي صلى الله عليه وسلم ويعلن إسلامه، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكان يرى منه قوة المسلمين وكثرة عددهم ، حتى يخبر بها أهل مكة فيوهن قوتهم وعزمهم.
    عَنْ هِشَامٍ بن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ( لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الفَتْحِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ، يَلْتَمِسُونَ الخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلُوا يَسِيرُونَ حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا هُمْ بِنِيرَانٍ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا هَذِهِ؟ لَكَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ: نِيرَانُ بَنِي عَمْرٍو، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: عَمْرٌو أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، فَرَآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَخَذُوهُمْ، فَأَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ، فَلَمَّا سَارَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خَطْمِ الخَيْلِ، حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى المُسْلِمِينَ. فَحَبَسَهُ العَبَّاسُ، فَجَعَلَتِ القَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَان َ ) رواه البخاري (4280).

    - وقد تحقق المقصود من ذلك ، فقد نقل ابن حجر رحمه الله تعالى في " المطالب العالية" (17/ 461 – 462) من "مسند إسحاق بن راهويه" بسنده عَنِ ابن عباس رَضِيَ الله عَنْهما : ( فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ حَيْثُ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَرَّتِ الْقَبَائِلُ عَلَى راياتها، فكلما مرت راية، قَالَ: مَنْ هذه؟ فأقول: بني سُلَيْمٍ، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِبَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ تَمُرُّ أُخْرَى، فَيَقُولُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَأَقُولُ: مُزَيْنَةُ، فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِمُزَيْنَةَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ كَتِيبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَضْرَاءُ، فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، لَا يُرَى مِنْهُمْ إلا الحدق، قال: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَا لِأَحَدٍ بِهَؤُلَاءِ قِبَلٌ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ الْيَوْمَ لَعَظِيمٌ، فَقُلْتُ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ! إِنَّهَا النُّبُوَّةُ، قَالَ: فنعم إذاً، فقلت:النَّجَاءُ إِلَى قَوْمِكَ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَاهُمْ بِمَكَّةَ، فَجَعَلَ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! هَذَا مُحَمَّدٌ، قَدْ أَتَاكُمْ بِمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِه ... ثم قال : مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، فَقَالُوا: قَاتَلَكَ اللَّهُ، وَمَا يغني عَنَّا دَارُكَ، قَالَ: وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ) .
    قال الحافظ ابن حجر:هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
    ثالثا:
    لما اقترب النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وعلى بعد (22 كيلا) في مرّ الظهران عسكر النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه هناك، ونظمه استعدادا لدخول مكة.
    فوزع الجيش على كتائب، كل كتيبة تمثل قبيلة، والنبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه من المهاجرين والأنصار في كتيبة، كما مرّ في الحديثين السابقين.
    ثم قسّم هذا الجيش لما قدم مكة؛ على الميمنة خالد بن الوليد، وعلي الميسرة الزبير بن العوام، والرجّالة والحسّر الذين لا دروع لهم بقيادة أبي عبيدة، والنبي صلى الله عليه وسلم في كتيبة.
    عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلَا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ، فَقَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَي ْنِ، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَةٍ ) رواه مسلم (1780) .
    وفي رواية أخرى لمسلم: ( كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَجَعَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُمْنَى، وَجَعَلَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى، وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْبَيَاذِقَةِ، وَبَطْنِ الْوَادِي ).
    الْبَيَاذِقَةِ: هم الرجالة.
    وأمر خالدا أن يدخل من أسفل مكة – المسفلة- ويغرز رايته عند أدنى البيوت، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم والزبير بمن معه من أعلى مكة وغرز رايته بالحجون.
    عَنْ هِشَامٍ بن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ( وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بِالحَجُونِ.
    قَالَ عُرْوَةُ: وَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ العَبَّاسَ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! هَا هُنَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ، قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُدَا، فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ رَجُلاَنِ: حُبَيْشُ بْنُ الأَشْعَرِ، وَكُرْزُ بْنُ جابِرٍ الفِهْرِيُّ ) رواه البخاري (4280).
    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
    " قوله ( وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ ) بالمدّ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُدَا، أي بالقصر، وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة الآتية أن خالدا دخل من أسفل مكة والنبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها، وكذا جزم ابن إسحاق: أن خالدا دخل من أسفل ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها وضربت له هناك قبة، وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقا واضحا فقال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم، وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة، وأمره أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم ، وأمره أن يدخل من أسفل مكة ، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار ، في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم أن يكفوا أيديهم ، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم " انتهى. "فتح الباري" (8/ 10).
    رابعا:
    وفتح مكة رغم أنه يعد أعظم الفتوح، ويعد حدثا فاصلا في تاريخ الإسلام والبشرية ، إلا أن قتلى هذا الفتح لم يتجاوز عشرات قليلة.
    قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
    " وذكر ابن إسحاق أن أصحاب خالد لقوا ناسا من قريش، منهم سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية كانوا تجمعوا بالخندمة -مكان أسفل مكة- ليقاتلوا المسلمين، فناوشوهم شيئا من القتال، فقتل من خيل خالد مسلمة بن الميلاء الجهني، وقتل من المشركين اثنا عشر رجلا أو ثلاثة عشر وانهزموا ...

    وعند موسى بن عقبة: واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة ، وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناة وناس من هذيل ، ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش، فقاتلوا خالدا، فقاتلهم ، فانهزموا ، وقتل من بني بكر نحو عشرين رجلا ، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة ، حتى انتهى بهم القتل إلى الجزورة ، إلى باب المسجد حتى دخلوا في الدور وارتفعت طائفة منهم على الجبال، وصاح أبو سفيان: من أغلق بابه وكف يده فهو آمن.
    قال: ( ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البارقة، فقال: ما هذا وقد نهيت عن القتال؟ فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال ، فلم يكن له بد من أن يقاتل، ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن لخالد بن الوليد: لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟ فقال: هم بدءونا بالقتال ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت يدي ما استطعت. فقال: قضاء الله خير ) .
    وذكر ابن سعد: أن عدة من أصيب من الكفار أربعة وعشرون رجلا، ومن هذيل خاصة أربعة، وقيل: مجموع من قتل منهم ثلاثة عشر رجلا " انتهى من "فتح الباري" (8 / 10 - 11).
    وقلة القتلى مقارنة بعظمة هذا الفتح راجع إلى ثلاثة أمور:
    الأمر الأول: الإجراءات الحربية التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم من استعداد وسرية في القدوم إلى مكة وكل ما سبق ذكره، كان لها بقدر الله تعالى أثرٌ عظيمٌ في دخول الرعب في قلوب أهل مكة وتوهين عزيمتهم للقتال، فلم يقم إلى القتال إلا القليل منهم ، كما أن هذه المباغتة لم تعطهم الفرصة للاستعداد للحرب.
    الأمر الثاني: عظمة وحرمة المكان الذي وقع فيه القتال وهو الحرم المكي، فكان هذا حافزا إلى كف المسلمين لسيوفهم ما أمكنهم ذلك.
    ولهذا لما قال سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: ( يَا أَبَا سُفْيَانَ! اليَوْمَ يَوْمُ المَلْحَمَةِ، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الكَعْبَةُ، ...
    فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ قَالَ: مَا قَالَ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الكَعْبَةُ ) رواه البخاري (4280).
    ولم يأذن فيه بعد التغلب عليها ، إلا لخزاعة ، تأخذ ثأرها من بني بكر، ولم يأذن لها إلا ساعة من نهار إلى العصر من يوم الفتح، ثم أمرهم بكف أيديهم عن القتل.

    عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: ( لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُفُّوا السِّلَاحَ ، إِلَّا خُزَاعَةَ عَنْ بَنِي بَكْرٍ. فَأَذِنَ لَهُمْ، حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ قَالَ: كُفُّوا السِّلَاحَ.
    فَلَقِيَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ، مِنْ غَدٍ، بِالْمُزْدَلِفَ ةِ، فَقَتَلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ، وَرَأَيْتُهُ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَ: إِنَّ أَعْدَى النَّاسِ عَلَى اللهِ مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ بِذُحُولِ [أي : ثار] الْجَاهِلِيَّةِ ) رواه أحمد في "المسند" (11 / 264 - 265)، وحسنه محققو المسند.
    الأمر الثالث: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس والجنوح إلى السلم ما أمكن ذلك.
    فقد أعطى الأمان لكل من يدخل بيته ، أو بيت أبي سفيان ، أو المسجد ، أو ألقى السلاح.
    عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابهُ فَهُوَ آمِنٌ ) رواه مسلم (1780).
    وعند أبي داود (3022) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ .
    قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلَى دُورِهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ )، وحسنه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (2 / 257).
    وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم جنوده ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم، كما مر ذلك في كلام ابن حجر رحمه الله تعالى.
    والله أعلم





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان



    ماذا تعرف عن معركة عين جالوت ؟

    أحمد تمام



    (5)

    لم تتعرض دولة الإسلام لأوقات عصيبة وعواصف منذرة ورياح مرعبة مثلما تعرضت في القرن السابع الهجري؛ حيث دمّرت جيوش المغول بقيادة جنكيز خان حواضر الإسلام الكبرى في المشرق الإسلامي، وسفكت دماء المسلمين، وأتت على معالم الحضارة والمدنية، ولم تستطع قوة إسلامية أن توقف هذا الزحف الكاسح، وانهارت الجيوش الإسلامية وتوالت هزائمها، وتتابع سقوط الدول والمدن الإسلامية كأوراق الشجر في موسم الخريف.

    وأطمع ضعف المسلمين وخور عزائمهم المغول في أن يتطلعوا إلى مواصلة الزحف تجاه الغرب، وإسقاط الخلافة العباسية وتقويض دعائمها، ولم تكن الخلافة في وقت من الأوقات أضعف مما كانت عليه وقت الغزو المغولي؛ فخرج هولاكو سنة (651هـ= 1253م) على رأس حملة جرارة، تضم مائة وعشرين ألف جندي من خيرة جنود المغول، المدربين تدريبًا عاليًا على فنون القتال والنزال، والمزودين بأسلحة الحرب وأدوات الحصار، تسبقهم شهرتهم المرعبة في القتل وسفك الدماء، ومهارتهم الفائقة في الحرب، وشجاعتهم وقوة بأسهم في ميادين القتال.
    سقوط الخلافة العباسية



    اجتاحت قوات المغول الأراضي الإيرانية، ولم تجد ما يعوق حركتها حتى وصلت إلى بغداد، فضربت حصارًا عليها، ولم يكن لها قدرة على رفع هذه الجيوش الجرارة؛ فاستسلمت في خنوع إلى الغازي الفاتك فدخلها في (4 من صفر 656 هـ = 10 من فبراير 1258م)، واستباح جنوده المدينة المنكوبة، وقتلوا السواد الأعظم من أهلها الذين قدروا بنحو مليون قتيل، ولم يكن خليفة المسلمين وأسرته بأسعد حال من أهالي المدينة، حيث لقوا حتفهم جميعًا، وأضرم التتار النار في أحياء المدينة، وهدموا مساجدها وقصورها، وخربوا مكتباتها، وأتلفوا ما بها من تراث إنساني، وأصبحت المدينة التي كانت عاصمة الدنيا وقبلة الحضارة أثرًا بعد عين.

    أوضاع الشام قبل حملة هولاكو
    كانت بلاد الشام في أثناء تلك المحنة يحكم الأيوبيون أجزاء كبيرة منها، ولم تكن العلاقات بينهم ودية على الرغم من انتسابهم إلى بيت واحد وأسرة كريمة هي أسرة صلاح الدين الأيوبي، وبدلا من أن توحدهم المحنة وتجمع بين قلوبهم ويقفوا صفًا واحدًا هرول بعضهم إلى هولاكو يعلن خضوعه له، مثلما فعل الناصر يوسف الأيوبي صاحب دمشق وحلب، وكان أقوى الأمراء الأيوبيين وأكثرهم قدرة على مواجهة هولاكو لو رغب، لكنه لم يفعل وأرسل ابنه العزيز إلى هولاكو يحمل إليه الهدايا، ويعلن خضوعه له، ويطلب منه أن يساعده على الاستيلاء على مصر وتخليصها من حكم دولة المماليك الناشئة التي انتزعت الملك من بيته.
    لكن هولاكو رأى في عدم قدوم الناصر إليه بنفسه استهانة به، فكتب إليه رسالة غاضبة يأمره بالإسراع إليه وتقديم آيات الولاء والخضوع دون قيد أو شرط، فانزعج الناصر، وأدرك أن مسعاه قد خاب، واستعد استعداد الخائف لمواجهة المغول، وبعث بأسرته إلى مصر.
    حملة هولاكو
    خرج هولاكو في رمضان (657هـ= 1295م) من عاصمة دولته مراغة في أذربيحان، متجهًا إلى الشام، معه حلفاؤه من أمراء جورجيا وأرمينيا، يقود طلائعه قائده “كيتوبوقا”، متجهين إلى الشام، وكانت ميافارقين بديار بكر أول ما تبتدئ به الحملة الغازية، فصمدت المدينة للحصار مدة طويلة دون أن يفلح المغول في اقتحامها، غير أن طول الحصار ونفاد المؤن وانتشار الأوبئة وهلاك معظم السكان دفع إلى استسلام المدينة.
    وفي أثناء الحصار كانت جيوش المغول تستولي على المدن المجاورة، فسقطت ماردين، وحران، والرها وسروج والبيرة، ثم واصل الجيش زحفه إلى حلب وحاصرها حصارًا شديدًا، حتى استسلمت في (9 من صفر 658هـ- 25 من يناير 1260م)، وأباح هولاكو المدينة لجنوده سبعة أيام فعاثوا فيها فسادًا، ونشروا الخراب في كل أرجائها، ولم تكد تصل هذه الأنباء المفجعة إلى دمشق حتى آثر أهلها السلامة بعد أن فر حاكمها الناصر يوسف الأيوبي، وسارعوا إلى تسليم المدينة، وشاءت الأقدار أن يغادر هولاكو الشام ويعود إلى بلاده تاركًا مهمة إكمال الغزو لقائده “كيتوبوقا” فدخل دمشق في (15 من ربيع الأول 658هـ= 1 من مارس 1260م).

    وكان من نتيجة هذا الغزو أن فر كثير من أهل الشام إلى مصر التي كانت تحت سلطان دولة المماليك، ويحكمها سلطان صبي هو الملك “المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك”، وفي هذه الأثناء بعث الملك الناصر يوسف الذي أفاق بعد فوات الأوان برسول إلى مصر يستنجد بعساكرها للوقوف ضد الزحف المغولي، وكانت أخبار المغول قد انتشرت في مصر وأحدثت رعبًا وهلعًا.
    ولما كان سلطان مصر غير جدير بتحمل مسئولية البلاد في مواجهة الخطر القادم، فقد أقدم نائبه “سيف الدين قطز” على خلعه، محتجًا بأنه لا بد من سلطان قاهر يقاتل هذا العدو، والملك الصبي صغير لا يعرف تدبير المملكة، ولم يجد قطز معارضة لما أقدم عليه؛ فالخطر محدق بالبلاد، والسلطان قد ازدادت مفاسده وانفض الجميع من حوله.
    رسالة هولاكو
    بدأ السلطان قطز يوطد أركان دولته ويثبت دعائم حكمه، فعين من يثق فيهم في مناصب الدولة الكبيرة، وقبض على أنصار السلطان السابق، وأخذ يستعد للجهاد وملاقاة المغول، وسمح برجوع بعض أمراء المماليك من خصومه وكانوا بالشام، وعلى رأسهم بيبرس البندقداري فرحب به، وأحسن معاملته، وأقطعه قليوب ومناطق الريف المجاورة لها، وأغرى قوات الناصر يوسف الأيوبي ـ الذي فر من دمشق وطلب نجدة المماليك بمصر ـ بالانضمام إلى جيشه وكانت بالقرب من غزة، فاستجابت لدعوته.
    وفي تلك الأثناء وصلت رسل هولاكو إلى القاهرة تحمل خطابا تقطر كبرا وغطرسة، ويمتلئ بالتهديد والوعيد، ومما جاء فيه: “.. إنا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وسلموا إلينا أمركم.. فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكا.. فما لكم من سيوفنا خلاص ولا من أيدينا مناص، فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق…”.
    الاجتماع التاريخي
    وأمام هذا الخطر الداهم عقد السلطان قطز مجلسًا من كبار الأمراء، واستقر الرأي على مقابلة وعيد المغول بالاستعداد للحرب، وعزز ذلك بقتل رسل المغول؛ ردًا على تهديد هولاكو وكان هذا التصرف إعلانًا للحرب وإصرارًا على الجهاد، وفي الوقت نفسه بدأ قطز يعمل على حشد الجيوش وجمع الأموال اللازمة للإنفاق على الاستعدادات والتجهيزات العسكرية، وقبل أن يفرض ضرائب جديدة على الأهالي جمع ما عنده وعند أمرائه من الحلي والجواهر، واستعان بها في تجهيز الجيش، استجابة لفتوى الشيخ “العز بن عبد السلام” أقوى علماء عصره.

    ولم يقتصر الأمر على هذا، بل لقي صعوبة في إقناع كثير من الأمراء بالخروج معه لقتال التتار، فأخذ يستثير نخوتهم ويستنهض شجاعتهم بقوله: “يا أمراء المسلمين لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته فإن الله مطلع عليه…”؛ فأثرت هذه الكلمة في نفوسهم، وقوت من روحهم، فخرجوا معه وتعاهدوا على القتال.
    الخروج إلى القتال
    وفي (رمضان 658هـ= أغسطس 1260م) خرج قطز من مصر على رأس الجيوش المصرية ومن انضم إليه من الجنود الشاميين وغيرهم، وترك نائبا عنه في مصر هو الأتابك فارس الدين أقطاي المستعرب، وأمر الأمير بيبرس البندقداري أن يتقدم بطليعة من الجنود ليكشف أخبار المغول، فسار حتى لقي طلائع لهم في غزة، فاشتبك معهم، وألحق بهم هزيمة كان لها أثر في نفوس جنوده، وأزالت الهيبة من نفوسهم، ثم تقدم السلطان قطز بجيوشه إلى غزة، فأقام بها يومًا واحدًا، ثم رحل عن طريق الساحل إلى عكا، وكانت لا تزال تحت سيطرة الصليبيين، فعرضوا عليه مساعدتهم، لكنه رفض واكتفى منهم بالوقوف على الحياد، وإلا قاتلهم قبل أن يقابل المغول، ثم وافى قطز الأمير بيبرس عند عين جالوت بين بيسان ونابلس.
    وكان الجيش المغولي يقوده كيتوبوقا (كتبغا) بعد أن غادر هولاكو الشام إلى بلاده للاشتراك في اختيار خاقان جديد للمغول، وجمع القائد الجديد قواته التي كانت قد تفرقت ببلاد الشام في جيش موحد، وعسكر بهم في عين جالوت.
    اللقاء المرتقب
    اقتضت خطة السلطان قطز أن يخفي قواته الرئيسية في التلال والأحراش القريبة من عين جالوت، وألا يظهر للعدو المتربص سوى المقدمة التي كان يقودها الأمير بيبرس، وما كاد يشرق صباح يوم الجمعة (25 من رمضان 658هـ= 3 من سبتمبر 1260م) حتى اشتبك الفريقان، وانقضت قوات المغول كالموج الهائل على طلائع الجيوش المصرية؛ حتى تحقق نصرًا خاطفًا، وتمكنت بالفعل من تشتيت ميسرة الجيش، غير أن السلطان قطز ثبت كالجبال، وصرخ بأعلى صوته: “واإسلاماه!”، فعمت صرخته أرجاء المكان، وتوافدت حوله قواته، وانقضوا على الجيش المغولي الذي فوجئ بهذا الثبات والصبر في القتال وهو الذي اعتاد على النصر الخاطف، فانهارت عزائمه وارتد مذعورا لا يكاد يصدق ما يجري في ميدان القتال، وفروا هاربين إلى التلال المجاورة بعد أن رأوا قائدهم كيتوبوقا يسقط صريعًا في أرض المعركة.
    ولم يكتفِ المسلمون بهذا النصر، بل تتبعوا الفلول الهاربة من جيش المغول التي تجمعت في بيسان القريبة من عين جالوت، واشتبكوا معها في لقاء حاسم، واشتدت وطأة القتال، وتأرجح النصر، وعاد السلطان قطز يصيح صيحة عظيمة سمعها معظم جيشه وهو يقول: “واإسلاماه!” ثلاث مرات ويضرع إلى الله قائلا: “… يا ألله!! انصر عبدك قطز”.. وما هي إلا ساعة حتى مالت كفة النصر إلى المسلمين، وانتهى الأمر بهزيمة مدوية للمغول لأول مرة منذ جنكيز خان.. ثم نزل السلطان عن جواده، ومرغ وجهه على أرض المعركة وقبلها، وصلى ركعتين شكرًا لله.

    نتائج المعركة
    كانت معركة عين جالوت واحدة من أكثر المعارك حسمًا في التاريخ، أنقذت العالم الإسلامي من خطر داهم لم يواجه بمثله من قبل، وأنقذت حضارته من الضياع والانهيار، وحمت العالم الأوروبي أيضًا من شر لم يكن لأحد من ملوك أوروبا وقتئذ أن يدفعه.
    وكان هذا النصر إيذانًا بخلاص الشام من أيدي المغول؛ إذ أسرع ولاة المغول في الشام بالهرب، فدخل قطز دمشق على رأس جيوشه الظافرة في (27 من رمضان 658 هـ)، وبدأ في إعادة الأمن إلى نصابه في جميع المدن الشامية، وترتيب أحوالها، وتعيين ولاة لها، وأثبتت هذه المعركة أن الأمن المصري يبدأ من بلاد الشام عامة، وفي فلسطين خاصة، وهو أمر أثبتته التجارب التاريخية التي مرت على المنطقة طوال تاريخها، وكانت النتيجة النهائية لهذه المعركة هي توحيد مصر وبلاد الشام تحت حكم سلطان المماليك على مدى ما يزيد عن نحو مائتين وسبعين سنة.

    من مصادر الدراسة:

    المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك- تحقيق محمد مصطفى زيادة- طبعة مصورة عن طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة- بدون تاريخ.

    ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة- الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر- القاهرة- 1968م.

    عبد السلام عبد العزيز فهمي: تاريخ الدولة المغولية في إيران- دار المعارف- القاهرة- 1981م.

    أحمد مختار العبادي: قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام- دار النهضة العربية- بيروت- 1969م.

    قاسم عبده قاسم: عصر سلاطين المماليك- عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية القاهرة- 1998م.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان


    حصار سيكتوار
    التاريخ الإسلامي

    (6)


    السلطان سليمان القانونى

    حصار سيكتوار أو معركة سيكتوار (بالتركية: Zigetvar Kuşatması) هو حصارٌ فرضه العثمانيون على حصن سيكتوار الذي شكّل عقبةً في طريق السلطان سليمان القانوني نحو فتح فيينا عام 1566 ميلادية. وقعت المعركة بين قوات ملكية هابسبورغ المُدافعة عن حصنها بقيادة الكرواتينِقولا سوبيك زرنسكي والقوات العثمانية الغازية بقيادة اسمية من السلطان سليمان.

    أدى انتصار العثمانيين على المجريين في معركة موهاج عام 1526 إلى سلب استقلال مملكة المجر، وانتخب نبلاء بلغاريا وكرواتيا فرديناند الأولملكاً. تبع تلك المعركة سلسلةٌ من الصراعات بين هابسبورغ وحلفائهم من جهة، والدولة العثمانية من جهة أخرى. أثقلت هذه الحروب من كاهل كلا الطرفين بعد أن تكبّدت الدولتان خسائر فادحة، وتوقفت الحملة العثمانية في بلاد المجر حتى وقوع حصار سيكتوار.

    وقع حصار سيكتوار في الفترة ما بين الخامس من أغسطس والثامن من سبتمبر من عام 1566، وعلى الرغم من أنّه أسفر عن انتصار عثماني إلا أنّ كلا الطرفين عانى من خسائر ثقيلة. توفي القائدان خلال الحصار: زرنسكي خلال المعركة الأخيرة، أمّا سليمان القانوني فتوفي في خيمته لأسباب طبيعية. قُتل خلال هذا الحصار أكثر من عشرين ألفاً من الجيش العثماني، بينما أُبيد الجنود المجريون عن بكرة أبيهم ولم ينجُ منهم إلا القليل. وعلى الرغم من أنّ المعركة انتهت بنصر عُثماني، إلا أنّها أوقفت مسير العثمانيين نحو فيينا في ذلك العام، ولم تُهدد العاصمة النمساوية مرة أخرى حتى معركة فييناعام 1683.

    كانت هذه المعركة ذات أهمية كبيرة لدرجة أنّ رجل الدين والدولة الفرنسي ريشيليو وصفها بأنها "المعركة التي أنقذت الحضارة".

    خلفية

    خسرت القوات المجرية بقيادة لويس الثاني في معركة موهاج في 29 أغسطس 1526 أمام القوات العثمانية بقيادة السلطان سليمان القانوني. قُتل لويس في هذه المعركة ولم يكن له وريثٌ يرث حُكمه، وأصبحت كلٌ من المجر وكرواتيا مناطق مُتنازع عليها بين هابسبورغ والدولة العثمانية. تزوجفرديناند الأول الهابسبورغي - شقيق كارلوس الخامس إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة - من شقيقة لويس الثاني، واختاره نُبلاء المجر وكرواتيا بذلك ملكاً عليهم.


    بات عرش المجر موضع نزاع بين فرديناند ويوحنا زابوليا من ترانسيلفانيا. كان سُليمان قد وعد زابوليا بأن يجعله حاكماً على الأراضي المجرية كافة، لكنّ فرديناند لم يرضخ لرغبة السلطان العثماني وشرع يفرض سلطته على الأراضي المجرية واستولى على بودا عام 1527، لكنّه اضطر للتخلي عن السلطة عام 1529 بعد أن قام العثمانيون بهجوم مُضاد جرّد فيردناند من جميع مكاسبه الإقليمية خلال 1527 - 1528.[13] سار سُليمان بعد ذلك في العام نفسه حتى وصل أسوار فيينا في محاولته الأولى للسيطرة على العاصمة النمساوية، التي شكّلت الحد الأقصى الذي وصله العثمانيون في إطار توسعهم في أوروبا الوسطى.

    الحرب الصغيرة في المجر

    عُرفت الفترة المُمتدة منذ عام 1529 إلى 1552 باسم "الحرب الصغيرة في المجر". فبعد فشل الحصار الذي فرضه سُليمان على فيينا عام 1529 قام فرديناند بهجوم سريع عام 1530 لاستعادة ما فقد سابقاً. استطاع زابوليا إيقاف الهجوم الذي شنّه فرديناند على بودا، لكنّ فرديناند تمكّن من الاستيلاء على مناطق أخرى، حيث سيطر على غران وعلى حصون أخرى على طول نهر الدانوب مُمتلكاً بذلك حدوداً استراتيجيةً حيويةً.



    مُنمنمة عُثمانية عن حملة سيكتوار تعود إلى عام 1579.

    جاء رد سُليمان عام 1532 عندما خرج بجيش ضخم قوامه أكثر من 120,000 جندي لمُحاصرة فيينا من جديد. انسحب فرديناند بجيشه ولم يترك سوى 700 رجل من غير مدافع وبقليل من البنادق ليُدافعوا عن مدينة كوزيغ، وعلى الرغم أنّ الصدر الأعظم إبراهيم باشا لم يُدرك مدى قلّة المُدافعين عن المدينة من عدد وعتاد، انضم سُليمان إليه بعد بدء الحصار بقليل. صمد نقولا يوريسيتش وحاميته الصغيرة من الكروات لأكثر من خمسة وعشرين يوماً أمام تسع عشرة هجمة قام بها العثمانيون، إضافةً إلى القصف المتواصل. عُرض على المدينة نتيجةً لذلك الاستسلام بشروط مُيسرة، وعلى الرغم من رفض المدينة الاستسلام إلا أنّ العثمانيين تراجعوا عنها، ممّا أدى إلى عقد مُعاهدة سلام بين سُليمان وفرديناند. اعترفت هابسبورغ بيوحنا زابوليا ملكاً على بلاد المجر باعتباره تابعاً للسلطة العثمانية.


    لم تكن المعاهدة مُرضيةً لكل من زابوليا وفرديناند وبدأت جيوشهم المناوشات على طول الحدود. وفي عام 1537 هاجم فرديناند قوات زابوليا فيأوسييك، الأمر الذي اعتُبر خرقاً للمعاهدة. وبذلك فرض سُليمان الحصار عليه مرةً أخرى، وكان هذا الحصار كارثةً على الهابسبورغيين مُماثلة لما حصل في معركة موهاج، حيث حطّمت القوات العثمانية النمساويين تحطيماً. وبدلاً من مُهاجمة فيينا هاجم سُليمان هذه المرة أوترانتو في جنوب إيطاليا. وانتصر العثمانيون في معركة بروزة عام 1538 وألحقوا الهزيمة بالتحالف الذي تقوده هابسبورغ من جديد.

    توفي زابوليا عام 1540 وخلفه ابنه سيجسموند الذي كان لا يزال رضيعاً. تولت إيزابيلا والدة سيجسموند شؤون البلاد معظم فترة حكمه بدعم مُستمر من السلطان سُليمان. وظلّ سيجسموند ملكاً على المجر حتى تنازل عن السلطة عام 1570 وباتت المجر تحت الحكم الهابسبورغي من جديد.

    ألحق سُليمان بالهابسبورغيين هزيمةً مُذلةً أخرى عندما حاصر بودا عام 1541 استجابةً لاستغاثات إيزابيلا. وفي أبريل 1543 أطلق سُليمان حملةً أخرى إلى المجر واستعاد العديد من المدن والحصون حتى أصبحت معظم الأراضي المجرية في سلطة العثمانيين. وفي أغسطس من العام نفسه نجح العثمانيون في حصار ازترغوم وأعقبوه بالاستيلاء على ثلاثة مدن مجرية: سيكشفهيرفار، وشيكلوش، وسغد ممّا وفّر حمايةً أفضل لبودا.


    وُقعت اتفاقية سلام أخرى بين العثمانيين والهابسبورغيين استمرت حتى عام 1552 عندما قرر سُليمان مُهاجمة إغر. كان الحصار العثماني على إغر عقيماً وأخفق العثمانيون في السيطرة عليها ليتمكن الهابسبورغيون أخيراً من تحقيق انتصار بعد خسائرهم الإقليمية المُتواصلة. تفاءل النمساويون بصمود أغر واعتقدوا أنّ انتصارهم هناك يعكس حقيقة أنّهم قادرين على التنافس مع العثمانيين في المجر. توقفت الحملة العثمانية في المجر بعد ذلك، ولم تُستأنف حتى عام 1566.

    حملة 1566



    تصوير فني لمعركة سيكتوار.



    حصار قلعة سيكتوار.



    قلعة سيكتوار في الوقت الحاضر.

    كان قد مرّ على حُكْم سُليمان للدولة العثمانية 46 عاماً بحلول عام 1566، العام الذي خرج فيه سُليمان للحرب للمرة الأخيرة. كان سُليمان قد بلغ 72 عاماً، وعلى الرغم من أنّه كان مُصاباً بداء النقرس لدرجة أنّه كان محمولاً على نقالة، إلّا أنّه خرج مع جيشه وكان قائداً اسمياً له، لتكون هذه الحملة الثالثة عشرة والأخيرة التي يقودها سُليمان. خرج سُليمان من إسلام بول في الأول من مايو 1566 على رأس جيش من أكبر الجيوش التي قادها في حياته. على الجانب الآخر كان الكونت نقولا سوبيك زرنسكي، وهو واحدٌ من أكبر الإقطاعيين في مملكة كرواتيا، وأحد المُخضرمين في الحروب. اشتُهر مُنذ أوائل حياته وتحديداً في حصار فيينا واتسمت حياته العسكرية بالنجاح.


    وصلت قوات سُليمان بلغراد في 27 يونيو 1566 بعد مسير دام 49 يوماً، واجتمع هناك مع سيجسموند الذي كان السلطان قد وعد بجعله حاكماً على المجر. وبعد أن علم سُليمان بنجاح زرنسكي في الهجوم على المعسكر التركي في شيكلوش، قرر السلطان العثماني تأجيل هجومه على إيجر ومُهاجمة حصن زرنسكي في سيكتوار بدلاً من ذلك للتخلص من خطره.

    الحصار

    وصلت قوة عُثمانية أولية إلى سيكتوار في الثاني من أغسطس 1566، واستطاع المُدافعون عن أسوار المدينة تحقيق عدة ضربات ناجحة في صفوف العثمانيين وألحقوا بهم خسائر كبيرة. وصل السلطان بقواته الرئيسية في الخامس من أغسطس ونصب خيمته الكبيرة على تلّة هناك ليكون مُطّلعاً على مُجريات المعركة. بقي سُليمان في مُعسكره طيلة المعركة، وكان يتلقّى الأخبار شفوياً من الصدر الأعظم صُقللي محمد باشا الذي كان قائد القوات العثمانية الفعلي.

    وجد الكونت زرنسكي نفسه مُحاصَراً من جيش قوامه 100,000 جندي على الأقل مُزودين بمدافع قويّة. كان الكونت قد جمع قوة قوامها 2,300 جندي تقريباً منكرواتيا والمجر قبل بدء الحصار، وتألّف جيشه هذا من قواته الشخصية بالإضافة إلى قوات أصدقائه وحُلفائه. كان غالبية الجيش من الكروات، بالإضافة إلى فرقة مجرية كبيرة بعضها كانوا قادةً وبعضها كانوا جنوداً.

    كانت سيكتوار مُقسمةً إلى ثلاثة أقسام تفصلها المياه عن بعضها البعض: البلدة القديمة، والبلدة الحديثة، والقلعة، ويرتبط كُل منها مع بعضها بوساطة الجسور. وعلى الرغم من أنّ القلعة الداخلية - التي تُغطي جزءاً كبيراً من مساحة القلعة في الوقت الحاضر - لم تكن موجودةً على منطقة مُرتفعة، إلا أنّه كان من غير الممكن للأعداء الوصول إليها مُباشرةً. يرجع ذلك إلى وجود سورَيْن آخريْن يتحتم على العدو تأمينهما قبل أن يتمكن من الهجوم على القلعة الداخلية.


    رأى السلطان سُليمان عندما وقف أمام القلعة قطعة قُماش حمراء مُعلقة على جدرانها كأنّ الأمر استقبالٌ احتفالي، وأطلق مدفعٌ كبيرٌ وحيدٌ قذيفةً واحدةً لتحيّة الملك المُحارب العظيم. بدأ الحصار فعلياً في السادس من أغسطس عندما أمر السلطان بهجوم عام على الأسوار، لكنّ المُدافعين تمكنوا من صده بنجاح. وعلى الرغم من قلة عدد المُدافعين عن المدينة وكثرة الجيش العُثماني إلا أنّ الجيش الإمبراطوري في فيينا لم يُرسل أيّ تعزيزات لهم. وبعد حوالي الشهر من الصراع الدموي المُضني تراجعت القلّة المُتبقية من المُدافعين عن المدينة إلى البلدة القديمة للمواجهة الأخيرة. حاول السلطان إغراء زرنسكي للاستسلام، حتى أنّه عرض عليه في نهاية المطاف حُكْم كرواتيا تحت السلطة العُثمانية، لكنّ زرنسكي لم يردّ على السلطان واستمر في القتال.

    بدا سقوط المدينة أمراً حتمياً لا مفرّ منه لكنّ القيادة العُثمانية العُليا كانت مُترددة. توفي سُليمان في خيمته في الخامس أو السادس أو السابع من سبتمبر، وبذل من حوله جُهداً عظيماً في إبقاء وفاة السلطان سراً، ولم يعلم برحيله سوى أقرب المُقربين إليه. أُرسل من المُخيم ساعٍ حاملاً رسالةً لسليم الثاني خليفة سُليمان، ومن الممكن أنّ الساعي نفسه لم يكن على علم بفحوى الرسالة التي حملها ثمانية أيام حتى وصل آسيا الصغرى.

    المعركة الأخيرة



    زرنسكي يتجهز للمعركة الأخيرة، بريشة أوتون إيفيكوفيتش.

    بدأت المعركة الأخيرة في السابع من سبتمبر، اليوم الذي تلا وفاة السلطان على الأغلب. كانت جُدران القلعة قد أصبحت أنقاضاً بحلول ذلك الوقت بعد أن لُغّمت بالمُتفجرات وانتشرت النيران بعد أن أُحرقت الأخشاب في زوايا الجدران. وفي صباح اليوم التالي بدأ الهجوم الشامل على المدينة بوابلٍ من النيران الإغريقيةوقصف المدافع. وبعد ذلك بقليل أُضرمت النيران في القلعة آخر المعاقل المُتبقية في سيكتوار وتساقط الرماد على مسكن الكونت زرنسكي.

    تدفق الجيش العُثماني داخل المدينة قارعين الطبول، واستعد زرنسكي لمهمته الأخيرة مُخاطباً قواته المُتبقية:
    دعونا نخرج من هذا المكان المُحترق إلى العلن ونقف في وجه أعدائنا. من يموت سيكون مع الرب، ومن لا يموت سيُكرم اسمه. أنا سأذهب أولاً، وأنتم افعلوا ما ترونني فاعل. وليكن الرب شاهداً على ما أقول: أنا لن أترككم أبداً يا إخواني وفرساني!...





    لم يسمح زرنسكي للعُثمانيين باقتحام القلعة. وبينما كان العُثمانيون يتقدمون سائرين على جسر ضيّق فتح المُدافعون البوابات فجأةً وأطلقوا قذيفةً كبيرةً مُحمّلةً بحديد مكسور قتلت 600 جندي. قاد زرنسكي بعد ذلك الجنود الستمائة المُتبقيين إلى خارج القلعة. أُصيب زرنسكي بطلقتين ناريتين في صدره وقُتل بعد ذلك بقليل نتيجة إصابته بسهم في رأسه، وتراجعت بعضٌ من قواته إلى القلعة مرةً أخرى.

    استولى العُثمانيون أخيراً على القلعة بعد ذلك وقتلوا مُعظم من كان داخلها. استثنى الإنكشارية من ذلك قليلاً من الجنود لأنهم كانوا مُعجبين بشجاعتهم، ونجح سبعة جنود فقط في الفرار من قبضة العُثمانيين. قُطع رأس جُثة زرنسكي وسيق رأسه إلى الإمبراطور، في حين دفن أحد الأتراك الذين كانوا أسرى عنده جسده بعد أن تلقى منه مُعاملةً حسنةً.

    انفجار مخزن البارود

    أمر زرنسكي بإشعال فتيل في مخزن البارود قبل خروجه مع من تبقى للمرة الأخيرة. تدفق العُثمانيون بعد أن انتصروا إلى داخل القلعة وساروا بين أنقاض المدينة دون أن يعلموا بذلك فهلك الآلاف منهم عندما انفجر مخزن القلعة.


    وبينما كان الصدر الأعظم محمد باشا وجنوده يبحثون عن الغنائم ويستجوبون الناجين أخبرهم أحدهم بالفخ الذي نصبه زرنسكي لهم قبل وفاته. أخبر هذا الأسير محمد باشا بأنّ هناك مخزنٌ للبارود على وشك الانفجار من تحت أقدامه،فقرّ الوزير الأعظم ومن كان معه من الضُباط لكنّ الوقت لم يُسعف الجميع ولقي 3,000 جندي حتفهم نتيجة الانفجار.

    ما بعد المعركة



    حديقة الصداقة التركية الهنغارية في سيكتوار.

    كان جميع جنود زرنسكي قد قُتلوا تقريباً بعد نهاية المعركة الأخيرة، ولم يسلم العثمانيون أيضاً من الخسائر الثقيلة، حيث قُتل ثلاثة باشاوات، وسبعة آلاف انكشاري وحوالي ثمانية وعشرين ألف جُندي آخر. علماً بأنّ المصادر تتباين في عدد القتلى من الجيش العُثماني حيث تتراوح التقديرات بين 20,000 و35,000.

    نشر محمد باشا بعد نهاية المعركة منشوراتٍ باسم السلطان أعلن فيها النصر. كما أعلن أسف السلطان على عدم قدرته على الاستمرار مع هذه الحملة الناجحة نظراً إلى وضعه الصحي الراهن. أُعيد جسد السلطان إلى العاصمة إسلام بول بينما تظاهر المسؤولون الذين علموا بوفاته بالتواصل معه. تذكر المصادر التركية أنّ هذا الوضع استمر ثلاثة أسابيع، وأنّ طبيب السلطان الشخصي حُبس كإجراء احترازي.

    كان للرحلة الطويلة والحصار أثراً سلبياً على صحة السلطان على الأرجح. أدت وفاة سُليمان إلى تأجيل تقدم العُثمانيين، حيث تحتّم على الصدر الأعظم العودة إلى العاصمة العُثمانية لحضور مراسم تتويج الخليفة الجديد سليم الثاني.وحتى لو قُدّر لسُليمان أن يعيش فإنّ جيشه ما كان ليُحقق الكثير في الفترة ما بين سقوط سيكتوار وبدء فصل الشتاء لضيق الوقت. لذا فإنّ السبب الأساسي لتأجيل مسير العُثمانيين نحو فيينا كان مُقاومة سيكتوار التي دامت طويلاً.

    أرسل الإمبراطور الروماني ماكسيميليان الثاني إلى العُثمانيين سفيرين أحدهما كرواتي والآخر ستيري. وصل السفيران إلى العاصمة إسلام بول في 26 أغسطس 1567 واستُقبلوا استقبالاً حسناً من السلطان سليم الثاني. توصل الطرفان فيما بعد إلى اتفاقية أنهت حالة الحرب بين الإمبراطوريتين العُثمانية والنمساوية في 17 فبراير 1568 بعد مرور خمسة أشهر من المُفاوضات مع صُقللي محمد باشا. وُقعت معاهدة أدرنة في 21 فبراير 1568، وتضمنت موافقة السلطان سليم الثاني على الهدنة لمدة ثماني سنوات، رغمَ أنّها في الحقيقة جلبت سلاماً نسبياً ساد خمساً وعشرين سنة بين الإمبراطوريتين حتى حلول الحرب الطويلة عام 1591. كما كانت هذه الهدنة مشروطةً بموافقة ماكسيميليان على دفع جزية سنوية مقدارها ثلاثين ألف دوقت.
    منقول بتصرف



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان


    معركة المنصورة وأسر لويس التاسع


    في ظلال الحضارة الإسلامية
    (7)



    معركة المنصورة وأسر لويس التاسع

    معركة المنصورة، معركة دارت رحاها في مصر من 8 إلى 11 فبراير من سنة 1250 بين القوات الصليبية (الفرنج) بقيادة لويس التاسع (بالفرنسية: Louis IX) ملك فرنسا، الذي عُرف بالقديس لويس فيما بعد، والقوات الأيوبية بقيادة الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ. وفارس الدين أقطاي الجمدار وركن الدين بيبرس البندقداري.

    الوضع العام قبل المعركة

    في النصف الأول من القرن الثالث عشر كانت الدولة الأيوبية تحكم مصر والشام. في عام 1220م قام المغول بقيادة جنكيز خان بمهاجمة الدولة الخوارزمية، على بوابة العالم الإسلامي الشرقية، ودمروها مما أدى إلى تشرذم الخوارزمية وشرود أجنادهم الذين راحوا بعد زوال دولتهم يعرضون خدماتهم على ملوك الممالك الإسلامية المجاورة، وكان من أولائك الملوك السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب الذي رحب بهم واستفاد من خدماتهم خاصة في الشام.
    في عام 641 هـ/1244م استولى الخوارزمية حلفاء الصالح أيوب على بيت المقدس. وكان بيت المقدس في أيدي الصليبيين منذ معاهدة سنة 1229م بين الملك الكامل وفريدريك الثاني إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة إبان الحملة الصليبية السادسة والتي بموجبها تعهد فريدريك بالتحالف مع الملك الكامل ضد أعدائه ووقف الحملات الصليبية في مقابل تنازل الملك الكامل عن بيت المقدس للصليبيين.
    في 17 أكتوبر 1244م شن الصليبيون هجوماً برياً ضخماً على مصر، ولكنهم هزموا هزيمة منكرة عند غزة على يد الأمير ركن الدين بيبرس وعناصر خوارزمية من جهة والصليبيين وملوك أيوبيين من سوريا متصارعين مع السلطان الأيوبي الصالح أيوب من جهة أخرى، انتهت بهزيمة الصليبيين وحلفائهم هزيمة كبرى، مما مكن المسلمين من فرض سيادتهم الكاملة على بيت المقدس وبعض معاقل الصليبيين في الشام.
    كان لسقوط بيت المقدس في أيدي المسلمين صدى قوي في أوروبا يشبه صدى سقوطها في يد صلاح الدين الأيوبي في سنة 1187م، مما جعل الأوروبيين يدعون إلى قيام حملة صليبية كبيرة تمكنهم من استعادة بيت المقدس، وكان ملك فرنسا لويس التاسع من أكبر المتحمسين للحملة الجديدة. كان الصليبيون يُدركون أن مصر التي صارت تمثل قلعة الإسلام وترسانته العسكرية ومصدر القوة البشرية الرئيسي للمسلمين، وهي العائق الرئيسي الذي يعترض طموحاتهم لاسترجاع بيت المقدس، وأنهم لن يتمكنوا من احتلال كل الشام وبيت المقدس دون الإجهاز على مصر أولاً.


    لويس التاسع ملك فرنسا.
    التجهيز لغزو مصر

    في نوفمبر من عام 1244، مباشرة بعد هزيمة الصليبيين عند غزة، قام "روبرت" بطريرك بيت المقدس بإرسال "جاليران" أسقف بيروت إلى ملوك وأمراء أوروبا يطالبهم بإرسال إمدادات عاجلة إلى الأراضي المقدسة لمنع سقوط مملكة بيت المقدس بالكامل في أيدي المسلمين. وفي عام 1245، أثناء انعقاد مجمع ليون الكنسي الأول، وبحضور روبرت بطريرك بيت المقدس، منح بابا الكاثوليك إينوسينت الرابع تأييده الكامل للحملة الصليبية السابعة التي تحمس لها لويس التاسع ملك فرنسا وكان يحضر لها، وقام بابا الكاثوليك على إثر ذلك بإرسال "أودو" كاردينال فراسكاتي للترويج للحملة في كافة أنحاء فرنسا، وفُرضت ضرائب على الناس لتمويلها، ووافقت جنوة ومرسيليا على الاضطلاع بتجهيز السفن اللازمة، أما البندقية فقد فضلت عدم المشاركة بسبب علاقاتها التجارية الواسعة مع مصر.
    كان من أهداف الحملة الصليبية السابعة، هزيمة مصر لإخراجها من الصراع، والقضاء على الدولة الأيوبية التي كانت تحكم مصر والشام، وإعادة احتلال بيت المقدس.


    لتحقيق ذلك، جهز الصليبيون الحملة بتأن في ثلاث سنوات، وحاولوا إقناع المغول بالتحالف معهم ضد المسلمين حتى يتمكنوا من تطويق العالم الإسلامي من المشرق والمغرب مما يصعب على مصر القتال على جبهتين في آن واحد فيسهل عليهم الإطاحة بالعالم الإسلامي بضربة واحدة. قام البابا بإرسال مبعوثه الفرنسيسكاني "جيوفاني دا بيان كاربيني" (بالإيطالية: Jovanni da Pian del Carpine) إلى "جويوك" خان المغول يطلب منه تحالفه مع الصليبيين. إلا أن رد "جويوك" جاء مخيباً لأمال البابا، إذ رد عليه برسالة تطلب منه الخضوع للمغول والحضور إليه مع كل ملوك أوروبا لمبايعته ملكاً على العالم.لكن إينوسينت لم يفقد الأمل فقام في مايو من عام 1247 بإيفاد "أشلين اللومباردي" (بالإنجليزية: Asclin of Lombardy) إلى القائد المغولي "بايتشو" في تبريز. وبدا بايتشو أكثر استعداداً للتحالف مع الصليبيين ضد المسلمين، إذ اقترح أن يقوم بمهاجمة بغداد على أن يقوم الصليبيون في ذات الوقت بمهاجمة الشام فيتم تطويق المسلمين، وأوفد رسولين إلى روما بقيا في ضيافة بابا الكاثوليك نحو عام، ثم عادا إلى بياتشو ومعهما شكوى من البابا بأنه لم يلحظ أن "بايتشو" قد أقدم على فعل شيء مثمر يخدم التحالف المأمول .


    حملة لويس التاسع " الحملة الصليبية السابعة "

    نزل الملك لويس التاسع بجيشه إلى دمياط في يوم 20 صفر سنة 647هـ، وللأسف الشديد ظنت الحامية المدافعة عن المدينة أن سلطانهم المريض الملك الصالح أيوب قد مات، فانسحبوا انسحاباً غير مبرر، ووقعت دمياط في أيدي الصليبيين بسهولة، وهي المدينة التي دوخت قبل ذلك الحملة الصليبية الخامسة.

    الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسععلم بذلك الملك الصالح رحمه الله فاشتد حزنه، وعاقب المسئولين عن جريمة سقوط دمياط، وتوقَّع أن النصارى الصليبيين سيتجهون إلى القاهرة عبر النيل لغزو العاصمة المصرية نفسها, وبذلك يُسقطون الدولة بكاملها.. لذلك فقد قرر بحكمته أن يرتب اللقاء في الطريق بين القاهرة ودمياط.. واختار لذلك مدينة المنصورة لأنها تقع على النيل، وحتمًا سيستغل الصليبيون النيل للإبحار فيه بسفنهم الكثيرة.
    وبالفعل أمر الملك الصالح رحمه الله بأن يحمله الناس إلى مدينة المنصورة الواقعة على فرع النيل الذي يأتي من دمياط، وذلك لانتظار جيش الصليبيين بها، والاستعداد لمعركة فاصلة هناك.. وبالفعل حُمل الملك الصالح -رغم مرضه الشديد- إلى المنصورة، وبدأ فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس يضعان الخطة المناسبة للقاء النصارى في المنصورة.


    وفاة الملك الصالح

    خرج النصارى من دمياط في 12 شعبان 647هـ متجهين جنوباً عبر النيل صوب القاهرة، وكان من المؤكد أنهم سيمرون على المنصورة كما توقع الصالح أيوب.. ولكن سبحان الله في ليلة النصف من شعبان سنة 647 هـ توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله، وهو في المنصورة يعد الخطة مع جيوشه لتحصين المدينة، فنسأل له الله المغفرة والرحمة وأجر الشهداء.. يقول ابن تغري بردي صاحب كتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة والمتوفى سنة 874 هـ: "ولو لم يكن من محاسن السلطان الصالح نجم الدين أيوب إلا تجلده عند مقابلة العدو بالمنصورة، وهو بتلك الأمراض المزمنة، وموته على الجهاد والذبّ عن المسلمين لكفاه ذلك"، ثم يقول:" ما كان أصبره وأغزر مروءته!".
    وكانت مصيبة خطيرة جداً على المسلمين، لا لفقد الزعيم الصالح فقط، ولكن لفقدان البديل والخليفة له، وخاصة في ذلك التوقيت، والبلاد في أزمة شديدة، وميناء دمياط محتل، وجنود الصليبيين في الطريق.
    وهنا تصرفت زوجة السلطان نجم الدين أيوب بحكمة بالغة.. وكانت زوجته هي "شجر الدر".


    شجر الدر تكتم خبر الوفاة

    وشجر الدرّ كانت فيما سبق جارية من أصل أرمني أو تركي، اشتراها الصالح أيوب ثم أعتقها وتزوجها، ولذلك فهي في الأصل أقرب إلى المماليك..

    ماذا فعلت شجر الدرّ بعد وفاة السلطان الصالح أيوب؟


    لقد كتمت شجرة الدرّ خبر وفاته، وقالت أن الأطباء منعوا زيارته، وأرسلت بسرعة إلى ابن الصالح أيوب، والذي كان يحكم مدينة تعرف "بحصن كيفا "(في تركيا الآن)، وكان اسمه "توران شاه بن نجم الدين أيوب"، وأبلغته بخبر وفاة أبيه، وأن عليه أن يأتي بسرعة لاستلام مقاليد الحكم في مصر والشام، ثم اتفقت مع كبير وزراء الملك الصالح وكان اسمه "فخر الدين يوسف" على إدارة الأمور إلى أن يأتي توران شاه، ثم كلفت فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس بالاستمرار في الإعداد للمعركة الفاصلة في المنصورة، وهكذا سارت الأمور بصورة طيبة بعد وفاة الملك الصالح، ولم يحدث الاضطراب المتوقع نتيجة هذه الوفاة المفاجئة، وفي هذه الظروف الصعبة.
    ومع كل احتياطات شجرة الدرّ إلا أن خبر وفاة الملك الصالح أيوب تسرب إلى الشعب، بل ووصل إلى الصليبيين، وهذا أدى إلى ارتفاع حماسة الصليبيين، وانخفاض معنويات الجيش المصري، وإن ظل ثابتاً في منطقة المنصورة..
    ووضع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس خطة بارعة لمقابلة الجيش الفرنسي في المنصورة، وعرضاها على شجرة الدر، وكانت شجرة الدرّ تمثل الحاكم الفعلي لحين قدوم توران شاه ابن الصالح أيوب.. وأقرت شجرة الدرّ الخطة، وأخذ الجيش المصري مواقعه، واستعد للقاء..

    موقعة المنصورة

    الحمله الصليبيه السابعه 1249.

    في اليوم الرابع من ذي القعدة من سنة 647 هـ دارت موقعة المنصورة العظيمة، أمر بيبرس بفتح باب من أبواب المنصورة وبتأهب المسلمين من الجنود والعوام داخل المدينة مع الالتزام بالسكون التام. وبلعت القوات الصليبية الطعم، فظن فرسانها أن المدينة قد خوت من الجنود والسكان كما حدث من قبل في دمياط، فاندفعوا إلى داخل المدينة بهدف الوصول إلى قصر السلطان، فخرج عليهم بغتة المماليك البحرية والجمدارية وهم يصيحون كالرعد القاصف وأخذوهم بالسيوف من كل جانب ومعهم العربان والعوام والفلاحين يرمونهم بالرماح والمقاليع والحجارة، وقد وضع العوام على رؤوسهم طاسات نحاس بيض عوضاً عن خوذ الأجناد وسد المسلمون طرق العودة بالخشب والمتاريس فصعب على الصليبيين الفرار، وأدركوا أنهم قد سقطوا في كمين محكم داخل أزقة المدينة الضيقة وأنهم متورطون في معركة حياة أو موت، فألقى بعضهم بأنفسهم في النيل وابتلعتهم المياه ؛ وانتصر فيها المسلمون انتصاراً باهراً.
    ثم حدث هجوم آخر على جيش الملك لويس التاسع المعسكر خارج المنصورة، وذلك في اليوم السابع من ذي القعدة سنة 647 هـ، ولكن الملك لويس التاسع تمكن من صد ذلك الهجوم بعد كفاح مرير.


    وصل توران شاه إلى المنصورة بعد هذا الهجوم الأخير بعشرة أيام في السابع عشر من ذي القعدة سنة 647 هجرية، وتسلم السلطان الشاب مقاليد الحكم، وأعلن رسمياً وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وولاية توران شاه حكم مصر والشام.. ثم بدأ توران شاه في التخطيط لهجوم جديد على الصليبيين.. وكانت حالة الجيش الصليبي قد ساءت، وبدأ بالانسحاب ناحية دمياط، بينما ارتفعت معنويات الجيش المصري جداً للانتصارات السابقة، وخاصة انتصار المنصورة، ولوصول توران شاه في الوقت المناسب..
    وبعد خطة بارعة وضعها توران شاه بن الصالح أيوب استطاع الجيش المصري أن يلتقي مرة أخرى مع الصليبيين، عند مدينة "فارسكور" في أوائل المحرم سنة 648هـ، بعد أقل من شهرين من موقعة المنصورة الكبيرة! ودارت هناك معركة هائلة تحطم فيها الجيش الصليبي تماماً، بل وأسر الملك لويس التاسع نفسه، ووقع جيشه بكامله ما بين قتيل وأسير، وسيق الملك لويس مكبلاً بالأغلال إلى المنصورة، حيث حبس في دار "فخر الدين إبراهيم ابن لقمان"..
    ووضعت شروط قاسية على الملك لويس التاسع ليفتدي نفسه من الأسر، وكان من ضمنها أن يفتدي نفسه بثمانمائة ألف دينار من الذهب يدفع نصفها حالاً ونصفها مستقبلاً، على أن يحتفظ توران شاه بالأسرى الصليبيين إلى أن يتم دفع بقية الفدية، بالإضافة إلى إطلاق سراح الأسرى المسلمين، وتسليم دمياط للمسلمين، وهدنة بين الفريقين لمدة عشر سنوات ، لقد كان انتصاراً باهراً بكل المقاييس..
    وتم بالفعل جمع نصف الفدية بصعوبة، وأطلق سراح الملك لويس التاسع إلى عكا، وكانت إمارة صليبية في ذلك الوقت.. نسأل الله أن يحررها من دنس اليهود الآن..

    مقتل توران شاه

    مع هذا الانتصار المبهر إلا أن توران شاه لم يكن الرجل الذي يناسب تلك الأحداث الساخنة التي تمر بالأمة..لقد كان توران شاه شخصية عابثة!.. فلقد اتصف هذا السلطان الشاب بسوء الخلق، والجهل بشئون السياسة والحكم، وأعماه الغرور الذي ركبه بعد النصر على لويس التاسع ملك فرنسا عن رؤية أفضال ومزايا من حوله، فقد بدأ من ناحية يتنكر لزوجة أبيه شجر الدر، واتهمها بإخفاء أموال أبيه، وطالبها بهذا المال، بل وهددها بشدة حتى دخلها منه خوف شديد، ولم يحفظ لها جميل حفظ الملك له بعد موت أبيه، وحفاظها على سير الأمور لحين قدومه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه بدأ يتنكر لكبار أمراء المماليك، وعلى رأسهم فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، ولم يحفظ للمماليك جميل الانتصار الرائع الذي حققوه في موقعة المنصورة، فبدأ يقلل من شأنهم، ويقلص من مسئولياتهم، وبدأ على الجانب الآخر يعظم من شأن الرجال الذين جاءوا معه من حصن كيفا، وبدا واضحاً للجميع أنه سيقوم بعمليات تغيير واسعة النطاق في السلطة في مصر، كان هذا في غضون الأشهر الثلاثة الأولى في مصر!.. وبعد موقعة فارسكور مباشرة.
    في تلك الغضون كان الصليبيون يروجون شائعة في أوروبا تزعم أن الملك لويس التاسع هزم سلطان مصر في معركة عظمى تبعها سقوط القاهرة في يده. بعدما وصلت أنباء هزيمة لويس التاسع ووقوعه في الأسر ذهل الناس في فرنسا ونشأت حركة هستيرية عرفت باسم حملة الرعاة الصليبية.


    النتائج المباشرة لهزيمة لويس التاسع

    تحققت نبوءة الصالح أيوب بأن بغي لويس التاسع سيصرعه وإلى البلاء سيقلبه. استناداً إلى المصادر الإسلامية قُتل في حملة لويس التاسع ما بين 10 آلاف و 30 آلف من الجنود الصليبيين.

    أُسر لويس التاسع في "منية عبد الله"، المعروفة بميت الخولي عبد الله الآن، بعد أن استسلم مع نبلائه للطواشي جمال الدين محسن الصالحي،وأودع مغللاً في بيت القاضي إبراهيم بن لقمان، كاتب الإنشاء، تحت حراسة طواشي يدعى صبيح المعظمي. كما أسر أخواه "شارل دانجو" و"ألفونس دو بويتي" وعدد كبير من أمرائه ونبلائه وقد سجن معظمهم معه في دار ابن لقمان. أما الجنود العاديون الذين أسروا فقد أقيم لهم معتقل خاص خارج المدينة. وأرسلت غفارة لويس التاسع إلى سوريا مع كتاب توران شاه ببشارة النصر، وكتب في ذلك أحد الشعراء:

    فلا زال مولانا يبيح حمى العدى ويلبس أسلاب الملوك عبيده

    سُمح للويس التاسع بمغادرة مصر مقابل تسليم دمياط للمصريين، والتعهد بعدم العودة إلى مصر مرة أخرى، بالإضافة إلى دفعه فدية قدرها 400 ألف دينار تعويضاً عن الأضرار التي ألحقها بمصر. فدفع نصف المبلغ بعد أن جمعته زوجته في دمياط، ووعد بدفع الباقي بعد وصوله إلى عكا، وهو مالم يفعله بعد أن تهرب من الدفع فيما بعد.


    في 3 صفر 648هـ، الموافق في 8 مايو عام 1250، بعد احتلال دام أحد عشر شهراً وتسعة أيام، سلم لويس التاسع دمياط وغادرها إلى عكا مع أخويه و12,000 أسير كان من ضمنهم أسرى من معارك سابقة.
    أما زوجته "مرجريت دو بروفنس" والتي كانت في غضون ذلك قد أنجبت طفلأ في دمياط أسمته "جان ترستان" (بالفرنسية: Jean Tristan) أي "جان الحزن"، فقد غادرت دمياط مع وليدها قبل مغادرة زوجها ببضعة أيام. وكانت مرجريت تعاني من كوابيس مرعبة أثناء نومها، وتتخيل أن غرفتها تغتص بالمسلمين، فكانت دائماً تصرخ في الليل: "أغيثوني.. أغيثوني". أما "جان ترستان" فقد مات مع لويس التاسع في سنة 1270م أثناء الحملة الصليبية الثامنة على تونس، وهي الحملة التي كان من أهدافها تحويل تونس إلى قاعدة صليبية ينطلق منها لويس التاسع لمهاجمة مصر مرة أخرى. مع أن قسمه بعدم العودة إلى مصر كان أحد شروط إطلاق سراحه.

    وكتب أحد الشعراء المسلمين ضمن أبيات تسخر من نهاية حملة لويس التاسع:

    أتيت مصر تبغى ملكها تحسب أن الزمر يا طبل ريح
    فساقك الحين إلى أدهم ضاق بك عن ناظرك الفسيح
    و كل أصحابك أودعتهم بحسن تدبيرك بطن الضريح
    ألهمك الله إلى مثلها لعل عيسى منكم يستريح
    وقل لهم إن أزمعوا عودة لأخذ ثأر أو لفعل قبيح
    دار ابن لقمان على حالها والقيد باق والطواشي صبيح
    ويعبر وصف المؤرخ "ماثيو باريس"، المتوفي عام 1258، الذي سجله في كتابه بعد أحداث معركة المنصورة، عن مدى الألم الذي شعر به الصليبيون بعد هزيمتهم: "كل الجيش المسيحي تمزق إرباً في مصر، وا أسفاه، كان يتكون من نبلاء فرنسا، وفرسان الداوية والاسبتارية وتيوتون القديسة ماري وفرسان القديس لازاروس". عززت هزيمة القوات الصليبية في المنصورة اسم تلك المدينة المرتبط بالانتصار والذي يرجع إلى تاريخ أقدم من الحملة الصليبية السابعة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان



    كربلاء .. ومقتل الحسين

    قصة الإسلام

    (8)



    استقرت الخلافة لـمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في سنة 41هـ، بعد أن تنازل له الحسن بن على بن أبي طالب عن الخلافة، وبايعه هو وأخوه الحسين -رضي الله عنهما- وتبعهما الناس؛ وذلك حرصًا من الحسن على حقن الدماء وتوحيد الكلمة والصف، وقد أثنى الناس كثيرًا على صنع الحسن، وأطلقوا على العام الذي سعى فيه بالصلح "عام الجماعة"، وحقق بهذا المسعى الطيب نبوءة جده الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وقولته: "ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".


    وكان الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب يترددان على معاوية في دمشق فيكرمهما ويحسن وفادتهما، ويعرف لهما قدرهما ومكانتهما، ولما مات الحسن ظل أخوه الحسين رضي الله عنه يفد كل عام إلى معاوية؛ فيحسن استقباله ويبالغ في إكرامه، وظل الحسين وفيًّا لبيعته، ويرى في الخروج على طاعة معاوية نقضًا لبيعته له، ولم يستجب لرغبة أهل الكوفة في هذا الشأن، بل إن الحسين اشترك في الجيش الذي بعثه معاوية لغزو القسطنطينية بقيادة ابنه "يزيد" في سنة 49هـ.
    فاجأ "معاوية بن أبي سفيان" الأمة الإسلامية بترشيح ابنه "يزيد" للخلافة من بعده في وجود عدد من أبناء كبار الصحابة، وبدأ في أخذ البيعة له في حياته، في سائر الأقطار الإسلامية، بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى، ولم يعارضه سوى أهل الحجاز، وتركزت المعارضة في الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير y.
    توفي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سنة 60هـ، وخلفه ابنه يزيد؛ فبعث إلى واليه بالمدينة لأخذ البيعة من الحسين الذي رفض أن يبايع "يزيد"، كما رفض -من قبل- تعيينه وليًّا للعهد في خلافة أبيه معاوية، وغادر المدينة سرًّا إلى مكة واعتصم بها، منتظرًا ما تسفر عنه الأحداث.
    تحفيز للخروج



    لوحة توضح موقع معسكر الإمام الحسين وجيش عمر بن سعد

    رأى أهل الشيعة في الكوفة أن الفرصة قد حانت لأنْ يتولى الخلافة الحسين بن علي، بعدما علموا بخروجه إلى مكة؛ فاجتمعوا في بيت زعيمهم "سليمان بن صرد"، واتفقوا على أن يكتبوا للحسين يحثونه على القدوم إليهم، ليسلموا له الأمر، ويبايعوه بالخلافة، وتتابعت رسائل أشراف الكوفة إلى الحسين، كلها ترغبه في الحضور، حتى بلغت خمسين رسالة.
    وأمام هذه الرسائل المتلاحقة، ووعود أهل الكوفة الخلابة بالنصرة والتأييد، استجاب الحسين لدعوتهم، وعزم قبل أن يرحل إليهم أن يستطلع الأمر، ويتحقق من صدق وعودهم؛ فأرسل ابن عمه "مسلم بن عقيل بن أبي طالب" لهذا الغرض. وما إن وصل إلى الكوفة، حتى استقبله أهلها بحماس بالغ وحفاوة شديدة، ونزل دار "المختار الثقفي" واتخذها مقرًّا لاستقبال الشيعة، حتى إذا اجتمع عدد كبير منهم، قرأ عليهم "مسلم" كتاب الحسين، الذي جاء فيه أنه مجيبهم إلى ما يريدون إن لزموا العهد، وصبروا على الجهاد؛ فأخذوا يبكون، وقام كبار الشيعة بإعلان تأييدهم للحسين، وخطب بعضهم مؤثرًا في الحاضرين فقال: "والله لأجيبنكم إذا دعوتم، لأقاتلن معكم عدوكم، ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريد بذلك إلا ما عند الله". ولم يكن أمام "مسلم بن عقيل" وهو يرى هذه الحشود الضخمة التي أعلنت بيعتها للحسين إلا أن يكتب للحسين يطمئنه ويطلب منه القدوم، ويقول له: "بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألف رجل فأقدم، فإن جميع الناس معك، ولا رأي لهم في آل أبي سفيان".
    ولما علم "يزيد بن معاوية" بما يحدث في الكوفة، عزل واليها "النعمان بن بشير" لتساهله مع مسلم وتغاضيه عما يفعله، وولّى مكانه "عبيد الله بن زياد" فحضر على الفور، واتبع مع أهل الكوفة سياسة الشدة والترهيب، واشترى ولاء بعضهم ببذل الأموال، فانفضت الآلاف من حول (مسلم) وتركوه يلقى مصرعه وحده، بعد أن قبض عليه "ابن زياد" وألقى به من أعلى قصر الإمارة فمات، ثم صلبه؛ فكان أول قتيل صُلبت جثته من بني هاشم.

    خرج الحسين من مكة إلى الكوفة في 8 من ذي الحجة 60هـ، وعندما بلغ "القادسية" علم بمقتل مسلم وتخاذل الكوفيين عن حمايته ونصرته، فقرر العودة إلى مكة، لكن إخوة مسلم أصرّوا على المضي قدمًا للأخذ بثأره، فلم يجد الحسين بدًا من مطاوعتهم، وواصل السير حتى بلغ كربلاء على مقربة من الكوفة في (2 من المحرم)، ووجد جيشًا كبيرًا في انتظاره يقوده "عمر بن سعد بن أبي وقاص" في حين كان مع الحسين نحو تسعين نفسًا، بعدما تفرق عنه الناس، ولم يبق معه إلا أهل بيته وقليل ممن تبعوه في الطريق، وعسكرت القوتان غير المتكافئتين في هذا المكان.
    محاولة سلمية لم تُجدِ

    حاول الحسين أن يخرج من هذا المأزق بعد أن رأى تخاذل أهل الكوفة وتخليهم عنه كما تخلوا من قبل عن مناصرة مسلم، وبلغ تخاذلهم أنهم أنكروا الكتب التي بعثوا بها إلى الحسين حين ذكرهم بها، فعرض على عمر بن سعد ثلاثة حلول: إما أن يرجع إلى المكان الذي أقبل منه، وإما أن يذهب إلى ثغر من ثغور الإسلام للجهاد فيه، وإما أن يأتي يزيد بن معاوية في دمشق فيضع يده في يده.
    وكانت هذه الاقتراحات خطوة طيبة نحو الحل السلمي، وترك الثورة، وحقن الدماء؛ فبعث بها "عمر بن سعد" إلى واليه "عبيد الله بن زياد" فرفض هذه الحلول، وأبى إلا أن يسلم الحسين نفسه باعتباره أسيرًا، ويرسله بهذه الصفة إلى يزيد في دمشق، وسخر من عمر حين أبدى عطفًا تجاه الحسين، وكتب إليه: "إني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتمنِّيه السلامة والبقاء، وانظرْ فإن نزل الحسين وأصحابه على الحكم واستسلموا، فابعث بهم إليَّ، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثِّل بهم، فإنهم لذلك مستحقون".
    رفض الحسين بن علي هذا الطلب، وجمع أصحابه مرة بعد مرة وقال لهم: "لقد بررتم وعاونتم، والقوم لا يريدون غيري، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحدًا، فإذا جنّكم الليل فتفرقوا في سواده وانجوا بأنفسكم". فما كان منهم -وهم لم يكونوا جميعًا من ذوي عمومته وأقربائه- إلا أن قالوا له: "معاذ الله! بل نحيا بحياتك ونموت معك".
    في العاشر من محرم كانت المعركة


    وقبل أن تبدأ المعركة لجأ جيش ابن زياد إلى منع الماء عن الحسين وصحبه، فلبثوا أيامًا يعانون العطش، يستهدفون من ذلك إكراه الحسين على التسليم، ثم بدأ القتال بين قوتين غير متكافئين في العاشر من المحرم، فكان مع الحسين اثنان وثلاثون فارسًا وأربعون راجلاً، في حين يبلغ جيش أعدائه أكثر من أربعة آلاف، يكثر فيهم الفرسان وراكبو الإبل، ويحملون صنوفًا مختلفة من السلاح، ومع هذا التفاوت فقد أظهر الحسين ومن معه ضروبًا عجيبة من الشجاعة والإقدام، وتساقطوا واحدًا بعد الآخر وهم ملتفون حول الحسين، ويقاتلون بين يديه، وتعدى القتل الرجال المقاتلين إلى الأطفال والصبيان من عِترته وآل بيته، ولم يبق إلا هو، يقاتل تلك الجموع المطبقة عليهم، حتى أثخنوه بالجراح؛ فسقط رضي الله عنه قتيلاً، ثم قطعوا رأسه الشريف وأرسلوا به إلى يزيد بن معاوية، ولم ينج من القتل إلا "علي زين العابدين بن الحسين"، فحفظ نسل أبيه من بعده.
    وكانت نتيجة المعركة واستشهاد الحسين على هذا النحو، مأساةً مروِّعة أدمت قلوب المسلمين وهزت مشاعرهم في كل مكان، وحركت عواطفهم نحو آل البيت، وكانت سببًا في قيام ثورات عديدة ضد الأمويين، حتى انتهى الأمر بسقوطهم، وقيام الدولة العباسية على أنقاضها[1].
    لماذا لا نحكم العقل؟


    نحن نعلن صرخة الاحتجاج ضد ابن زياد والحجاج -لعنة الله وملائكته والناس أجمعين على من قتل الحسين أو رضي بذلك- ولكن لماذا ندفع الفاتورة منذ قُتل الحسين إلى الآن من دمائنا ونسائنا وأبنائنا؛ بحجة أننا رضينا بقتل الحسين ونحن في أصلاب آبائنا وفي بطون أمهاتنا؟!
    استباح ابن العلقمي بغداد بحجة الثأر للحسين، وذبح البساسيري النساء والشيوخ في العراق بحجة الثأر للحسين، والآن تُهدَّم المساجد في العراق ويُقتل الأئمة وتُبقر بطون الحوامل وتحرَّق الجثث ويُختطف الناس من بيوتهم وتُغتصب العذارى بحجة الثأر للحسين. إن المنطق الذي يقول: إن مليار مسلم كلهم رضي بقتل الحسين وكلهم ناصبوا العداء لأهل البيت منطق يخالف النقل والعقل والتاريخ، ومعناه إلغاء أهل الإسلام والقضاء على كل موحِّد في الأرض، هل من المقبول والمعقول أن يجتمع مئات الملايين من العلماء والخلفاء والحكماء والزُّهاد والعُبّاد والمصلحين ويتواطئوا على الرضا بقتل الحسين والسكوت على هذه الجريمة الشنعاء؟!
    هل من المعقول أن تُحارب أمة الإسلام لأجل كذبة أعجمية صفوية ملفّقة كاذبة خاطئة تكفِّر الصحابة والتابعين ودول الإسلام، وتتبرأ من أبي بكر وعمر وأصحاب بدرٍ وأهل بيعة الرضوان ومن نزل الوحي بتزكيتهم وأخبر الله أنه رضي عنهم؟!
    متى تُكفّ المجزرة الظالمة الآثمة التي أقامها الصفويون ضد كل مسلم، ومؤمن تحت مظلة الثأر للحسين؟
    نحن أولى بالحسين دينًا وملَّة، ونسبًا وصهرًا، وحبًّا وولاءً، وأرضًا وبيتًا، وتاريخًا وجغرافيا، ارفعوا عنّا سيف العدوان، وأغمدوا عنّا خنجر الغدر؛ فنحن الذين اكتوينا بقتل الحسين، وأُصبنا في سويداء قلوبنا بمصرع الحسين:
    جاءوا برأسك يابن بنت محمـد *** متـزمِّـلاً بدمـائه تزميــلا
    ويكبِّـرون بـأن قتلـت وإنما *** قتلوا بـك التكبيـر والتهليـلا
    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "قتل الحسين رضي الله عنه مصيبة من أعظم المصائب، ينبغي لكل مسلم إذا ذكرها أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون!". وأقول: لو كره عضو من أعضائنا الحسين أو أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم لتبرأنا من هذا العضو ولبترناه، لكننا نحبهم الحب الشرعي السُّني الصحيح الموافق لهدي الرسول عليه الصلاة والسلام، لا الحب الصفوي والسبئي الغريب على الأمة وعلى الملّة وعلى السماء وعلى الأرض:


    مرحبًا يا عـراق جئت أغنيك *** وبعضٌ من الغنـاء بكـاء
    فجراح الحسين بعض جراحي *** وبصدري من الأسى كربلاء
    الحسين ليس بحاجة إلى مآتم وولائم، تزيد الأمة هزائم إلى هزائم. رحم الله السبطين الحسن والحسين، وجعل الله عليًّا وفاطمة في الخالدين، ورضي الله عن الشيخين.

    [1]أحمد تمام: كربلاء.. مأساة مسطورة





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان


    الحرب العثمانية - البندقية (1570–1573)
    - ويكيبيديا

    الحرب العثمانية - البندقية الرابعة
    (9)


    معركة ليبانت

    قادة الدولة العثمانية

    سليم الثاني
    بياله باشا
    لالا مصطفى باشا
    مؤذنزاده علي باشا
    أولوج علي باشا
    قادة العصبة المقدسة
    ماركو أنتونيو براغادين
    ألفيس مارتينِنغو
    سيباستيانو فِنيير
    دون خوان النمساوي
    ماركانتونيو كولونا
    جيوفاني أندريا دوريا
    جاكوبو سورانزو


    الحرب العثمانية - البندقية الرابعة، وتُعرف أيضاً بحرب قبرص (بالإيطالية: Guerra di Cipro)‏، هي حرب بدأت عام 1570 وانتهت عام 1573 بين الدولة العثمانية من جهة، وجمهورية البندقية من جهة أخرى مدعومةً بالعصبة المقدسة، وهي حلف يتألف من دول مسيحية تشكّل برعاية البابا. حيث ضمّ هذا الحلف كُلاً من إسبانيا (مع نابولي وصقلية)، وجمهورية جنوة، ودوقية سافوي، وفرسان مالطة، ودوقية توسكانا الكبرى، بالإضافة إلى دول إيطالية أخرى.
    بدأت الحربُ بالغزو العثماني لجزيرة قبرص التي كانت تقبع تحت حكم البنادقة. سقطت العاصمة نيقوسيا وعدة مُدن أخرى سريعاً في قبضة الجيش العثماني الأكثر عُدةً وعتاداً، ولم يبقَ في أيدي البنادقة سوى مدينة فاماغوستا الواقعة على الساحل الشرقيّ للجزيرة. ونتيجة تأخر التعزيزات المسيحية، سقطت فاماغوستا في أيدي العثمانيين في أغسطس 1571 بعد حصارٍ دام أحد عشر شهراً. وبعد شهرين من انتهاء الحصار وقعت معركة ليبانت التي دمّر فيها الأسطول المسيحي المُشترك الأسطول العثماني، لكنّهم لم يتمكنوا من الاستفادة من هذا الانتصار، وأعاد العثمانيون بناء قواتهم البحرية سريعاً. اضطرت البندقية في النهاية إلى طلب السلام مُتخليةً عن قبرص لصالح الدولة العثمانية، بالإضافة إلى جزيةٍ تدفعها للعثمانيين مقدارها 300,000 دوقت.
    خلفية[عدل]

    سليم الثانى
    كانت جزيرة قبرص الثريّة كبيرة المساحة تحت حكم البنادقة مُنذ عام 1489، وكانت إلى جانب جزيرة كريت أهم مُمتلكات جمهورية البندقية الخارجيّة. يُقدّر عدد سكان قبرص في مُنتصف القرن السادس عشر بحوالي 160,000 نسمة.[1] تميّزت الجزيرةُ بموقعها الذي أتاح لها السيطرة على تجارة بلاد الشام، كما أنّها كانت مُنتجةً للقطن والسُكّر.[2] وفي سبيل حماية الجزيرة، كان البنادقةُ يدفعون جزيةً سنويّةً مقدارها ثمانية آلاف دوقت لسلاطين المماليك في مصر، وجُدّد هذا الاتفاق مع الباب العالي بعد هزيمة المماليك أمام العثمانيين عام 1517.[3][4] ومع ذلك كانت قبرص هدفاً مُغرياً للتوسع العثماني في المُستقبل بسبب موقعها الإستراتيجيّ في شرق البحر الأبيض المتوسط بين مركز الدولة العثمانية في الأناضول وبلاد الشام ومصر.[5][6] كما أزعج العثمانيين توفير سلطات البندقية المحليّة الحماية للقراصنة الذين كانوا يتعرضون للسفن العثمانية والذين تعرضوا للحجاج في طريقهم إلى مكة، مما شكّل سبباً آخر لرغبة العثمانيين في الاستيلاء على الجزيرة.[7][8]


    بات العثمانيون قادرين على توجيه أنظارهم نحو قبرص بعد انتهائهم من حربهم الطويلة مع الهابسبورغيين عام 1568.[9] حيث جعل السلطان سليم الثاني من غزو قبرص أولويته الأساسية حتى قبل أن يُنصّب سلطاناً عام 1566، جاعلاً من مُساعدة العثمانيين لثورة المورسكيين ضد إسبانيا وشنّ الهجمات على النشاطات البرتغالية في المحيط الهندي أولويةً ثانويةً.[10] وقد عزا بعضُ المُؤرخين الغربيين هذا الإصرار من سليم الثاني إلى ولعه بالخمور القبرصية.[11] وذكرت تقارير مُعاصرةٌ أنّ المُحرّض السياسيّ الرئيس لهذا الصراع كان رجلاً يُدعى ياسف ناسي، وهو يهودي برتغالي كان قد أصبح صديقاً مُقرباً للسُّلطان سليم الثاني، الذي عيّنه دوقاً على ناكسوس عند وصوله سدّة الحُكم. كان ناسي يُكنّ الضغينة تجاه البُندقية وكان يأملُ أن يُعيّن ملكاً على قبرص بعد الاستيلاء عليها، حتى أنّه كان قد جهز بالفعل تاجاً ورايةً ملكيّةً لذلك.[12]
    بالرغم من تجديد مُعاهدة السلام مع البنادقة عام 1567،[8][13] ووجود مجموعة من الداعين إلى السلام حول الصدر الأعظم صقللي محمد باشا، إلا أنّ الراغبين في الحرب في البلاط العثماني نجحوا في فرض رأيهم.[7] وأصدر شيخ الإسلام فتواه التي تقضي بأنّ خرق المُعاهدة له ما يُبرره نظراً لأنّ قبرص كانت تحت الحكم الإسلاميّ فيما مضى (لفترة وجيزة في القرن السابع الميلادي)، وبالتالي كان لا بُدّ من استعادتها.[8][14][15] جُمع المالُ لتمويل الحملة من خلال مُصادرة وإعادة بيع الأديرة والكنائس التابعة للكنيسة الأرثوذكسية اليونانية وفقاً لمصادر غربيّة.[16] عُيّن لالا مصطفى باشا -الذي كان مُعلماً للسلطان فيما مضى- قائداً للقوات البريّة،[17] في حين عُيّن مؤذنزاده علي باشا ليكون القبطان باشا، ونظراً لكونه عديم الخبرة في الشؤون البحريّة فقد عُيّن الخبير بياله باشا مُساعداً له.[18]
    كانت النوايا العثمانية واضحةً بالنسبة للبنادقة، وكان الهجوم على قبرص مُتوقعاً قبل وقوعه. ظهر شبح الحرب عام 1564-1565 عندما توجّه العثمانيون صوْب مالطا، وتصاعد القلقُ من جديد في أواخر 1567 وأوائل 1568 حيث تمّ تعزيز القوّات البحريّة العثمانية بشكل واضح.[19] وازداد الإحساس بالخطر لدى سُلطات البُندقية عندما زار الأسطول العثماني قبرص في سبتمبر 1568، وكان ناسي ممّن حملهم الأسطول، ورغم أنّ العثمانيين تظاهروا بزيارة ودّية، إلا أنّه كان من الجليّ أنّ الهدف من الزيارة كان التجسس على دفاعات الجزيرة.[20] كان البنادقة قد طوّروا في عقد الستينات دفاعات قبرص، وكريت، وكورفو، ومُمتلكاتهم الأخرى بالاستعانة بخبرات المُهندس العسكريّ المعروف سفورزا بالافيسيني. زاد البنادقةُ من حاميات الجزيرة، وأرادوا زيادة قُدرة كُلٍ من كريت وقبرص المعزولتين لتحقيق الاكتفاء الذاتي من خلال بنائهم المسابك ومصانع البارود.[21] وبالرغم من هذه التجهيزات إلا أنّه كان من المُسلّم به عدم قُدرة قبرص على الصمود وحدها لفترة طويلة.[9] إذ إنّ موقعها البعيد عن البندقية والمُحاط بالأراضي العثمانية وضعها "في فم الذئب" كما كتب أحد المُؤرخين المُعاصرين.[22] وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن بمقدور البنادقة الاعتماد على إسبانيا هابسبورغ، وهي القوّة المسيحيّة الرئيسة في البحر الأبيض المُتوسط، إذ كانت مشغولةً حينها في قمع الثورة الهولندية وفي قمع المورسكيين على الصعيد المحلي.[23] كما أنّ موقف القبارصة من البنادقة شكّل مُشكلة أخرى. إذ سبّبت المُعاملة القاسية والضرائب الجائرة التي فرضها البنادقة الكاثوليك على السكان المحليين من الأرثذوكس استياءً كبيراً لدى القبارصة، حتى أنهم كانوا أكثر تعاطفاً مع العثمانيين بوجهٍ عام.[24]

    بحلول عام 1570، كانت الاستعدادات العثمانية والتحذيرات التي بعثها سفير البُندقية في القسطنطينية ماركو أنطونيو باربارو قد أقنعت البنادقة بأنّ الحرب باتت وشيكة. وأُرسلت التعزيزات والأموال بسرعة إلى كُلٍ من كريت وقبرص.[25] وفي مارس 1570 أرسل العثمانيون مبعوثاً إلى البندقية حاملاً إنذاراً بالحرب ما لم تتنازل البندقية بشكلٍ فوريّ عن قبرص.[9] وعلى الرغم من ظهور بعض الأصوات التي دعت إلى التخلي عن قبرص مُقابل أراضٍ في دالماسيا بالإضافة إلى الحصول على امتيازات تجاريّة إلّا أنّ الإنذار العثماني رُفض بشكل قاطع على أمل الحصول على المُساعدة من الدول المسيحيّة الأخرى.[26]
    الغزو العثماني لقبرص[عدل]


    خريطة لنيقوسيا بتحصيناتها الجديدة، من عمل جياكومو فرانكو عام 1597.
    أبحرت القوّات العثمانيّة المُؤلفة من 350-400 سفينة و60,000-100,000 رجُل تجاه قبرص في 27 يونيو ودخلت الجزيرة من ساحلها الجنوبيّ بالقرب من لارنكا بلا مُقاومة في 3 يوليو وسارت نحو العاصمة نيقوسيا.[11][23] اختلف البنادقةُ فيما إذا كان يجب عليهم مُواجهة العثمانيين فور وصولهم، لكنّهم قرروا الانسحاب إلى حصونهم والصمود حتى وصول التعزيزات. إذ أدركوا أنّهم لن يتمكنوا من مُواجهة المدفعيّة العثمانيّة، كما أنّ الهزيمة هناك سيكون من شأنها إبادة القوّة الدفاعيّة للجزيرة.[27] بدأ حصار نيقوسيا في 22 يوليو ودام سبعة أسابيع حتى 9 سبتمبر.[11] صمدت حصون المدينة الحديثة في وجه القصف العثمانيّ ممّا اضطرّ العثمانيين بقيادة لالا مصطفى باشا إلى حفر الخنادق صوْب جدارن المدينة مع الحفاظ على استمرارية القصف لتغطية عمل المُهندسين العسكريين.[28] أفلح العثمانيون في هجومهم الخامس والأربعين في التاسع من سبتمبر في اختراق الجدران بعدما استنفد المُدافعون ذخيرتهم. وأعقب ذلك مجزرةٌ بحق سكان المدينة البالغ عددهم 20,000 نسمة وفقاً لمصادر غربيّة.[29] وأُخذت النساء والصبيان ليُباعوا عبيداً.[28] أمّا الأسطول المسيحيّ المُشترك المُؤلف من 200 سفينة والذي أبحر من كريت مُتأخراً في أواخر أغسطس صوْب قبرص فقد عاد أدراجه عندما تلقّى نبأ سقوط نيقوسيا.[26][30]
    تبع سقوط نيقوسيا استسلام غرنة الواقعة في شماليّ الجزيرة بلا مُقاومة، وفي 15 سبتمبر وصل العثمانيون إلى فاماغوستا آخر حصون البنادقة. كانت خسائرُ البنادقة الإجماليّة (بما في ذلك السكّان المحليين) حتى الآن قد بلغت حوالي 56,000 ما بين قتيلٍ وأسيرٍ حسب تقديرات مُؤرخين مُعاصرين.[31] أمّا المُدافعون عن فاماغوستا فقد بلغ عددهم 8,500 مُدافع مُزوّدين بتسعين مدفعيّة بقيادة ماركو أنطونيو براغادين. نجحت فاماغوستا في الصمود أمام الحصار الذي فرضه الجيش العثمانيّ المُؤلف من مئتي ألف رجل بالإضافة إلى 145 مدفعيّة،[32] ممّا وفّر الوقت اللازم ليقوم البابا بحشد الجيوش من الدول الأوروبيّة المسيحيّة المُترددة.[33] شرع العثمانيون خلال الأشهر التالية في حفر شبكة ضخمة من الخنادق على عمق ثلاثة أميال حول الحصن، ممّا شكّل ملجأً للقوّات العثمانيّة. لم تكن القوّات العثمانيّة البحريّة كافيةً لفرض حصارٍ كاملٍ على المدينة من جهة البحر أيضاً، وبالتالي كان البنداقةُ قادرين على إمداد المدينة بالتعزيزات اللازمة. وبعد أن بلغ السلطان العثمانيّ هذا الأمر في يناير استدعى السلطان بياله باشا تاركاً لالا مُصطفى وحده قائداً للحصار.[34] قدّم الصدر الأعظم صقللي محمد باشا خلال الحصار مُبادرةً لتحقيق السلام مع البُندقية، ولكنّ المُفاوضات تعثرت. عرض الصدر الأعظم أن يتنازل العثمانيون عن محطة تجاريّة في فاماغوستا إذا تنازلت الجُمهوريّة عن الجزيرة، لكنّ البنادقة اغترّوا بنجاحهم في الاستيلاء على دراس في ألبانيا وبسماعهم بالمُفاوضات الجارية لتشكيل عُصبة مُقدّسة فرفضوا عرض العثمانيين.[23][35] وبذلك، وفي 12 مايو 1571، بدأ قصفٌ مُكثفٌ على فاماغوستا، وبحلول الأول من أغسطس كانت ذخيرة البنادقة قد استُنفدت وبالتالي استسلمت حامية المدينة.[36] كلّف حصار فاماغوستا العثمانيين حوالي 50,000 مُصاب بين قتيلٍ وجريحٍ،[37] ومع ذلك سمح العثمانيون للسكان المسيحيين ومن بقي على قيد الحياة من الجنود البنادقة بمُغادرة المدينة بسلام، ولكن عندما علم لالا مُصطفى بأنّ بعض أسرى المُسلمين قد قُتلوا خلال الحصار أمر بسلخ براغادين حيّاً، وأعدم رفاقه، وطيف بجلد براغادين في أنحاء الجزيرة قبل أن يُرسل إلى القسطنطينية.[38]
    العصبة المقدسة[عدل]


    دون خوان النمساوي.
    حاولت البندقية العثور على حلفاءٍ لها مُنذ أن وصل العثمانيون إلى قبرص. إذ لم تشأ الإمبراطورية الرومانية المقدسة نقض مُعاهدة السلام التي وقعتها مع العثمانيين قبل وقت قريب، أمّا فرنسا فقد كانت على علاقة ودّية مع الدولة العثمانية بالإضافة إلى عدائها للإسبان، أمّا بولندا فقد كانت مشغولةً بمشاكلها مع روسيا،[39] أمّا إسبانيا هابسبورغ أقوى القوى المسيحيّة في البحر المُتوسط فلم تُظهر في بادئ الأمر رغبةً في مُساعدة البُندقيّة، بل في الواقع كانت مُستاءةً من البنادقة لرفضهم تقديم المُساعدة خلال حصار مالطا عام 1565.[9][40] أضف إلى ذلك أنّ فيليب الثاني ملك إسبانيا أراد التركيز على الساحل البربري في شمال أفريقيا. أدّى هذا التردد الإسبانيّ إلى جانب خوف الأدميرال دوريا على أسطوله إلى تأخر اجتماع القوات البحريّة المُشتركة، ممّا أدّى إلى عواقب وخيمة.[31] توسّط البابا بيوس الخامس لإنشاء "العصبة المُقدسة"، وهي حلفٌ ضد العثمانيين أُبرم في 15 مايو 1571. نصّ الاتفاقُ على تجميع أسطول قوامه مئتا سفينة حربيّة، ومئة سفينة إمداد إضافةً إلى خمسين ألف مُقاتل. ولتأمين مُوافقة الإسبان، نصّت الاتفاقيةُ أيضاً على وعدٍ من البندقيّة لتقديم المُساعدة لإسبانيا في شمال أفريقيا.[9][26][41]

    تجمّع الأسطول المسيحيّ في مسينة في أواخر الصيف وفقاً لشروط الحلف بقيادة دون خوان النمساوي الذي وصل في 23 أغسطس، لكنّ فاماغوستا كانت قد سقطت بالفعل في أيدي العثمانيين بحلول ذلك الوقت وأيّ مُحاولةٍ لإنقاذ قبرص كانت ستكون بلا معنى.[26] واجه دون خوان مُشكلةً تمثلت في انعدام الثقة وتبادل العداء بين الوحدات المُختلفة خصوصاً تلك المُتبادلة بين البنادقة والجنويين، وعولجت هذه المُشكلة عن طريق تفريق الوحدات وخلط السفن التابعة للدول المُختلفة بعضها مع بعض. أُعطي دوريا قيادة الجناح الأيمن، وجُعل البُندقيّ أغسطينو بارباريغو قائداً على الجناح الأيسر، بينما تولّى دون خوان قيادة المركز. وكذلك تولّى الإسبانيّ ألفارو دي بازان مسؤولية الأسطول الاحتياطيّ.[42] لم يكن الحلفاء قد علموا بعد بمصير فاماغوستا عندما أسطولهم مسينة في 16 سبتمبر، وبعد عشرة أيّام وصلوا إلى كورفو حيث علموا بنصر العثمانيين هناك. أمّا الأسطول العثمانيّ بقيادة مُؤذنزادة علي باشا فقد رسا في لبيبانت (نافباكتوس) بالقرب من مدخل خليج كورنث.[43][44]
    معركة ليبانت[عدل]


    معركة ليبانت من نقش مارتن روتا.


    تأهب الجانبان لهذه المُواجهة التي جُمع لها وفقاً لبعض التقديرات ما بين سبعين إلى تسعين بالمائة من السفن الموجودة في البحر المُتوسط في ذلك الوقت.[45] كان الأسطولان مُتساويين تقريباً، إذ بلغ عدد سفن العثمانيين ثلاثمائة مُقابل مائتين للمسيحيين، في حين كان الأسطول المسيحيّ أكثر جاهزيةً. بلغ عدد الجنود المُشاركين ثلاثين ألف تقريباً في كُل جانب على حدة، ومع أنّ الأسطول المسيحيّ كان مُزوّداً بضعف الأسطول العثمانيّ من المدافع إلا أنّ العثمانيين امتلكوا كتيبةً كبيرةً من الرماة المهرة.[46] وفي السابع من أكتوبر التقى اشتبك الأسطولان في معركة ليبانت التي تمخّض عنها انتصارٌ ساحقٌ للحلفاء وتدمير الأسطول العثمانيّ. بلغت خسائر العثمانيين في هذه المعركة حوالي 20,000 ما بين قتيل وجريح وأسير بالإضافة إلى فقدان نحو 12,000 مسيحيّ كانوا أسرى لدى العثمانيين.[47][48] أما المسيحيون فقد قُتل منهم حوالي 7,500 رجل ولم يخسروا سوى سبع عشرة سفينة.[47] باتت المعركةُ في الوجدان الشعبيّ نقطة تحوّل حاسمة في الصراع العثمانيّ المسيحيّ الطويل، إذ أنهت الهيمنة العثمانيّة البحريّة التي استمرّت مُنذ معركة بروزة عام 1538.[9] وبالرغم من عِظم المعركة، إلا أنّ نتائجها المُباشرة كانت مُتواضعة. لم يتمكّن الحلفاء من شنّ هجماتٍ جديدةٍ على العثمانيين بسبب برودة الشتاء القارصة التي أعقبت المعركة، في حين استغلّ العثمانيون فترة التوقّف هذه لإعادة بناء قوّاتهم البحريّة.[49] وفي الوقت ذاته عانت البُندقيّة خسائر في دالماسيا حين هاجم العثمانيون مُمتلكات البنادقة هناك.[50]


    يُمكن تلخيص الوضع الإستراتيجيّ بعد معركة ليبانت بمقولة الصدر الأعظم لسفير البنادقة: "لقد أحرق المسيحيّون لحيتي (يقصد الأسطول) ولكنني قطعت لهم ذراعاً (يقصد قبرص). لحيتي سوف تنمو من جديد، أمّا الذراع فلا".[51] وبالرغم من جُرأة هذا التصريح، إلا أنّ الأضرار التي لحقت بالأسطول العثمانيّ كانت شديدةً. لم تكن خسارة السفن الضرر الأكبر الذي لحق بالعثمانيين، إنّما تمثّل الضرر بشكلٍ خاصّ بخسارة الغالبية الساحقة من الضبّاط والبحّارة والفنيين والمُشاة ذوي الخبرة. لقد أدرك البنادقة والإسبان صعوبة استبدال هؤلاء الخبراء بالنسبة للدولة العثمانية، لذا أقدموا في العام التالي على إعدام من وقعوا أسرى بين أيديهم.[52] صحيحٌ أنّ الوقْع الإستراتيجيّ لانتصار الحلفاء كان محدوداً، لكنّ نصراً عثمانياً في ليبانت كان ليتمخّض عنه تداعيات فائقة الأهميّة. كان النّصرُ كفيلاً بإنهاء وجود كوادر البحريّة المسيحيّة وبالسماح للأسطول العثمانيّ بالتجوّل في البحر المُتوسط كيفما يشاء. كان الخطر سيصير مُحدقاً بمالطا، وكريت، وحتى جزر البليار أو البندقية ذاتها.[53] لقد أكّدت معركة ليبانت كما أكّد فشل العثمانيين في مالطا قبلها بست سنوات على تقسيم البحر المُتوسط بين الجانبين. فكان النصف الشرقيّ من البحر تحت سيطرة الدولة العثمانية بشكلٍ تامّ وأمّا النصف الغربيّ فكان تحت سيادة هابسبورغ وحلفائهم الإيطاليين.[54]
    وبحلول عام 1572 استأنف أسطول الحلفاء عملياتهم في مُواجهة الأسطول العثمانيّ المُجدّد المُتألف من 200 سفينة بقيادة أولوج علي باشا. وبالرغم من أنّ الكتيبة الإسبانيّة بقيادة دون خوان لم تصل إلى البحر الأيوني حتى سبتمبر تاركةً العثمانيين يتفوقوّن على الحلفاء عددياً، لكنّ القائد العثمانيّ كان يعلم أنّ أسطوله بُني على عُجالةٍ من أخشاب الغابات وأنّ طاقمه كان عديم الخبرة، لذا تجنّب الاشتباك مع قوّات الحلفاء في أغسطس وتوّجه للحفاظ على سلامة أسطوله إلى ميثوني. وصلت بعد ذلك الكتيبة الإسبانيّة المُؤلفة من 55 سفينة فتساوى الجانبان عددياً، ممّا أتاح الفرصة لتوجيه ضربة قاصمة للعثمانيين، لكنّ هذه الفرصة أُهدرت بسبب خلافاتٍ نشأت بين قوّات المسيحيين وبسبب تردد دون خوان في الهجوم على العثمانيين.[55][56]
    بدأت مصالح الدول الحلفاء تتشعّب وتتباين وصار الحلف في طريقه للانهيار. ففي عام 1573 فشلت أساطيل الرابطة المُقدّسة حتى من الأبحار معاً، وقام دون خوان بالهجوم على تونس وسيطر عليها، بَيْد أنّ العثمانيين استعادوها عام 1574 بعد سنة واحدة فقط.[57][58] شعرت البُندقيّة بالخوف على مُمتلكاتها في دالماسيا، كما خافت من أن تتعرض فريولي للغزو،[59] وأراد البنادقة إيقاف الخسائر التي تعرّضوا لها واسئناف التجارة مع الدولة العثمانية. لذا لجأت البُندقية أخيراً للتفاوض مع الباب العالي.[56][60]
    معاهدة السلام وما بعدها[عدل]


    أجرى المُفاوضات من جانب البنادقة سفيرهم ماركو أنطونيو باربارو الذي كان قد أُلقي في الأسر مُنذ عام 1570. أسفرت مُعاهدة السلام التي وُقّعت في السابع من مارس 1573 عن اعتراف البُندقية بقبرص بوصفها ولاية عثمانية، كما تحتّم على البنادقة دفع تعويضٍ مقداره ثلاثمائة ألف دوقت.[56] أسفرت المُعاهدة أيضاً عن تغيّرٍ في الحدود بين الدولة العثمانية والبندقية في دالماسيا، حيث حصل العثمانيون على أجزاء صغيرة المساحة ولكنها ذات أهمية من المناطق النائية التي شكّلت أكثر الأراضي الزراعية الخصبة المُجاورة للمُدن، ممّا أدّى إلى تأثر اقتصاد المُدن البُندقية في دالماسيا سلباً وبشدّة.[61]
    استمرّ السلامُ بين الدولتين حتى عام 1645 حين اندلعت بينهما حرب كريت.[62] أمّا قبرص فظلّت تحت الحكم العثمانيّ حتى عام 1878، عندما تنازلت عنها الدولة العثمانية وباتت تحت حماية بريطانيا. واستمرّت السيادة العثمانية على قبرص حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى حيث انضمّت الجزيرة لبريطانيا لتصبح مستعمرة ملكية عام 1925.[63]
    المراجع[عدل]


    ^ McEvedy & Jones (1978), p. 119
    ^ Faroqhi (2004), p. 140
    ^ Finkel (2006), pp. 113, 158
    ^ **** (1976), p. 77
    ^ Setton (1984), p. 200
    ^ Goffman (2002), p. 155
    أ ب Finkel (2006), p. 158
    أ ب ت **** (1976), p. 108
    أ ب ت ث ج ح Finkel (2006), p. 160
    ^ Faroqhi (2004), pp. 38, 48
    أ ب ت Turnbull (2003), p. 57
    ^ Abulafia (2012), pp. 444–446
    ^ Setton (1984), p. 923
    ^ Finkel (2006), pp. 158–159
    ^ Abulafia (2012), pp. 446–447
    ^ Finkel (2006), p. 159
    ^ Goffman (2002), p. 156
    ^ Finkel (2006), pp. 159–160
    ^ Setton (1984), pp. 925–931
    ^ Abulafia (2012), p. 446
    ^ Setton (1984), pp. 907–908
    ^ Setton (1984), p. 908
    أ ب ت Abulafia (2012), p. 447
    ^ Goffman (2002), pp. 155–156
    ^ Setton (1984), pp. 945–946, 950
    أ ب ت ث **** (1976), p. 109
    ^ Setton (1984), p. 991
    أ ب Turnbull (2003), p. 58
    ^ Hopkins (2007), p. 82
    ^ Setton (1984), pp. 981–985
    أ ب Setton (1984), p. 990
    ^ Turnbull (2003), pp. 58–59
    ^ Hopkins (2007), pp. 87–89
    ^ Hopkins (2007), pp. 82–83
    ^ Hopkins (2007), pp. 83–84
    ^ Turnbull (2003), pp. 59–60
    ^ Goffman (2002), p. 158
    ^ Abulafia (2012), pp. 448–449
    ^ Setton (1984), p. 963
    ^ Setton (1984), pp. 941–943
    ^ Hopkins (2007), pp. 84–85
    ^ Guilmartin (2002), pp. 138–140
    ^ Turnbull (2003), p. 60
    ^ Guilmartin (2002), pp. 140–141
    ^ Guilmartin (2002), p. 141
    ^ Abulafia (2012), pp. 449–450
    أ ب Confrontation at Lepanto by T.C.F. Hopkins, intro
    ^ Geoffrey Parker, The Military Revolution, p. 88
    ^ Faroqhi (2004), p. 38
    ^ Raukar, Tomislav (نوفمبر 1977). "Venecija i ekonomski razvoj Dalmacije u XV i XVI stoljeću". Journal - Institute of Croatian History (باللغة الكرواتية). Zagreb, Croatia: Faculty of Philosophy, Zagreb. 10 (1): 222. ISSN 0353-295X. مؤرشف من الأصل في 11 ديسمبر 2019. اطلع عليه بتاريخ 08 يوليو 2012.
    ^ Guilmartin (2002), p. 149
    ^ Guilmartin (2002), pp. 148–149
    ^ Guilmartin (2002), pp. 150–151
    ^ Abulafia (2012), p. 451
    ^ Guilmartin (2002), pp. 149–150
    أ ب ت Finkel (2006), p. 161
    ^ Finkel (2006), pp. 161–162
    ^ Guilmartin (2002), p. 150
    ^ Setton (1984), pp. 1093–1095
    ^ Faroqhi (2004), p. 4
    ^ Raukar, Tomislav (نوفمبر 1977). "Venecija i ekonomski razvoj Dalmacije u XV i XVI stoljeću". Journal - Institute of Croatian History (باللغة الكرواتية). Zagreb, Croatia: Faculty of Philosophy, Zagreb. 10 (1): 221. ISSN 0353-295X. مؤرشف من الأصل في 11 ديسمبر 2019.
    ^ Finkel (2006), p. 222
    ^ Borowiec (2000), pp. 19–21

    المصادر[عدل]


    Abulafia, David (2012). The Great Sea: A Human History of the Mediterranean. Penguin Books. ISBN 978-0-141-02755-5.
    Borowiec, Andrew (2000). Cyprus: a troubled island. Greenwood Publishing Group. ISBN 978-0-275-96533-4. مؤرشف من الأصل في 26 مارس 2017.
    ****, M. A., المحرر (1976). A History of the Ottoman Empire to 1730: Chapters from the Cambridge History of Islam and the New Cambridge Modern History. Cambridge University Press Archive. ISBN 978-0-521-20891-8. مؤرشف من الأصل في 28 يناير 2020.
    Faroqhi, Suraiya (2004). The Ottoman Empire and the World Around It. I.B. Tauris. ISBN 978-1-85043-715-4.
    Finkel, Caroline (2006). Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300–1923. London: John Murray. ISBN 978-0-7195-6112-2.
    Goffman, Daniel (2002). The Ottoman Empire and Early Modern Europe. Cambridge University Press. ISBN 978-0-521-45908-2. مؤرشف من الأصل في 01 أكتوبر 2017.
    Greene, Molly (2000). A Shared World: Christians and Muslims in the Early Modern Mediterranean. Princeton University Press. ISBN 978-0-691-00898-1. مؤرشف من الأصل في 15 مايو 2018.
    Guilmartin, John F. (2003). Galleons and Galleys: Gunpowder and the Changing Face of Warfare at Sea, 1300-1650. Cassell. ISBN 0-304-35263-2.
    Hopkins, T. C. F. (2007). Confrontation at Lepanto: Christendom Vs. Islam. Macmillan. ISBN 978-0-7653-0539-8. مؤرشف من الأصل في 26 أغسطس 2017.
    Lane, Frederic Chapin (1973). Venice, a Maritime Republic. JHU Press. ISBN 978-0-8018-1460-0. مؤرشف من الأصل في 04 مارس 2017.
    McEvedy, Colin; Jones, Richard (1978). Atlas of World Population History. Penguin. مؤرشف من الأصل في 08 أبريل 2020.
    Rodgers, William Ledyard (1967). Naval Warfare Under Oars, 4th to 16th Centuries: A Study of Strategy, Tactics and Ship Design. Naval Institute Press. ISBN 978-0-87021-487-5.

    Setton, Kenneth M. (1984). The Papacy and the Levant (1204–1571), Vol. III: The Sixteenth Century. DIANE Publishing. ISBN 978-0-87169-161-3. مؤرشف من الأصل في 13 ديسمبر 2016.
    Setton, Kenneth M. (1984). The Papacy and the Levant (1204–1571), Vol. IV: The Sixteenth Century. DIANE Publishing. ISBN 978-0-87169-162-0. مؤرشف من الأصل في 08 أبريل 2020.
    Turnbull, Stephen (2003). The Ottoman Empire 1326–1699 (Essential Histories Series #62). Osprey Publishing. ISBN 978-0-415-96913-0.
    منقول بتصرف




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان



    حرب كريت (من عام 1645 إلى عام 1669)

    - ويكيبيديا
    الحرب العثمانية - البندقية الرابعة

    (10)


    خريطة بُندقية لكريت
    المتحاربون
    الدولة العثمانية
    الساحل البربري
    طرف ثانى
    جمهورية البندقية
    فرسان مالطة
    الولايات البابوية
    فرنسا
    القادة
    يوسف باشا
    موسى باشا
    غازي حسين باشا
    مراد باشا
    محمد باشا الكوبريللي
    فاضل أحمد باشا الكوبريللي
    طرف ثاني
    أندريا كورنر
    نيكولو لودوفيزي
    توماسو موروسيني
    جوفاني باتيستا
    جياكومو دا ريفا
    ألفيز موتشينيغو
    ليوناردو فوسكولو
    لورينزو مارسيلو
    لازارو موتشينيغو
    فرانسيسكو موروسيني
    ألميريغو ديست
    فرانسوا دوق بوفور
    تعديل مصدري - تعديل

    حرب كريت (بالتركية العثمانية: گريد فتحى) أو حرب كانديا (بالإيطالية: Guerra di Candia)‏ وتُعرف أيضاً بالحرب العثمانية البندقية الخامسة، وهي صراعٌ نشب بين جمهورية البندقية بمساندة حلفائها (أهمّهم فرسان الإسبتارية، والولايات البابوية، وفرنسا) من جهة، والدولة العثمانية والساحل البربري من جهة أخرى حول جزيرة كريت أكبر وأغنى مُمتلكات البندقية في البحار. استمرت الحرب من عام 1645 إلى عام 1669، ودارت رحاها في كريت، بالإضافة إلى العديد من الاشتباكات البحرية التي وقعت في بحر إيجة وكذلك العديد من الغارات حول البحر ذاته. كما أنّ دالماسيا كانت مسرحاً ثانياً للعمليات.
    على الرغم من نجاح العثمانيين في الاستيلاء على مُعظم أجزاء كريت في سنوات الحرب الأولى، إلا أنّ حصن العاصمة كاندية قاوم العثمانيين بنجاح. واضطر حصار كاندية الطويل - شبيه حصار طروادة كما وصفه جورج بايرون[1]- كلا الطرفين للتركيز على إمدادات قواتهما الموجودة على الجزيرة، خصوصاً البنادقة الذين كان أملهم الوحيد في الانتصار على الجيش العثماني الذي فاقهم حجماً في كريت يكمن في تجويع العثمانيين وقطع الإمدادات والتعزيزات عنهم، ومن ثَم تحولت الحربُ إلى سلسلة من المواجهات الحربية بين البحريتين وحلفائهما. تلقّت البندقية مساعدات من عدة دول أوروبية غربية، الذين حضّهم البابا لإحياء روح الحملات الصليبية، فأرسلوا الرجال والسفن والإمدادات "للدفاع عن المسيحية". حافظت البندقية على تفوقها البحري عموماً طيلة الحرب، وانتصرت في مُعظم مواجهاتها مع العثمانيين، لكنّها لم تتمكن من فرض حصار تام على الدردنيل، ولم تملك السفن الكافية لقطع تدفق الإمدادات والتعزيزات العثمانية المُرسلة إلى كريت. أمّا العثمانيون فقد أعاقهم وجود اضطرابات داخلية، بالإضافة إلى تحويل جُزء من قواتهم شمالاً صَوْب ترانسيلفانيا لمواجهة ملكية هابسبورغ.
    استنفد هذا الصراع الطويلُ من اقتصاد جمهورية البندقية الذي كان يعتمد اعتماداً رئيسياً على التجارة مع الدولة العثمانية. وبحلول عقد الستينيّات من القرن السابع عشر، وعلى الرغم من تزايد المُساعدات المُقدمة من الدول المسيحية الأخرى، إلا أنّ الحرب كانت قد نالت من البندقية وأرهقتها. ومن جهة أخرى فإنّ العثمانيين نجحوا في الحفاظ على وجود قواتهم في كريت بقيادة قديرة من أسرة كوبريللي، وأرسلوا عامَ 1666 حملةً ضخمةً أخيرةً لإنهاء الحرب بإشراف مُباشر من الصدر الأعظم. كانت هذه بداية المرحلة الأخيرة والأكثر دموية في حصار كاندية واستمرت أكثر من عاميْن. استسلم حصن كاندية المنيع بعد ذلك وقبل البنادقة التفاوض، لتنتهي بذلك الحربُ بانتصار العثمانيين. نتج عن مُعاهدة السلام النهائية احتفاظ البندقية ببضعة جزر صغيرة معزولة قبالةَ كريت، وإحرازها بعض المكاسب الإقليمية في دالماسيا. لكنّ الحرب ما لبثت أن اشتعلت بين الطرفين مرة أخرى بعد نحو من 15 عاماً فقط، بسبب رغبة البندقية في الانتقام لخسارتها، وبالفعل نجحت بالخروج منها مُنتصرةً. أمّا كريت فقد ظلت تحت الحُكْم العثماني حتى عام 1897 حينما باتت دولةً مُستقلةً، قبل أن تُضم أخيراً إلى اليونان عام 1913.
    خلفية[عدل]


    باتت جزيرة كريت آخر مُمتلكات البندقية الكُبرى في البحار بعد خسارة قبرص لصالح العثمانيين في الحرب العثمانية البندقية الرابعة.[2] كان من الواضح أنّ كريت ستكون هدفاً للتوسع العثماني عاجلاً أم آجلاً وذلك بسبب موقعها الاستراتيجي،[3] وكذلك مساحتها، وأراضيها الخصبة، وسوء حال حصونها جعلتها أكثر إغراءً للعثمانيين من مالطا.[4] أمّا البندقية فكانت قد ضعفت عسكرياً وباتت تعتمد اعتماداً كبيراً على التجارة غير المُنقطعة، لذا فقد حرصت على عدم استفزاز الدولة العثمانية، وحافظت على شروط مُعاهدتها معهم بحرص، لتؤمّن بذلك أكثر من ستين عاماً من العلاقات السلمية.[5] وبحلول بدايات القرن السابع عشر كانت قوة البندقية العسكرية قد تراجعت أكثر. حتى اقتصادها الذي كان قد ازدهر قبلاً مُعتمداً على سيطرته على تجارة التوابل الشرقية بات يُعاني نتيجةَ افتتاح طرق التجارة الأطلسيّة الجديدة، وكذلك نتيجةَ فقدانه السوق الألماني بسبب حرب الثلاثين عاماً.[2] وفضلاً عن ذلك كُله، تورطت البندقية في سلسلة من الحروب التي خاضتها في شمال إيطاليا مثل حرب الخلافة المانتوفية، وزاد الطين بلةً تفشي وباء الطاعون في الجمهورية عام 1629 - 1631.[6]

    ظلّت احتمالية نشوب صراع عثماني بندقي جديد قائمةً، ففي عام 1638 هاجم أسطولٌ بُندقي أسطولاً بربرياً مُدمّراً إياه بعد أن كان البربر قد احتمَوا في ميناء فلوره العثماني، وكذلك قصفوا المدينة خلال العملية.[7] أثار هذا العمل حفيظةَ السلطان مراد الرابع، الذي هدد بإعدام جميع البنادقة الذين يعيشون في دولته وفرض حظراً على التجارة البندقية.[8] لكنّ الأمور عادت إلى مجراها بعد أن دفعت جمهورية البندقية تعويضاً للعثمانيين قدره ربع مليون عملة ذهبية، خصوصاً وأنّ العثمانيين كانوا لا يزالون في حالة حرب مع الدولة الصفوية ولم يرغبوا في الدخول في حرب أخرى.[5][9]
    وقعت حادثةٌ أخرى مُشابهة في 28 سبتمبر 1644 لكنّ نتائجها كانت مُختلفة، حينما هاجم فرسان الإسبتارية قافلةً عثمانيةً كانت في طريقها من إسلام بول إلى الإسكندرية وعلى متنها عدد من الحجاج المُتجهين إلى مكة، ولقيت مُعظم الشخصيات المُهمة الذاهبة للحج حتفها، على حين اقتيد نحو ثلاثمائة وخمسين رجلاً وثلاثين امرأةً ليُباعوا عبيداً.[10] حمّل الفرسانُ غنائمهم على سفينة رست فيما بعد في ميناء صغير على الساحل الجنوبي من جزيرة كريت لبضعة أيام، وترجّل إلى الجزيرة بعض من البحارة والعبيد.[11] غضب العثمانيون من هذه الواقعة غضباً شديداً، واتهموا البندقية بالتواطؤ مع الفرسان، وهو الأمر الذي نفاه البنادقة بشدة. وبما أنّ سدّة الحُكْم في الدولة العثمانية كانت في أيدي أناسٍ مُتحمسين للحرب،[12] اعتبرت الدولةُ ما جرى ذريعةً مثاليةً للحرب مع البندقية الضعيفة في ذلك الحين.[13] وعلى الرغم من استمرار المُفاوضات فترةً طويلةً - حتى أواسط عام 1645 -، واعتراض الصدر الأعظم سلطان زاده محمد باشا،[14] إلا أنّ الدولةَ العثمانيةَ اتجهت إلى خيار الحرب. قام العثمانيون سريعاً بإرسال حملة أوليّة ضمّت 50,000 جُندياً و416 سفينة بقيادة صهر السلطان القبطان باشا يوسف باشا. أبحر الأسطول العثماني من الدردنيل في 30 أبريل 1645 مُتجهاً صَوْب ميناء نافارين في بيلوبونيز، وبقي هناك مُدة ثلاثة أسابيع.[15] لم يكن الأسطول العثماني قد أعلن عن هدفه بَعد، بل قام العثمانيون بالتلميح إلى كَون مالطا الهدف الذي خرجوا من أجله وذلك لتبديد مخاوف البنادقة.[13]



    الحرب[عدل]


    بداية العمليات في كريت[عدل]

    نجحت الحيلةُ العثمانيةُ بالفعل في خداع البنادقة وتفاجؤوا بوصول الأسطول العثماني إلى كريت على حين غرة في 23 يونيو 1645.[15] ولم تُفلح جهود الجنرال أندريا كورنر - الذي كان قد عُيّن قائداً حديثاً - في مواجهة الموقف، حيث كانت دفاعات البندقية لا تزالُ في حالة سيئة.[16] كانت كريت جزيرةً ذات حصون منيعة، لكنّها أُهملت زمناً طويلاً، وتطلّب إعادة ترميمها جهداً كبيراً.[17] وكانت البندقيةُ تنظر بعين الخوف إلى الاستعدادت العثمانية، فدفعها ذلك إلى إرسال التعزيزات التي بلغت 2,500 جُندياً إلى كريت في أواخر عام 1644 احترازاً من أي هجوم مُحتمل، وكذلك بدأت بتسليح أسطولها. فضلاً عن حصولها على وعدٍ بالمُساعدة من البابا وتوسكانا في حالة وقوع الحرب.[18] لم تكن العلاقات جيدةً بين سُكان الجزيرة المحليين اليونانيين والبنادقة، وهو الأمر الذي لعب دوراً هامّاً في مراحل الحرب المُتقدمة، فقد ساعد توتر العلاقات بين الطرفين في سرعة فرض سيطرة العثمانيين على المناطق الريفية، وعندما قُطعت الإمدادات القادمة من البحار عن القوات العثمانية الموجودة على الجزيرة في سنوات الحرب اللاحقة، كانت المنتوجاتُ المحليةُ التي قدمها لهم اليونانيون سبيلاً لاستمرار بقائهم في كريت.[12][19]


    خريطة لخانية وتحصيناتها تعود لعام 1651.


    رسا العثمانيون حين وصلوا على أرضٍ تبعد حوالي خمساً وعشرين كيلومتراً عن خانية، ولم تستطع قواتها المحلية مُجابهتهم وفرّت.[15] تبع ذلك هجومهم على حصن القديس توديرو، فقام قائد الحصن بلاسيو زوليان الإستيري بتفجير نفسه وحصنه وحاميته حتى لا يسقط شيء في أيدي العثمانيين. تقدم الجيش العثماني بعد ذلك حتى وصل مدينة خانية ذاتها، التي سقطت أمام الزحف العثماني في 22 أغسطس، بعد حصار دام 56 يوماً.[20] وفي الوقت ذاته كانت التعزيزات قد بدأت بالوصول إلى الجزيرة على متن قوارب قادمةً من الولايات البابوية، وتوسكانا، ومالطا، ونابولي كما كانوا قد وعدوا البنادقة مُسبقاً فعزز ذلك من دفاعاتهم. اختلفت الأوضاع في سبتمبر، لأن الأسطول العثماني كان في حالة من الفوضى، لكنّ الأساطيل المسيحية المُتحالفة بقيادة نيكولو لودوفيزي - ابن أخ البابا - فشلت في استغلال الفرصة لتوجيه ضربة حاسمة.[21] تحركت القوات المسيحية أخيراً في الأول من أكتوبر لتحرير خانية من قبضة العثمانيين بأسطول مُكوّن من 90 سفينة، لكنّ هجومهم فشل بعد أن اصطدموا بقوة الدفاعات العثمانية فضلاً عن سوء التنسيق بينهم، وعادوا إلى قواعدهم بُعيْد ذلك.[21]


    خريطة تعود لعام 1651 تُصوّر أسد القديس مرقس (رمز جمهورية البندقية) يقف حامياً لمملكة كاندية، حيث كانت جميع مُدن الجزيرة قد باتت تحت السيطرة العثمانية بحلول ذلك الوقت باستثناء العاصمة كاندية.


    غادر القائدُ الأول يوسف باشا الجزيرة في نوفمبر تاركاً وراءه حاميةً قويةً وعاد إلى إسلام بول ليقضي فصل الشتاء هناك، بَيْد أنّ السلطان أعدمه هناك بعد وقوع خلافات بين الطرفين.[22] لم تتأثر الاستعدادت العثمانية بما حصل وتواصلت في سبيل تجديد وتوسيع الحرب، على حين كان البنادقةُ يلهثون لجمع المال والرجال، وسعوا جاهدين لإشراك القوى الأوروبية الأخرى في حربهم مع العثمانيين. قابلت الدول الأوروبية استغاثات البنادقة بآذان صمّاء، خصوصاً وأنّ أوروبا كانت مُمزقةً في ذلك الحين نتيجةَ حرب الثلاثين عاماً وما ترتّب عنها من صراعات ضارية.[23] عانى البنادقةُ من ضغط شديد بسبب المُتطلبات المالية للحرب، فاضطروا إلى فرض الضرائب على الأراضي التابعة لهم (دوميني دي تيرافيرما)، حتى أنهم لجؤوا إلى بيع ألقاب النبالة والمناصب الحكومية للحصول على المال.[24] اختير فرانسيسكو إيريزو ذو الثمانين عاماً قبطاناً للقوات البحرية، لكنه ما لبث أن توفي في أوائل عام 1646 فاستُبدل به جوفاني كابيلو الذي كان عمره حينها ثلاثة وسبعين عاماً.[25]
    كان عام 1646 سيئاً على البنادقة واتّسم أداء كابيلو فيه بالبهتان، لأنه فشل في اعتراض وصول التعزيزات العثمانية بقيادة موسى باشا في يونيو،[26] وأيضاً فشل الهجومُ الذي شنّه على الأسطول العثماني في خليج خانية في أغسطس، بالإضافة إلى فشل مُحاولاته في فك الحصار العثماني على ريثيمنو، فأدى ذلك إلى سقوط المدينة في أيدي العثمانيين في 20 أكتوبر من العام ذاته، على حين صمد معقلها حتى 13 نوفمبر قبل أن يسقط.[27] عانى كلا الجانبان من تفشي وباء الطاعون في صفوفه خلال شتاء 1646 - 1647، ولم يُحرز أيٌّ منهما تقدماً فعلياً خلال ربيع عام 1647. استمر هذا الوضعُ حتى مُنتصف يونيو حين ألحقت قوةٌ عثمانيةٌ صغيرةٌ الهزيمة بمُرتزقة بنادقة على الرغم من تفوّق البنادقة العددي. مهّد هذا النجاحُ الطريقَ للعثمانيين للاستيلاء على النصف الشرقي من الجزيرة باستثناء حصن سيتيا.[28] تعرض البنادقةُ والسكانُ المحليون خلال الحرب لخسائر جسيمة، حيث تُشير التقديراتُ إلى أنّ قرابة 40% من سُكان الجزيرة لقوا حتفهم بحلول عام 1648 سواءً كان ذلك بسبب المرض أو الحرب،[29] وبحلول عام 1677 كان قد انخفض عدد سكان كريت إلى 80,000 نسمة فقط، بعد أن كانوا 260,000 نسمة قبل بدء الحرب.[30] وبحلول عام 1648، كانت جميع أنحاء كريت قد باتت تحت سيطرة العثمانيين عدا كاندية وبضعة حصون أخرى.[22]
    حصار كاندية[عدل]


    بدأ حصار كاندية في مايو 1648، واستمر تطويق العثمانيين للمدينة ثلاثة أشهر، فنجحوا في عزلها، حتى أنّهم قطعوا إمدادات الماء عنها. لكنّ العثمانيين أيضاً تأثروا بشدةٍ جراء سوء حال إمداداتهم الناجم عن نشاط الأساطيل المسيحية في بحر إيجة، حيث اعترضوا القوافل العثمانية المُتجهة للجزيرة والمُحمّلة بالإمدادت والتعزيزات مانعين إيّاها من الوصول إلى مُحاصري كاندية.[31] كما أنّ الدولةَ العثمانية عانت حينها من الاضطرابات الداخلية الناجمة عن سياسات السُّلطان إبراهيم الأول العشوائية وعن إعدامه عدداً من كبار المسؤولين في الدولة بلا مُحاكمة، ممّا أدى في نهاية المطاف إلى عزله عن سدّة الحُكْم لصالح ابنه محمد الرابع، لتبدأ بذلك فترةٌ أخرى من الارتباك في جَنَبات الحكومة العثمانية.[32]
    أجبر نقصُ الإمدادات القائدَ غازي حسين باشا على رفع الحصار عن كاندية في بداية عام 1649، قبل أن يُحاصر العثمانيون المدينة من جديد بعد شهرين فقط من الرحيل عنها بعد أن وصل الأسطول العثماني إليها في شهر يونيو من العام نفسه.[33] استمر هذا الحصار حتى عام 1669 ليكون ثاني أطول حصار في التاريخ بعد حصار الموريين لسبتة بقيادة إسماعيل بن الشريف، الذي دام من عام 1694 إلى عام 1727.[34] هاجم العثمانيون حصون المدينة مُفجرين أكثر من سبعين لغماً، لكنّ المُدافعين تمكنوا من الصمود أمام المد العثماني. خسر العثمانيون نتيجة عملياتهم أكثر من 1,000 جندي، وانسحب من ميدان المعركة 1,500 إنكشاري، كما أنّهم عانوا من انعدام التعزيزات المُرسلة لهم على مدار عام 1650، ولم يُترك أيُّ خيار لحسين باشا سوى أن يبذل أقصى مجهود لتضييق الحصار على المدينة ما أمكن.[33] عزز العثمانيون من موقفهم ببناء ثلاثة حصون في منطقة خانية، كما وصلت إليهم التعزيزات في أواخر عام 1650 ممّا سمح لهم بمواصلة حصارهم الشديد المفروض على عاصمة الجزيرة.[35] تكالبت الأوضاع بعد ذلك على العثمانيين مرةً أخرى، فالبنادقة قد نجحوا في فرض الحصار على الدردنيل، والبلاط العثماني كان يُعاني من الاضطرابات السياسية، إلا أنّ الإمدادات الواصلة للجيش العثماني في كريت كانت كافيةً للحفاظ على وجوده، لكنّ الجيش كان في وضعٍ أضعف من أن يشنّ هجوماً حقيقياً على كاندية. نجح العثمانيون عام 1653 في الاستيلاء على حصن سيلينو الواقع على خليج سودا، كما قاموا بتحسين تحصينات سان توديرو الذي كانوا قد استولوا عليه سابقاً.[36] خفّضت النجاحات البحرية البندقية على مدار السنوات اللاحقة من القدرة الهجومية للجيش العثماني في كريت بشكل مؤثر، لكنّ حصار كاندية ظلّ مُستمراً، وتمكن العثمانيون من الاحتفاظ بالأراضي التي كانوا قد استولوا عليها مُسبقاً في الجزيرة حتى وصول حملة عثمانية جديدة عام 1666.



    الحرب البحرية[عدل]


    الصدامات الأولى (1645 - 1654)[عدل]




    صورة تُظهر قادساً مالطياً. بالرغم من أنّ القوادس استُبدلت بالسفن الشراعية، إلا أنّها ظلت تُشكل جزءاً كبيراً من القوات البحرية المُتوسطية خلال القرن السابع عشر.


    لم يكن بإمكان البندقية مواجهة الحملة العثمانية الضخمة في كريت بشكل مُباشر، لكنّ بحريتها كانت قويةً لدرجة تُمكّن البنادقة من التدخل وقطع طرق إمداد العثمانيين.[37] ففي عام 1645 كان أسطول البندقية والحلفاء المُشترك يتألف من ستين إلى سبعين قادس، وأربع سفن ضخمة، وحوالي ستة وثلاثين سفينة شراعية كبيرة.[38] لم يكن تفوّق البنادقة البحري مُقتصراً على حجم أسطولهم، بل أيضاً من حيث تنوّع مراكبهم البحرية، بينما اعتمدت البحرية العثمانية بشكل تام تقريباً على القوادس.[39] أراد الطرفان تعزيز قواتهما البحرية بشكل أكبر، فقرر كُل من العثمانيين والبنادقة توظيف أناسٍ ذوي خبرة حربية من هولندا، وفيما بعد من إنجلترا، خصوصاً العثمانيين.[40]
    أولى العمليات البحرية للبنادقة كانت مُحاولةً لحصار الدردنيل عام 1646، حين خرج أسطول قوامه 23 سفينة بقيادة توماسو موروسيني إلى بحر إيجة لاعتراض سفن الشحن العثمانية المُحمّلة بالإمدادات والتي كانت مُتجهةً إلى جزيرة كريت، بالإضافة إلى مُحاولتهم للاستيلاء على جزيرة تندوس ذات الأهمية الاستراتيجية والواقعة على مدخل الدردنيل. قاد القبطان موسى باشا أسطولاً مؤلفاً من 80 سفينة حربية لمواجهة البنادقة، لكنّ البندقية نجحت في دحر العثمانيين إلى الدردنيل في 26 مايو.[41] عاد الأسطول العثماني إلى البحار من جديد في 4 يونيو من العام نفسه، ولم ينجح البنادقة هذه المرة في إيقافه، حيث ساعد الأسطولَ العثماني عدمُ هبوب الرياح واستطاعوا الإفلات من السفن البندقية، وبالتالي نجح العثمانيون في إنزال المزيد من الجنود والإمدادات في كريت دون مُقاومة.[42] وبالإضافة إلى ذلك كله، فشلت جهود الأسطول البندقي التي بُذلت لمواجهة العمليات العثمانية البرية في الجزيرة، ويُعزى ذلك إلى تردد قادته، والتأخير في دفع الأجور، وكذلك بسبب تفشي آفة الطاعون بين البنادقة.[43]
    خسر البنادقة قائد أساطيلهم توماسو موروسيني في 27 يناير 1647 عندما اضطرت سفينته لمواجهة أسطولاً عثمانياً مُكوناً من 45 قادس. قُتل موروسيني خلال هذه المواجهة، لكنّه نجح في إلحاق خسائر كبيرة بالعثمانيين بما فيها قتل موسى باشا نفسه. وصل أسطول البنادقة بعد ذلك في الوقت المُناسب لإنقاذ السفينة بقيادة القائد الجديد جوفاني باتيستا جريماني. كانت هذه المواجهة ضربةً كبيرةً لمعنويات العثمانيين، حيث أنّ سفينةً واحدةً ألحقت أضراراً وإصابات مؤثرة في صفوفهم.[44] حقق البنادقةُ بعد ذلك بعض النجاحات الأخرى مثل إغارتهم على مدينة ششمة الواقعة غرب تركيا في الوقت الحاضر، لكنهم تعرضوا لسلسلة من الإخفاقات فيما تبقى من العام، حيث فشلت مُحاولاتهم المُتكررة في حصار الموانئ العثمانية واستمر تدفق الإمدادات والتعزيزات إلى كريت.[45]


    اشتباك الأسطول البندقي مع الأسطول العثماني عام 1649، بريشة أبراهام بيرستاتن (1656).


    عاد البنادقة إلى الدردنيل من جديد عام 1648، وعلى الرغم من خسارتهم للعديد من السفن ووفاة الأميرال جوفاني باتيستا نفسه في عاصفةٍ تعرضوا لها في أواسط شهر مارس،[46] إلا أنهم تمكنوا من إعادة بناء أسطولهم بقيادة جياكومو دا ريفا، ونجحوا في حصار المضيق مُدة عام كامل.[31] وبالمُقابل نجح العثمانيون في التصدي للبنادقة جُزئياً بعد بنائهم أسطولاً جديداً في ششمة مُجبرين البنادقة على تقسيم قواتهم.[31] وفي عام 1649 كسر أسطول عثماني بقيادة القبطان باشا فوينوك أحمد باشا الحصار البحري المفروض عليهم.[22] حقق البنادقة بعد ذلك انتصاراً على الأسطول العثماني في 12 مايو من العام نفسه واستولوا على عدد من السفن العثمانية ودمّروا عدداً آخر، لكنّ دا ريفا لم يكن قادراً على منع الأسطول العثماني من الوصول إلى كريت،[47] ممّا أبرز ضعف موقف البنادقة، حيث أنّ البندقية لم تكن قادرةً على فرض حصار بحري طويل الأمد، ولم تملك الجمهورية ما يكفي من السفن للسيطرة على كل من الدردنيل وممر خيوس في الوقت ذاته.[37]
    حافظ الأسطول البندقيّ المُكون من 41 سفينة على حصاره للدردنيل مُعظم فترات عام 1650 مما منع العثمانيين من الإبحار إلى كريت. لكنّ العثمانيين نجحوا مرةً أخرى في فك الحصار عندما تولى حاكم رودس علي باشا قيادة الأساطيل العثمانية، الذي أتى بحيلة ذكية للتخلص من البنادقة، حيث انتظر حتى حلول الشتاء حتى يسحب البنادقة قواتهم، ثمّ قام بإرسال عدد صغير من السفن مُحمّلة بالمؤن وعدة آلاف من الجنود مُضللاً البنادقة، ثم أبحر نحو كريت دون التعرض لأي مُضايقات.[35]
    وقعت أولى المعارك البحرية الكُبرى في 10 يوليو 1651 جنوب ناكسوس، حين اشتبك الأسطول البندقي المُكوّن من 58 سفينة بقيادة ألفيز موتشينيغو مع الأسطول العثماني الأكبر حجماً، لكنّ البنادقة حسموا المعركة لصالحهم،[48] بينما انسحب ما تبقّى من الأسطول العثماني إلى رودس. استُبدل موتشينيغو بُعيْد ذلك بليوناردو فوسكولو، ولم يُنجز أيّ من الطرفين الكثير خلال العامين المُقبلين، ونجح العثمانيون خلال هذه الفترة في إمداد قواتهم في كريت مع الحفاظ على سلامة أسطولهم.[49]



    معارك الدردنيل (1654 - 1657)[عدل]




    خريطة للدردنيل والمنطقة المُجاورة.


    قام العثمانيون بتنظيم قواتهم عام 1654، حيث أنتجت ترسانتهم الواقعة في القرن الذهبي (مرسى إسطنبول) سفناً حربيةً جديدةً، ووصلت تعزيزات للعاصمة من طرابلس وتونس لتقوية الأسطول العثماني.[50] عاد العثمانيون إلى الدردنيل في مايو بأسطول ضخم قوامه 79 سفينة (40 سفينة شراعية، و33 قادس، و6 سفن ضخمة)، بالإضافة إلى انضمام 22 قادس جديد في بحر إيجة و14 سفينة من الساحل البربري بهدف تعزيز موقف العثمانيين في الدردنيل.[51] فاق الأسطول العثماني الأسطول البندقي المُحاصِر للدردنيل بفارق كبير، حيث كان الأسطول البندقي مُكوّناً من 26 سفينة فقط بقيادة جوزيبي دولفين.[52] نتج عن لقاء الطرفين معركةٌ انتهت بانتصار العثمانيين، لكنّ البنادقة نجحوا في الفرار بأسطولهم وإلحاق خسائر كبيرة بالعثمانيين ليُحققوا انتصاراً معنوياً.[53] تبع ذلك هجوم الأسطول العثماني على جزيرة تينوس، لكنهم تراجعوا بعد وقوع مُناوشات صغيرة مع البنادقة في 21 يونيو. نجح مراد باشا في تجنب مُلاقاة البنادقة لما تبقى من العام، فكانت أساطيل الجانبين تُبحر ذهاباً وإياباً في بحر إيجة قبل العودة إلى الدردنيل في سبتمبر بسبب مشاكل أحدثها الانكشارية في الأسطول العثماني.[54] توفي في نهاية العام قائد الأساطيل البندقية ألفيز موتشينيغو في كاندية، وخلفه فرانسيسكو موروسيني الذي كان قد بزغ اسمه في معارك الجمهورية السابقة.[55]
    اتبع موروسيني نهجاً أكثر حيويةً في تعامل البنادقة مع مُجريات الحرب، فهاجم مستودعات الإمدادات العثمانية في أجانيطس في ربيع 1655، ودمّر مدينة فولوس الساحلية في هجوم ليلي وقع في 23 مارس من العام نفسه. أبحر موروسيني بعد ذلك إلى الدردنيل في مطلع شهر يونيو مُنتظراً قدوم الأسطول العثماني، لكنّ العثمانيين تأخروا في الوصول بسبب الاضطرابات السياسية التي واجهتها الحكومة العثمانية.[55] ترك موروسيني نصف أسطوله (36 سفينة) في الدردنيل بقيادة لازارو موتشينيغو وقفل عائداً إلى كيكلادس.[56] وصل الأسطول العثماني المُكوّن من 143 سفينة بقيادة مصطفى باشا بعد أسبوع فقط من رحيل موروسيني، أي في 21 يونيو،[57] ووقعت معركةٌ بين الجانبين أسفرت عن انتصار البنادقة. تجنب الأسطول العثماني مُلاقاة البنادقة لما تبقى من العام قبل أن ينسحبوا إلى مُعسكراتهم الشتوية، مُفسحين المجال لموروسيني لفرض حصاره على جزيرة مالفاسيا ذات الأهمية الاستراتيجية والواقعة قبالة الساحل الجنوبي الشرقي للبيلوبونيز، لكنّ الحصار فشل في نهاية المطاف.[58] عُيّن موروسيني حاكماً جديداً على كريت في سبتمبر وبات لورينزو مارسيلو قائد أسطول البنادقة الجديد.[59]
    على الرغم من أنّ الكلمة الفصل كانت للبنادقة في مُعظم مواجهاتهم السابقة مع العثمانيين، ونجاحهم في فرض سيطرتهم على بحر إيجة ومُهاجمتهم جزرها،[60] إلا أنّ هذا التفوق لم يُترجم إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع. أمّا العثمانيين فإنهم على الرغم من خسائرهم كانوا قادرين على التجوّل في البحار وإمداد قواتهم بما يحتاجونه في كريت،[61] خصوصاً عبر الأساطيل الخارجة من الإسكندرية، ورودس، وخيوس وغيرها.[62] وفي يونيو 1656 تلاقى الأسطول العثماني بقيادة كنان باشا مع الأسطول البندقي المالطي المُشترك بقيادة مارسيلو، وكانت نتيجة المعركة أن ألحق البنادقة والمالطيّون بالعثمانيين أسوأ هزيمة بحرية منذ معركة ليبانتو،[59][63] حيث دُمّرت 60 سفينة عثمانية ووقعت 24 سفينةً أخرى في أيدي البنادقة والمالطيين. لكنّ الخسائر لم تكن مُقتصرةً على العثمانيين، حيث عانى البنادقة والمالطيّون من بعض الخسائر أيضاً، بما في ذلك فقدانهم للقائد مارسيلو.[64] غادرت الفرقة المالطية في أعقاب هذا النصر، ونجح البنادقة في الاستيلاء على تندوس في 8 يوليو، ثمّ ليمنوس في 20 أغسطس،[65] ليمتلكوا بذلك جزيرتين استراتيجيتين واقعتين بالقرب من مدخل الدردنيل تُشكلان قاعدتين أماميتين، ممّا زاد من فاعلية الحصار المفروض على العثمانيين. قُطعت الإمدادات العثمانية عن كريت نتيجةً لذلك كُليّاً، حتى أنّ العاصمة إسلام بول نفسها عانت من نقصٍ في الغذاء خلال فصل الشتاء التالي.[66]


    معركة الدردنيل الرابعة (1657), بريشة بيتر كاستلين


    نجح العثمانيون في تغيير مُجريات الحرب عام 1657 بعد تولي محمد باشا الكوبريللي منصب الصدر الأعظم، الذي عُيّن في سبتمبر 1656 وأُعطي صلاحيات واسعة، فنجح في تغيير مسار الحرب لصالح العثمانيين.[67][68] قام القبطان باشا الجديد توبال محمد بتعزيز الأسطول العثماني،[67] فنجح العثمانيون في مارس في الإفلات من حصار البنادقة للدردنيل مُبحرين تجاه تندوس، مع أنّهم لم يُهاجموها لأنّ حاميتها كانت قويةً جداً.[69] أبحر موتشينيغو إلى الدردنيل بأسطول مُعزز بسفن بابوية ومالطية مُنتظراً قدوم الأسطول العثماني، الذي وصل إلى هناك في 17 يوليو. تمكّن العثمانيون من عبور المضيق، وذلك بسبب الخلافات التي نشبت بين قادة الأساطيل المسيحية ممّا حال دون اكتمال جاهزيتهم.[70] تألفت المعركةُ من سلسلة من الاشتباكات على مدار ثلاثة أيّام، وانتهت مساء 19 يوليو حين دمّر انفجارٌ سفينة القائد مودياً بحياة موتشينيغو ومُجبراً الأساطيل المسيحية المُتحالفة على الانسحاب. وعلى الرغم من أنّ العثمانيين تعرضوا لخسائر أكبر من البنادقة في هذه المعركة، إلا أنهم نجحوا في تحقيق هدفهم وهو كسر الحصار الذي كان قد طال أمده،[71] بإشرافٍ شخصي من الصدر الأعظم وبمساندة سفن ورجال قدموا من الولايات البربرية.[72] باشر الأسطول العثماني بعد هذه المعركة في استعادة ما فقده قبلاً، فاستردّ ليمنوس في 31 أغسطس، ثمّ تندوس في 12 نوفمبر، ليقضي العثمانيون بذلك تماماً على أيّ آمال مُستقبلية للبنادقة في فرض حصار على العثمانيين بشدّة ذاك الحصار الذي كانوا قد فرضوه في النصف الأول من الحرب.[73][74]
    فترة الجمود (1658 - 1666)[عدل]




    حصار كاندية، بريشة فيشر (1680).


    اتجهت القوات العثمانية شمالاً لمواجهة جورج الثاني أمير ترانسيلفانيا، الأمر الذي تطوّر إلى صراع طويل مع ملكية هابسبورغ.[74] حاول الأسطول البندقي - الذي بات بقيادة موروسيني من جديد - خلال هذه الفترة فرض الحصار مُجدداً على الدردنيل لكن دون جدوى. اتخذ موروسيني من مُهاجمة المعاقل العثمانية تكتيكاً له، فحاصر جزيرة ليفكادا في أغسطس 1658، لكن الحصار باء بالفشل. وعلى الرغم من نجاح البنادقة في نهب بعض الأراضي العثمانية مثل كالاماتا، وكاريستو عام 1659، إلا أنهم لم يمتلكوا قوات كافية تُمكنهم من احتلال هذه المناطق، ولم تُكسبهم هذه الغارات مكاسب فعلية.[73] كان رد العثمانيين بأن أمر الصدر الأعظم محمد باشا ببناء حصنين جديدين على الشاطئ الأوروبي المُطلّ على مدخل الدردنيل، هُما: سد البحر وكِليد البحر (مفتاح البحر)، وذلك لمنع البنادقة من دخول المضيق مرةً أخرى.[75]
    أنهكت هذه الحرب البنادقة كثيراً، خصوصاً بسبب تعطيلها للتجارة التي يعتمد عليها اقتصاد الجمهورية كُليّاً. لذا أرسل البنادقة سفراءهم للعثمانيين، لكنهم لم يستطيعوا قبول ما اشترطه عليهم العثمانيون لإحلال السلام، ألا وهو التخلي عن كريت.[74][76] لكنّ بصيصاً من الأمل عاد إلى نفوس البنادقة بعد انتهاء الحرب بين فرنسا وإسبانيا هابسبورغ، فتأمّلوا الحصول على المزيد من المساعدات من الجانب الفرنسي على وجه الخصوص، حيث أنّ العلاقات بين الفرنسيين والباب العالي كانت قد توترت في الآونة الأخيرة بعد أن كان الطرفان مُرتبطين بعلاقات وثيقة لفترة طويلة.[73]
    تحقق الأملُ الذي عوّل عليه البنادقة بالفعل، حيث تطوع أفرادٌ وجماعاتٌ من الرجال قادمين من مُختلف أنحاء أوروبا الغربية للانخراط في جيش الجمهورية، كما شعر الحُكّام المسيحيون أنّهم مُجبرون على تقديم المُساعدات من رجالٍ وسفنٍ وإمداداتٍ.[62][77] أمّا أولى البعثات الفرنسية فوصلت في أبريل 1660، وكانت بعثةً مُكونةً من 4,200 رجل بقيادة الأمير ألميريغو ديست، كما وصلت فرقٌ من المرتزقة الألمان، وقواتٌ من سافوي، بالإضافة إلى السفن المُرسلة من مالطا، وتوسكانا، وفرنسا.[68] ولكن على الرغم من جُلّ المُساعدات التي قُدمّت للبنادقة، فشلت العمليات التي قام بها موروسيني عام 1660. حاول البنادقة في ذلك العام استرداد خانية، فهاجموها في شهر أغسطس واستولوا على بعض تحصيناتها الخارجية لكنهم فشلوا في السيطرة على المدينة نفسها، كما هاجموا الخطوط العثمانية المُحاصرة لكاندية في سبتمبر مُحققين بعض النجاحات، لكنهم فشلوا في كسر الحصار المفروض عليها.[68] توفي الأمير ديست بعد ذلك بفترة وجيزة في ناكسوس وعادت الكتيبة الفرنسية إلى بلادها، تلا ذلك عزل موروسيني عن منصبه وتسليم القيادة لقريبه جورجيو موروسيني.[78] حقق جورجيو بعض النجاحات الطفيفة عام 1661، حيث كسر الحصار العثماني على تينوس، وهزم الأسطول العثماني قبالة ميلوس. انخفضت وتيرةُ الحرب بعد ذلك حتى صارت هادئةً نسبياً، فعلى الرغم من انشغال العثمانيين الشديد مع النمساويين في بلاد المجر، إلا أنّ البنادقة فشلوا في اقتناص الفرصة ولم يقوموا بأي عملية حقيقية باستثناء اعتراضهم لقافلة الإمدادات القادمة من الإسكندرية قبالة كوس عام 1662.[79]



    المرحلة الأخيرة (1666 - 1669)[عدل]



    الصدر الأعظم
    فاضل أحمد باشا الكوبريللي.


    وقّعت الدولة العثمانية معاهدة فسفار مع النمساويين عام 1664، ممّا سمح لها بحصر تركيزها على كريت بعد أن كانت تُحارب على عدة جبهات. بدأ الصدر الأعظم فاضل أحمد الكوبريللي يُجهز لحملةٍ ضخمةٍ في شتاء 1665/1666، وأرسل تسعة آلاف رجل لتعزيز القوات العثمانية في كريت.[80] وقبل البدء، عرض العثمانيون على البنادقة اقتراحاً يُبقي كاندية في حوزة البنادقة مُقابل دفع جزية سنوية، لكنّ البنادقة رفضوا.[81] خرج الجيش العثماني بقيادةٍ شخصيةٍ من الصدر الأعظم في مايو 1666 من تراقيا إلى جنوب اليونان، بحيث يخرجوا إلى كريت في فصل الشتاء. على الجانب الآخر، تلقّى البنادقةُ في فبراير 1667 تعزيزات كبيرة من فرنسا وسافوي بلغت 21 سفينة حربية وحوالي ستة آلاف رجل، ولكنّ المشاكل بين القادة عادت من جديد حول الأسبقية بين الدول المُختلفة المُشاركة (فرنسا، الولايات البابوية، مالطا، نابولي، صقلية)، الأمر الذي أثر سلباً عليهم.[82] سعى البنادقة بقيادة العائد فرانسيسكو موروسيني إلى الاشتباك مع العثمانيين، لكنّهم تجنبوا ذلك، واستغلوا أفضليتهم من حيث الموارد والقواعد بإمداد قواتهم في كريت بشكل مُستمر. ولم تُحقق القوات المسيحية المُتحالفة أي نجاح يُذكر في عام 1667 باستثناء صدهم لغارة عثمانية شُنّت على سيريغو إحدى الجزر الواقعة جنوب اليونان.[83] وفي 8 مارس 1668 خرج البنادقة مُنتصرين بشق الأنفس من معركة ليلية قبالة ساحل جزيرة سانت بيلاجيا، حينما حاولت قوة عثمانية مؤلفة من 12 سفينة وألفي جندي الاستيلاء على سرب من السفن البندقية. علم موروسيني بنوايا العثمانيين قبل وصولهم فعزز من قوة هذا السرب حتى يكون مُستعداً للمواجهة، وبالفعل انتصر البنادقة على العثمانيين، لكنّ هذا الانتصار كان غالي الثمن، وكان الانتصار البحري الأخير الذي يُحرزه البنادقة في هذه الحرب.[84] حافظ البنادقة على حصارهم لخانية قاعدة الإمداد العثمانية الرئيسية خلال الصيف مُعززين بسفن بابوية واستبارية، كما هاجمت القوات المُتحالفة جزيرة سانت مارينا لتأمين مرساهم قبالة جزيرة سانت توديرو،[85] لكنّ هذا النجاح لم يمنع الأسطول العثماني المُحمّل بالقوات والإمدادات من الوصول إلى خانية في سبتمبر بعد أن كانت السفن البابوية والاستبارية قد غادرت.[86]
    سقوط كاندية[عدل]


    وصلت الحملة العثمانية الجديدة إلى الجزيرة خلال شتاء عام 1666/1667، وبدأت المرحلة الأخيرة من الحصار في شهر مايو بإشراف شخصي من الصدر الأعظم. استمرت هذه المرحلة لمدة 28 شهراً، وكلّفت العثمانيين أرواح 70,000 جُندي، و38,000 من المُجندين والرقيق الكريتيين الذين اشتغلوا في الحصار لصالح العثمانيين و29,088 من المسيحيين المُدافعين عن المدينة.[38] نظر البنادقة بعين الخوف إلى الحملة العثمانية الجديدة خصوصاً وأنّ حالتهم الاقتصادية كانت تزداد سوءاً، فتأمّلوا التوصل إلى تسوية سلمية مع الدولة العثمانية عام [87] 1668 مُستغلين إمكانية وصول تعزيزات كبيرة من أوروبا الغربية للضغط على العثمانيين على تقديم تنازلات لصالحهم في هذه التسوية.[88] عُيّن الأميرال أندريا فالير سفيراً للبنادقة في البداية، لكنّه استُبدل سريعاً بألفيس دا مولين بسبب مرضه.[89] توجّه مولين برفقة سفارته إلى لاريسا حيث كان السلطان وحكومته هناك في رحلة صيد.[90] اقترح العثمانيون بأن تحتفظ البندقية بنصف كريت، لكنّ البنادقة رفضوا العرض مُعتمدين على تعهدات الدول الأوروبية وبخاصة فرنسا بتقديم المُساعدات لهم، بالإضافة إلى علمهم بتجدد الاضطرابات في البلاط العثماني وفي أرجاء الدولة.[91] وتلقّى مولين في غضون ذلك أوامراً بمواصلة المُفاوضات ومُراقبة قوّة العثمانيين ونواياهم دون أن يُلزم نفسه أو الجمهورية بشيءٍ ملموس.[92]


    مُخطط يُظهر الخنادق والألغام العثمانية في كاندية.


    وصلت الوحدةُ الأولى من الكتيبة الفرنسية التي طال انتظارها إلى كاندية في 19 يونيو. بلغ قوام هذه الوحدة ستة آلاف رجل وواحد وثلاثين سفينة بقيادة فرانسوا دوق بوفور، في حين وصلت الوحدة الثانية من الكتيبة في 3 يوليو.[93] كان العثمانيون قد أحرزوا تقدماً مُطّرداً في حصارهم للمدينة على مدار السنوات الماضية حتى استطاعوا الوصول إلى حصونها الخارجية، في حين كان المُدافعون في حالةٍ يُرثى لها وباتت مُعظم أجزاء المدينة مُدمرةً تماماً.[94] شنّ الفرنسيون هجومهم الأول على العثمانيين في 25 يونيو على حين غرّة، وبدا أنهم كانوا مُنتصرين في البداية، لكنّ العثمانيين شنّوا هجوماً مُضاداً دحروا فيه القوات الفرنسية التي عانت من قلة التنظيم. وبذلك انتهى الهجومُ الذي خطط لها الفرنسيون بنتائج كارثية عليهم، مُكلفاً إيّاهُم 800 قتيل من بينهم دوق بوفور نفسه، الذي قُتل من رصاصة وتُرك على أرض المعركة.[95] أحيا وصول الوحدة الفرنسية الثانية في 3 يوليو معنويات المُدافعين، وتمّ الاتفاق على شنّ هجومٍ مُشتركٍ آخر يتضمّن قصف خطوط الحصار العثماني مُعتمدين على قوة أساطيلهم. بدأ هذه الهجوم الضخم في 25 يوليو، وقيل أنّ الأسطول وحده أطلق ما يصل إلى 15,000 قذيفة مدفعيّة،[96] لكنّ العثمانيين كانوا محميين بفعل أعمال الحفريات العميقة التي كانوا قد قاموا بها ولم يتعرضوا سوى لأضرار بسيطة. عاد هذا الهجوم على الأساطيل المسيحية بالوبال مرةً أخرى، حيث وقع حادثٌ أدى إلى انفجار السفينة الفرنسية "تيريز" ممّا تسبب بخسائر كبيرة في صفوف السفن الفرنسية والبندقية القريبة منها.[96]

    توترت العلاقات بين الفرنسيين والبنادقة بعد استمرار الخسائر والكوارث، وغاب التفاهم بين الجانبين في العمليات التي قاما بها في الأسابيع التالية، وزاد من هذه الفجوة قلة الإمدادات، وانتشار الأمراض بين الجنود، والاستنزاف اليومي للجنود أثناء قتالهم في كاندية، ممّا شجّع الفرنسيين على الرحيل.[97] وبالفعل قفل الفرنسيون عائدين إلى بلادهم في 20 أغسطس تاركين البنادقة وحدهم في وجه العثمانيين، الذين شنّوا هجمتين بعد انسحاب الفرنسيين بخمسة أيام لكنّ المُدافعين نجحوا في الصد. كان من الواضح لموروسيني أنّ المدينة ما عادت تتحمل وطأة الحصار،[98] فعقد اجتماعاً في 27 أغسطس تقرر فيه استسلام المدينة دون التشاور مع البندقية، وسُلّمت المدينة للعثمانيين في 5 سبتمبر 1669، وأُجلي الناجون من الجنود والمدنيين بأموالهم من كاندية.[99][100] توصّل موروسيني إلى اتفاقية سلام دائم مع العثمانيين، وكانت هذه الاتفاقية كريمةً نسبياً في ظل الظروف التي مرّ بها البنادقة، حيث سُمح للبندقية بالاحتفاظ ببعض الجزر الصغيرة في بحر إيجة مثل تينوس، وسبينالونغا، وغرامفوسا، وسودا الواقعة قبالة ساحل كريت، فضلاً عن المكاسب التي تحققت للبنادقة في دالماسيا.[60][99]

    الحرب في دالماسيا[عدل]



    حصن كليس.


    كانت دالماسيا مسرحاً مُنفصلاً للعمليات العسكرية مُنذ المرحلة الأولى من الحرب، لكنّ المُجريات هناك كانت مُغايرةً تماماً لما كان يحدث في كريت، حيث كانت دالماسيا بعيدةً جداً بالنسبة للعثمانيين ولم تُمثل لهم أهميةً حقيقيةً، بينما كانت مُجاورةً لقواعد إمدادات البنادقة الذين كانوا الطرف المُسيطر على البحار دون مُنازع، وبالتالي فإنهم كانوا قادرين على تعزيز معاقلهم هناك بسهولة تامّة.[101] وبالإضافة إلى ذلك كلّه، حظي البنادقة بدعم قطاع كبير من السكان المحليين على النقيض من علاقتهم بسكان كريت حينها.[60] شنّ العثمانيون هجوماً واسع النطاق على المنطقة عام 1646 مُحرزين عدداً من المكاسب المُهمّة مثل الاستيلاء على جزر كرك، وباغ، وكرس،[102] والأهم من ذلك كُلّه استسلام حصن نوفيغراد المنيع في الرابع من يوليو بعد أن صمد يومين فقط أمام القصف العثماني.[103] وبذلك بات العثمانيون قادرين على تهديد زادار وسبليت معقليّ البنادقة الرئيسيين في دالماسيا.[104] لكنّ الدفّة تحولت لصالح البنادقة في العام التالي، حيث نجحوا في الاستيلاء مؤقتاً على عدة حصون مثل كنين وكليس بالإضافة إلى استعادة السيطرة على حصن نوفيغراد،[22][29] في حين فشل الحصار العثماني الذي دام شهراً على مدينة شيبينيك.[46] توقفت العمليات العسكرية في مسرح دالماسيا بعد ذلك نتيجة تفشّي المجاعة والطاعون في صفوف البنادقة في زادار، حيث كان الطرفان يصبّان جمّ تركيزهما على المسرح الرئيسي للحرب، ألا وهو جزيرة كريت وبحر إيجة.[105] ولم تحدث أي عمليات أخرى في دالماسيا نتيجة انشغال العثمانيين في جبهات أخرى ذات أولوية بالنسبة إليهم.[75] حصلت جمهورية البندقية بموجب اتفاقية السلام التي وقعتها مع العثمانيين على مكاسب كبيرة في دالماسيا، حيث تضاعفت مساحة أراضيها فيها ثلاث مرات لتؤمّن بذلك استمرار سيطرتها على البحر الأدرياتيكي.[60]
    ما بعد الحرب[عدل]


    أنهى استسلام كاندية أربعة قرون ونصف من سيطرة البندقية على جزيرة كريت، في حين وصلت الدولة العثمانية إلى أوج اتساعها الإقليمي في تلك الفترة.[106] لكنّ التكاليف والخسائر الناتجة عن هذه الحرب الطويلة ساهمت إلى حد كبير في تراجع الدولة العثمانية في أواخر القرن السابع عشر،[40] بينما فقدت البندقية جراء هذه الحرب أكبر مُستعمراتها وأكثرها ازدهاراً، وتضاءلت مكانتها التجارية في البحر المتوسط بشكل كبير،[107] واستُنفدت خزينتها، بعد أن أنفقت حوالي 4,253,000 دوقت في الدفاع عن كاندية وحدها.[30] حوكم موروسيني بتهمتي العصيان والخيانة بعد عودته إلى البندقية عام 1570، لكنّه بُرئ فيما بعد، ليقود القوات البندقية بعد 15 عاماً في الحرب المورية أمام العثمانيين من جديد، حيث حاولت الجمهورية للمرة الأخيرة إعادة ترسيخ نفسها كواحدة من القوى الكُبرى في شرق المُتوسط.[38][108] حاول الأسطول البندقي خلال تلك الحرب، وبالتحديد عام 1692، استعادة كاندية لكنّه فشل، قبل أن تسقط آخر معاقل البنادقة المُتبقيّة قبالة كريت في الحرب العثمانية البندقية السابعة عام 1715.[30] بقيت جزيرة كريت تحت سيطرة العثمانيين حتى عام 1897 عندما باتت دولةً مُستقلةً تحت سيادة الدولة العثمانية، واستمر هذا الوضع حتى اندلاع حروب البلقان، حيث تخلّت الدولة العثمانية في أعقاب هذه الحروب عن الجزيرة، قبل أن تُضم في 1 ديسمبر 1913 رسمياً إلى اليونان.[109][110]

    مراجع[عدل]




    فهرس المراجع
    ^ Lord Byron, Childe Harold, Canto IV.14
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Faroqhi (2006), p. 51
    ^ Setton (1991), pp. 107–108
    ^ Greene (2000), p. 17
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Finkel (2006), p. 222
    ^ Setton (1991), pp. 104–106
    ^ Lane (1973), p. 408
    ^ Setton (1991), pp. 108–109
    ^ Parry & **** (1976), p. 152
    ^ Setton (1991), p. 111
    ^ Finkel (2006), p. 225
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Finkel (2006), p. 226
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Finlay (1856), p. 128
    ^ Setton (1991), p. 124
    تعدى إلى الأعلى ل: أبت Setton (1991), p. 126
    ^ Setton (1991), p. 120
    ^ Setton (1991), p. 107
    ^ Setton (1991), p. 121
    ^ Finlay (1856), p. 130
    ^ Setton (1991), p. 127
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), pp. 128–129
    تعدى إلى الأعلى ل: أبتث Finkel (2006), p. 227
    ^ Setton (1991), pp. 131–132
    ^ Setton (1991), pp. 131,137–138
    ^ Setton (1991), p. 129
    ^ Setton (1991), p. 140
    ^ Setton (1991), p. 141
    ^ Setton (1991), p. 147
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), p. 148
    تعدى إلى الأعلى ل: أبت Miller, p. 196
    تعدى إلى الأعلى ل: أبت Setton (1991), p. 150
    ^ Setton (1991), pp. 151–153
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), p. 158
    ^ غالباً ما يُشار إلى حصار كاندية على أنّه "أطول حصار سُجّل في التاريخ"، حيث تذكر الموسوعة البريطانية 1911 ذلك مثلاً. إلا أنّ حصار سبتة الذي دام حتى عام 1720 أو حتى وفاة إسماعيل عام 1727 باختلاف المصادر هو أطول حصارات التاريخ.نسخة محفوظة 26 يونيو 2013 على موقع واي باك مشين.
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), p. 159
    ^ Setton (1991), p. 167
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Turnbull, p. 85
    تعدى إلى الأعلى ل: أبت The War for Candia, VENIVA consortium, 1996, مؤرشف من الأصل في 29 سبتمبر 2018 CS1 maint: ref=harv (link)
    ^ Cooper (1979), p. 231
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Holt, Lambton & Lewis (1978), p. 631
    ^ Setton (1991), p. 139
    ^ Setton (1991), pp. 139–140
    ^ Setton (1991), pp. 140–141
    ^ Setton (1991), p. 146
    ^ Setton (1991), pp. 147–148
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), p. 149
    ^ Setton (1991), p. 155
    ^ Setton (1991), pp. 163–164
    ^ Setton (1991), pp. 164–169
    ^ Setton (1991), p. 170
    ^ Setton (1991), p. 172
    ^ Setton (1991), p. 173
    ^ Setton (1991), pp. 174–177
    ^ Setton (1991), p. 178
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), p. 179
    ^ Setton (1991), pp. 179–180
    ^ Setton (1991), p. 180
    ^ Setton (1991), pp. 181–182
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), p. 182
    تعدى إلى الأعلى ل: أبتث Lane (1973), p. 409
    ^ Finkel (2006), p. 247
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Lane (1973), p. 410
    ^ Finkel (2006), p. 248
    ^ Setton (1991), p. 183
    ^ Setton (1991), pp. 183–184
    ^ Finkel (2006), pp. 251–252
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Shaw (1976), p. 209
    تعدى إلى الأعلى ل: أبت Setton (1991), p. 190
    ^ Setton (1991), p. 185
    ^ Setton (1991), p. 186
    ^ Setton (1991), pp. 186–188
    ^ Shaw (1976), p. 210
    تعدى إلى الأعلى ل: أبت Setton (1991), p. 189
    تعدى إلى الأعلى ل: أبت Finkel (2006), p. 256
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Duffy (1979), pp. 196–197
    ^ Setton (1991), pp. 188–189
    ^ Setton (1991), pp. 214–216
    ^ Setton (1991), pp. 190–191
    ^ Setton (1991), pp. 192–193
    ^ Setton (1991), p. 193
    ^ Finkel (2006), p. 270
    ^ Setton (1991), p. 194
    ^ Setton (1991), p. 195
    ^ Setton (1991), pp. 196–197
    ^ Setton (1991), pp. 199–200
    ^ Setton (1991), p. 205
    ^ Setton (1991), p. 206
    ^ Setton (1991), p. 214
    ^ Setton (1991), pp. 206–209
    ^ Setton (1991), p. 212
    ^ Setton (1991), pp. 216–218
    ^ Setton (1991), pp. 217–219
    ^ Setton (1991), pp. 223–224
    ^ Setton (1991), pp. 224–225
    ^ Setton (1991), p. 225
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Setton (1991), p. 226
    ^ Setton (1991), pp. 226–227
    ^ Setton (1991), pp. 227–228
    تعدى إلى الأعلى ل: أب Finkel (2006), p. 271
    ^ Finlay (1856), p. 132
    ^ Nile (1989), p. 40
    ^ Setton (1991), p. 143
    ^ Setton (1991), p. 142
    ^ Setton (1991), p. 144
    ^ Setton (1991), p. 162
    ^ Faroqhi (2006), p. 22
    ^ Cooper (1979), p. 232
    ^ Faroqhi (2006), pp. 58, 115
    ^ Detorakis (1986), pp. 438–456
    ^ تاريخ الإسلام في جزيرة كريت نسخة محفوظة 01 فبراير 2014 على موقع واي باك مشين.[وصلة مكسورة]

    معلومات المراجع كاملةًCooper, J. P. (1979), The New Cambridge Modern History, Volume IV: The Decline of Spain and the Thirty Years War, 1609–48/59, CUP Archive, ISBN 978-0-521-29713-4 CS1 maint: ref=harv (link)
    Detorakis, Theocharis E. (1986), Ιστορία της Κρήτης (باللغة اليونانية), Athens, OCLC 17550333 CS1 maint: ref=harv (link)
    Duffy, Christopher (1979), Siege Warfare, Routledge, ISBN 978-0-7100-8871-0 CS1 maint: ref=harv (link)
    Faroqhi, Suraiya (2006), The Ottoman Empire and the World Around It, I.B. Tauris, ISBN 978-1-84511-122-9 CS1 maint: ref=harv (link)
    Finkel, Caroline (2006), Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300–1923, London: John Murray, ISBN 978-0-7195-6112-2 CS1 maint: ref=harv (link)
    Finlay, George (1856), The History of Greece under Othoman and Venetian Domination, London: William Blackwood and Sons CS1 maint: ref=harv (link)
    Fleet, Kate; Faroqhi, Suraiya; Kasaba, Reşat (2006), The Cambridge history of Turkey: the later Ottoman Empire, 1603-1839, Cambridge University Press, ISBN 978-0-521-62095-6, مؤرشف من الأصل في 11 فبراير 2020 CS1 maint: ref=harv (link)
    Greene, Molly (2000), A Shared World: Christians and Muslims in the Early Modern Mediterranean, Princeton University Press, ISBN 978-0-691-00898-1 CS1 maint: ref=harv (link)
    Holt, P. M. (1978), The Central Islamic Lands from Pre-Islamic Times to the First World War, Cambridge University Press, ISBN 978-0-521-29135-4 CS1 maint: ref=harv (link)
    Lane, Frederic Chapin (1973), Venice, a Maritime Republic, JHU Press, ISBN 978-0-8018-1460-0, مؤرشف من الأصل في 11 فبراير 2020 CS1 maint: ref=harv (link)
    Miller, William, Essays on the Latin Orient, Cambridge University Press Archive, مؤرشف من الأصل في 11 فبراير 2020 CS1 maint: ref=harv (link)
    Murphey, Rhoads; Black, Jeremy (1999), Ottoman warfare, 1500–1700, Routledge, ISBN 978-1-85728-389-1 CS1 maint: ref=harv (link)
    Nile, David (1989), The Venetian Empire, 1200–1670, Osprey Publishing, ISBN 978-0-85045-899-2 CS1 maint: ref=harv (link)
    Parry, Vernon J.; ****, M. A. (1976), A History of the Ottoman Empire to 1730: Chapters from the Cambridge History of Islam and the New Cambridge Modern History, CUP Archive, ISBN 978-0-521-09991-2 CS1 maint: ref=harv (link)
    Setton, Kenneth Meyer (1991), Venice, Austria, and the Turks in the Seventeenth Century, DIANE Publishing, ISBN 0-87169-192-2 CS1 maint: ref=harv (link)
    Shaw, Stanford Jay; Shaw, Ezel Kural (1976), History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis - The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808, Cambridge University Press, ISBN 978-0-521-29163-7 CS1 maint: ref=harv (link)
    Turnbull, Stephen (2003), The Ottoman Empire 1326–1699, Routledge, ISBN 978-0-415-96913-0 CS1 maint: ref=harv (link)
    Tzompanaki, Chrysoula (2008), Ο Κρητικός Πόλεμος 1645–1669: Η Μεγάλη Πολιορκία και η Εποποιϊα του Χάνδακα [The Cretan War 1645–1669: The Great Siege and Epopee of Chandax], Heraklion, ISBN 978-960-92052-4-5 CS1 maint: ref=harv (link)
    Vakalopoulos, Apostolos E. (1968), Ιστορία του νέου ελληνισμού, Τόμος Γ′: Τουρκοκρατία 1453–1669 [History of modern Hellenism, Volume III: Turkish rule 1453–1669], Thessaloniki: Emm. Sfakianakis & Sons CS1 maint: ref=harv (link)

    منقول بتصرف





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان



    فتح القسطنطينية.. بشارة نبوية
    (في ذكرى فتحها 20 من جمادى الأولى 857هـ)


    سمير حلبي
    (11)


    محمد الفاتح
    انتظر المسلمون أكثر من ثمانية قرون حتى تحققت البشارة النبوية بفتح القسطنطينية، وكان حلمًا غاليا وأملا عزيزا راود القادة والفاتحين لم يُخب جذوته مر الأيام وكر السنين، وظل هدفا مشبوبا يثير في النفوس رغبة عارمة في تحقيقه حتى يكون صاحب الفتح هو محل ثناء النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله: “لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش”.
    وقد بدأت المحاولات الجادة في عهد معاوية بن أبي سفيان وبلغ من إصراره على فتح القسطنطينية أن بعث بحملتين الأولى سنة 49 هـ = 666، والأخرى كانت طلائعها في سنة 54 هـ = 673م، وظلت سبع سنوات وهي تقوم بعمليات حربية ضد أساطيل الروم في مياه القسطنطينية، لكنها لم تتمكن من فتح المدينة العتيدة، وكان صمود المدينة يزيد المسلمين رغبة وتصميما في معاودة الفتح؛ فنهض “سليمان بن عبد الملك” بحملة جديدة سنة (99 هـ = 719م) ادخر لها زهرة جنده وخيرة فرسانه، وزودهم بأمضى الأسلحة وأشدها فتكا، لكن ذلك لم يعن على فتحها فقد صمدت المدينة الواثقة من خلف أسوارها العالية وابتسمت ابتسامة كلها ثقة واعتداد أنها في مأمن من عوادي الزمن وغوائل الدهر، ونامت ملء جفونها رضى وطمأنينة.

    الدولة العثمانية والدول والإمارات المحيطة بها سنة 1450م، أي قبل تربّع مُحمَّد الثاني على العرش بسنة واحدة.

    ثم تجدد الأمل في فتح القسطنطينية في مطلع عهود العثمانيين، وملك على سلاطينهم حلم الفتح، وكانوا من أشد الناس حماسا للإسلام وأطبعهم على حياة الجندية؛ فحاصر المدينة العتيدة كل من السلطان بايزيد الأول ومراد الثاني، ولكن لم تكلل جهودهما بالنجاح والظفر، وشاء الله أن يكون محمد الثاني بن مراد الثاني هو صاحب الفتح العظيم والبشارة النبوية الكريمة.
    محمد الفاتح

    ولد السلطان محمد الفاتح في (27 من رجب 835 هـ= 30 من مارس 1432م)، ونشأ في كنف أبيه السلطان مراد الثاني سابع سلاطين الدولة العثمانية، الذي تعهده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرا بالسلطنة والنهوض بتبعاتها؛ فحفظ القرآن وقرأ الحديث وتعلم الفقه ودرس الرياضيات والفلك، وأتقن فنون الحرب والقتال، وأجاد العربية والفارسية واللاتينية واليونانية، واشترك في الحروب والغزوات، وبعد وفاة أبيه في (5 من المحرم 855هـ = 7 من فبراير 1451م) تولى الفاتح السلطنة فتى في الثانية والعشرين من عمره وافر العزم شديد الطموح.
    بناء قلعة رومللي حصار



    قلعة رومللي حصار

    كان السلطان بايزيد الأول قد أنشأ على ضفة البوسفور الآسيوية في أثناء حصاره للقسطنطينية حصنا تجاه أسوارها عُرف باسم قلعة الأناضول، وكانت تقوم على أضيق نقطة من مضيق البوسفور، وعزم محمد الفاتح أن يبني قلعة على الجانب الأوروبي من البوسفور في مواجهة الأسوار القسطنطينية، وقد جلب لها مواد البناء وآلاف العمال، واشترك هو بنفسه مع رجال دولته في أعمال البناء، وهو ما ألهب القلوب وأشعل الحمية في النفوس، وبدأ البناء في الارتفاع شامخ الرأس في الوقت الذي كان فيه الإمبراطور قسطنطين لا يملك وقف هذا البناء، واكتفى بالنظر حزنا وهو يرى أن الخطر الداهم سيحدق به دون أن يملك مندفعه شيئا.
    ولم تمض ثلاثة شهور حتى تم بناء القلعة على هيئة مثلث سميك الجدران، في كل زاوية منها برج ضخم مغطى بالرصاص، وأمر السلطان بأن ينصب على الشاطئ مجانيق ومدافع ضخمة، وأن تصوب أفواهها إلى الشاطئ، لكي تمنع السفن الرومية والأوروبية من المرور في بوغاز البوسفور، وقد عرفت هذه القلعة باسم “رومللي حصار”، أي قلعة الروم.

    خارطة تُظهرُ الحصار العُثماني للمدينة، وانتشار الفرق العسكريَّة المُحاصرة وتلك المُدافعة.

    بوادر الحرب

    توسل الإمبراطور قسطنطين إلى محمد الفاتح بالعدول عن إتمام القلعة التي تشكل خطرًا عليه، لكنه أبي ومضى في بنائه، وبدأ البيزنطيون يحاولون هدم القلعة والإغارة على عمال البناء، وتطورت الأحداث في مناوشات، ثم لم يلبث أن أعلن السلطان العثماني الحرب رسميا على الدولة البيزنطية، وما كان من الإمبراطور الرومي إلا أن أغلق أبواب مدينته الحصينة، واعتقل جميع العثمانيين الموجودين داخل المدينة، وبعث إلى السلطان محمد رسالة يخبره أنه سيدافع عن المدينة لآخر قطرة من دمه.
    وأخذ الفريقان يتأهب كل منهما للقاء المرتقب في أثناء ذلك بدأ الإمبراطور قسطنطين في تحصين المدينة وإصلاح أسوارها المتهدمة وإعداد وسائل الدفاع الممكنة، وتجميع المؤن والغلال، وبدأت تردد على المدينة بعض النجدات خففت من روح الفزع التي سيطرت على الأفئدة، وتسربت بعض السفن تحمل المؤن والغذاء، ونجح القائد الجنوبي “جون جستنياني” مع 700 مقاتل محملين بالمؤن والذخائر في الوصول إلى المدينة المحاصرة؛ فاستقبله الإمبراطور قسطنطين استقبالا حسنًا وعينه قائدًا عامًا لقواته، فنظم الجيش وأحسن توزيعهم ودرب الرهبان الذي يجهلون فن الحرب تمامًا، وقرر الإمبراطور وضع سلسلة لإغلاق القرن الذهبي أمام السفن القادمة، تبدأ من طرف المدينة الشمالي وتنتهي عند حي غلطة.

    استعدادات محمد الفاتح

    كان السلطان محمد الثاني يفكر في فتح القسطنطينية ويخطط لما يمكن عمله من أجل تحقيق الهدف والطموح، وسيطرت فكرة الفتح على عقل السلطان وكل جوارحه، فلا يتحدث إلا في أمر الفتح ولا يأذن لأحد من جلسائه بالحديث في غير الفتح الذي ملك قلبه وعقله وأرقه وحرمه من النوم الهادئ.

    السُلطان مُحمَّد الفاتح يُشرف على جرّ السُفن من البوسفور وسحبها على البر وصولًا إلى مضيق القرن الذهبي.

    وساقت له الأقدار مهندس مجري يدعى “أوربان”، عرض على السلطان أن يصنع له مدفعا ضخما يقذف قذائف هائلة تكفي لثلم أسوار القسطنطينية؛ فرحب به السلطان وأمر بتزويده بكل ما يحتاجه من معدات، ولم تمض ثلاثة أشهر حتى تمكن أوربان من صنع مدفع عظيم لم يُر مثله قط، فقد كان يزن 700 طن، ويرمي بقذائف زنة الواحدة منها 12 ألف رطل، ويحتاج جره إلى 100 ثور يساعدها مائة من الرجال، وعند تجربته سقطت قذيفته على بعد ميل، وسمع دويه على بعد 13 ميلا، وقد قطع هذا المدفع الذي سُمي بالمدفع السلطاني الطريق من أدرنة إلى موضعه أمام أسوار القسطنطينية في شهرين.

    بدء الحصار

    وصل السلطان العثماني في جيشه الضخم أمام الأسوار الغربية للقسطنطينية المتصلة بقارة أوروبا يوم الجمعة الموافق (12 من رمضان 805هـ= 5 من إبريل 1453م) ونصب سرادقه ومركز قيادته أمام باب القديس “رومانويس”، ونصبت المدافع القوية البعيدة المدى، ثم اتجه السلطان إلى القبلة وصلى ركعتين وصلى الجيش كله، وبدأ الحصار الفعلي وتوزيع قواته، ووضع الفرق الأناضولية وهي أكثر الفرق عددًا عن يمينه إلى ناحية بحر مرمرة، ووضع الفرق الأوروبية عن يساره حتى القرن الذهبي، ووضع الحرس السلطاني الذي يضم نخبة الجنود الانكشارية وعددهم نحو 15 ألفًا في الوسط.
    وتحرك الأسطول العثماني الذي يضم 350 سفينة في مدينة “جاليبولي” قاعدة العثمانيين البحرية في ذلك الوقت، وعبر بحر مرمرة إلى البوسفور وألقى مراسيه هناك، وهكذا طوقت القسطنطينية من البر والبحر بقوات كثيفة تبلغ 265 ألف مقاتل، لم يسبق أن طُوقت بمثلها عدة وعتادًا، وبدأ الحصار الفعلي في الجمعة الموافق (13 من رمضان 805هـ = 6 من إبريل 1453م)، وطلب السلطان من الإمبراطور “قسطنطين” أن يسلم المدينة إليه وتعهد باحترام سكانها وتأمينهم على أرواحهم ومعتقداتهم وممتلكاتهم، ولكن الإمبراطور رفض؛ معتمدًا على حصون المدينة المنيعة ومساعدة الدول النصرانية له.

    وضع القسطنطينية

    تحتل القسطنطينية موقعا منيعا، حبته الطبيعة بأبدع ما تحبو به المدن العظيمة، تحدها من الشرق مياه البوسفور، ويحدها من الغرب والجنوب بحر مرمرة، ويمتد على طول كل منها سور واحد. أما الجانب الغربي فهو الذي يتصل بالقارة الأوروبية ويحميه سوران طولهما أربعة أميال يمتدان من شاطئ بحر مرمرة إلى شاطئ القرن الذهبي، ويبلغ ارتفاع السور الداخلي منهما نحو أربعين قدمًا ومدعم بأبراج يبلغ ارتفاعها ستين قدما، وتبلغ المسافة بين كل برج وآخر نحو مائة وثمانين قدما.
    أما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه خمسة وعشرين قدما، ومحصن أيضا بأبراج شبيهة بأبراج السور الأول، وبين السورين فضاء يبلغ عرضه ما بين خمسين وستين قدما، وكانت مياه القرن الذهبي الذي يحمي ضلع المدينة الشمالي الشرقي يغلق بسلسلة حديدية هائلة يمتد طرفاها عند مدخله بين سور غلطة وسور القسطنطينية، ويذكر المؤرخون العثمانيون أن عدد المدافعين عن المدينة المحاصرة بلغ أربعين ألف مقاتل.
    اشتعال القتال

    بعد ما أحسن السلطان ترتيب وضع قواته أمام أسوار القسطنطينية بدأت المدافع العثمانية تطلق قذائفها الهائلة على السور ليل نهار لا تكاد تنقطع، وكان دوي اصطدام القذائف بالأسوار يملأ قلوب أهل المدينة فزعا ورعبا، وكان كلما انهدم جزء من الأسوار بادر المدافعون عن المدينة إلى إصلاحه على الفور، واستمر الحال على هذا الوضع.. هجوم جامح من قبل العثمانيين، ودفاع مستميت يبديه المدافعون، وعلى رأسهم جون جستنيان، والإمبراطور البيزنطي.

    الروم يرمون العُثمانين بالقذائف المُلتهبة والنار الإغريقيَّة أثناء مُحاولتهم اقتحام الأسوار.

    وفي الوقت الذي كانت تشتد فيه هجمات العثمانيين من ناحية البر حاولت بعض السفن العثمانية تحطيم السلسلة على مدخل ميناء القرن الذهبي واقتحامه، ولكن السفن البيزنطية والإيطالية المكلفة بالحراسة والتي تقف خلف السلسلة نجحت في رد هجمات السفن العثمانية، وصبت عليها قذائفها وأجبرتها على الفرار.
    وكانت المدينة المحاصرة تتلقى بعض الإمدادات الخارجية من بلاد المورة وصقلية، وكان الأسطول العثماني مرابطا في مياه البوسفور الجنوبية منذ (22 من رمضان 805هـ = 15 من إبريل 1453م)، ووقفت قطعة على هيئة هلال لتحول دون وصول أي مدد ولم يكد يمضي 5 أيام على الحصار البحري حتى ظهرت 5 سفن غربية، أربع منها بعث بها البابا في روما لمساعدة المدينة المحاصرة، وحاول الأسطول العثماني أن يحول بينها وبين الوصول إلى الميناء واشتبك معها في معركة هائلة، لكن السفن الخمس تصدت ببراعة للسفن العثمانية وأمطرتها بوابل من السهام والقذائف النارية، فضلا عن براعة رجالها وخبرتهم التي تفوق العثمانيين في قتال البحر، الأمر الذي مكنها من أن تشق طريقها وسط السفن العثمانية التي حاولت إغراقها لكن دون جدوى ونجحت في اجتياز السلسلة إلى الداخل.
    السفن العثمانية تبحر على اليابسة!!

    السُفن العُثمانيَّة ترسو في مضيق القرن الذهبي وتُطبق الحصار على المدينة.

    إنزال السفن في الخليج


    كان لنجاح السفن في المرور أثره في نفوس أهالي المدينة المحاصرة؛ فانتعشت آمالهم وغمرتهم موجة من الفرح بما أحرزوه من نصر، وقويت عزائمهم على الثبات والصمود، وفي الوقت نفسه أخذ السلطان محمد الثاني يفكِّر في وسيلة لإدخاله القرن الذهبي نفسه وحصار القسطنطينية من أضعف جوانبها وتشتيت قوى المدينة المدافعة.
    واهتدى السلطان إلى خطة موفقة اقتضت أن ينقل جزءًا من أسطوله بطريق البر من منطقة غلطة إلى داخل الخليج؛ متفاديا السلسلة، ووضع المهندسون الخطة في الحال وبُدئ العمل تحت جنح الظلام وحشدت جماعات غفيرة من العمال في تمهيد الطريق الوعر الذي تتخلله بعض المرتفعات، وغُطي بألواح من الخشب المطلي بالدهن والشحم، وفي ليلة واحدة تمكن العثمانيون من نقل سبعين سفينة طُويت أشرعتها تجرها البغال والرجال الأشداء، وذلك في ليلة (29 من رمضان 805هـ = 22 من إبريل 1453م).
    وكانت المدافع العثمانية تواصل قذائفها حتى تشغل البيزنطيين عن عملية نقل السفن، وما كاد الصبح يسفر حتى نشرت السفن العثمانية قلوعها ودقت الطبول وكانت مفاجأة مروعة لأهل المدينة المحاصرة.
    وبعد نقل السفن أمر السلطان محمد بإنشاء جسر ضخم داخل الميناء، عرضه خمسون قدما، وطوله مائة، وصُفَّت عليه المدافع، وزودت السفن المنقولة بالمقاتلين والسلالم، وتقدمت إلى أقرب مكان من الأسوار، وحاول البيزنطيون إحراق السفن العثمانية في الليل، ولكن العثمانيين علموا بهذه الخطة فأحبطوها، وتكررت المحاولة وفي كل مرة يكون نصيبها الفشل والإخفاق.

    الهجوم الكاسح وسقوط المدينة

    العُثمانيّون يقتحمون المدينة، ويبدو في الأعلى حسن الألوباطلي وهو يغرز الرَّاية العُثمانيَّة.

    استمر الحصار بطيئا مرهقا والعثمانيون مستمرون في ضرب الأسوار دون هوادة، وأهل المدينة المحاصرة يعانون نقص المؤن ويتوقعون سقوط مدينتهم بين يوم وآخر، خاصة وأن العثمانيين لا يفتئون في تكرار محاولاتهم الشجاعة في اقتحام المدينة التي أبدت أروع الأمثلة في الدفاع والثبات، وكان السلطان العثماني يفاجئ خصمه في كل مرة بخطة جديدة لعله يحمله على الاستسلام أو طلب الصلح، لكنه كان يأبى، ولم يعد أمام السلطان سوى معاودة القتال بكل ما يملك من قوة.
    وفي فجر يوم الثلاثاء (20 من جمادى الأولى 857هـ= 29 من مايو 1453م)، وكان السلطان العثماني قد أعد أهبته الأخيرة، ووزَّع قواته وحشد زهاء 100 ألف مقاتل أمام الباب الذهبي، وحشد في الميسرة 50 ألفًا، ورابط السلطان في القلب مع الجند الإنكشارية، واحتشدت في الميناء 70 سفينة _بدأ الهجوم برًا وبحرًا، واشتد لهيب المعركة وقذائف المدافع يشق دويها عنان السماء ويثير الفزع في النفوس، وتكبيرات الجند ترج المكان فيُسمع صداها من أميال بعيدة، والمدافعون عن المدينة يبذلون كل ما يملكون دفاعا عن المدينة، وما هي إلا ساعة حتى امتلأ الخندق الكبير الذي يقع أمام السور الخارجي بآلاف القتلى.
    وفي أثناء هذا الهجوم المحموم جرح “جستنيان” في ذراعه وفخذه، وسالت دماؤه بغزارة فانسحب للعلاج رغم توسلات الإمبراطور له بالبقاء لشجاعته ومهارته الفائقة في الدفاع عن المدينة، وضاعف العثمانيون جهدهم واندفعوا بسلالمهم نحو الأسوار غير مبالين بالموت الذي يحصدهم حصدا، حتى وثب جماعة من الانكشارية إلى أعلى السور، وتبعهم المقاتلون وسهام العدو تنفذ إليهم، ولكن ذلك كان دون جدوى، فقد استطاع العثمانيون أن يتدفقوا نحو المدينة، ونجح الأسطول العثماني في رفع السلاسل الحديدية التي وُضعت في مدخل الخليج، وتدفق العثمانيون إلى المدينة التي سادها الذعر، وفر المدافعون عنها من كل ناحية، وما هي إلا ثلاث ساعات من بدء الهجوم حتى كانت المدينة العتيدة تحت أقدام الفاتحين.
    محمد الفاتح في المدينة

    السُلطان مُحمَّد يدخل القسطنطينيَّة.

    ولما دخل محمد الفاتح المدينة ظافرا ترجل عن فرسه، وسجد لله شكرا على هذا الظفر والنجاح، ثم توجه إلى كنيسة “أيا صوفيا”؛ حيث احتشد فيها الشعب البيزنطي ورهبانه، فمنحهم الأمان، وأمر بتحويل كنيسة “أيا صوفيا” إلى مسجد، وأمر بإقامة مسجد في موضع قبر الصحابي الجليل “أبي أيوب الأنصاري”، وكان ضمن صفوف الحملة الأولى لفتح القسطنطينية، وقد عثر الجنود العثمانيون على قبره فاستبشروا خيرًا بذلك.
    وقرر الفاتح الذي لُقِّب بهذا اللقب بعد الفتح اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته، وأطلق عليها اسم “إسلام بول” أي “دار الإسلام”، ثم حُرفت واشتهرت بـ “إستانبول”، وانتهج سياسة سمحة مع سكان المدينة، وكفل لهم حرية ممارسة عبادتهم، وسمح بعودة الذين غادروا المدينة في أثناء الحصار والرجوع إلى منازلهم، ومنذ ذلك الحين صارت إستانبول عاصمة للبلاد حتى فتح القسطنطينية بين الحلم والحقيقة
    المصادر:

    محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية – تحقيق إحسان حقي – دار النفائس – بيروت – (1403هـ = 1983م).
    علي حسون – تاريخ الدولة العثمانية – المكتب الإسلامي بيروت – (1414هـ= 1994م)
    عبد العزيز محمد الشناوي- الدولة العثمانية دولة مفترى عليها – مكتبة الأنجلو المصري- القاهرة – 1984م.
    عبد السلام عبد العزيز فهمي – السلطان محمد الفاتح – دار القلم – دمشق – (1413 هـ= 1993م).
    محمد صفوت مصطفى – السلطان محمد الفاتح – دار الفكر العربي – القاهرة – 1948م.
    محمد عبد الله عنان – مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام – مؤسسة الخانجي – القاهرة – (1382هـ = 1962م).

    منقول بتصرف








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان


    معركة الزلَّاقة(
    479 هـ / مـ1086)
    (12)


    الزلاقة على خريطة إسبانيا
    دخول المرابطين الأندلس


    يدخل يوسف بن تاشفين والمرابطون أرض الأندلس، ويدخل إلى إشبيلية والناس يستقبلونه استقبال الفاتحين، ثم يقصد إلى بطليوس حيث كانت على مقربة من الزلاقة التي كان قد نزلها ألفونسو السادس، فتوجَّه إليه أمير المسلمين بجيوشه[1]. واجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان المعتمد قد جمع عساكره أيضًا، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير، وقصده المطوِّعة من سائر بلاد الأندلس، ووصلت الأخبار إلى ألفونسو فجمع عساكره، وحشد جنوده، وسار من طليطلة[2].
    وبدأ يلحق بركب يوسف بن تاشفين المجاهدون المتطوعة من قرطبة وإشبيلية وبطليوس، وهكذا حتى وصل الجيش إلى الزلاقة في شمال البلاد الإسلامية، وعدده يربو على الثلاثين ألف رجل.
    ولا نعجب فهذه هي أهمية القدوة وفِعْلِها في المسلمين، وصورتها كما يجب أن تكون، تحرَّكت مكامن الفطرة الطيبة، وعواطف الأُخُوَّة الصادقة، والغَيْرَة على الدين الخاتِم، تلك الأمور التي تُوجَد لدى عموم المسلمين بلا استثناء، وتحتاج فقط إلى مَنْ يُحَرِّكها من سُباتها.
    التحرك نحو الزلاقة

    تحرَّك الثلاثون ألف رجل بقيادة يوسف بن تاشفين ليصلوا إلى الزلاقة، وهو ذلك المكان الذي دارت فيه موقعة هي من أشهر المواقع الإسلامية في التاريخ.
    كان النصارى قد استعدُّوا لقدوم يوسف بن تاشفين فجمعوا عددًا ضخمًا من المقاتلين، بلغ في بعض التقديرات أكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل[3]، على رأسهم ألفونسو السادس بعد أن جاءه العون من الممالك النصرانية فرنسا وإيطاليا وغيرها، وقَدِمَ ألفونسو السادس يحمل الصلبان وصور المسيح، وهو يقول: بهذا الجيش أقاتل الجنَّ والإنس، وأقاتل ملائكة السماء. فهو يعرف تمامًا أنها حرب صليبية ضد الإسلام[4].
    الرسائل والحرب الإعلامية:

    رسالة ألفونسو إلى يوسف بن تاشفين



    رسمة للملك الفونسو لحظة دخوله طليطلة.

    كان ألفونسو السادس من قبل هذا أرسل إلى يوسف بن تاشفين رسالة كلها غرور واستعلاء، وهذا نصها:
    باسمك اللهمَّ فاطر السموات والأرض، وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته، الرسول الفصيح، أما بعدُ: فإنه لا يخفى على ذي ذهنٍ ثاقب، ولا ذي عقل لازب، أنك أمير الملة الحنيفية كما أني أمير الملة النصرانية، وقد علمتَ الآن ما عليه رؤساء أهل الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية، وإخلادهم إلى الراحة، وأنا أسومهم بحُكم القهر وجلاء الديار، وأسبي الذراري وأُمَثِّل بالرجال، ولا عذر لك في التخلُّف عن نصرهم إذا أمكنتك يد القدرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منَّا بواحد منكم، فالآن خَفَّف الله عنكم، وعلم أن فيكم ضعفًا، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا، لا تستطيعون دفاعًا ولا تملكون امتناعًا، وقد حُكِيَ لي عنك أنك أخذتَ في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتماطل نفسك عامًا بعد عام، تُقَدِّم رِجْلاً وتؤخِّر أخرى، فلا أدري أكان الجُبن أبطأ بك أم التكذيب بما وعد ربُّك، ثم قيل لي: إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلاً لعلَّةٍ لا يسوغ لك التقحُّم معها، وها أنا أقول لك ما فيه الراحة لك، وأعتذر لك وعنك، على أن تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهان، وتُرسل إليَّ جملة من عبيدك بالمراكب والشواني والطرائد والمسطحات، وأجوز بجملتي إليك، وأقاتلك في أعزِّ الأماكن لديك، فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جُلبت إليك، وهدية عظيمة مَثَلَتْ بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحقيت إمارة الملَّتَيْنِ والحُكم على البرَّيْنِ، والله تعالى يُوَفِّقُ للسعادة ويُسَهِّل الإرادة، لا ربَّ غيره، ولا خير إلاَّ خيره، إن شاء الله تعالى[5].
    رسالة يوسف بن تاشفين إلى ألفونسو

    فلما تمَّ عبور جيش المرابطين إلى الأندلس أرسل يوسف بن تاشفين برسالة إلى ألفونسو السادس يقول له فيها: بلغنا يا أذفونش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيت أن تكون لك سفن تعبر بها البحر إلينا، فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله تعالى في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14، غافر: 50] وخيَّره يوسف بن تاشفين بين الإسلام والجزية والحرب[6].
    تَسَلَّم ألفونسو السادس الرسالة وما أن قرأها حتى استشاط غضبًا و«جاش بحر غيظه، وزاد في طغيانه وكفره، وقال: أبمثل هذه المخاطبة يخاطبني، وأنا وأبي نغرم الجزية لأهل مِلَّته منذ ثمانين سنة؟!» ثم أرسل ليوسف بن تاشفين متوعِّدًا ومُهَدِّدًا: فإني اخترت الحرب، فما ردُّك على ذلك؟ وعلى الفور أخذ يوسف بن تاشفين الرسالة، وقلبها وكتب على ظهرها: الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأُذنك، والسلام على مَنِ اتَّبع الهدى. فلما وقف ألفونسو على هذا الجواب ارتاع له، وعلم أنه بُلي برجل لا طاقة له به[7].

    دولة المرابطين في اقصى اتساع لها.

    قال صاحب (الروض المعطار): «ولما تحقق ابن فرذلند[8] -ألفونسو السادس- جواز يوسف استنفر جميع أهل بلاده وما يليها وما وراءها، ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم، ونشروا أناجيلهم، فاجتمع له من الجلالقة والإفرنجة وما يليهم ما لا يُحصى عدده، وجعل يُصغي إلى أنباء المسلمين متغيِّظًا على ابن عباد، حانقًا ذلك عليه، متوعِّدًا له، وجواسيس كل فريق تتردَّد بين الجميع، وبعث -ألفونسو السادس- إلى ابن عباد أن صاحبكم يوسف قد تعنى من بلاد بعيدة وخاض البحور، وأنا أكفيه العناء فيما بقي، ولا أُكَلِّفكم تعبًا، أنا أمضي إليه وألقاكم في بلادكم؛ رفقًا بكم وتوفيرًا عليكم. وقال لأهل ودِّه ووزرائه: إني رأيت إن أمكنتهم من الدخول إلى بلادي فناجزوني[9] بين جدرها ربما كانت الدائرة عليَّ؛ فيكتسحون البلاد، ويحصدون مَنْ فيها في غداة واحدة، لكن أجعل يومهم معي في حوز بلادهم، فإن كانت عليَّ اكتفوا بما نالوه، ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلاَّ بعد أهبة أخرى، فيكون في ذلك صونٌ لبلادي، وجبرٌ لمكاسري، وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خِفْتُ أنا أن يكون منهم فيَّ وفي بلادي إذا ناجزوني في وسطها[10].

    الطراز المعمارى للاندلس

    محاولة ماكرة من ألفونسو السادس


    وفي محاولة ماكرة لخديعة المسلمين أرسل ألفونسو السادس يُحَدِّدُ يوم المعركة، فأرسل أن: غدًا الجمعة، ولا نُحِبُّ مقاتلتكم فيه؛ لأنه عيدكم، وبعده السبت يوم عيد اليهود، وهم كثيرون في محلَّتنا، ونحن نفتقر إليهم، وبعده الأحد عيدنا، فلنحترم هذه الأعياد، ويكون اللقاء يوم الاثنين[11].
    تَسَلَّم يوسف بن تاشفين الرسالة، وكاد ينخدع بها لأنه كان يعتقد أن الملوك لا تغدر[12]، ولقد كانت هذه أولى جولاته مع النصارى، إلاَّ أن المعتمد بن عباد فهم الخديعة ونبَّه يوسف بن تاشفين إلى ما قد يكون فيها من الغدر[13].
    رؤيا ابنرميلة

    بحذر تامٍّ لم يلتفت يوسف بن تاشفين إلى ما جاء في رسالة ألفونسو السادس، وقام بتعبئة الجيش وتجهيزه يوم الخميس، ووضعه على أتمِّ الاستعداد.
    إنها لحظة لم يتذوَّقها الأندلسيون منذ سنوات وسنوات في أرض الأندلس، يقوم جيش مسلم ويستعد لحرب النصارى من بعد سنوات الذل والهزيمة والجزية، ولا شكَّ أنها لحظات تتلقاها قلوب المؤمنين باشتياق، كاشتياقها إلى الشهادة، ويأمر يوسف بن تاشفين بقراءة سورة الأنفال، ويأمر الخطباء بتحفيز الناس على الجهاد، ويمرُّ هو بنفسه –رحمه الله- على الفصائل ينادي ويقول: طوبى لمن أحرز الشهادة، ومَنْ بقي فله الأجر والغنيمة. وجاء في الروض المعطار: ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والعُبَّاد يعظون الناس ويحضُّونهم على الصبر، ويُحَذِّرُونهم الفرار[14].
    وفي ليلة الجمعة كان ينام مع الجيش شيخ كبير من شيوخ المالكية في قرطبة، وهو الفقيه الناسك أبو العباس أحمد ابن رميلة القرطبي، والذي قال عنه ابن بشكوال في الصلة: كان معتنيًا بالعلم، وصُحبة الشيوخ، وله شعر حسن في الزهد، وكان كثير الصدقة وفعل المعروف، وكان أبو العباس هذا من أهل العلم والورع والفضل والدين[15].
    لم تكن مهمَّة الشيخ يومها هي مجرَّد الجلوس في المسجد، أو إلقاء الدروس، أو تعليم القرآن فقط، فقد كان هذا الشيخ يَفْقَه أمور دينه، ويعلم أن هذا الجهاد هو ذروة سنام هذا الدين، وفي هذه الليلة يرى ابن رُمَيْلَة هذا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول له: «يَا ابْنَ رُمَيْلَةَ، إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ، وَإِنَّكَ مُلاقِينَا».
    يستيقظ ابنُ رُمَيْلَة من نومه وهو الذي يعلم أن رؤية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المنام حقٌّ؛ لأن الشيطان لا يتمثَّل به صلى الله عليه وسلم؛ ففي البخاري بسنده عن أنسٍ -رضي الله عنه- قال: قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَخَيَّلُ بِي، وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»[16].
    يقوم الشيخ فرحًا مسرورًا، لا يستطيع أن يملك نفسه، فقد بشَّره الرسول -صلى الله عليه وسلم، وسيموت في سبيل الله، فالْحُسْنَيَيْن أمام عينيه، نصر للمؤمنين وشهادة تناله، فيا لها من فرحة! ويا له من أجر!
    وعلى الفور يذهب ابن رميلة –رحمه الله- في جنح الليل فيُوقظ قادة المسلمين حتى أيقظ المعتمد بن عباد، وقصَّ عليهم رؤيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذه الرؤيا قد هزَّت ابن عباد فأرسل بخبرها إلى يوسف بن تاشفين وكلِّ قوَّاد الجيش، وقاموا من شدَّة فرحهم وفي منتصف الليل وأيقظوا الجيش كله على صوت: رأى ابن رُمَيْلَة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له: «إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ، وَإِنَّكَ مُلاقِينَا»[17].

    مخابرات المعتمد بن عباد

    كان المعتمد بن عباد يراقب –فيما يراقب- معسكر المرابطين أيضًا «خوفًا عليهم من مكائد ابن فرذلند؛ إذ هم غرباء لا عِلْمَ لهم بالبلاد، وجعل يتولَّى ذلك بنفسه؛ حتى قيل: إن الرجل من الصحراويين -المرابطين- كان يخرج عن طرق محلاتهم لبعض شأنه أو لقضاء حاجته فيجد ابن عباد بنفسه مطيفًا بالمحلَّة بعد ترتيب الكراديس –وهي كتائب الخيل- من خيل على أفواه طرق محلاتهم، فلا يكاد الخارج منهم عن المحلة يُخطئ ذلك من لقاء ابن عباد لكثرة تطوافه عليهم»[18].
    ثم جاء في الليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة ألفونسو وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة، ثم تلاحقت بقية الطلائع محقِّقين بتحرُّك ألفونسو، ثم جاءت الجواسيس من داخل معسكر ألفونسو يقولون: «استرقنا السمع الساعة، فسمعنا ابن فرذلند يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الجهاد، غير عارفين بهذه البلاد، وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه، وإن انكشف لكم هان عليكم هؤلاء الصحراويون بعده، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة». وعند ذلك بعث ابن عباد كاتبه أبا بكر ابن القصيرة إلى يوسف يُعَرِّفه بإقبال ألفونسو ويستحثُّ نُصرته، فمضى ابن القصيرة يطوي الأرض طيًّا حتى جاء يوسف بن تاشفين فعَرَّفه جلية الأمر[19].

    جامع قرطبة.

    الجيش الإسلامي وخطة الإعداد والهجوم

    أعد ترتيب الجيش وصلاة فجر يوم الجمعة الموافق 12 من شهر رجب 479هـ=23 من أكتوبر 1086م، نقض ألفونسو السادس عهده، وبدأ بالهجوم في ذلك اليوم؛ إذ الغدر والخيانة ومخالفة العهود هو الأصل عندهم.
    ولقد صُدم الجيش الإسلامي، وفوجئ بالفعل -كما ستؤكد الرسالة التي كتبها يوسف بن تاشفين نفسه فيما بعد- وانحطَّ عليه جيش النصارى بكتائب «تملأ الآفاق»، وبدت الصدمة الأولى صدمة هائلة حقًّا!
    كان الجيش الإسلامي قد انقسم إلى ثلاث فرق رئيسة:

    الأولى: فرقة الأندلسيين



    وتضم الجيش الأندلسي وعلى رأسه المعتمد بن عباد ومعه ملوك الأندلس؛ ابن صمادح صاحب ألمرية، وعبد الله بن بلقين صاحب غرناطة، وابن مسلمة صاحب الثغر الأعلى، وابن ذي النون، وابن الأفطس.. وغيرهم، وقد أمرهم يوسف أن يكونوا مع المعتمد[20]، كان المعتمد في القلب والمتوكل بن الأفطس في ميمنتها، وأهل شرق الأندلس في ميسرتها، وسائر أهل الأندلس الآخرين في مؤخرة هذه الفرقة[21]، وقد اختار المعتمد أن يكون في المقدمة وأول مَنْ يصادم الجيش الصليبي[22].
    يُريد بذلك أن يغسل عار السنين السابقة وما رآه من ذل وهوان، أو لعله كان يُريد أن يحوز القدر الأعلى من النصر إن تم؛ فيُنسب الأمر له، والله أعلم بالنوايا.
    وقيل في روايات أخرى بأن يوسف بن تاشفين خشي ألا يثبت المعتمد بن عباد، وألا يبذل جهده في الحرب، فكان وضعه في المقدمة بطلب من يوسف بن تاشفين[23].
    الثانية: فرقة من جيش المرابطين


    الجزيرة الخضراء مقر معسكر المرابطين.

    وعلى رأسهم البطل المرابطي الكبير داود ابن عائشة، وكانت هذه الفرقة خلف الجيش الأندلسي.
    الثالثة: جيش المرابطين الرئيسي

    بقيادة يوسف بن تاشفين يختفي خلف أحد التلال على مسافة من الجيش، بحيث لا يُرى هذا الجيش، فيُظَنُّ أن كل جيش المسلمين هو الفرقتان الأوليان: جيش الأندلسيين وجيش المرابطين الذي يقوده داود ابن عائشة[24].
    وقد أراد يوسف بن تاشفين من وراء ذلك أن تحتدم الموقعة فتُنْهك قوى الطرفين حتى لا يستطيعا القتال، وكما يحدث في سباق الماراثون فيقوم هو ويتدخَّل بجيشه ليَعدل الكِفَّة لصالح صفِّ المسلمين[25].
    لم تكن خطَّة يوسف بن تاشفين -رحمه الله- جديدة في حروب المسلمين؛ فقد كانت هي الخطة نفسها التي استعملها خالد بن الوليد t في موقعة الولجة في فتوح فارس، وهي -أيضًا- الخطة نفسها التي استعملها النعمان بن مقَرِن في موقعة نهاوند في فتوح فارس أيضًا، فكان يوسف بن تاشفين –رحمه الله- رجلاً يقرأ التاريخ ويعرف رجالاته ويعتبر بهم.
    معركة الزلاقة:


    المضيق الذي عبر منه المرابطون.

    هجوم ألفونسو على المعتمد

    لما كان يوم الجمعة الموافق 12 من شهر رجب 479هـ= 23 من أكتوبر 1086م هجم ألفونسو السادس بجيشه الضخم على الجيش الأول للمسلمين (الجيش الأندلسي)، مال ألفونسو السادس على المعتمد بجموعه وأحاطوا به من كل جهة فاستحر القتل فيهم، وصبر ابن عباد –وجيشه الأندلسي- صبرًا لم يُعهد مثله لأحد، واستبطأ يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعَضَّته الحرب، واشتدَّ البلاء، وأبطأ عليه الصحراويون، وساءت ظنون أصحابه، وانكشف بعضهم وفيهم ابنه عبد الله، وأُثْخِنَ ابن عباد جراحات وضُرِبَ على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه، وجرحت يمنى يديه، وطُعن في أحد جانبيه، وعُقرت تحته ثلاثة أفراس، كلما هلك واحد قُدِّمَ له آخر، وهو يقاسي حياض الموت يضرب يمينًا وشمالاً، وتَذَكَّر في تلك الحال ابنًا له صغيرًا كان مغرمًا به، كان تركه بإشبيلية عليلاً اسمه المعلى وكنيته أبو هاشم، فقال: [المتقارب]
    ابَا هَاشِمٍ هَشَّمَتْنِي الشِّفَارُ *** فَلِلَّهِ صَبْرِي لِذَاكَ الأُوَارُ[26]
    ذَكَرْتُ شَخِيصَكَ تَحْتَ الْعَجَاجِ[27] *** فَلَمْ يُثْنِنِي ذِكْرُهُ لِلْفِرَارِ
    ثم ما هو إلا أن انضم إليه القسم الأول من جيش المرابطين وقائده داود ابن عائشة، وكان بطلاً شهمًا فنَفَّس بمجيئه عن ابن عباد[28].
    إلا أن ألفونسو كان قد قسَّم هو الآخر جيشه إلى قسمين، فانهال بالقسم الآخر على جيش المرابطين الذي يقوده داود ابن عائشة بأعداد ضخمة، «فاقتتلوا قتالاً عظيمًا، وصبر المرابطون صبرًا جميلاً، وداسهم اللعين بكثر جنوده حتى كاد يستأصلهم، وكانت بينهم مضاربة تفلَّلت فيها السيوف، وتكسَّرت الرماح، وسارت الفرقة الثانية من عسكر اللعين مع البرهانس وابن رذمير نحو ملحة (لعله يقصد محلة) ابن عباد، فداسوها، واستمرَّت الهزيمة على رؤساء الأندلس إلى جهة بطليوس، ولم يثبت منهم غير ابن عباد وجيشه، فإنهم ثبتوا في ناحية يُقاتلون لم ينهزموا، وقاتلوا قتالاً شديدًا، وصبروا صبر الكرام لحرب اللئام...» [29]. وبدا المعسكر الإسلامي مرة أخرى في حالة الهزيمة.
    تحرك يوسف بن تاشفين


    مسير جيش المرابطين من المغرب حتى الزلاقة.

    وهنا بدأ تحرك الجيش المرابطي الرئيسي الذي يقوده ابن تاشفين، وذلك بعد أن كانت قد أُنهكت قوى الطرفين من المسلمين والنصارى، وبعد طول صبر ينزل يوسف بن تاشفين بالقسم الرئيسي من جيش المرابطين الذين كانوا معه، وهم في كامل قوتهم، فيحاصرون الجيش النصراني.
    قسَّم يوسف بن تاشفين الجيش الذي كان معه إلى قسمين: فالأول وقائده سير ابن أبي بكر - في قبائل المغرب وزناتة والمصامدة وغمارة وسائر قبائل البربر- يساعد جيش المسلمين الذي يقوده داود ابن عائشة والمعتمد بن عباد، والقسم الثاني بقيادته هو ومعه باقي قبائل صنهاجة والمرابطين يلتفُّ خلف جيش النصارى، ويقصد مباشرة إلى معسكرهم، «فأضرمها نارًا وأحرقها، وقتل مَنْ كان بها من الأبطال والرجال والفرسان، الذين تركهم ألفونسو بها يحرسونها ويحمونها، وفرَّ الباقون منهزمين نحو ألفونسو، فأقبلت عليهم خيله من محلته فارِّين، وأمير المسلمين يوسف في أثرهم بساقته وطبوله وبنوده، وجيوش المرابطين بين يديه يحكمون في الكفرة سيوفهم، ويروونها من دمائهم، فقال ألفونسو السادس: ما هذا؟! فأُخبر الخبر بحرق محلته ونهبها، وقتل حماتها، وسبي حريمها، فردَّ وجهه إلى قتاله، وصمم أمير المسلمين نحوه، فانتشبت الحروب بينهما، فكانت بينهما حروب عظيمة لم يُسمع قط بمثلها...» [30].
    وحين علم النصارى أن المسلمين من ورائهم، وأنهم محاصَرون «ارتاعت قلوبهم، وتجلجلت أفئدتهم، ورأوا النار تشتعل في محلتهم، وأتاهم الصريخ بهلاك أموالهم، وأخبيتهم، فسُقط في أيديهم، فثَنَوْا أعنَّتهم، ورجعوا قاصدين محلتهم، فالتحمت الفئتان، واختلطت الملتان، واشتدت الكَرَّات، وعظمت الهجمات، والحروب تدور على اللعين، وتطحن رءوس رجاله، ومشاهير أبطاله، وتقذف بخيلهم عن يمينه وشماله، وتداعى الأجناد والحشم والعبيد للنزال، والترجُّل عن ظهور الخيل، ودخول المعترك، فأمدَّ الله المسلمين بنصره، وقذف الرعب في قلوب المشركين»[31].

    موقع سهل الزلاقة على الخريطة.

    اضطراب جيش النصارى

    وهكذا حوصر جيش النصارى بين الجيش الأندلسي من الأمام، وجيش المرابطين من الخلف، وبالفعل بدأ الاضطراب والتراجع في صفوف النصارى، وقد التفَّ جنود النصارى حول ألفونسو السادس يحمونه، ثم حدثت خلخلة عظيمة في جيشهم.
    يقول الحميري: «فبادر إليه يوسف، وصدمهم بجمعه، فردَّهم إلى مركزهم، وانتظم به شمل ابن عباد، ووجد ريح الظفر، وتباشر بالنصر، ثم صدقوا جميعًا الحملة، فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم، وخاضت الخيل في الدماء، وصبر الفريقان صبرًا عظيمًا، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف، وحمل معه حملة نزل معها النصر، وتراجع المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين فصدقوا الحملة»[32].

    نهر يانة الذي عسكر بجانبه الجيشان.


    تقسيم دويلات ملوك الطوائف قبل دخول المرابطين الأندلس.

    انتصار المسلمين

    تزداد شراسة الموقعة حتى قُبيل المغربِ، ثم ومن بعيدٍ يُشير يوسف بن تاشفين إلى أربعة آلاف فارسٍ من رجال السودان المهرة، وهم حرسه الخاص فيترجلون عن خيولهم، ليقتحموا –فيما يشبه المهمة الخاصة- قلب جيش النصارى وينفذون إلى ملكهم، وبالفعل نفذ أربعة آلاف مقاتل إلى قلب المعمعة، واستطاع أحدهم أن يصل إلى ملك قشتالة، وأن يطعنه بخنجره في فخذه طعنة نافذة [33].
    يصف صاحب الحلل الموشية هذه اللحظات من المعركة بقوله: «واشتدت الكَرَّات، وعظمت الهجمات، والحروب تدور على اللعين، وتطحن رءوس رجاله، ومشاهير أبطاله، وتقذف بخيلهم عن يمينه وشماله، وتداعى الأجناد والحشم والعبيد للنزال، والترجُّل عن ظهور الخيل، ودخول المعترك فأمدَّ الله المسلمين بنصره... وفي أثناء ذلك، تلاقى بالطاغية أذفنش غلام أسود بيده خنجر يدعوه البرابر بالأفطس، قطع جرز درعه، وطعنه في فخذه مع مدار سرجه، فكان أذفنش يقول بعد ذلك: التحق بي غلام أسود فضربني في الفخذ بمنجل أراق دمي. فتخيل له الأفطس أنه منجل لكونه رآه معوجًا»[34].
    ويقول لسان الدين بن الخطيب: «ولم تزل الكَرَّات بين المحلات تتعاقب، والهجمات سجالاً تداول، والحرب تدور، وأَمَرَ الأميرُ يوسف العبيدَ فترجَّلوا عن الخيل في نحو ألف، ودخلوا المعرك بالمزارق (الرماح القصيرة الخفيفة) لعجز السلاح عن الخيل الدارعة، فأثرت فيها بالطعن، وجعلت ترمح بفرسانها، ولصق منهم بالأذفونش عبد قبض على عنانه، وضربه بخنجر...» [35]. وبقي أثر الطعنة مع ألفونسو بقية عمره، فكان يعرج منها[36].

    ثم لجأ ألفونسو إلى تل يحتمي به كان قريبًا من معسكره ومعه نحو الخمسمائة فارس كلهم مكلوم، وأباد القتل والأسر مَنْ عداهم من أصحابهم... ولما جاء الليل تسلل وهو لا يلوي على شيء، وأصحابه يتساقطون في الطريق واحدًا بعد واحد من أثر جراحهم، فلم يدخل طُلَيْطلَة إلا في دون المائة[37]، وبعض الروايات تقول بأن الذين نجوا أقل من الثلاثين[38]. وغنم المسلمون كل ما لهم من مال وسلاح ودواب وغير ذلك[39]. واستشهد من المسلمين فيها حوالي ثلاثة آلاف رجل[40].
    وبذلك كانت الزلاقة دون مبالغة كمعركتي اليرموك والقادسية.
    كان رأي المعتمد بن عباد أن يواصل الجيش مطاردته لألفونسو المنحسب حتى يقضي عليه نهائيًّا، ولكن ابن تاشفين كان يرى أن الضغط عليهم وإرهاقهم يجعلهم يستبسلون في القتال، فيقاتلون قتال مَنْ لا يرى حياته إلا بموت خصمه، وفي هذا ضرر على المسلمين، لا سيما وأن مطاردة ألفونسو وهو على هذا الحال قد تُوقع في طريقه بعض المسلمين المنسحبين، الذين يتواصل عودتهم إلى الجيش مع انقلاب كفة المعركة، وهم بالنسبة له أقل قوة وهو أقدر على الإيقاع بهم، فإن انتظروا هذا اليوم فتكامل عدد المسلمين برجوع الذين انسحبوا، هان عليهم أن يقاتلوه في اليوم الثاني، وردَّ عليه ابن عباد بقوله: إن فرَّ أمامنا لقيه أصحابنا المنهزمون فلا يعجزون عنه. إلا أن يوسف أصرَّ على الامتناع وقال: الكلب إذا أُرهق لا بُدَّ أن يعضَّ[41].
    ونحن إذ نقرأ التاريخ الآن نرى أن ابن عباد كان أصوب رأيًّا من ابن تاشفين في هذا الأمر، فلقد استمر ألفونسو يقاتل المسلمين بعدها عشرين سنة ولم يضعف ولم يتوانَ، ويُتوقع أن لو كان قُضي عليه في يوم الزلاقة لكنا نكتب الآن تاريخًا آخر، ولكان المسلمون استطاعوا أن يستعيدوا طُلَيْطلَة مرة أخرى.. إلاَّ أنه لا يسعنا أن نعترف بأننا نقول الرأي الآن بعدما انتهت الأحداث وانقشعت المعارك، وما ندري لو كنا في ذلك الموقف ماذا قد يكون الاختيار.
    واستشهد في ذلك اليوم جماعة من الفضلاء والعلماء وأعيان الناس؛ مثل: ابن رميلة صاحب الرؤية المذكورة، وقاضي مَرَّاكُش أبي مروان عبد الملك المصمودي.. وغيرهما، رحمهم الله تعالى[42].
    وما أن تنتهي أحداث الزلاقة حتى يصل إلى يوسف بن تاشفين نبأ مُفزع من بلاده بالمغرب، إنه يحمل مصيبة قد حَلَّت به وبداره، فابنه الأكبر قد مات، فيعجل هذا برجوع ابن تاشفين إلى المغرب[43].
    زهد وورع يوسف بن تاشفين


    مخطوطة باسم يوسف بن تاشفين.

    بعد هذه المعركة جمع المسلمون من الغنائم الكثير، لكن يوسف بن تاشفين وفي صورة مشرقة ومشرِّفة من صور الإخلاص والتجرُّد، وفي درس عملي بليغ لأهل الأندلس عامَّة، ولأمرائهم خاصَّة يترك كل هذه الغنائم لأهل الأندلس، ويرجع في زُهدٍ عجيب وورع صادق إلى بلاد المغرب، لسان حاله: {لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان: 9].
    قال المقري في نفح الطيب: وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام؛ حتى جمعت الغنائم، واستُؤْذِن في ذلك السلطان يوسف، فعفَّ عنها، وآثر بها ملوك الأندلس، وعَرَّفهم أن مقصدَه الجهاد والأجر العظيم، وما عند الله في ذلك من الثواب المقيم، فلمَّا رأتْ ملوك الأندلس إيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه، وأحبُّوه وشكروا له ذلك[44].
    عودة إلى المغرب


    قبر المعتمد وزوجته الرميكية

    يعود يوسف بن تاشفين –رحمه الله- إلى بلاد المغرب بعد أن جمع ملوك الأندلس وأَمَرَهم بالاتفاق، وإطراح التنابذ والتخاصم؛ حتى لا يُضيعوا بحماقاتهم ثمار هذا النصر[45]، وعاد يوسف بن تاشفين البطل الإسلامي المغوار وعمره آنذاك تسع وسبعون سنة!
    كان من الممكن ليوسف بن تاشفين –رحمه الله- أن يُرسل قائدًا من قوَّاده إلى أرض الأندلس، ويبقى هو في بلاد المغرب، بعيدًا عن تخطِّي القفار وعبور البحار، وبعيدًا عن ويلات الحروب وإهلاك النفوس، وبعيدًا عن أرض غريبة وأناس أغرب؛ لكنه –رحمه الله- وهو الشيخ الكبير يتخطَّى تلك الصعاب، ويركب فرسه، ويحمل رُوحه بين يديه، لسان حاله: أذهبُ إلى أرض الجهاد لعلِّي أموتُ في سبيل الله.
    شعاره هو: [الوافر]
    إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومٍ *** فَلاَ تَقْنَعُ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
    فَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ *** كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ[46]
    لكن يوسف بن تاشفين –رحمه الله- لم يمت هناك، فلا نامت أعين الجبناء.
    المعتمد على الله بن عباد وشرف الجهاد
    ولما دخل ابن عباد إشبيلية جلس للناس وهُنِّئ بالفتح، وقَرَأت القرَّاء، وقامت على رأسه الشعراء فأنشدوه، يقول عبد الجليل بن وهبون: حضرتُ ذلك اليوم وأعددتُ قصيدة أُنشده إياها، فقرأ القارئ: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} [التوبة: 40]. فقلتُ: بُعْدًا لي ولشعري، واللهِ! ما أبقت لي هذه الآية معنى أحضره وأقوم به، وطار ذكر ابن عباد بهذه الوقيعة وشهر مجده، ومالت إليه القلوب، وسالمته ملوك الطوائف، وخاطبوه جميعًا بالتهنئة، ولم يزل ملحوظًا معظَّمًا إلى أن كان من أمره مع يوسف ما كان[47].

    [1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 8/447، وابن الأبار: الحلة السيراء، 2/100، وابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/116، وتاريخ ابن خلدون، 6/186، والحميري: الروض المعطار، ص92، والمقري: نفح الطيب، 4/364، والسلاوي: الاستقصا، 2/43، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146.
    [2] المقري: نفح الطيب، 4/361.
    [3] تُعَبِّر المصادر التاريخية عن عدد الروم بالعبارات التي تفيد الكثرة والضخامة، وأما مَنْ ذكروا العدد فمنهم من قال: إنهم كانوا ثمانين ألف فارس، ومائتي ألف راجل. ومنهم من قال: إنهم كانوا ثمانين ألف فارس لابسين الدروع دون غيرهم. وهذه هي رواية صاحب الحلل الموشية الذي يعود ويقول بعد ذلك: إنه قُتل في هذه الغزوة من النصارى ثلاثمائة ألف. ومنهم من يقول: إنهم كانوا خمسين ألف مقاتل. ومنهم من يقول: إن أقل تقدير لهم أنهم كانوا أربعين ألف دارع، ولكل دارع أتباع.
    [4] الحميري: الروض المعطار، ص289، والمقري: نفح الطيب، 4/363، والسلاوي: الاستقصا، 2/42.
    [5] ذكرت بعض المصادر أن هذه الرسالة إنما أرسلها ألفونسو الثامن إلى يعقوب المنصور الموحدي بعد هذا بحوالي قرن من الزمان، إلا أن التحقيق يؤدي إلى أنها مرسلة من ألفونسو السادس إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين. انظر: ابن الأثير: الكامل 10/237، وابن خلكان: وفيات الأعيان 7/6، 7، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/198.
    [6] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والحميري: الروض المعطار، ص290، والحلل الموشية، ص53، والمقري: نفح الطيب، 4/363، والسلاوي: الاستقصا، 2/42.
    [7] ابن الأثير: الكامل، 8/446، ومجهول: الحلل الموشية، ص53.
    [8] فرذلند: هو التعريب لاسم فرناندو، أول من بدأ بحرب الاسترداد وأخذ الجزية من المسلمين، وابنه هو ألفونسو السادس، والذي يعرب اسمه إلى: ألفُنش ألفونش وأذفونش.
    [9] ناجزه: نازله وقاتله. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة نجز 5/413، والمعجم الوسيط 2/903.
    [10] الحميري: الروض المعطار، ص298، وما بعدها.
    [11] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والحلل الموشية، ص57.
    [12] عبد الواحد المراكشي: المعجب 194، 195.
    [13] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص147.
    [14] الحميري: الروض المعطار، ص290.
    [15] ابن بشكوال: الصلة، 1/118 144.
    [16] البخاري: كتاب التعبير، باب من رأى النبي r في المنام، 6593 واللفظ له، ومسلم: كتاب الرؤيا، باب قول النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي» 2266.
    [17] الحميري: الروض المعطار، ص290، والمقري: نفح الطيب، 4/365، والسلاوي: الاستقصا، 2/45.
    [18] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص147، والحميري: الروض المعطار، ص290.
    [19] الحميري: الروض المعطار، ص290، والمقري: نفح الطيب، 2/365، والسلاوي: الاستقصا، 2/45.
    [20] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والسلاوي: الاستقصا، 2/44، 45.
    [21] مجهول: الحلل الموشية ص59.
    [22] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/117.
    [23] ابن الأثير: الكامل، 8/447.
    [24] ابن الأثير: الكامل 8/447، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، وابن الخطيب: أعمال الأعلام القسم الثالث، ص242، 243.
    [25] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/118.
    [26] الأوار: شدَّة الشيء وقوته. ابن منظور: لسان العرب، مادة أور 4/35.
    [27] العجاج: الغبار. الجوهري: الصحاح، باب الجيم فصل العين 1/327، وابن منظور: لسان العرب، مادة عجج 2/318.
    [28] انظر: ابن الأثير: الكامل 8/477، وعبد الواحد المراكشي: المعجب ص194، 195، والحميري: الروض المعطار، ص291، والمقري: نفح الطيب، 4/366، والسلاوي: الاستقصا، 2/46.
    [29] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص147.
    [30] ابن الأثير: الكامل 8/477، وابن أبي زرع: روض القرطاس ص147 وما بعدها.
    [31] مجهول: الحلل الموشية ص59.
    [32] الحميري: الروض المعطار ص290 وما بعدها.
    [33] ابن خلكان في وفيات الأعيان، 7/118، والسلاوي: الاستقصا، 2/47، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/325.
    [34] مجهول: الحلل الموشية ص61.
    [35] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، القسم الثالث، ص243.
    [36] الحميري: الروض المعطار، ص290.
    [37] المصدر السابق، ص290 وما بعدها.
    [38] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/117.
    [39] ابن الأثير: الكامل 8/477، وابن خلكان: وفيات الأعيان 7/117.
    [40] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص148.
    [41] الحميري: الروض المعطار ص290 وما بعدها، ومجهول: الحلل الموشية ص59.
    [42] الحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/369، والسلاوي: الاستقصا، 2/48.
    [43] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص152، والحلل الموشية، ص66، والحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/370، والسلاوي: الاستقصا، 2/49.
    [44] المقري: نفح الطيب، 4/369.
    [45] انظر: عبد الله بن بلقين: التبيان، ص339، نقلاً عن حسن أحمد محمود: قيام دولة المرابطين، ص282، وسعدون عباس نصر الله: دولة المرابطين، ص97.
    [46] ديوان المتنبي، ص195.
    [47] الحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/370، والسلاوي: الاستقصا، 2/50.
    منقول بتصرف




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان


    حروب الردة (1)
    جهاد الصديق لأهل الردة
    علي بن محمد الصلابي
    (13)

    الردة التي قامت بها القبائل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها أسباب، منها: الصدمة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورقة الدين والسقم في فهم نصوصه، والحنين إلى الجاهلية ومقارفة موبقاتها، والتفلت من النظام والخروج على السلطة الشرعية..

    أولاً: الردة اصطلاحًا، وبعض الآيات التي حذرت من الردة:

    1- الردة اصطلاحًا:
    عرف النووي الردة بأنها: قطع الإسلام بنية أو قول كفر أو فعل، سواء قاله استهزاء أو عنادا أو اعتقادا، فمن نفى الصانع أو الرسل أو كذّب رسولاً أو حلل محرما بالإجماع كالزنا وعكسه، أو نفى وجوب مجمع عليه أو عكسه، أو عزم على الكفر أو تردد فيه كفر.
    وعرفها عليش المالكي بأنها: كفر المسلم بقول صريح أو لفظ يقتضيه أو بفعل يتضمنه.
    وعرف ابنُ حزم الظاهري (المرتدَ) بأنه: كل من صح عنه أنه كان مسلما متبرئا من كل دين حاشا دين الإسلام، ثم ثبت عنه أنه ارتد عن الإسلام وخرج إلى دين كتابي أو غير كتابي أو إلى غير دين.
    وعرفه عثمان الحنبلي: بأنه لغة: الراجع، قال تعالى: {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21]، وشرعا: من أتى بما يوجب الكفر بعد إسلامه.
    ومعنى هذا أن المرتد هو كل من أنكر معلوما من الدين بالضرورة كالصلاة والزكاة والنبوة وموالاة المؤمنين، أو أتى بقول أو فعل لا يحتمل تأويلاً غير الكفر.


    2- بعض الآيات التي أشارت إلى المرتدين:
    أطلق الله -سبحانه وتعالى- على المرتدين عن دينه عبارات تشير إلى هذا المرتكس الوبيل الذي تحولوا إليه، منها الردة على الأعقاب أو على الأدبار والانقلاب بالخسران وطمس الوجوه، ورد الأيدي في الأفواه والارتياب والتردد واسوداد الوجوه ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولا} [النساء: 47]، وجاء في تفسير ابن كثير: وطمسها أن تعمى وقوله: فنردها على أدبارها أي: تجعل لأحدهم عينين من قفاه، وهذا أبلغ في العقوبة والنكال، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة يهرعون ويمشون القهقري على أدبارهم.
    وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106].
    نقل القرطبي فيها جملة آراء منها رأي قتادة أنها في المرتدين، كما نقل حديثا لأبي هريرة وقال عنه: يستشهد به بأن الآية في الردة وهو: «يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول: يا رب أصحابي! فيقول: إنك لا علم لك ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري». وفي رواية أخرى لهذا الحديث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات اليمين فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم».

    ثانيًا: أسباب الردة وأصنافها:

    مواطن أهمُّ القبائل العربيَّة في شبه الجزيرة. ارتدَّت أغلب تلك القبائل عن الإسلام بعد وفاة النبيّ عدا قلَّةٌ قليلة مثل قُريش وثقيفوالأوسوالخزرج ومن جاور ديارها في مكَّة والمدينة والطائف.
    إن الردة التي قامت بها القبائل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها أسباب، منها: الصدمة بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورقة الدين والسقم في فهم نصوصه، والحنين إلى الجاهلية ومقارفة موبقاتها، والتفلت من النظام والخروج على السلطة الشرعية، والعصبية القبلية والطمع في الملك، والتكسب بالدين والشح بالمال، والتحاسد، والمؤثرات الأجنبية كدور اليهود والنصارى والمجوس، وسنتحدث عن كل سبب بإذن الله تعالى.

    وأما أصنافها: فمنهم من ترك الإسلام جملة وتفصيلاً وعاد إلى الوثنية وعبادة الأصنام، ومنهم من ادعى النبوة، ومنهم من دعا إلى ترك الصلاة، ومنهم من بقي يعترف بالإسلام ويقيم الصلاة ولكنه امتنع عن أداء زكاته، ومنهم من شمت بموت الرسول وعاد أدراجه يمارس عاداته الجاهلية، ومنهم من تحير وتردد وانتظر على من تكون الدبرة، وكل ذلك وضحه علماء الفقه والسير.
    قال الخطابي: إن أهل الردة كانوا صنفين: صنفا ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر، وهذه الفرقة طائفتان: إحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على دعواه في النبوة، وأصحاب الأسود العنسي ومن كان من مستجيبيه من أهل اليمن وغيرهم، وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مدعية النبوة لغيره، والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام ... وقد كان ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح (بها) ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك، وقبضوا أيديهم على ذلك.
    وقريب من هذا التقسيم لأصناف المرتدين تقسيم القاضي عياض غير أنهم عنده ثلاثة: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي، وكل منهما ادعى النبوة، وصنف ثالث استمروا على الإسلام ولكنهم جحدوا الزكاة، وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي صلى الله عليه وسلم.
    وقسم الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود المرتدين إلى أربعة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان والأصنام، وصنف اتبعوا المتنبئين الكذبة الأسود العنسي ومسيلمة وسجاح، وصنف أنكروا وجوب الزكاة وجحدوها، وصنف لم ينكروا وجوبها ولكنهم أبوا أن يدفعوها إلى أبي بكر .

    ثالثًا: الردة أواخر عصر النبوة:
    بدأت هذه الردة منذ العام التاسع للهجرة المسمى بعام الوفود، وهو العام الذي أسلمت فيه الجزيرة العربية قيادها للرسول صلى الله عليه وسلم ممثلة بزعمائها الذين قدموا عليه من أصقاعها المختلفة، وكانت حركة الردة في هذه الأثناء لما تستعلن بشكل واسع، حتى إذا كان أواخر العام العاشر الهجري وهو عام حجة الوداع التي حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل به وجعه الذي مات فيه وتسامع بذلك الناس، بدأ الجمر يتململ من تحت الرماد، وأخذت الأفاعي تطل برؤوسها من جحورها، وتجرأ الذين في قلوبهم مرض على الخروج، فوثب الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة، وطليحة الأسدي في بلاد قومه، ولما كان أخطر متمردين على الإسلام وهما الأسود العنسي ومسيلمة وأنهما مصممان كما يبدو على المضي في طريق ردتهما قدما دون أن يفكرا في الرجوع، وأنهما مشايعان بقوى غفيرة وإمكانيات وفيرة فقد أرى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من أمرهما ما تقر به عينه، ومن ثم ما تقر به عيون أمته من بعده، فقد قال يوما وهو يخطب الناس على منبره: «أيها الناس، إني قد أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، ورأيت أن في ذراعي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين: صاحب اليمن وصاحب اليمامة».

    ظفار يريم، موطن الحِميَّريين باليمن، حيثُ انطلقت شرارة الرِّدَّة والتنبؤ أواخر أيَّام الرسول مُحمَّد.
    وقد فسر أهل العلم بالتعبير هذه الرؤيا على هذه الصورة فقالوا: إن نفخه صلى الله عليه وسلم لهما يدل على أنهما يقتلان بريحه لأنه لا يغزوهما بنفسه، وإن وصفه لهما بأنهما من ذهب دلالة على كذبهما لأن شأنهما زخرف وتمويه، كما دل لفظ السوارين على أنهما ملكان؛ لأن الأساورة هم الملوك، ودلا بكونهما يحيطان باليدين أن أمرهما يشتد على المسلمين فترة لكون السوار مضيقا على الذراع.

    وعبر الدكتور علي العتوم بقوله:«... بأن طيرانهما بالنفخ دلالة على ضعف كيدهما مهما تضاخم، فشأنهما زبد لا بد أن يؤول إلى جفاء ما دام هذا الكيد مستمدًا من الشيطان فهو واهن لا محالة، إذ أقل هجمة مركزة في سبيل الله تحيلهما أثرًا بعد عين، وكونهما من ذهب دلالة على أنهما يقصدان من عملهما الدنيا؛ لأن الذهب رمز لحطامها الذي يسعى المغترون بها خلفه، وأنها سوارن إشارة إلى محاولتهما الإحاطة بكيان المسلمين عن طريق الإحاطة بهم من كل جانب، تماما كما يحيط السوار بالمعصم».



    رابعًا: موقف الصديق من المرتدين:

    لما كانت الردة قام أبو بكر رضي الله عنه في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأعفى. إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رث حبله وخَلَق ثوبه وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيرًا لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شرًّا لشر عندهم، وقد غيروا كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون أنهم في منعة من الله لا يعبدونه ولا يدعونه، فأجهدهم عيشًا وأظلهم دينًا, في ظلف من الأرض مع ما فيه من السحاب، فختمهم الله بمحمد وجعلهم الأمة الوسطى، ونصرهم بمن اتبعهم، ونصرهم على غيرهم، حتى قبض الله نبيه فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزل عليه، وأخذ بأيديهم، وبغى هلكتهم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} " [آل عمران: 144].
    إن من حولكم من العرب قد منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم –وإن رجعوا إليه- أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدم من بركة نبيكم، وقد وكلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالاً فهداه وعائلاً فأغناه: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَ} [آل عمران: 103].
    والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل منا شهيدًا من أهل الجنة، ويبقى من بقي منها خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الأَرْضِ} [النور: 55].
    وقد أشار بعض الصحابة -ومنهم عمر- على الصديق بأن يترك مانعي الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكون، فامتنع الصديق عن ذلك فلم يتردد لحظة واحدة بعد ظهور الصواب له، وعدم التردد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر –هذا الخليفة العظيم- في حياته كلها، ولقد اقتنع المسلمون بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه.


    لقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعد الصحابة نظرًا وأحقهم فهما وأربطهم جنانا وفي هذه الطامة العظيمة، والمفاجأة المذهلة، ومن هنا أتى قول سعيد بن المسيب -رحمه الله-: وكان أفقههم -يعني الصحابة- وأمثلهم رأيا.
    إن أبا بكر كان أنفذ بصيرة من جميع من حوله؛ لأنه فهم بإيمانه الذي فاق إيمانهم جميعا أن الزكاة لا تنفصل عن الشهادتين، فمن أقر لله بالوحدانية لا بد أن يقر له بما يفرض من حق في ماله، الذي هو مال الله أصلاً وأن لا إله إلا الله بغير زكاة لا وزن لها في حياة الشعوب، وأن السيف يشرع دفاعا عن أدائها تماما كما يشرع دفاعا عن لا إله إلا الله، تماما هذه كتلك. هذا هو الإسلام وغير هذا ليس من الإسلام. فقد توعد الله أولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85].
    كان موقف أبي بكر رضي الله عنه الذي لا هوادة فيه ولا مساومة فيه ولا تنازل موقفًا ملهمًا من الله، يرجع الفضل الأكبر -بعد الله تعالى- في سلامة هذا الدين وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته، وقد أقر الجميع وشهد التاريخ بأن أبا بكر قد وقف في مواجهة الردة الطاغية ومحاولة نقض عرى الإسلام عروة عروة، موقفَ الأنبياء والرسل في عصورهم، وهذه خلافة النبوة التي أدى أبو بكر حقها، واستحق بها ثناء المسلمين ودعاءهم إلى أن يرث الله
    الأرض وأهلها .


    خامسًا: خطة الصديق لحماية المدينة:

    انصرفت وفود القبائل المانعة للزكاة من المدينة بعدما رأت عزم الصديق وحزمه وقد خرجت بأمرين:

    أن قضية منع الزكاة لا تقبل المفاوضة، وأن حكم الإسلام فيها واضح، ولذلك لا أمل في تنازل خليفة المسلمين عن عزمه ورأيه، وخاصة بعدما أيده المسلمون وثبتوا على رأيه بعد وضوح الرؤية وظهور الدليل.
    أنه لا بد من اغتنام فرصة ضعف المسلمين -كما يظنون- وقلة عددهم لهجوم كاسح على المدينة يسقط الحكم الإسلامي فيها ويقضى على هذا الدين .
    قرأ الصديق في وجوه القوم ما فيها من الغدر، ورأى فيها الخسة وتفرس فيها اللؤم، فقال لأصحابه: إن الأرض كافرة وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهارا! وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم ونبذنا إليهم عهدهم فاستعدوا وأعدوا. ووضع الصديق خطته على الوجه التالي:
    أ- ألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد؛ حتى يكونوا على أكمل استعداد للدفاع.
    ب- نظم الحرس الذين يقومون على أنقاب المدينة ويبيتون حولها، حتى يدفعوا أي غارة قادمة.
    ج- عين على الحرس أمراءهم: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام،
    وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم.

    د- وبعث أبو بكر رضي الله عنه إلى من كان حوله من القبائل التي ثبتت على الإسلام من أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب يأمرهم بجهاد أهل الردة فاستجابوا له حتى امتلأت المدينة بهم، وكانت معهم الخيل والجمال التي وضعوها تحت تصرف الصديق، ومما يدل على كثرة رجال هذه القبائل وكبر حجم دعمها للصديق أن جهينة وحدها قدمت إلى الصديق في أربعمائة من رجالها ومعهم الظهر والخيل، وساق عمرو بن مرة الجهني مائة بعير لإعانة المسلمين، فوزعها أبو بكر في الناس.
    هـ- ومن ابتعد عن المرتدين وأبطأ خطره حاربه بالكتب يبعث بها إلى الولاة المسلمين في أقاليمهم، كما كان رسول الله يفعل، يحرضهم على النهوض لقتال المرتدين ويأمر الناس للقيام معهم في هذا الأمر، ومن أمثلة ذلك رسالته لأهل اليمن حيث المرتدة من جنود الأسود العنسي التي قال فيها: «أما بعد، فأعينوا الأبناء على من ناوأهم وحوطوهم واسمعوا من فيروز، وجدوا معه؛ فإني قد وليته». وقد أثمرت هذه الرسالة وقام المسلمون من أبناء الفرس بزعامة فيروز يعاونهم إخوانهم من العرب بشن غارة شعواء على العصاة المارقين حتى رد الله كيدهم إلى نحورهم، وعادت اليمن بالتدرج إلى جادة الحق.
    و- وأما من قرب منهم من المدينة واشتد خطره كبني عبس وذبيان فإنه لم ير بدًّا من محاربتهم على الرغم من الظروف القاسية التي كانت تعيشها مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أن آوي الذراري والعيال إلى الحصون والشعاب محافظة عليهم من غدر المرتدين، واستعد للنزال بنفسه ورجاله.



    سادسًا: فشل أهل الردة في غزو المدينة:
    بعد ثلاثة أيام من رجوع وفود المرتدين طرقت بعض قبائل أسد وغطفان وعبس وذبيان وبكر المدينةَ ليلاً وخلفوا بعضهم بذي حُسَي ليكونوا لهم ردءا، وانتبه حرس الأنقاب لذلك، وأرسلوا للصديق بالخبر، فأرسل إليهم أنِ الزموا أماكنكم ففعلوا، وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم، فانفش العدو فأتبعهم المسلمون على إبلهم، حتى بلغوا ذا حُسَى فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها وجعلوا فيها الحبال ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل فتدهده كل نحي فى طوله، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها –ولا تنفر الإبل من شيء نفارها من الأنحاء- فعاجت بهم ما يملكونها حتى دخلت بهم المدينة فلم يُصرع مسلم ولم يُصب. وقال عبد الله الليثي: وكانت بنو عبد مناة من المرتدة –وهم بنو ذبيان- في ذلك الأمر بذي القصة وبذي حسى:
    أطعنا رسول الله ما كان بيننا، فيا لعباد الله ما لأبي بكر، أيورثها بكرا إذا مات بعدهوتلك لعمر الله قاصمة الظهر ،فهلا رددتم وفدنا بزمانه، وهلا خشيتم حس راغية البك، وإن التي سالُوكُمُ فمنعتُمُ، لكالتمر أو أحلى إليَّ من التمر
    فظن القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر، فقدموا عليهم اعتمادًا في الذين أخبرهم وهم لا يشعرون لأمر الله -عز وجل- الذي أراده وأحب أن يبلغه فيهم، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ فعبَّى الناس، ثم خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي، وعلى ميمنته النعمان بن مقرن وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة سويد بن مقرن معه الركاب، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين همسا ولا حسا حتى وضعوا فيهم السيوف فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقتل حبال –أخو طليحة الأسدي- وأتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة -وكان أول الفتح – ووضع بها النعمان بن مُقَرن في عدد، ورجع إلى المدينة فذل بها المشركون، فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم كل قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم، وعز المسلمون بوقعة أبي بكر، وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل قتلة، وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة.
    وصمم الصديق رضي الله عنه على أن ينتقم للمسلمين الشهداء، وأن يؤدب هؤلاء الحاقدين، ونفذ قسمه وازداد المسلمون في بقية القبائل ثباتا على دينهم، وازداد المشركون ذلاً وضعفا وهوانا، وبدأت صدقات القبائل تفد على المدينة فطرقت المدينة صدقات نفر: صفوان ثم الزبرقان، ثم عدي، صفوان في أول الليل والثاني في وسطه، والثالث في آخره، وفي ليلة واحدة أثرت المدينة بأموال زكاة ستة أحياء من العرب، وكان كلما طلع على المدينة أحد جباة الزكاة قال الناس: «نذير» فيقول أبو بكر: «بل بشير»، وإذا بالقادم يحمل معه صدقات قومه فيقول الناس لأبي بكر: طالما بشرتنا بالخير، وخلال هذه البشائر التي تحمل معها بعض العزاء وشيئا من الثراء، عاد أسامة بن زيد بجيشه ظافرًا، وصنع كل ما كان الرسول قد أمره به وما أوصاه به أبو بكر الصديق ، فاستخلفه أبو بكر على المدينة وقال له ولجنده: أريحوا وأريحوا ظهركم، ثم خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على الأنقاب على ذلك الظهر، فقال له المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تُعرض نفسك! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو، فابعث رجلاً فإن أصيب أمرت آخر فقال: لا والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي.
    لقد ظهر معدن الصديق النفيس في محنة الردة على أجلى صورة للقائد المؤمن الذي يفتدي قومه بنفسه، فالقائد في فهم المسلمين قدوة في أعماله، فكان من آثاره هذه السياسة الصديقية أن تقوى المسلمون وتشجعوا لحرب عدوهم واستجابوا لتطبيق الأوامر الصادرة إليهم من القيادة، لقد خرج الصديق في تعبيته إلى ذي حس وذي القصة, والنعمان وعبد الله وسويد على ما كانوا عليه، حتى نزل على أهل الرَّبذة بالأبرق فهزم الله الحارث وعوفا وأخذ الحطيئة أسيرًا، فطارت عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أياما وقد غلب بنو ذبيان على البلاد. وقال: حرام على ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد إذ غنمناها الله وأجلاها، فما غلب أهل الردة ودخلوا في الباب الذي خرجوا منه، وسامح الناس جاءت بنو ثعلبة، وهي كانت منازلهم لينـزلوها فمنعوا منها فأتوه في المدينة فقالوا:
    علام نمنع من نزول بلادنا؟! فقال: كذبتم، ليست لكم ببلاد ولكنها مَوهبى ونَقَذى، ولم يُعتبهم، وحمى الأبرق لخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الربذة الناس على بني ثعلبة، ثم حماها كلها لصدقات المسلمين لقتال كان وقع بين الناس وأصحاب الصدقات، وقال في يوم الأبرق زياد بن حنظلة:

    ويوم بالأبارق قد شهدنـا *** على ذبيان يلتهـب التهابا
    أتيناهـم بداهيـة نَسُـوفٍ *** مع الصديق إذ ترك العتابا
    وهكذا يتعلم المسلمون من سيرة الصديق بأنه لم يكن يرغب بنفسه عن نفوس أتباعه بأي أمر من أمور الدنيا، وما اضطربت أمور المسلمين منذ زمن إلا لأنهم كانوا يعدون الرئاسة وسيلة للجاه وبابا لجلب المغانم ودرء المغارم، وإيثار للعافية والاكتفاء بالكلمات تزجي من وراء أجهزة الإعلام أو من غرف العمليات، بعيدًا عن المشاركة مشاركة حقيقة في قضايا الأمة المختلفة.

    إن خروج الصديق رضي الله عنه للجهاد ثلاث مرات متتالية يعتبر تضحية كبيرة وفدائية عالية، فقد ناشده المسلمون أن يبقى في المدينة ويبعث قائدًا على الجيش فلم يقبل؛ بل قال: لا والله لا أفعل ولأواسينكم بنفسي. وهذا يدل على تواضعه الجم واهتمامه الكبير بمصلحة الأمة، وتجرده من حظ النفس، وقد أصبح بذلك قدوة صالحة لغيره، فلا شك أن خروجه للجهاد ثلاث مرات متتاليات وهو الشيخ الذي بلغ الستين من عمره، قد أعطى بقية الصحابة دفعات قوية من النشاط والحيوية .
    وقد جاء في إحدى هذه الروايات أن ضرار بن الأزور حينما أخبر أبا بكر الصديق بخبر تجمع طليحة الأسدي قال: فما رأيت أحدًا -ليس رسول الله – أملأ بحرب شعواء من أبي بكر، فجعلنا نخبره ولكأنما نخبر بما له ولا عليه.
    وهذا وصف بليغ لما كان يتصف به أبو بكر من اليقين الراسخ والثقة التامة بوعد الله تعالى لأوليائه بالنصر على الأعداء والتمكين في الأرض، فأبو بكر لم يَفُق الصحابة بكبير عمل، وإنما فاقهم بحيازة الدرجات العلى من اليقين، رضي الله عنهم أجمعين.
    وقد روى أنه لما قيل له: لقد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها وبالبحار لغاضها، وما نراك ضعفت. فقال: ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حزني قال: لا عليك يا أبا بكر، فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام، فكان له رضي الله عنه مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية وقوة يقينية في الله عز وجل وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين، وهذه الشجاعة لا تحصل إلا لمن كان قوى القلب، وتزيد بزيادة الإيمان وتنقص بنقص ذلك، فقد كان الصديق أقوى قلبًا من جميع الصحابة لا يقاربه في ذلك أحد منهم.

    الهجوم الشامل على المرتدين


    تعددت وسائل وطرق التصدي والمواجهة للمرتدين، فكان للثابتين دور في مواجهة أقوامهم، فوقف بعض الثابتين في وجه أقوامهم واعظين لهم ومنبهين إلى خطورة ما هم مقدمون عليه من نقض ما يؤمنون به



    خط سير خالد بن الوليد في حُرُوب الرِّدَّة.

    تمهيد:
    تعددت وسائل وطرق التصدي والمواجهة للمرتدين، فكان للثابتين دور في مواجهة أقوامهم، فوقف بعض الثابتين في وجه أقوامهم واعظين لهم ومنبهين إلى خطورة ما هم مقدمون عليه من نقض ما يؤمنون به، وكانت الخطوة الأولى بالكلمة، ولم تكن الكلمة في يوم من الأيام هي أضعف المواقف وإنما هي أقواها؛ لأنها تستتبع مواقف جادة لتحديد مصداقية الكلمة، وقد تؤدي الكلمة بصاحبها إلى الذبح من أجل الشهادة للكلمة التي قالها؛ ففي كل قبيلة حصلت فيها ردة كانت هناك بعض المواقف للذين انفعلت قلوبهم للحق وتغذت به وعاشت عليه، هي التي رأت باطل ما يفعل كل قوم، ولهذا وقفوا لهم بالمرصاد يحذرون أقوامهم من سوء المصير الذي ينتظرهم، فما كان من قومهم إلا أن وقفوا في وجوههم ساخرين مستهزئين، ثم تمادوا إلى مطاردتهم وإخراجهم؛ بل وقتلهم في بعض الأحيان، ونجح بعضهم بالكلمة كعدي بن حاتم مع قومه، والجارود مع أهل البحرين ، وستري تفاصيل ذلك بإذن الله.
    وعندما فشل بعض المسلمين في وعظ أقوامهم تحولوا إلى تجمعات مسلمة ثابتة على إسلامها، واتخذت لها المواقف المناسبة ضد أقوامهم المرتدين، وكثير من المواقف بدأت بالكلمة ثم انتهت إلى العمل، كما حصل لمن ثبت من بني سليم؛ فقد حذرهم قومهم فانقسموا إلى قسمين ثابت ومرتد، فتجمع الثابتون وصاروا يجالدون قومهم المرتدين، وقام الأبناء في اليمن سرًا بتدبير قتل الأسود العنسي –كما سيأتي تفصيله- بعد أن كان موقفهم سلبيًّا في بطش الأسود العنسي، ووقف مسعود أو مسروق القيسي ابن عابس الكندي ينصح الأشعث بن قيس ويدعوه لعدم الردة، ودخل بينهما حوار طويل وتحد متبادل، وهكذا صارت بعض المواقف سببًا في إرجاع قومهم عن الردة، أو في تسهيل مهمة جيوش الدولة الإسلامية القادمة للقضاء على الردة.
    لقد اعتمدت سياسة الصديق في القضاء على الردة على الله تعالى، ثم على ركائز قوية من القبائل والزعماء والأفراد الذين انبثوا في جميع أنحاء الجزيرة وثبتوا على إسلامهم، وقاموا بأدوار هامة ورئيسية في القضاء على فتنة الردة. ولقد أخطأ بعض الكتاب عندما تناول فتنة الردة بشيء من التعميم أو عدم الدقة أو عدم الموضوعية أو سوء الفرض أو النظرة الجزئية .
    إن من الحقائق الأساسية حول هذه الفتنة أنها لم تكن شاملة لكل الناس كشمولها الجغرافي؛ بل إن هناك قادة وقبائل وأفرادًا وجماعات، وأفرادًا تمسكوا بدينهم في كل منطقة من المناطق التي ظهرت فيها الردة، ولقد قام الدكتور مهدي رزق الله أحمد بدراسة عميقة وأجاب عن سؤال طرحه وهو: هل كانت الردة في عهد الخليفة أبي بكر رضى الله عنه شاملة لكل القبائل العربية والأفراد والزعماء الذين كانوا مسلمين، أم أن هذه الفتنة قد وقعت فيها بعض القبائل وبعض الزعماء وبعض الأفراد في مناطق جغرافية مختلفة؟
    وبعد البحث قال: إن أول حقيقة تستخلص من المصادر التي أشرتُ إليها سابقًا: هي أنني لم أجد ما يدل على أن القبائل والزعماء والأفراد قد ارتدوا جميعًا عن الإسلام كما ذكر أولئك النفر الذين جعلناهم مثالا، بل وجدت أن الدولة الإسلامية اعتمدت على قاعدة صلبة من الجماعات والقبائل والأفراد الذين ثبتوا على الإسلام، وانبثوا في جميع أنحاء الجزيرة، وكانوا سندًا قويًا للإسلام ودولته في قمع حركة المرتدين منهم .

    المواجهة الرسمية على المرتدين




    أولاً: المواجهة الرسمية من الدولة:

    1- وسيلة الإحباط من الداخل:

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل هذه الوسيلة، فقام بمراسلة وبعث الرسل إلى قبائل المتنبئين لتجميع الثابتين على الإسلام، وليشكل بهم جماعة تحارب الردة، وسار الصديق رضي الله عنه على نفس المنهج، وحاول أن يحجم ويقضي على ما يمكن القضاء عليه من بؤر المرتدين، وقام بالتوعية ضدها والتخذيل منها وتنفير الناس عنها، واستطاع أن يتصل بالثابتين على الإسلام وجعل منهم رصيدًا للجيوش المنظمة؛ فقد كان يعد الأمة لمواجهة منظمة مع المرتدين بعد عودة جيش أسامة؛ فقد راسل الصديق زعماء الردة والثابتين على الإسلام ليحقق بعض الأهداف؛ ككسب الوقت حتى يرجع جيش أسامة، فكتب إلى من كتب إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم باليمن وغيرها؛ ليبذلوا جهدهم لدعوة الثابتين إلى الإسلام، وطلب من الثابتين التجمع في مناطق حددها لهم حتى يأتيهم أمره، وكان هذا الترتيب بداية للخطة العسكرية القادمة، وقد حالف التوفيق بعض الثابتين بالوصول إلى المدينة ومعهم صدقاتهم؛ مثل عدي بن حاتم الطائي، والزبرقان بن بدر التميمي.

    وتمكن الثابتون من إفشال حركة قيس بن مكشوح المرادي وبعض التجمعات القبلية في تهامة وبلاد السراة ونجران، وقد حققت هذه الوسيلة بعض النتائج، منها:
    أ- نجحت خطة الصديق في تحقيق حملات التوعية والدعاية والتعضيد للمسلمين والتخذيل لقوى المرتدين؛ تمهيدًا لاتخاذ الوسيلة الأخرى حينما تتوافر لها الإمكانات، وهي أداة الجيوش المنظمة.
    ب- أنها حققت أغراضها من حيث التربية وإعداد الثابتين على الإسلام ليكونوا قوادًا في حركة الفتوح الإسلامية فيما بعد؛ كعدي بن حاتم الطائي أحد قواد فتوح العراق.
    ج- تكوين قوى مسلمة مرابطة في بعض المراكز التي حددها لهم الصديق لتنضم بعد ذلك إلى الجيوش القادمة.
    د- القضاء على بعض مناطق الردة ولو بمحدودية ضيقة، مثلما حصل في جنوب الجزيرة العربية.
    إرسال الجيوش المنظمة
    وقد قسم أبو بكر الجيش الإسلامي إلى أحد عشر لواء وجعل على كل لواء أميرًا، وأمر كل أمير جند باستنفار من مر به من المسلمين التابعين من أهل القرى التي يمر بها وهم..

    لما وصل جيش أسامة بعد شهرين -وقيل أربعين يومًا- من مسيرهم واستراحوا، خرج أبو بكر الصديق بالصحابة -رضي الله عنهم- إلى ذي القصة، وهي على مرحلة من المدينة؛ وذلك لقتال المرتدين والمتمردين، فعرض عليه الصحابة أن يبعث غيره على القيادة، وأن يرجع إلى المدينة ليتولى إدارة أمور الأمة، وألحوا عليه بذلك. ومما رُوي في هذا الموضوع ما قالته عائشة: خرج أبي شاهرًا سيفه راكبًا راحلته إلى وادي ذي القصة، فجاء علي بن أبي طالب رضى الله عنه فأخذ بزمام راحلته، فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: شِمْ سيفك ولا تفجعنا بنفسك، فو الله لئن أصبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبدًا، فرجع.
    وقد قسم أبو بكر الجيش الإسلامي إلى أحد عشر لواء وجعل على كل لواء أميرًا، وأمر كل أمير جند باستنفار من مر به من المسلمين التابعين من أهل القرى التي يمر بها وهم:
    1- جيش خالد بن الوليد إلى بني أسد، ثم إلى تميم، ثم إلى اليمامة.
    2- جيش عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة في بني حنيفة، ثم إلى عمان والمهرة، فحضرموت فاليمن.
    3- جيش شُرَحْبيل بن حسنة إلى اليمامة في إثر عكرمة، ثم حضرموت.
    4- جيش طُرَيْفة بن حاجر إلى بني سليم من هوازن.
    5- جيش عمرو بن العاص إلى قضاعة.
    6- جيش خالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام.
    7- جيش العلاء بن الحضرمي إلى البحرين.
    8- جيش حذيفة بن محصن الغلفائي إلى عمان.
    9- جيش عرفجة بن هرثمة إلى مهرة.
    10- جيش المهاجر بن أبي أمية إلى اليمن «صنعاء ثم حضرموت».
    11- جيش سويد بن مقرن إلى تهامة اليمن.
    وهكذا اتخذت قرية (ذي القَصَّة) مركز انطلاق أو قاعدة تحرك للجيوش المنظمة التي ستقوم بالتحرك إلى مواطن الردة للقضاة عليها. وتنبئ خطة الصديق -رضي الله عنه- عن عبقرية فذة وخبرة جغرافية دقيقة.
    ومن خلال تقسيم الألوية وتحديد المواقع يتضح أن الصديق رضى الله عنه كان جغرافيًا دقيقًا خبيرًا بالتضاريس والتجمعات البشرية وخطوط مواصلات جزيرة العرب، فكأن الجزيرة العربية صورت مجسمًا واضحًا نصب عينيه في غرفة عمليات مجهزة بأحدث وسائل التقنية، فمن يتمعن تسيير الجيوش ووجهة كل منها واجتماعها بعد تفرقها وتفرقها لتجتمع ثانية، يرى تغطية سليمة رائعة صحيحة مثالية لجميع أرجاء الجزيرة مع دقة في الاتصال مع هذه الجيوش، فأبو بكر في كل ساعة يعلم أين مواقع الجيوش ويعلم دقائق أمورها وتحركاتها وما حققت، وما عليها في غد من واجبات.
    والمراسلات دقيقة وسريعة تنقل أخبار الجبهات إلى مقر القيادة في المدينة حيث الصديق، وكان على صلة مستمرة مع جيوشه كلها، وبرز من المراسلين العسكريين ما بين الجبهات وبين مقر القيادة: أبو خيثمة النجاري الأنصاري، وسلمة بن سلامة، وأبو برزة الأسلمي، وسلمة بن وقش.
    وكانت الجيوش التي بعثها الصديق متماسكة، وهي أحد إنجازات الدولة الهامة؛ إذ جمعت تلك الجيوش بين مهارات القيادة وبراعة التنظيم فضلاً عن الخبرة في القتال؛ صهرتها الأعمال العسكرية في حركة السرايا والغزوات التي تعدى بعضها شبه الجزيرة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان الجهاز العسكري لدى الصديق متفوقًا على كل القوى العسكرية في الجزيرة، وكان القائد العام لهذه الجيوش سيف الله المسلول خالد بن الوليد صاحب العبقرية الفذة في حروب الردة والفتوحات الإسلامية.
    كان هذا التوزيع للجيوش وفق خطة استراتيجية هامة، مفادها أن المرتدين لا زالوا متفرقين، كل في بلده، ولم يحصل منهم تحزب ضد المسلمين بالنسبة للقبائل الكبيرة المتباعدة في الأماكن أولاً؛ لأن الوقت لم يكن كافيًا للقيام بعمل كهذا؛ حيث لم يمضِ على ارتدادهم إلا ما يقرب من ثلاثة شهور، وثانيًا لأنهم لم يدركوا خطر المسلمين عليهم وأنهم باستطاعتهم أن يكتسحوهم جميعا في شهور معدودة، ولذلك أراد الصديق أن يعاجلهم بضربات مفاجئة تقضي على شوكتهم وقوتهم قبل أن يجتمعوا في نصرة باطلهم، فعاجلهم قبل استفحال فتنتهم، ولم يترك لهم فرصة يطلون منها برؤوسهم ويمدون ألسنتهم يلذعون بها الجسم الإسلامي، وبذلك طبق الحكمة القائلة:
    لا تقطعنْ ذَنَبَ الأفعى وترسلها *** إن كنت شهمًا فأتبع رأسها الذنب

    فقد أدرك حجم الحدث وأبعاده ومدى خطورته، وعلم أنه إن لم يفعل كذلك فسيوشك الجمر أن ينتفض من تحت الرماد فيحرق الأخضر واليابس، كما قال الأول:
    أرى تحت الرماد وميض نار *** ويوشك أن يكون لها ضرام
    فقد كان رضى الله عنه السياسي الماهر والعسكري المحنك الذي يقدر الأمور، ويضع لها الخطط المباشرة.
    انطلقت الألوية التي عقدها الصديق ترفرف عليها أعلام التوحيد، مصحوبة بدعوات خالصة من قلوب تعظم المولى عز وجل وتشربت معاني الإيمان، ومن حناجر لم تلهج إلا بذكر الله تعالى، فاستجاب الله -جل وعلا- هذه الدعوات النقية، فأنزل عليهم نصره وأعلى بهم كلمته، وحمى بهم دينه، حتى دانت جزيرة العرب للإسلام في شهور معدودة.
    هذا وقد كتب أبو بكر الصديق كتابًا واحدًا إلى قبائل العرب من المرتدين والمتمردين فدعاهم للعودة إلى الإسلام وتطبيقه كاملاً كما جاء من عند الله تعالى، ثم حذرهم من سوء العاقبة فيما لو ظلوا على ما هم عليه في الدنيا والآخرة، وكان قويًا في إنذارهم، وهذا هو المناسب لشدة انحرافهم وقوة تصلبهم في التمسك بباطلهم، فكان لا بد من إنذار شديد يتبعه عمل جرئ قوي لإزالة الطغيان الذي عشش في أفكار زعماء تلك القبائل، والعصبية العمياء التي سيطرت على أفكار أتباعهم.

    نص الخطاب الذي أرسله للمرتدين
    بعد التنظيم الدقيق، وحسن الإعداد للجيوش الإسلامية التي عقد لها الصديق الألوية نجد الدعوة البيانية القولية تطل لتقوم بدورها وتدلي بدلوها
    نص الخطاب الذي أرسله للمرتدين والعهد الذي كتبه للقادة:
    بعد التنظيم الدقيق، وحسن الإعداد للجيوش الإسلامية التي عقد لها الصديق الألوية نجد الدعوة البيانية القولية تطل لتقوم بدورها وتدلي بدلوها؛ فقد حرر الصديق كتابًا عامًا ذا مضمون محدد سعى إلى نشره على أوسع نطاق ممكن في أوساط من ثبتوا على الإسلام ومن ارتدوا عنه جميعًا قبل تسيير قواته لمحاربة الردة، وبعث رجالاً إلى محل القبائل، وأمرهم بقراءة كتابه في كل مجتمع، وناشد من يصله مضمون الكتاب بتبليغه لمن لم يصل إليه، وحدد الجمهور المخاطب به بأنه: العامة والخاصة، من أقام على إسلامه أو رجع عنه.

    وهذا نص الكتاب الذي بعثه الصديق:
    بسم الله الرحمن الرحيم: من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على إسلامه أو رجع عنه: سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، نقر بما جاء به ونكفر من أبى ونجاهده، أما بعد: فإن الله تعالى أرسل محمدًا بالحق من عنده إلى خلقه بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه من أدبر عنه، حتى صار إلى الإسلام طوعًا وكرهًا، ثم توفى اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم وقد نفذ لأمر الله ونصح لأمته وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل، قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال للمؤمنين: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، فمن كان إنما يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره منتقم من عدوه بحزبه.
    وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله، وما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم، وأن تهتدوا بهداه وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعافه ممُبتلى، وكل من لم يعنه الله مخذول، فمن هداه الله كان مهتديًا، ومن أضله كان ضالاً، قال الله تعالى: {مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} [الكهف: 17]، ولم يقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به، ولم يقبل منه في الآخرة صرف ولا عدل.
    وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به اغترارًا بالله وجهالة بأمره وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُون َهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50]، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].
    وإني بعثت إليكم فلانًا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدًا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحًا قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك ثم لا يبقى على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فمن تبعه فهو خير له ومن تركه فلن يعجز الله.
    وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم والداعية الأذان: فإذا أذن المسلمين فأذَّنوا كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم.
    ونلحظ من خطاب أبي بكر أنه كان يدور حول محورين:
    أ- بيان أساس مطالبة المرتدين بالعودة إلى الإسلام.
    ب- بيان عاقبة الإصرار على الردة.
    وقد أكد الكتاب على عدة حقائق هي:
    -أن الكتاب موجه إلى العامة والخاصة ليسمع الجميع دعوة الله.
    -بيان أن الله بعث محمدًا بالحق، فمن أقر كان مؤمنًا، ومن أنكر كان كافرًا يجاهد ويقاتل.
    -بيان أن محمدًا بشر قد حق عليه قول الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} وأن المؤمن لا يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم وإنما يعبد الله الحي الباقي الذي لا يموت أبدًا، ولذلك لا عذر لمرتد.
    إن الرجوع عن الإسلام جهل بالحقيقة واستجابة لأمر الشيطان، وهذا يعني أن يتخذ العدو صديقًا، وهو ظلم عظيم للنفس السوية؛ إذ يقودها صاحبها بذلك إلى النار عن طواعية.
    -إن الصفوة المختارة من المسلمين وهم المهاجرون والأنصار وتابعوهم، هم الذين ينهضون لقتال المرتدين غيرة منهم على دينهم وحفاظًا عليه من أن يهان.
    -إن من رجع إلى الإسلام، وأقرَّ بضلاله، وكف عن قتال المسلمين، وعمل من الأعمال ما يتطلبه دين الله، فهو من مجتمع المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم.
    -إن من يأبى الرجوع إلى صف المسلمين ويثبت على ردته، إنما هو محارب لا بد من شن الغارة عليه، تقتله أو تحرقه، وتسبي نساءه وذراريه، ولن يعجز الله بأية حال؛ لأنه أنى ذهب في ملكه.
    إن الشارة التي ينجو بها المرتدون من غارة المسلمين أن يعلن فيهم الأذان وإلا فالمعالجة بالقتال هي البديل. وحتى لا يترك الخليفة الأمر للقادة والجند بغير انضباط كتب للقواد جميعًا كتابًا واحدًا يدعوهم فيه إلى الالتزام بمضمون كتابه السابق، هذا نصه:
    هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله، سره وعلانيته، وأمره بالجد في أمر الله ومجاهدة من تولى عنه ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان، بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بداعية الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شنَّ غارته عليهم حتى يقروا له، ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم ويعطيهم الذي لهم، لا وينظرهم ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم، فمن أجاب إلى أمر الله -عز وجل- وأقر له قبل ذلك منه وأعانه عليه بالمعروف، وإنما يتقبل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله، فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به، ومن لم يُجِب داعية الله قتل وقوتل حيث كان وحيث بلغ مراغَمه، لا يقبل من أحد شيئًا أعطاه إلا الإسلام، فمن أجابه وأقر قبل منه وعلمه ومن أبى قاتله، فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران، ثم قسم ما أفاء الله عليهم إلا الخمس فإنه يبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد وألا يدخل فيهم حشوًا حتى يعرفهم ويعلم ما هم لا يكونوا عيونًا, لئلا يؤتى المسلمين من قبلهم، وأن يقتصد بالمسلمين ويرفق بهم في السير والمنزل ويتفقدهم، ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول.
    وفي العهد الذي ألزم به قواده يظهر حرص الصحابة على إلزام أمرائه في حرب الردة بتعليمات أساسية مكتوبة موحدة نصت بوضوح لا يحتمل اللبس على حظر القتال قبل الدعوة إلى الإسلام، والإمساك عن قتال من يجيب، والحرص على إصلاحهم، وحظر مواصلة القتال بعد أن يقروا بالإسلام والتحول عند هذه النقطة من القتال إلى تعليمهم أصول الإسلام وتبصيرهم بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، وحظر المهادنة أو رد الجيش عن محاربة المرتدين ما لم يفيئوا إلى أمر الله.
    والتزم الجيش الإسلامي في التنفيذ مبدأ الدعوة قبل القتال والإمساك عن القتال بمجرد إجابة الدعوة؛ باعتبار أن الغاية الوحيدة هي عودة المرتدين إلى الذي خرجوا منه وتلمسًا لتحقيق أقصى درجة من التوافق في صفوف القوات الإسلامية التي نيط بها القضاء على ظاهرة الردة.
    أمضى الصديق هذا العهد مع أمراء الجيوش الإسلامية، يطلب من الجيش أن يكون سلوكه ذاته خير دعوة للمهمة المستندة إليه، وأن يتطابق تمامًا مع هدف واحد هو الدفاع عن الإسلام.
    إن اقتداء أبي بكر رضى الله عنه برسول الله صلى الله عليه وسلم علمه فن القيادة، ونجاح القائد في قيادته يتوقف على مدى نجاحه في جنديته. ولقد كان أبو بكر نعم الجندي في جيش المسلمين، مخلصًا في ولائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يطبق ما يقوله بحذافيره، مضحيًا في سبيله، لم يفر عنه في معركة قط. ونستطيع أن ندرك دقة آرائه القيادية وبعد مرماها من وصاياه لقواده وخططه العامة التي رسمها لهم أثناء تحركهم لضرب قوات العدو.

    لقد كانت أول وصية أوصاهم بها تتركز على النقاط التالية:
    أن يلزموا أنفسهم تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والعلن، وهذا عين الصواب في هذه السياسة الرشيدة؛ لأن القائد إذا ألزم نفسه تقوى الله -عز وجل- كان معه: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون} [النحل: 128].
    الجد والاجتهاد وإخلاص النية لله سبحانه وتلك أخلاق المنصورين الفائزين {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
    أن لا يقبل من المرتدين إلا الإسلام أو القتل؛ إذ لا مهادنة في أمر العقيدة.
    تقسيم الغنائم بين الجند مع الاحتفاظ بحق بيت المال منها، وهو خمسها.
    أن لا يتعجلوا في التصرف حيال القضايا التي تواجههم حتى لا تأتي حلولهم فجة.
    أن يحذروا من أن يدخل بينهم غريب ليس منهم، كيلا يكون جاسوسًا عليهم.
    أن يرفقوا بجندهم ويتفقدوهم في المسير والنزول، وأن لا ينفرط بعضهم عن بعض.
    وأن يستوصوا بهؤلاء الجند خيرًا في الصحبة.
    ويمكنا من خلال الدراسة أن نستخلص الخطة العامة بعد أن عقد الصديق الألوية لقادة الجيوش، والتي تتخلص في النقاط الآتية:
    أ- ضمنت الخطة إحكام التعاون بين هذه الجيوش جميعها، بحيث لا تعمل كأنها منفصلة تحت قيادة مستقلة، وإنما هي رغم تباعد المكان جهاز واحد، وقد تتلقى -أو يلتقي بعضها ببعض- لتفترق، ثم تفترق لتلتقي، كان ذلك والخليفة بالمدينة يدبر حركة القتال ومعاركه.
    ب- احتفظ الصديق بقوة تحمي المدينة –عاصمة الخلافة- واحتفظ بعدد من كبار الصحابة ليستشيرهم وليشاركوه في توجيه سياسة الدولة.
    ج- أدرك الصديق أن هناك جيوشًا من المسلمين داخل المناطق التي شملتها حركة العصيان والردة، وقد حرص على هؤلاء المسلمين من أن يتعرضوا لنقمة المشركين، ولذلك فإنه أمر قادته باستنفار من يمرون بهم من أهل القوة من المسلمين من جهة، وبضرورة تخلف بعضهم لمنع بلادهم وحمايتها من جهة أخرى.
    د- طبق الخليفة مبدأ الحرب خدعة مع المرتدين، حتى أظهر أن الجيوش تنوي شيئًا، وهي في حقيقة الأمر كانت تستهدف شيئًا آخر؛ زيادة في الحيطة والحذر من اكتشاف خطته، وهكذا تظهر الحنكة السياسية والتجربة العملية والعلم الراسخ والفتح الرباني في قيادة الصديق.


    ([1]) الأبعاد السياسية لمفهوم الأمن في الإسلام، مصطفى محمود منجود: ص 169.
    منقول من (أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي)



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان


    حروب الردة (2)
    جهاد الصديق لأهل الردة
    علي بن محمد الصلابي
    (14)


    خارطة تُظهرُ أبرز المعارك التي وقعت أثناء حُرُوب الرَّدة بين المُسلمين والقبائل العربيَّة المُرتدَّة عن الإسلام ومعهم مُدعي النُبوَّة.

    1-القضاء على الأسود العنسي، وردة اليمن الثانية:

    اسمه: عبهلة بن كعب ويكنى بذي الخمار؛ لأنه كان دائما معتمًا متخمرًا بخمار، ويعرف بالأسود العنسي لاسوداد في وجهه، وتكمن قوة الأسود في ضخامة جسمه وقوته وشجاعته، واستخدم الكهانة والسحر والخطابة البليغة، فقد كان كاهنًا مشعوذًا يُرِي قومه الأعاجيب، ويسبي قلوب من سمع منطقه، واستخدم الأموال للتأثير على الناس.

    أ- الأسود العنسي في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام:
    وما أن انتشر خبر مرض رسول الله عليه الصلاة والسلام بعد مقدمه من حجة الوداع حتى ادعى الأسود العنسي النبوة، وقيل: إنه أطلق على نفسه (رحمان اليمن) كما تسمى مسيلمة (رحمان اليمامة)، وأنه كان يدعي النبوة ولا ينكر نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وكان يزعم أن ملكين يأتيانه بالوحي وهما: سحيق وشقيق -أو شريق – وكان قبل أن يظهر مخفيًا أمره يجمع حوله من يراه مناسبًا حتى فاجأ الناس بظهوره وكان أول من تبعه: أبناء قبيلته وهم «عنس»، ثم كاتب زعماء قبيلة «مذحج» فتبعه العوام منهم، وبعض زعمائهم من طالبي الزعامة، وقد عمل على إثارة العصبية القبلية؛ لأنه من «عنس» وهي بطن من بطون قبيلة «مذحج»، وقد راسله بنو الحارث بن كعب من أهل نجران وهم يومئذ مسلمون، فطلبوا منه أن يأتيهم في بلادهم، فجاءهم فاتبعوه لكونهم لم يسلموا رغبة، وتبعه أناس من «زبيد» و«أود» «مَسْليَة» و«حكم بني سعد العشيرة»، ثم أقام بنجران بعض الوقت، وقوي أمره بعد أن انضم إليه عمرو بن معديكرب الزبيدي وقيس بن مكشوح المرادي، وتمكن من طرد فروة بن مسيك من مراد وعمرو بن حزم من نجران، واستهوته فكرة السيطرة على صنعاء فخرج إليها بست مئة أو سبع مئة فارس معظمهم من بني الحارث بن كعب و«عنس».
    فتقابل مع أهل صنعاء وعليهم «شهر بن باذان الفارسي»، وكان قد أسلم مع أبيه في منطقة خارج صنعاء تسمى منطقة «شعوب»، فتقاتلوا قتالاً شديدًا فقتل «شهر بن باذان» وانهزم أهل صنعاء أمام الأسود العنسي، فغلب عليها ونزل قصر «غمدان» بعد خمسة وعشرين يومًا من ظهوره.
    وكان له مواقف بشعة في تعذيب المتمسكين بالإسلام، فقد أخذ أحد المسلمين ويسمى النعمان فقطعه عضوًا عضوًا، ولهذا تعامل معه المسلمين الذين كانوا في المناطق التي يديرها بالتقية.



    أما بقية المسلمين خارج نطاق سيطرته فقد حاولوا التجمع وإعادة الانتظام إلى صفوفهم، فكان فروة بن مسيك المرادي قد انحاز إلى مكان يسمى «الأحسية»، وانضم إليه من انضم من المسلمين، وكتب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام بخبر الأسود العنسي، فكان أول من أبلغ الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، وانحاز كل من أبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل إلى حضرموت في جواء «السكاسك والسكون».
    وقد راسل رسولُ الله عليه الصلاة والسلام الثابتين على الإسلام لمواجهة ردة الأسود، وأمرهم بالسعي للقضاء عليه إما مصادمة أو غيلة، ووجه كتبه ورسله إلى بعض زعماء «حمير» و«همدان» بأن يتكاتفوا ويتوحدوا ويساعدوا «الأبناء» ضد «الأسود العنسي»، فأرسل «وبر بن يخنس» إلى «فيروز الديلمي وجُشَيش الديلمي وداذويه الإصطخري»، وبعث «جرير البجلي» إلى «ذي الكلاع وذي ظليم» الحميريين، وبعث «الأقرع بن عبد الله الحميري» إلى «ذي زود وذي مران» الهمدانيين، وكذلك كتب إلى أهل نجران من الأعراب وساكني الأرض من غيرهم، وبعث «الحارث بن عبد الله الجهني» إلى اليمن قبيل وفاته، فبلغته وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في اليمن، ولم تبين المصادر إلى أين بعث، إلا أنه من الممكن أنه بعث إلى «معاذ بن جبل»؛ لأنه تلقى كتابًا من رسول الله عليه الصلاة والسلام يأمره فيه بأن يبعث الرجال لمجاولة ومصاولة «الأسود العنسي» للقضاء عليه، كما تلقى «أبو موسى الأشعري» و«الطاهر بن أبي هالة» كتابًا من رسول الله ليواجهوا «الأسود» بالغيلة أو المصادمة، وكان لهذا العمل من جانب الرسول عليه الصلاة والسلام أثر كبير، فقد تماسك من بعث إليهم في حياته وبعد موته، فلم يعهد عنهم أنهم ارتدوا أو تزلزلوا، فقد كتب زعماء «حمير» وزعماء «همدان» إلى الأبناء باذلين لهم العون والمساعدة، وفي الوقت نفسه تجمع أهل «نجران» في مكان واحد للتصدي لأي حركة من جانب «الأسود العنسي»، وحينئذ أيقن هذا أنه إلى هلاك.
    وظلت المكاتبات تتوالى بين «الهمدانيين» و «الحميريين» وبين «معاذ بن جبل» وبعض الزعماء اليمنيين، ومن المحتمل أن بعض المكاتبات تمت بين «الأبناء» وبين «فروة ابن مسيك»؛ لأنه كان له دور في قتل الأسود العنسي، ولكن كان أول من اعترض على «العنسي» هو «عامر بن شهر الهمداني».
    وهكذا تجمعت كل قوى الإسلام في اليمن للقضاء على «الأسود العنسي»، ويظهر أنهم كانوا مجمعين على أن يقوموا بمقتله، لعلمهم أنه بمجرد أن يقتل لن يبقى لأتباعه أي كيان فيسهل التخلص منهم حينئذ، ولهذا وافقوا على خطة «الأبناء» بأن لا يقوموا بأي شيء حتى يبرموا الأمر من داخلهم.
    واستطاع «الأبناء» فيروز وداذويه أن يتفقا مع «قيس بن مكشوح المرادي» -وكان قائد جند العنسي- للتخلص من «الأسود العنسي»؛ لأنه كان على خلاف معه، ويخشى أن يتغير عليه، وقد ضموا إلى صفهم زوجة «الأسود العنسي» «آزاد الفارسية» والتي كانت زوج شهر بن باذان وابنة عم فيروز الفارسي، فقد اغتصبها كذاب اليمن بعد أن قتل زوجها، فهبت لإنقاذ دينها من براثن وحوش الجاهلية بكل عزم وتصميم، فدبرت مع المسلمين المناوئين للأسود خطة اغتيال هذا الطاغية المتألِّه، ومهدت لهم السبيل لقتله على فراش نومه، وحينما قتل «الأسود» ألقى برأسه بين أصحابه فانتابهم الرهبة وعمهم الخوف، ففروا هاربين.
    وأتى الخبر النبيَّ عليه الصلاة والسلام من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي ليبشرنا فقال: «قتل العنسي البارحة، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين» قيل: ومن هو؟ قال: «فيروز».
    وقد فصل خطة اغتيال الأسود العنسي الدكتور صلاح الخالدي في كتابه: «صور من جهاد الصحابة… عمليات جهادية خاصة تنفذها مجموعة خاصة من الصحابة». وظل أمر «صنعاء» مشتركا بين «فيروز وداذويه وقيس بن مكشوح» إلى أن جاء معاذ بن جبل إلى صنعاء، فارتضوا أن يكون هو الأمير عليهم، ولكنه لم يمكث إلا ثلاثة أيام بهم حتى بلغهم خبر وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
    وكانت تفاصيل مقتل «العنسي» قد خرجت من صنعاء فوصلت إلى الصديق بعد أن خرج جيش أسامة، وكان هذا أول فتح أتى أبا بكر وهو في المدينة.



    ب- وعيَّن أبو بكر «فيروز الديلمي» واليًا على صنعاء وكتب إليه بذلك، ولم يولِّ أبو بكر قيسًا؛ لأنه كان ممن مالأ الأسود العنسي وتابعه مخلصًا -عصبية لمذجح أو رغبة في الزعامة- وكان مبدأ أبي بكر عدم الاستعانة بمن ارتد، وجعل كل من داذويه وجشيش وقيس بن مكشوح مساعدين لفيروز، فتغيرت نفس قيس بن مكشوح المرادي فعمل على قتل زعماء الأبناء الثلاثة، وقد تمكن من قتل «داذويه» -سواء بنفسه أو بإيعاز منه – فتنبه لذلك «فيروز» فهرب إلى أخواله في «خولان»، فما كان من قيس إلا أن أثارها عصبية جنسية فحاول جمع زعماء بعض القبائل ضد «الأبناء» مدعيًا أنهم متحكمون فيهم، وأنه يرى قتل رؤسائهم وإجلاء بقيتهم، ولكن أولئك الزعماء وقفوا على الحياد فلم ينحازوا إليه ولا إلى الأبناء، وقالوا له: أنت صاحبهم وهم أصحابك، فلما يئس منهم عاد فكاتب فلول «الأسود العنسي» سواء الذين بقوا متذبذبين بين صنعاء ونجران أو ممن انحاز إلى لحج، فطلب منهم الالتقاء بهم ليكونوا جميعًا على أمر واحد وهو نفي «الأبناء»، فلم يشعر أهل صنعاء إلا وهم محاطون بتلك الفلول، ثم حرص «قيس» على تجميع «الأبناء» تمهيدًا لنفيهم.
    وعندما وصل فيروز الديلمي إلى خولان كتب من هناك إلى أبي بكر يخبره بما حصل من قيس، فما كان منه إلا أن كتب إلى الزعماء الذين كتب إليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكانت صيغة الكتاب واضحة صريحة وهي: «أعينوا الأبناء على من ناوأهم وحوطوهم، واسمعوا من فيروز، وجِدُّوا معه فإني قد وليته».
    كان الصديق في نهجه هذا يستهدف أمرين متلازمين:
    -أنه جعله خطة حربية حيث كان جيش أسامة بن زيد قد خرج إلى الشام، وكان الخليفة ينتظر عودته حتى يتسنى له مواجهة أعنف موجات الردة في اليمامة والبحرين وعمان وتميم، وهي أشد وأعنف من موجات الردة في اليمن التي اكتفى بمعالجة بعضها بالرسائل والرسل.
    -وأما الهدف الآخر فهو إعطاء الفرصة لمن ثبت على الإسلام لكي يبرهن على صدق إسلامه، ولكي يزداد ثباتًا واستمساكًا بدينه ما دام هو صاحب المسئولية والمتحمل لأمانة إقرار الإسلام فيمن حوله، خاصة أن من راسلهم أبو بكر كانوا هم الذين راسلهم رسول الله عليه الصلاة والسلام من قبل، وقد ثبتوا وقاموا بما طُلب منهم. وقام فيروز بالاتصال ببعض القبائل يستمدهم ويستنصرهم، وعلى رأس هؤلاء «بنو عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة»، ثم أرسل إلى قبيلة «عك» للغرض نفسه. وكان أبو بكر قد أرسل إلى الطاهر بن أبي هالة، وإلى مسروق العكي -وكانا بين عك والأشعريين- أن يمدا الأبناء بالمعونة، فخرج كل من جهته وعملوا جميعًا للحيلولة دون تنفيذ مخطط قيس وهو طرد الأبناء وإخراجهم من اليمن، فأنقذوهم ثم تكتلوا وتوجهوا نحو صنعاء جميعًا فاصطدموا به حتى اضطر إلى ترك صنعاء، وعاد إلى ما كان عليه أصحاب الأسود العنسي وهو التذبذب بين نجران وصنعاء ولحج، إلا أنه انضم إلى عمرو بن معديكرب الزبيدي. وبهذا عادت صنعاء للمرة الثانية إلى الهدوء والاستقرار عن طريق الرسل والكتب.



    ج- واستمر الصديق يتابع سياسة الإحباط من الداخل، وهي ما يعبر عنها المؤرخون بقولهم: «ركوب من ارتد بمن لم يرتد وثبت على الإسلام».
    ففي ردة «تهامة اليمن» تم القضاء عليها بدون مجهود يذكر من قبل الخليفة، فقد تولاها المسلمون من أبناء تهامة مثل «مسروق» العكي الذي قاتل المرتدين بقومه من عك، وكان على رأس من قضى على ردة تهامة «الطاهر بن أبي هالة» الذي كان واليًا للرسول عليه الصلاة والسلام على جزء من تهامة، وهي موطن «عك والأشعريين» ثم أمر أبو بكر «عكاشة بن ثور» أن يقيم في «تهامة» ليجمع حوله أهلها حتى يأتيه أمره، وأما بجيلة فإن أبا بكر رد جرير بن عبد الله، وأمره أن يستنفر مِنْ قومه مَنْ ثبت على الإسلام ويقاتل بهم من ارتد عن الإسلام، وأن يأتي خثعم فيقاتل من ارتد منهم، فخرج جرير وفعل ما أمره به الصديق رضي الله عنه، فلم يقم له أحد إلا نفر يسير فقتلهم وتتبعهم.
    وكان بعض «بني الحارث بن كعب» بنجران قد تابعوا الأسود العنسي، وبعد وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام بقوا مترددين فخرج إليهم «مسروق العكي» وهو يزعم مقاتلتهم فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا من غير قتال، فأقام فيهم ليعمل على استتباب الأمور فلم يأته «المهاجر بن أبي أمية» إلا وقد ضبط نجران.

    وقد نجحت سياسة الإحباط من الداخل، وتوجه الصديق بإرسال الجيوش بعد عودة جيش أسامة.


    جيش عكرمة

    خريطة تُظهرُ الحملات التي أرسلها أبو بكر إلى قتال أهل الرِّدَّة وما تلاها من حملات خارج شبه الجزيرة العربيَّة نحو العراق وفارس والشَّام.


    بعد أن شارك في القضاء على ردة أهل عمان، توجه نحو مهرة حسب أمر أبي بكر، وكان معه سبع مئة فارس، فوق ما جمع حوله من قبائل عمان، وحينما دخل مهرة وجدها مقسمة بين زعيمين متناحرين: أحدهما يسمى شخريت ويتمركز في السهل الساحلي، وهو أقل الجمعين عددًا وعدة، والآخر يسمى المصبح ونفوذه على المناطق المرتفعة وهو أكبر الجمعين، فدعاهما عكرمة إلى الإسلام فاستجاب صاحب السهل الساحلي وأما الآخر فقد اغتر بجموعه فأبى، فصادمه عكرمة ومعه «شخريت» فلحقته الهزيمة، وقتل ومعه الكثير من أصحابه، ثم أقام عكرمة فيهم يجمعهم ويقيم شئونهم حتى جمعهم على الذي يجب، حيث بايعوا على الإسلام وآمنوا واستقروا،



    وكان قد تلقى كتابًا من أبي بكر يأمره بالاجتماع مع المهاجر بن أبي أمية القادم من «صنعاء» ليتوجها معا إلى كندة، فخرج من مهرة حتى نزل أبين وبقي هناك ينتظر المهاجر،
    وعمل وهو هناك على جمع «النخع» وحمير وتثبيتهم على الإسلام ، وكان لوصول عكرمة إلى أبين أثر على بقية فلول الأسود العنسي وعلى رأسهم قيس بن المكشوح وعمر بن معد يكرب، فبعد هروب قيس من صنعاء بقي مترددًا بينها وبين نجران، وكان «عمر بن معد يكرب» قد انضوى إلى فلول العنسي التي أطلق عليها الفلول اللحجية؛ لأن وجهتهم كانت إلى لحج، فلما جاء عكرمة انضم قيس إلى عمرو وقد اجتمعا للقتال ولكن ما لبث أن نشب الخلاف بينهما فتعايرا ففارق كل واحد الآخر، فلما جاء المهاجر بن أبي أمية أسرع عمرو لتسليم نفسه ولحقه قيس فأوثقهما المهاجر وبعث بهم إلى أبي بكر، وبعد أن عاتبهما اعتذر كل واحد منهما عن فعله فأطلقهما ورجعا بعد أن تابا وأصلحا.
    وهكذا كان لقدوم عكرمة من المشرق دور في القضاء على فلول المرتدين الموجودين في لحج سواء بالمواجهة من هذا الجيش القادم، بينما م يواجهون جيشا آخر في الشمال بقيادة المهاجر .

    جيش أبي أمية للقضاء على ردة حضرموت وكندة



    كان آخر من خرج من المدينة من الجيوش الأحد عشر جيش المهاجر بن أبي أمية وكان معه سرية من المهاجرين والأنصار، فمر على مكة فانضم إليه «خالد بن أسيد» –أخو «عتاب ابن أسيد»- أمير مكة، ومر على الطائف فلحقه عبد الرحمن بن أبي العاص ومن معه، ولما التقى «بجرير بن عبد الله البجلي» بنجران ضمه إليه، وضم عكاشة بن ثور الذي جمع بعض أهل تهامة، ثم دخل في جموعه «فروة بن مسيك المرادي» الذي كان في أطراف بلاد مذحج، ومر على بني الحارث بن كعب بنجران فوجد عليهم مسروق العكي فضمه إليه.
    وفي نجران قسم جيشه إلى فرقتين: فرقة تولت القضاء على فلول «الأسود العنسي» المتناثرة بين نجران وصنعاء، وكان المهاجر نفسه على هذه الفرقة، أما الفرقة الأخرى فكان عليها أخوه «عبد الله»، وكانت مهمتها تطهير منطقة تهامة اليمن من بقية المرتدين.
    وحينما استقر المهاجر في صنعاء كتب إلى أبي بكر بما قام به وبما استقر عليه وبقي ينتظر الرد منه، وفي الوقت نفسه كتب معاذ بن جبل وبقية عمال اليمن الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، -ما عدا زياد بن لبيد- إلى أبي بكر يستأذنونه بالعودة إلى المدينة، فجاءت كتب أبي بكر مطلقة حق الاختيار لمعاذ ومن معه من العمال بالبقاء أو العودة، والاستخلاف على عمل كل من رجع فرجعوا جميعًا، وأما المهاجر فقد تلقى الأمر بالتوجه لملاقاة عكرمة وأن يسيرا معًا إلى حضرموت لمعاونة زياد بن لبيد وإقراره على ما هو عليه، وأمره أن يأذن لمن معه من الذين قاتلوا بين مكة واليمن في العودة إلا أن يؤثر قوم الجهاد.
    كان زياد بن لبيد الأنصاري واليًا لرسول الله على كندة بحضرموت، وأقره الصديق رضي الله عنه على ذلك، وكان حازمًا شديدًا وكان لحزمه وشدته سبب كبير في أن يتمرد عليه حارثة بن سراقة، وخلاصة ذلك -كما يذكر الكلاعي- أن زيادًا أعطى من ضمن الصدقة ناقة معينة لفتى من كندة على سبيل الخطأ، فلما أراد صاحبها استبدالها بأخرى لم يقبل منه ذلك زياد، فاستنجد الفتى بزعيم لهم هو حارثة بن سراقة، وعندما طلب ابن سراقة من زياد استبدال الناقة أصر زياد على موقفه، فغضب ابن سراقة وأطلق الناقة عنوة، فوقعت الفتنة بين أنصار زياد وأنصار ابن سراقة، ودارت الحرب وانهزم ابن سراقة وقتل ملوك كندة الأربعة وأسر زياد عددًا من جماعة ابن سراقة، واستنجد الأسرى وهم في طريقهم إلى المدينة بالأشعث بن قيس فنجدهم حمية وعبية، واتسعت رقعتها وتكاثر جمع الأشعث وحصروا المسلمين، فأرسل زياد إلى المهاجر وعكرمة يستعجلهما النجدة وكانا قد التقيا بمأرب، فما كان من المهاجر إلا أن ترك «عكرمة» إلى الجيش وأخذ أسرع الناس -وغالبا من الفرسان– ليكونا بجانب زياد، وقد استطاع أن يفك الحصار عنه فهربت كندة إلى حصن من حصونها يسمى النجير، وكان لهذا الحصن ثلاث طرق لا رابع لها، فنزل زياد على إحداها والمهاجر على الثانية وبقيت الثالثة تحت تصرف كندة، حتى قدم عكرمة فنزل عليها فحاصروهم من جميع الجهات، ثم بعث «المهاجر» الطلائع إلى قبائل كندة والمتفرقة في السهل والجبل يدعوهم إلى الإسلام ومن أبي قاتلوه، ولم يبق إلا في الحصن المحاصر.
    وكان جيشا زياد والمهاجر يزيدان على خمسة آلاف رجل من المهاجرين والأنصار وغيرهم من القبائل، وقد عملا على التضييق على من في الحصن حتى ضجوا بالشكوى إلى زعمائهم متبرمين من الجوع، وفضلوا الموت بالسيف بدلاً من ذلك، فاتفق زعماؤهم على أن يقوم الأشعث بن قيس بطلب الأمان والنزول على حكم المسلمين، وبعد أن فوض الأشعث من قومه لمفاوضة المسلمين لم يوفق؛ لأن الروايات تضافرت على أنه لم يطلب الأمان لجميع من في الحصن، أو أنه لم يصر على ذلك ولم يطلبه إلا لعدد تراوح حسب الروايات بين السبعة والعشرة وكان الشرط هو فتح أبواب حصن «النجير»، وكان من جراء ذلك أن قتل من «كندة» في الحصن سبعمائة قتيل، فأشبه موقفهم موقف يهود بني قريظة.
    وتم القضاء على ردة كندة وعاد عكرمة بن أبي جهل ومعه السبايا والأخماس، وبرفقتهم الأشعث بن قيس الذي صار مبغضًا إلى قومه ولا سيما نساؤهم لأنهم عدوه سبب ذلتهم؛ ولأنه عندما صالح المسلمين كان أول ما بدأ به اسمه، فكانت نساء قومه يسمينه عُرف النار، ومعناه بلغتهم: الغادر، ولما قدم الأشعث على أبي بكر قال: ماذا تراني أصنع بك فإنك قد فعلت ما علمت؟! قال: تمنُّ عليَّ فتفكني من الحديد وتزوجني أختك فإني قد راجعت وأسلمت، فقال أبو بكر: قد فعلت فزوجه أم فروة ابنة أبي قحافة، فكان بالمدينة حتى فتح العراق.

    وفي رواية جاء فيها: فلما خشي أن يقع به قال: أوتحتسب فيَّ خير فتطلق إساري وتقيلني عثرتي وتقبل إسلامي، وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد علي زوجتي -وقد كان خطب أم فروة بنت أبي قحافة مقدمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه، وأخَّرها إلى أن يقدم الثانية فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل الأشعث ما فعل فخشي ألا ترد عليه- تجدني خير أهل بلادي لدين الله! فتجافى له عن دمه وقبل منه ورد عليه أهله وقال: انطلق فليبلغني عنك خير، وخلي عن القوم، فذهبوا وقسم أبو بكر في الناس الخمس.
    منقول من (أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي)




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان



    سقوط المملكة الفارسية

    (15)


    ذكرنا في المقال السابق أن جيش الأحنف بن قيس وصل إلى بَلْخ لقتال يزدجرد شخصيًّا في حاشيته الملكية، ولم يتمكن يزدجرد من الفرار واضْطُرَّ إلى قتال الأحنف بن قيس بنفسه، وكان يزدجرد قد أقام معاهدات مع الممالك المحيطة بالدولة الفارسية؛ فأرسل خطابًا إلى ملك الصين، وخطابًا إلى ملك الصُّغْد، وخطابًا إلى ملك الترك؛ أما ملك الروم فكان يعيش في الحروب التي تدور في مملكته، غير الحروب الطاحنة التي كانت بين الفرس والروم مما أثَّر على علاقتهما.

    ووصلت رسائله إلى الملوك، فأجابه ملك الترك بإرسال جيش لنجدته، وقد دخل الجيش الإسلامي في بلاد الترك، وكان أول من دخل سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، فوجدها ملك الترك فرصة ليتحد مع ملك الفرس في حرب ضد الجيش الإسلامي، لعله يستطيع إخراجه من بلاده، وتوجه جيش الترك بالفعل تجاه بلخ.
    ووافق ملك الصُّغْد على طلب يزدجرد وأرسل جيشًا لمساعدة كسرى فارس.

    رد ملك الصين على رسول كسرى :

    أما ملك الصين فكان أحكمَ من ملكي الترك والصغد؛ فقد حاور رسول كسرى، وقد سُجِّلَ هذا الحوارُ؛ لأن كثيرًا ممن سمعوا هذا الحوار قد أسلموا، ويقال: إن رسول يزدجرد نفسه أسلم.
    ابتدأ ملك الصين قائلاً للرسول: إن حقًّا على الملوك إنجادُ الملوك على من غلبهم؛ فصِفْ لي هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإني أراك تذكر قلةً منهم وكثرةً منكم، ولا يبلغُ أمثالُ هؤلاء القليل الذين تصف منكم -مع كثرتكم- إلا بخير عندهم وشرٍّ فيكم.
    فقال الرسول: سلني عما أحببت. فقال ملك الصين: أيوفون بالعهد؟ قلت: نعم. قال ملك الصين: وما يقولون لكم قبل القتال؟ قال الرسول: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم، فإن أجبنا أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة. ويتضح من أسئلة ملك الصين أنه كان يتابع الحروب الإسلامية، فالحروب تدور رحاها في المملكة المجاورة واستمرت اثني عشر عامًا، فهو يسأل عن أمور محددة يريد أن يستوثق منها من رسول يزدجرد. قال ملك الصين: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قال الرسول: أطوع قوم لمرشدهم. وهذه هي مفاتيح النصر، يجيب بها رسول كسرى على أسئلة ملك الصين.
    قال ملك الصين: فما يُحِلُّون وما يحرِّمون؟ فعدَّد عليه الرسول بعض الأمور، وقد أثَّر ما ذكره في ملك الصين، لكن ما يهمّ هو السؤال التالي الذي طرحه ملك الصين على الرسول فقال له: هل يحلون ما حرم عليهم، أو يحرمون ما حلل لهم؟ قال الرسول: لا. قال ملك الصين: فإن هؤلاء القوم لا يزالون على ظَفَر حتى يحلوا حرامهم أو يحرموا حلالهم.
    وإذا كنا نعيش في وضع من الضعف والهزائم غير الوضع الذي عاش فيه المسلمون من قبل، فقد يكون ما ذكر ملك الصين هو السبب، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها، ولو كان قائلها ملك الصين.
    ثم قال ملك الصين: أخبرني عن لباسهم؟ فيشرح له الرسول بساطة ثيابهم. ثم قال ملك الصين: أخبرني عن مطاياهم؟ فقال الرسول: الخيلُ العِرَابُ الأصيلة، ووصفها له، والإبلُ العظيمة ووصفها له.
    فكتب ملك الصين إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجند أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحِقُّ عليَّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولُك لو يطاولون الجبال لهدوها، ولو خلا لهم سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارضَ منهم بالمساكنة، ولا تهْجُهُم ما لم يهجوك.
    ورفض ملك الصين أن يرسل إليه بمدد ينجده خوفًا من حرب المسلمين.
    وحوى هذا الحوار حِكمًا كثيرةً من الممكن أن نستفيد منها فالتاريخ يعيد نفسه، ونحن الآن في وضع يدعونا لاستخراج الحكمة والبحث عنها، والحكمة كاملة في ديننا، وسيتضح هذا الأمر في نهاية الدرس في مقولة لسيدنا عمر بن الخطاب t.
    عودة للأحنف بن قيس :


    كان الأحنف بن قيس أسرع من ملك الترك وملك الصغد فوصل بجيشه إلى بلخ قبلهما، وحارب يزدجرد والتقى الجيشان في أول معركة يحارب فيها يزدجرد بنفسه؛ فقد تعود الهرب منذ دخول الجيوش الإسلامية إلى أرض فارس، وكأنما كُتِبَ عليه الهروبُ منذ ميلاده؛ فقد هربت به أمه وهو طفل خوفًا عليه من كسرى ليقتله، ثم أحضروه ليتولى الحكم وكان عمره يومئذ إحدى وعشرين سنةً.

    وبدأ القتال وتخيل حال جيش ظل يهرب من مكان إلى آخر حتى ألجأته الظروف للحرب مع جيش يتقدم من مكان إلى آخر، وكيف حاله وهو يقابل جيشًا يحرص على الموت حرصهم على الحياة، وكانت هذه المعركة من أقصر المعارك في الفتوحات الإسلامية، فما هي إلا ساعات قليلة حتى عملت السيوف الإسلامية في رقاب الجيش الفارسي، وكان يزدجرد يقاتل في مؤخرة الجيش، وكالمعتاد لما رأى سيوف المسلمين تأخذ مأخذها من جيشه؛ لاذ بالفرار بقلة من جيشه عابرًا النهر داخلاً في مملكة الترك..
    ويقف سيدنا الأحنف بن قيس على آخر حدٍّ من الحدود الفارسية، ولم يكن لسيدنا الأحنف بن قيس أن يعبر إلى مملكة الترك دون أن يأذن له سيدنا عمر بن الخطاب، وكان قد أرسل إلى الأحنف رسالة بأنه إذا وصل إلى هذه النقطة فلا يعبر إلى مملكة الترك، فلم يفكر سيدنا عمر في الدخول في الأراضي التركية؛ لأن جيوش المسلمين متفرقة في أماكن واسعة، فالجيش الذي قضى على الدولة الفارسية قوامه عشرون ألف مسلمٍ، قد توزعت بقية الجيوش الإسلامية على أقاليم الدولة الفارسية، فخشي سيدنا عمر بن الخطاب من تشتت الجيوش في الأراضي التركية، وبذلك يضيع النصر الذي حققه في البلاد الفارسية، فكانت أوامره ألا يتعدَّى نهر جَيْحون حتى وإن هرب يزدجرد خلف هذا النهر، ويقف الأحنف بن قيس طاعة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولم يتقدم ليعبر نهر جَيْحون.
    بعد الانتصار الذي حققه سيدنا الأحنف بن قيس في بلخ، وسقوط الدولة الفارسية، وبعد أن اطمأن على الوضع فيها تركها عائدًا بجيشه إلى مرو الروذ بعد أن ترك بها حامية لتحميها.
    لم ينته الأمر بالنسبة ليزدجرد بعدُ؛ فبالأمس القريب كان ملكًا على مملكة كبيرة من أقوى الممالك في ذلك الوقت، واليوم أصبح فارًّا مطارَدًا، وقد فَقَدَ كنزه المدفون في مرو الشاهجان، وفقد وضعه الاجتماعي، وما بين عشية وضحاها سُلِبَ منه كُلُّ ما يملك، وبعد أن كان يتقلب في النعيم أصبح من أهل الجحيم.
    واستنجد يزدجرد بملك الصغد وملك الترك على الجيش الإسلامي رغبة في الانتصار عليه، أو تحرير الكنز المدفون في مرو الشاهجان على أن يقاسمه الكنزَ ملكُ الترك، ووافق ملك الترك، وعبرت الجيوش التركية التي تحالفت مع الجيش الفارسي، واضطرت الحامية المرابطة في بلخ إلى الانسحاب إلى الأحنف بن قيس في مرو الروذ؛ لما رأت كثرة عدد الجيش القادم من مملكة الترك، ويستولي يزدجرد والخاقان على بلخ مرة أخرى.
    واتجهت الجيوش الفارسية المتحالفة مع الجيوش التركية إلى مرو الروذ لمقابلة الأحنف بن قيس، وعسكرت هذه الجيوش قرب مرو الروذ، وجهز الأحنف بن قيس جيشه لما علم بانسحاب الحامية الإسلامية من بلخ، وتلتقي الجيوش في معركة في مرو الروذ، وهذه المعركة ليست على غرار معركة بلخ، فالجيوش التركية كانت كبيرة العدد بجانب جيش الصغد وبقايا الجيش الفارسي، فكانت من المعارك الشديدة في هذه الفترة، واستمرت المعركة أيامًا، وكانت الفلول تأتي من جهات مختلفة، ومن خارج حدود مرو الروذ وأحاطت هذه الفلول بالجيش الإسلامي، وكانت العادة القتال نهارًا، وفي أثناء الليل خرج الأحنف ليلاً ليعرف أخبار جنوده، ولعله يسمع برأي ينتفع به، فمر برجلين ينقيان علفًا، وأحدهما يقول لصاحبه: لو أنا أميرنا أسند ظهرنا إلى هذا الجبل وجعل النهر على يميننا من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد رجوتُ أن ينصرنا الله. فقد خشي المسلمون الحصار في أرض لا يعرفونها، فسمع الأحنف بن قيس ذلك الرأي وأعجبه، فلما أصبح جمع الناس وقال لهم: إني أرى أن تجعلوا ظهوركم إلى هذا الجبل. ثم قال لهم: أنتم اليوم قليل وعدوكم كثير فلا يَهُولَنَّكم؛ فـ{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. بعد الوضع الذي اتخذه المسلمون بدأت الكفة ترجح نسبيًّا في جانب المسلمين ولكن لم يتحقق النصر الكامل، وقاتل المسلمون من جهة واحدة، فأصبح الأمر معتمدًا على كفاءة المقاتل المسلم، وليس على حصار الفرس والترك كما كان في بداية المعركة.
    وفي ليلة من ليالي المعركة خرج الأحنف قائد الجيوش طليعةً لأصحابه أو دورية استكشافية بين الحدود الفاصلة بين الجيشين ليدرس الموقف؛ ليعرف كيف ينتصر على هذا الجيش، حتى إذا كان قريبًا من عسكر الخاقان وقف، فلما كان وجه الصبح خرج فارس من الترك بطوقه فضرب بطبلة، وكانت عادة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم أكفاء كلهم يضرب بطبلة، ثم يخرجون بعد خروج الثالث. ثم وقف الفارس من العسكر موقفًا يقفه مثله، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه الأحنف فقتله وأخذ طوق التركي ووقف، فخرج فارس آخر من الترك ففعل فعل صاحبه، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه فقتله وأخذ طوقه ووقف، ثم خرج الثالث من الترك ففعل فعل الرجلين، فحمل عليه الأحنف فقتله، ثم انصرف الأحنف إلى عسكره.
    وبالفعل خرجت الجيوش التركية بعد الثالث فأتوا على فرسانهم فوجدوهم قتلى، وكانوا أهل تشاؤم وتفاؤل كالفرس؛ فتشاءم خاقان وتطيَّر، وتسربت الهزيمة إلى قلوب جيشه.


    وتعددت الروايات بالنسبة لموقف الخاقان وجيشه التركي، فبعض الروايات تذكر أنهم عادوا إلى بلادهم ولم يقاتلوا، وقال الخاقان: قد طال مقامنا وقد أصيب فرساننا، ما لنا في قتال هؤلاء القوم خير؛ فرجعوا. وارتفع النهار للمسلمين ولم يروا منهم أحدًا، وأتاهم الخبر بانصراف خاقان والترك إلى بلخ.
    وتذكر بعض الروايات الأخرى أن المعركة تمت، وحمل الأحنف بن قيس رايته وانطلق داخل الجيش التركي وأوقع بهم هزيمة رهيبة.
    ونعلم أن يزدجرد كان مع الجيش التركي وكان بينهما اتفاق، وهو ما دفع الخاقان الدخول في حرب مع المسلمين، ولم يكن المسلمون على علم بتلك الاتفاقية.
    وأثناء القتال ترك يزدجرد الخاقان مقابل المسلمين بمرو الروذ وانصرف بحاميته الفارسية إلى مرو الشاهجان، وكان بها حامية إسلامية صغيرة على رأسها حاتم بن النعمان، وكان الجيش الفارسي أكبر نسبيًّا من الجيش الإسلامي، فضرب عليهم الحصار، واستطاع يزدجرد ومن معه الدخول إلى مرو الشاهجان بعد انسحاب الحامية الإسلامية، وانكشف ما اتفق عليه يزدجرد والخاقان، فقد شغل الترك جيش المسلمين في مرو الروذ ليتمكن يزدجرد من الحصول على الكنز المدفون في مرو الشاهجان ثم يعود إلى مملكة الترك، وفي الوقت الذي وصلت فيه الأنباء إلى الأحنف بن قيس كان الجيش الإسلامي قد حقق انتصاره على الجيش التركي، وكان أمام الأحنف اختياران إما أن يسير إلى بلخ بالقوى الأساسية، أو يسير إلى مرو الشاهجان حيث يزدجرد وكنزه المدفون، فاختار الأحنف أن يسير إلى مرو الشاهجان لسببين؛ أولهما: أنه لا يريد أن يقع بين جيشين في الشمال والجنوب.
    والسبب الثاني: طاعته لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عدم تجاوزه نهر جيحون.
    لما علم يزدجرد أن الأحنف لحقه وقادم إليه أُسْقِطَ في يده، فهو لم يكن يتوقع أن تأتي إليه الجيوش، بل توقع أنها ستذهب إلى الجيش التركي، فهرب يزدجرد كعادته.
    الفرس ينقلبون على يزدجرد :

    فلما جمع يزدجرد خزائنه، وكانت كبيرة عظيمة، وأراد أن يلحق بخاقان، قال له أهل فارس: أي شيء تريد أن تصنع؟ قال: أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين. قالوا له: إن هذا رأي سوء، ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم؛ فإنهم أوفياء وهم أهل دين، وإن عدوًّا يلينا في بلادنا أحب إلينا من عدو يلينا في بلاده ولا دين له، ولا ندري ما وفاؤهم. فأبى عليهم، فقالوا: دع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يلينا، لا تخرجها من بلادنا. فأبى، فاعتزلوه وقاتلوه فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها وانهزم منهم ولحق بخاقان، وعبر النهر من بلخ إلى فرغانة، وصالح الجنود الفارسيون سيدنا الأحنف بن قيس على الجزية وأعطوه كنز يزدجرد، فباعه المسلمون بمائة وخمسين مليون درهم، وقسم مائة وعشرين مليون درهم على العشرين ألفًا؛ فكان نصيب الفرد ستة آلاف درهم.

    أخبار النصر تصل المدينة :

    وأرسل إلى سيدنا عمر بن الخطاب خبر الفتح ومعه ثلاثون مليون درهم خُمس الغنائم، فما كان من سيدنا عمر بن الخطاب إلا أن جمع الناس وقرأ عليهم كتاب الأحنف بن قيس، ثم خطب خطبة فقال: "إن الله تعالى ذكر رسوله، وما بعثه به من الهدى، ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة، ثم قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، الحمد لله الذي أنجز وعده ونصر جنده، ألا إن الله قد أهلك مُلْكَ المجوسية وفرَّق شملهم، فليسوا يملكون بأيديهم شبرًا يضر بمسلم، ألا إن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، ألا وإن المِصْرَيْن (الكوفة والبصرة) من مسالحها (المدن الصغيرة التابعة) اليومَ كأنتم والمصرين فيما مضى من البعد، وقد أوغلوا في البلاد، والله بالغ أمره، ومنجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله؛ فقوموا في أمره يوفِ لكم بعهده، ويؤتكم وعده، ولا تُبدِّلوا ولا تغيروا؛ فيستبدل الله بكم غيركم؛ فإني لا أخاف على هذه الأمة إلا أن تُؤتَى من قِبَلِكُم".
    ونضع كلمات سيدنا عمر بن الخطاب نصب الأعين لتكون لنا درسًا من الفتوحات الفارسية، تعيه قلوبنا وخاصة آخر كلامه، فهو لا يخاف على هذه الأمة من الفرس أو الروم أو الصين أو من غير ذلك بقدر ما يخاف أن تؤتى هذه الأمة من قبلها، وذلك إذا أحلَّت الأمة حرامها وحرَّمت حلالها، وإذا حدثت الفرقة بين المسلمين حتى لو حقق كل فرد أعلى درجات التقوى، طالما أنه يعمل بمفرده ولا يتعاون مع الآخرين لتحقيق أمة مترابطة ومتماسكة وقوية البنيان.
    ودائمًا ما كان سيدنا عمر يقول لجيش المسلمين: إني أخاف عليكم من الذنوب أخوف من جيش الفرس ومن جيش الروم. وكان الجيش الإسلامي -في ذلك الوقت- قد حقق هذه الصفات التي هي مفتاح النصر؛ لذا أتم الله تعالى لهم فتح المملكة الفارسية، ودانت لهم مملكة من أعظم الممالك في ذلك الوقت.
    مقتل كسرى يزدجرد :

    وتزامن سقوط الدولة الفارسية مع فتح المسلمين لبرقة في تونس، وتوغلهم في أرض الروم حتى حدود المملكة التركية.

    وبعد هذا السقوط المفزع الذي لحق بيزدجرد، إضافة إلى محاربة جنده له وأخذ كنزه، وصل يزدجرد إلى خاقان الترك فاستُقْبِل استقبال الملوك، ثم سأله أحد عماله (وكان على مرو الشاهجان وكان اسمه ماهويه) ابنته ليتزوجها؛ فغضب يزدجرد غضبًا شديدًا، وقال له: إنما أنت عبد من عبيدي. فعمل ماهويه على تقليب الحاشية على يزدجرد، وقررت الحاشية قتله، فهرب يزدجرد من الحاشية الفارسية حتى انتهى إلى بيت طحَّان فآواه وأطعمه ثم سقاه الخمر فلعبت برأسه؛ فأخرج تاجه ووضعه على رأسه فعرفه الطحان، ثم أخبر ماهويه، وتشاءم ماهويه من قتل يزدجرد بنفسه أو أحد من حاشيته؛ فقد كانوا يعتقدون أن من قتل كسرى أو قتل ملكًا عُذِّبَ بالنار في الدنيا، فأوحى إلى الطحان بقتله، فأخذ فأسه وضرب يزدجرد فاحتز رأسه بها، وبعد قتل الطحان لكسرى قال ماهويه: ما ينبغي لقاتل ملك أن يعيش. فقتل الطحان، وألقى جثة يزدجرد في نهر جيحون، وحملت المياه جثته إلى مكان قريب من مرو الشاهجان، وتعرف عليه مطران على مرو يقال له: إيلياء، فجمع من كان قبله من النصارى، وقال لهم: إنَّ ملك الفرس قد قتل، وهو ابن شهريار بن كسرى، وإنما شهريار وَلَدُ شيرين المؤمنة التي قد عرفتم حقَّها وإحسانها إلى أهل ملَّتها من غير وجه؛ ولهذا الملك عنصر في النصرانِيَّة مع ما نال النصارى في مُلك جدِّه كسرى من الشرف، وقبل ذلك في مملكة ملوك من أسلافه من الخير، حتى بنى لهم بعض البِيعَ؛ فينبغي لنا أن نحزن لقتل هذا الملك من كرامته بقدر إحسان أسلافه وجدّته شيرين إلى النصارى؛ وقد رأيت أن أبني له ناووسًا، وأحمل جثّته في كرامة حتى أواريها فيه.
    وانتهت بذلك قصة آخر ملك تولى حكم فارس، وكان من عادة الفرس أن يبتدئوا التقويم من اعتلاء كسرى لكرسي العرش، وبموت الملك ينتهي التقويم ويبتدئ تقويم جديد ببداية عهد كسرى جديد، ولم يأت بعد يزدجرد أحد ليسير المجوس -إلى هذه اللحظة- بالتقويم اليزدجردي، وما زالت هذه الطائفة باقية وموجودة وتعرف بالزرادشتية.
    بعد انتهاء الفتوحات الفارسية والانتصار العظيم الذي حققه المسلمون، الذي لا نستطيع إعطاءه حقه إلا بعد قيام من ينشر الخير، ويبشر بهذا الدين وينشره في ربوع الأرض، وفي كل مكان في العالم، في هذا الوقت نستطيع أن نعرف مقدار الجيش الإسلامي الذي خرج بعد حروب الردة مباشرة -رغم عدد قتلى المسلمين في معارك الردة- لغزو الفرس والروم، وشمال إفريقيا حتى وصل إلى الأندلس.
    وذكر أبو الحسن الندوي في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) عن (علم مقارنة الأمم) فقال: بالمقارنة.. قوة المسلمين إلى قوة الفرس وقوة الروم في ذلك الوقت، هي أضعف من قوة المسلمين في هذا الوقت من قوة روسيا وأمريكا قبل سقوط روسيا، وقوة الفرس والروم أشد على المسلمين من قوة روسيا وأمريكا على المسلمين الآن، لكن الفارق عوامل النصر التي كانت موجودة من قبل، ولو أراد المسلمون العزة والمنعة والنصر وعملوا له لحققه الله تعالى؛ فلا شيء يعجزه وكل شيء بيده.

    هدف الفتوحات الإسلامية :


    هل يوجد تعارض بين الفتوحات الإسلامية التي كانت عن طريق حروب شديدة مع قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]؟ مع أن الآية واضحة وصريحة، وأن الفرس لم يهاجموا المسلمين، بل المسلمون هم الذين حاربوهم في بلادهم.

    الحقيقة أن هذا الأمر من الأهمية بمكان ولا بد من الوقوف على حقيقته، وفي هذا يقول أحد العلماء: إن حركة الفتوحات الإسلامية لم تكن لمجرد الدفاع عن الدولة الإسلامية كما يحاول بعض المسلمين الدفاع عن الإسلام، والقول بأن الإسلام لا يحارب إلا دفاعًا، ويظن أنه يخدم الإسلام بذلك، حتى لا يُطْلَق على الإسلام أنه دين إرهاب، أو أنه يحاول الضغط على هذه الدول لتعتنق الإسلام، ونذكر أن الإسلام ليس دينًا دفاعيًّا فقط، بل فرض عين على المسلمين أن ينشروا الدعوة خارج حدودهم حتى يَعُمَّ الإسلام ربوع الأرض، والمسلمون لم يفرضوا الإسلام على أية أمة من الأمم، لكنه يحرر هذه الشعوب من الطواغيت التي تحكمهم وتمنعهم من اختيار الدين المناسب؛ فمثلاً كان الشعب الفارسي يتبع ولاته في عبادة النار، ولا يحق لهم اختيار ما يدينون به، لكن دين الله لا بد أن يصل إلى هذه البلاد، وإلى كل فرد، ثم يترك له حرية الاختيار في اعتناقه للإسلام أو عدم اعتناقه، أما إذا تركه المسلمون دون إبلاغ فهم آثمون، فكانت مهمة الجيوش الإسلامية محاربة الطبقة الحاكمة التي تأبى أن تطيع أمرَ الإسلام، بعد عرض الإسلام عليهم وبعد عرض الجزية، والجزية حلٌّ أفضل للمعاهِدين من الأموال والضرائب التي يدفعونها لحكوماتهم وأقل مما يدفعه المسلمون زكاةً؛ ولذا كانت هذه الشعوب تغتبط بالحكم الإسلامي.
    بعد عرض هذه الأمور الثلاثة: الإسلام أو الجزية أو المنابذة؛ فإن رفض القوم الإسلام أو الجزية قاتل الجيش الإسلامي الجيش الفارسي والجيش الرومي ولا علاقة له في الحرب بمن لا يحارب، لا يقاتل الفلاحين، ولا من يعبد الله في محرابه أو في كنيسته أو في صومعته أو حتى في معبد النار، لكنه يقاتل من يقفون أمام نشر دين الله I، حتى إذا خلَّى بين الناس وبين الاختيار، ترك لهم المسلمون حرية العقيدة، يعبدون ما شاءوا أن يعبدوا بعد توضيح الإسلام لهم، فإن رضوه دينًا كان بها، وإن لم يرضوه أقرُّوهم على ديانتهم، رغم أن الدولة الفارسية تعبد النار وليسوا أهل كتاب، ومع دفعهم الجزية يتركهم المسلمون يعبدون النار، وفي مقابل الجزية يمنعهم المسلمون ويدافعون عنهم، ولم يكن غرض المسلمين من الفتوحات التكالب على الدنيا، بل أوقف سيدنا عمر بن الخطاب الحروب خشية كثرة الغنائم على نفوس المسلمين، فهل هناك قائد أي جيش فاتح يوقف الحروب؛ لأنه يخاف على أتباعه من كثرة الغنائم؟!

    ولم تحمل الرسائل التي بعثها سيدنا عمر بن الخطاب بين طياتها أي غرض من أغراض الدنيا بل كان جُلُّ همه الآخرة وترك الدنيا، ولو وضعوا أعينهم على الآخرة لربحوا الدنيا والآخرة، وإذا وضعوا أعينهم على الدنيا خسروهما معًا، وهذا هدف نبيل من أهداف الفتوحات الإسلامية، ولا نخجل من ذكر انتشار الإسلام في هذه البلاد بهذه الحروب، بل الإسلام أعطى الفرصة لهؤلاء الناس ليتعرفوا عليه، تاركًا لهم حرية الاختيار.
    ونتساءل: هل سيأتي اليوم الذي نفرح فيه عندما نرى انتشار الإسلام في أوربا وأمريكا وروسيا وكل ربوع الأرض؟ نعم، سيأتي هذا اليوم لكن بجدٍّ واجتهاد من المسلمين في تعريف البشرية بديننا الحنيف، وقد وعد الله بتحقق ذلك، ونحن نؤمن بموعود الله وأن دين الله سيعمُّ كُلَّ الأرض، ويعز الإسلام كما كان من قبل ويَذِلُّ الشرك، ولكن الفكرة تكمن فينا، وهل سيكون لنا دور في ذلك أم نتولى؛ فيحق علينا قول الله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]؟ فبداية الهَلَكَة كما وضحها ملك الصين: يحلُّوا حرامهم ويحرِّموا حلالهم. ولا بد أن يستشعر كل إنسان أن النصر يتأخر بمعصيته وذنبه، فالزوج الذي يترك زوجته تخرج إلى الشارع بدون حجاب، وكذلك الأب الذي يترك ابنته بدون حجاب هذا الأمر يؤخر النصر، رغم أن هذا شيء فردي وخاصٌّ به إلا أنه يحرم حلالاً ويحل حرامًا، ويؤخر النصر, كذلك من يتعامل بالربا، ومن يتعامل في الخمر، والغيبة والكذب، وكل من يقوم بشيء مخالفٍ يحرم فيه حلالاً ويحل حرامًا.
    ويؤخر النصر أيضًا -ولو كان الأفراد على أعلى درجات التقوى- إذا انصرف كلٌّ إلى نفسه لا يفكر في الآخرين، بل لا بد لهذه النفوس التقية أن يجتمع بعضها مع بعض في دولة واحدة، وليس من الصعب على المسلمين أن يعيشوا تحت لواء دولة واحدة تنشر الخير وتنشر الإسلام في أرجاء المعمورة، وقد ظل الإسلام يحكم وله دولة قائمة تجمع شمل المسلمين ألفًا وثلاثمائة عام، ولم يعش المسلمون سوى خمسة وسبعين عامًا فقط متفرقين بعد إسقاط الخلافة العثمانية، وهذه المدة ليست بشيء في حياة الأمم، واجتماع هذه الأمم ليس بالصعب ولا العسير، فالأهم من ذلك الإرادة القوية التي تجمع هذه الشعوب، وتبدأ بتكوين الحكومات الإسلامية داخل بلادنا ونشر الإسلام فيها، ثم تتحد هذه البلاد في أمة واحدة تحافظ على العدل والمحبة وتنشر الإسلام في ربوع الأرض، وكلٌّ له دور في مكانه..
    وكما يقول النعمان بن مُقَرِّن لما خطب المسلمين في معركة نهاوند: ولا يكِلْ أحدُكم قِرْنَه إلى أخيه. فليبدأ كلٌّ منا بنفسه، ويقربها من الله I مبتعدًا عن الحرام، مقتربًا من الحلال، مكثِرًا من الطاعات، وكل هذه الأشياء من عوامل النصر، ثم يقوم بدعوة غيره إلى الخير والكفِّ عن المعاصي، وليكن لك دور في مجتمعك، لا أن تعيش لنفسك فقط، ويكون جُلُّ همِّك جمع الأموال، أو تحقيق منافع شخصية، حتى ولو كانت على المستوى العبادي والإيماني.

    ويقول أحد المصلحين ملخصًا هذا الكلام: أصلحْ نفسَك وادعُ غيرَك، ولو حاول كل منا أن يقيم دولة الإسلام في قلبه لقامت على أرضه، أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقمْ على أرضكم. وحتمًا لو سلكنا الطريق الصحيح سنصل إلى ما وصل إليه الصحابة من نصر وتمكين بإذن الله.
    منقول بتصرف





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان


    معركة الخندق .. الهزيمة التي لم يلق المسلمون مثلها في الأندلس (327هـ= 939م)


    قصة الإسلام
    (16)




    مرَّةً أخرى يتطور القتال بين المسلمين في الأندلس والنصارى في شمالها، فوقعت معركة الخندق التي تُعد من أخطر ما مر على الأندلس في زمن عبد الرحمن الناصر.


    الأوضاع في الأندلس قبل معركة الخندق



    وقعت أحداث هذه المعركة سنة (327هـ= 939م)؛ أي بعد سبعٍ وعشرين سنةً من بداية عهد عبد الرحمن الناصر الحاكم الفعلي للأندلس آنذاك [1]، وكانت هناك ثلاث ممالكٍ نصرانيَّة في شمال الأندلس؛ مملكة نافار تحت قيادة "الملكة طوطة" في أقصى الشمال، ومنطقة شمال شرق الأندلس ويحكمها الفرنسيُّون، ومملكة ليون شمال غرب الأندلس وهي أخطر هذه الممالك، وقد تربَّع على عرشها "راميرو الثاني" في عام 321ه بعد صراعٍ بين أعضاء المملكة استمرَّ سبع سنوات [2].


    أسباب المعركة
    كان "راميرو الثاني" هذا معروفًا بعدائه الشديد للإسلام والمسلمين [3]، كما كان صليبيًّا متطرِّفًا، لم يترك وسيلةً يُمكنه أن يضرَّ بها دولة المسلمين إلَّا استعملها؛ فكان يُغِير على الأراضي الإسلامية، ويُحَرِّض الثوَّار على عبد الرحمن الناصر، ويُعينهم على ذلك بما يستطيع، وهذا غير المعارك المباشرة التي كان يخوضها بنفسه ضدَّ المسلمين [4].
    وما إن تولَّى راميرو الثاني أمرَ مملكة ليون حتى أراد إظهار قوَّته، فتوجَّه سنة (321هـ= 933م) إلى حصن وخشمة، فخرج المسلمون تاركين هذا الحصن، وانسحبت القوَّة المدافعة عنه إلى الجبال، ومِنْ ثَمَّ عزم الناصر على أن يسير لاسترداد الحصن بنفسه، إلَّا أنَّ راميرو آثر الانسحاب [5].
    رأى عبد الرحمن الناصر بعد ذلك أن يُبدِّد قوَّة ليون ويُزيل خطرها، فتوجَّه في سنة 323ه لضربها وتمزيقها، لكن حدث شيءٌ غير متوقَّع، وهو أنَّ والي مدينة سرقسطة -ويُدعى محمد بن هشام التجيبي- أعلن عصيانه على عبد الرحمن الناصر، وأرسل إلى راميرو الثاني للتحالف معه، فلم ينتظر الناصر تطوُّر هذا التحالف بينهما وحاصر سرقسطة، وعيَّن أحد أقاربه أميرًا عليها ويُدعى أحمد بن إسحاق، غير أنَّ أحمد هذا كان متآمرًا، فأرسل إليه عبد الرحمن الناصر من يقبض عليه، فوصل الخبر إلى أخيه أميَّة بن إسحاق الذي بدوره أعلن عصيانه، ثم فرَّ إلى مملكة ليون يستنجد براميرو الثاني، وقد نجحت قوَّات عبد الرحمن الناصر في فتح مدينة سرقسطة [6].

    الاستعداد للمعركة


    حصن شنت منكش موقع محتمل لساحة المعركة.
    بعد أن تمكَّن عبد الرحمن الناصر من إنهاء التمرُّد في سرقسطة، تابع تقدُّمه بجيشه نحو مملكة نافار، فاستسلمت له ملكتها طوطة وأعلنت له الطاعة، وبذلك لم يبقَ أمام عبد الرحمن الناصر سوى مملكة ليون بقيادة أميرها راميرو الثاني، فبدأ عبد الرحمن الناصر يستعدُّ لإجراء معركةٍ فاصلةٍ وحاسمةٍ ضدَّه [7].
    بعد عامين من دخوله سرقسطة تأهَّب عبد الرحمن الناصر للقيام بأعظم غزواته ضدَّ مملكة ليون، فحشد جيشًا ضخمًا [8]، يبلغ زهاء مائة ألف [9]، وعَهَد بقيادته إلى "نجدة بن حسين الصقلبي"، وفي صيف سنة (939م= 327هـ) سار عبد الرحمن الناصر إلى ليون على رأس جيشه الضخم، وكان راميرو الثاني يُرابط على مقربةٍ من قلعة شنت منكش في مدينة سمُّورة في حشودٍ عظيمة، وزوَّده حليفه الخائن أميَّة بن إسحاق بنصائح ومعلومات ثمينة، كما انضمَّت إليه طوطة ملكة نافار ناكثةً لعهدها مع عبد الرحمن الناصر، وبذا اتَّحدتْ قوى إسبانيا النصرانيَّة لمقاتلة المسلمين مرَّةً أخرى [10].

    أحداث المعركة


    خندق قلعة سمورة كان مملوءً بالماء وقت المعركة.
    بعد أن دخل عبد الرحمن الناصر بجيشه مدينة ليون زحف على مدينة سمُّورة، وكانت هذه المدينة في غاية المناعة[11]، وأقوى قلعةٍ لمملكة ليون[12]؛ حيث يُحيط بها سبعة أسوار، وبين الأسوار خنادق واسعة تفيض بها المياه[13]، ولها حاميةٌ قويَّةٌ، وفيها قوَّاتٌ عديدةٌ للدِّفاع عنها[14].


    وفي يوم الجمعة (الحادي عشر من شوال سنة 327ه= الأول من أغسطس سنة 939م)، على باب قلعة شنت منكش [15]، تدور واحدةٌ من أشرس وأعنف المعارك على المسلمين [16]، وبدأ المسلمون بالهجوم وافتتحوا سورين من أسوار المدينة السبعة [17]، غير أنَّ النصارى احتموا داخل المدينة، ولحق الإعياء بالمسلمين وساد الاختلال بينهم، فكرَّ عليهم النصارى بشدَّةٍ وحماسة [18]، فقتلوا منهم خمسين ألفًا [19]، وهو نصف عدد جيش المسلمين، وبانتهاء المعركة فرَّ عبد الرحمن الناصر مع النصف الآخر عائدين بأكبر خسارة وأثقل هزيمة [20]، وسُمِّيت هذه الموقعة بموقعة الخندق لنشوبها على خنادق سمورة [21].
    وأرجع المؤرخون سبب الهزيمة إلى أن بعض المسلمين كانوا يجدون في قلوبهم من عبد الرحمن الناصر، فقبعوا للصفوف [22]، وسارعوا في الهرب، وجرُّوا على المسلمين الهزيمة وأوبقوهم [23].


    [1] راغب السرجاني: قصة الأندلس، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1432هـ= 2011م، 1/ 206.
    [2] أطلس الأندلس، شركة الأبداع الفكري، الكويت، الطبعة الأولى، 1426هـ= 2005م، ص188، 189.
    [3] خليل إبراهيم السامرائي- عبد الواحد ذنون طه- ناطق صالح مصلوب: تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2000م، ص167.
    [4] راغب السرجاني: قصة الأندلس، 1/ 215.
    [5] محمد عنان: دولة الإسلام في ألأندلس، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعةالرابعة، 1417هـ= 1997م، 1/ 401، : أطلس الأندلس، ص189.
    [6] أطلس الأندلس، ص190، 191.
    [7] أطلس الأندلس، ص191، 192.
    [8] محمد عنان: دولة الإسلام في ألأندلس، 1/ 413
    [9] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، 1/ 184، والحميري، ابن عبد المنعم: الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق: إحسان عباس، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، طبع على مطابع دار السراج، الطبعة الثانية،1980م ، ص325، والمقري: نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، لبنان، 1900م، 1/ 355.
    [10] محمد عنان: دولة الإسلام في ألأندلس، 1/413، 414.
    [11] محمد عنان: دولة الإسلام في ألأندلس، 1/414.
    [12] أطلس الأندلس، ص192.
    [13] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق: أسعد داغر، دار الهجرة، قم، 1409هـ، 1/184.
    [14] أطلس الأندلس، ص192.
    [15] محمد عنان: دولة الإسلام في ألأندلس، 1/419.
    [16] راغب السرجاني: قصة الأندلس، 1/206.
    [17] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، 1/184.
    [18] محمد عنان: دولة الإسلام في ألأندلس، 1/414.
    [19] المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، 1/184، والحميري، ابن عبد المنعم: الروض المعطار في خبر الأقطار، ص325، والمقري: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 1/355.
    [20] راغب السرجاني: قصة الأندلس، 1/206.
    [21] محمد عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/414.
    [22] قبعوا: أي اختبئوا واستتروا، أو تخلفوا عنها. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 8/258، وأحمد عمر هاشم ومجموعة من الباحثين: معجم اللغة العربية المعاصرة، 3/1768.
    [23] راغب السرجاني: قصة الأندلس، 1/206، 207.
    منقول بتصرف




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان


    فتح مصر في عهد عمر بن الخطاب (1 - 2)


    (21هـ -642م)

    قصة الإسلام



    (17)

    خريطة تُظهرُ زحف المُسلمين نحو مصر آتين من الشَّام والحجاز

    يرتبط فتح
    مصر بأهميتها السياسية والاقتصادية، وذلك بما لديها من خصائص، وما توفره من إمكانات على جانب كبير من الأهمية.

    فكرة فتح مصر
    ويروي ابن عبد الحكم أن عمرو بن العاص أشار على عمر بن الخطاب بفتحها، وقال: "إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونًا لهم، وهي أكثر الأرض أموالًا، وأعجزها عن القتال والحرب"، والمعروف أن عمرًا كان قد سافر إلى مصر في الجاهلية للتجارة، فوقف على معالمها وعلى أوضاعها الداخلية، وبخاصة النزاع الديني بين البيزنطيين الحاكمين، وبين الشعب المصري الذي يخالفهم في المذهب، وظن أن المصريين سوف يمتنعون عن مساعدة الحاميات العسكرية البيزنطية المنتشرة في مصر إذا هاجمها المسلمون، ومما زاده اقتناعًا بما يظنه ما تناهى إلى أسماع المصريين عن سياسة المسلمين المتسامحة في بلاد الشام.

    اجتمع عمرو بن العاص بعمر بن الخطاب في الجابية حين جاء إلى بلاد الشام بعد طاعون عمواس، وعرض عليه فتح مصر وطلب السماح له بالمسير إليها، وهنا تظهر لأول مرة في المصادر العربية فكرة فتح مصر، وكأنها فكرة طارئة عنت لعمرو بن العاص الذي كان يسعى للحصول على ميدان جديد يظهر فيه نشاطه، وحسنها للخليفة عمر، وتجري بعض المصادر أن فكرة فتح مصر تعود إلى عمر بن الخطاب نفسه الذي أمر عمرو بن العاص بالمسير إليها [1].
    والواقع أن فتح مصر أضحى ضرورة بعد فتح بلاد الشام، وقد أثارت هذه البلاد اهتمام المسلمين الجدي بعد أن وقفوا على أوضاعها السياسية والاقتصادية والدينية المتردية، ذلك أن تطلعات عمرو بن العاص، ومن خلالها عمر بن الخطاب تكمن في فتح مصر، وضمها إلى الدولة الإسلامية من خلال هذا الواقع.


    فتح الفرما

    خريطة تُبيِّنُ مسير المُسلمين من الشَّام إلى الفرما بوَّابة مصر الشرقيَّة، وانطلاقهم منها لِفتح سائر أرجاء البلاد.
    تقرر في عام "18هـ/ 639م"، تنفيذ القرار الذي اتخذ بفتح مصر في مؤتمر الجابية، وعهد عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص بقيادة العملية، ووضع بتصرفه ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي، وقيل: أربعة آلاف، وطلب منه أن يجعل ذلك سرًا، وأن يسير بجنده سيرًا هنيًا.

    سار عمرو بن العاص بجنده مخترقًا صحراء سيناء، ومتخذًا الطريق الساحلي حتى وصل إلى العريش (أول عمل مصر من ناحية الشام) في عيد الأضحى: "10 ذو الحجة 18هـ/ 12 ديسمبر 639م"، فوجدها خالية من القوات البيزنطية، فدخلها، وشجعه ذلك على استئناف التقدم، فغادر العريش سالكًا الطريق الذي كان يسلكه المهاجرون، والفاتحون والتجار منذ أقدم العصور، ثم انحرف جنوبًا تاركًا طريق الساحل، واتخذ الطريق الذي سار فيه الفرس عندما استولى على مصر، حتى وصل إلى الفرما (على الساحل من ناحية مصر، وهي مفتاح مصر في الشرق).
    كانت أنباء زحف المسلمين قد وصلت إلى مسامع المقوقس، فاستعد للتصدي لهم، ولكنه آثر ألا يصطدم بهم في العريش، أو الفرما وتحصن وراء حصن بابليون (بمصر القديمة، اسم عام لديار مصر بلغة القدماء، وقيل: هو اسم لموضع الفسطاط خاصة)، ولعل مرد ذلك يعود إلى:
    - أن العريش والفرما قريتان من الصحراء مع علمه بأن المسلمين أقدر الناس في حرب الصحراء، بالإضافة إلى قربهما من فلسطين مما يجعل إمداد عمرو بجنود من بيت المقدس وما جاورها أمرًا يسيرًا، لذلك فضل أن يدع عمرًا يمضي في زحفه، ويتوغل في أرض مصر ليبعده عن قواعده ثم يهاجمه، واعتمد على حصون الفرما القوية لعرقلة تقدمه دون أن يخاطر بالذهاب بنفسه إلى هناك، أو يرسل الأرطبون، كبير القادة، وهذا خطأ عسكري كلفه غالبًا حيث كانت الخطة العسكرية السليمة تقضي بأن يرسل قواته إلى الفرما ليوقف زحف المسلمين هناك، ولو فعل ذلك، وهو يمتلك قوة عسكرية هائلة لربما كان قد تغير وجه الصراع.
    - أنه لم يكن يطمئن إلى ولاء المصريين، وخشي من أن يستغلوا الفرصة، ويقوموا بثورة ضد الحكم البيزنطي.
    - أنه تهيب الدخول في مغامرة عسكرية مع المسلمين مع علمه بمقدرتهم القتالية، وتفوقهم في ميدان القتال، وبخاصة أنهم خارجون من انتصارات متلاحقة في بلاد الشام، ومعنوياتهم مرتفعة.
    افتقر عمرو إلى آلات الحصار، إذ لم يكن للمسلمين عهد بأساليب حصار المدن، واعتمدوا في فتوحهم لمدن العراق، وبلاد الشام على المواجهة، أو الصبر عليها إلى أن يضطرها الجوع إلى الاستسلام، وهكذا ضرب عمرو الحصار على الفرما، وتحصنت حاميتها البيزنطية وراء الأسوار، وجرت مناوشات بين الطرفين استمرت مدة شهر، ثم اقتحمها المسلمون في "19 محرم عام 19هـ/ 20 يناير عام 640م" [2].

    أمن فتح الفرما للمسلمين المركز المسيطر على خطوط مواصلاتهم مع بلاد الشام، وضمن لهم وصول الإمدادات التي وعدهم بها عمر بالإضافة إلى طريق الانسحاب إذا تعرضوا للهزيمة. ولما كانت قواته قليلة العدد، ولا يمكنه ترك حامية عسكرية لحراستها، فقد هدم عمرو أسوار المدينة، وحصونها حتى لا يستفيد البيزنطيون منها فيما لو امتلكوها ثانية.


    فتح بلبيس

    أطلال مدينة منف، عاصمة مصر الفرعونيَّة القديمة، والتي تمكَّن المُسلمون من السيطرة عليها بعد أن فتحوا قرية أُم دنين ذات الأهميَّة الإستراتيجيَّة.
    تابع عمرو توغله في أرض مصر بعد فتح الفرما، وانضم إليه جند من البدو المقيمين على تخوم الصحراء المصرية، طمعًا في الغنيمة، فعوضوا المسلمين عمن فقدوه حتى ذلك الوقت، وسار منحدرًا إلى الجنوب، فتخطى مدينة مجدل القديمة إلى موقع القنطرة اليوم، ومن ثم توجه غربًا إلى القصاصين –الصالحية - ثم انحرف جنوبًا، فاجتاز وادي الطميلات حتى بلغ بلبيس، وقد اختار هذا الطريق لخلوه من المستنقعات، ولم يلق في طريق الطويل هذا مقاومة تذكر لا من جانب السكان، ولا من جانب البيزنطيين، ولم يكن "يدافع إلا بالأمر الخفيف".

    ضرب عمرو الحصار على المدينة، وقاتل حاميتها شهرًا، وكان المقوقس قد أرسل في غضون ذلك قوة عسكرية للاستطلاع، ولكنها لم تحاول إلا مناوشة المسلمين في تقال خفيف، إلا أنه فشل في مهمته وخسر المعركة وتمزق جيشه، فقتل منه نحو ألف جندي، وأسر نحو ثلاثة آلاف أسير، وخسر المسلمون بعض الجند، ودخلوا على إثر ذلك مدينة بلبيس [3].
    فتح أم دنين

    مصر وسائر أرجاء الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة (بالبُرتُقالي الدَّاكن) خلال الفترة المُمتدَّة بين سنتيّ 527 و565م.

    سار عمرو من بلبيس متاخمًا للصحراء، فمر بمدينة هليوبوليس -عين شمس- ثم هبط إلى قرية على النيل اسمها دنين (هي المقس موقع حديقة الأزبكية وكانت ميناء مصر وقت الفتح)، وتقع إلى الشمال من حصن نابليون، وعسكر قريبًا منها. اشتهرت أم دنين بحصانتها، وكان يجاورها مرفأ على النيل فيه سفن كثيرة، وما كان المقوقس ليرضى بأن تقع في أيدي المسلمين، وأدرك أخيرًا خطأ ما اتخذه من قرار الإحجام، والتصدي للمسلمين باكرًا حتى وصل خطرهم إلى قلب مصر، فغادر الإسكندرية إلى حصن بابليون ليدير العمليات العسكرية، ويشرف عليها، وحشد جيشًا استعدادًا للقتال.

    وجرت بين الجيش الإسلامي وحامية المدينة بعض المناوشات على مدى عدة أسابيع، لم تسفر عن نتيجة حاسمة لأي منهما، إنما بدأ المسلمون يشعرون بتناقص عددهم بمن كان يقتل منهم في الوقت الذي لم يتأثر البيزنطيون كثيرًا بفقدان بعض جندهم، فاضطر عمرو أن يرسل إلى الخليفة يستحثه في إرسال إمدادات على وجه السرعة، فوعده بذلك.
    والواقع أن موقف عمرو كان حرجًا، فقد علم من خلال العيون التي بثها في المنطقة أنه لن يستطيع أن يحاصر حصن بابليون، أو يفتحه بمن بقي معه من الجند، وبالتالي فتح مدينة مصر المتصلة به، كما أنه يتعذر عليه التراجع حتى لايفت في معنويات جنوده، فيقوي عليهم عدوهم، بالإضافة إلى أنه كان مصرًا على فتح مصر، غير أنه كان لديه بصيص أمل من واقع وعد الخليفة بإمداده بالمساعدة.
    ودار في غضون ذلك قتال شديد تحت أسوار أم دنين، وكانت كفة الصراع متأرجحة بين النصر والهزيمة من واقع توازن القوى، لكن الإمدادات تأخرت في الوصول، وتضايق المحاصرون، وكاد اليأس يدب في نفوسهم، فرأى عمرو أن يشغل جنوده بنصر آخر كسبًا للوقت حتى تصل الإمدادات، لكنه كان عليه أن يفتح أم دنين أولًا حتى يستفيد من السفن الراسية في المرفأ لإجتياز النهر، ووصلت في غضون ذلك طلائع الإمدادات، فقويت عزيمة المسلمين، وأسقط في يد حامية أم دنين، فقل خروجهم للقاء المسلمين، فاستغل عمرو هذا الإحجام، وشدد حصاره على المدينة حتى سقطت في يده [4].
    تنفيذ غارات على الفيوم


    خريطة لِمصر السُفلى تُظهر مواقع المُدن الباقية والمُندثرة، ومن ضمنها موقع عين شمس حيثُ دارت المعركة الفاصلة بين الروم والمُسلمين.
    سار عمرو ومن معه من المسلمين إلى الجنوب بعد أن عبروا النهر سالمين، وتوجهوا نحو الفيوم (ولاية غربية)، وعندما وصل إلى تخومها وجد الحاميات البيزنطية متأهبة للتصدي له بقيادة دومنتيانوس حاكم الفيوم، فاصطدم بقوة الطليعة بقيادة حنا، وتغلب عليها وقتل قائدها إلا أنه لم يتمكن من فتح الفيوم. وعلم في هذه الأثناء بوصول الإمدادات الإسلامية، فعاد أدراجه إلى الشمال منحدرًا مع النهر، واتصل بالمدد العسكري في عين شمس على مقربة من حصن بابليون، ولم يحاول تيودور القائد العام للجيش البيزنطي أن يخرج من الحصن ليحول دون التقاء الجيشين الإسلاميين مضيعًا فرصة بيزنطية أخرى.

    حققت غارات عمرو على الفيوم عدة فوائد للمسلمين لعل أهمها:
    - فقد أخرج جيشه من المأزق الذي وجد فيه نفسه عند أم دنين، وانتقل به إلى مكان أكثر أمنًا بانتظار وصول الإمدادات الإسلامية.
    - أنجز بعض الانتصارات مما رفع معنويات المسلمين، وفت في عضد البيزنطيين الذين أظهروا حزنًا بالغًا لمقتل القائد حنا.
    - بث الرعب في قلوب الحاميات البيزنطية المنتشرة في النواحي.
    - قدم الدليل للمصريين على أن الوجود البيزنطي في مصر بدأ يتعرض لخطر حقيقي.
    - شغل جنده خلال مدة الانتظار حتى مجيء الإمدادات [5].


    معركة عين شمس
    بلغ عدد الجنود الذين أرسلهم عمر بن الخطاب اثني عشر ألف مقاتل من بينهم عدد من كبار الصحابة، أمثال الزبير بن العوام
    ، وعبادة بن الصامت، والمقداد بن الأسود، ومسلمة بن مخلد وغيرهم، فاغتبط المسلمون بمقدمهم، وكان الهدف التالي لعمرو فتح حصن بابليون، فعكسر في عين شمس (اسم مدينة فرعون موسى بمصر) واتخذها مقرا له، وراح يستعد لمهاجمة الحصن، والمعروف أن موقع عين شمس يصلح لأن يكون قاعدة عسكرية، فهو مرتفع من الأرض يحيط به سور غليظ، ويسهل الدفاع عنه، وتتوفر فيه الماء والمؤن.


    وضع عمرو خطة تقضي باستفزاز الجنود البيزنطيين، وحملهم على الخروج من حصن بابليون، ليقاتلهم في السهل خارج الأسوار، ويبدو أن تيودور قائد الجيش البيزنطي شعر بالقوة بما كان تحت إمرته من المقاتلين، فخرج من الحصن على رأس عشرين ألفًا، وسار بهم باتجاه عين شمس، وكانت على مسافة ستة أميان أو سبعة من المعسكر الإسلامي؛ للاصطدام بالمسلمين، تلقى عمرو أنباء هذا الخروج بسرور بالغ، فعبأ قواته استعدادًا للقاء المرتقب، ونفذ خطة ذكية للإطباق على القوات البيزنطية، ففصل فرقتين من جيشه يبلغ عدد أفراد كل فرقة خمسمائة مقاتل، وأرسل إحداهما إلى أم دنين، والأخرى إلى مغار بني وائل عند قلعة الجبل شرقي العباسية، وكانت بقيادة خارجة بن حذافة السهمي. وسار هو من عين شمس باتجاه القوات البيزنطية المتقدمة، وتوقف في موضع العباسية الحالي ينتظر وصول جموع البيزنطيين ليصطدم بهم، انتشرت القوات البيزنطية في السهل إلى الشمال الشرقي من الحصن، وإذ بلغهم خروج المسلمين من عين شمس، سروا بذلك، وظنوا بأنهم ضمنوا النصر عليهم، فتعاهدوا على القتال حتى الموت، ولم يعلموا بخطة عمرو العسكرية، ثم حدث البلقاء ولعله كان في مكان وسط بين المعسكرين الإسلامي، والبيزنطي عند العباسية اليوم، وأثناء احتدام القتال، خرج أفراد الكمين الذي أعده عمرو، فاجتاحت فرقة خارجة مؤخرة الجيش البيزنطي التي فوجئت، وأخذت على حين غرة، فتولى أفرادها الفزع، ودبت الفوضى في صفوفهم، وتقهقروا نحو أم دنين، فقابلتهم الفرقة الأخرى، وأضحوا بين ثلاثة جيوش، فانحل نظامهم، وإذا أدركوا أن لا أمل لهم في المقاومة، والصمود لاذوا بالفرار لا يلون على شيء، ونجحت فئة قليلة منهم بلوغ الحصن، وهلكت فئة كبيرة، ودخل المسلمون إلى أم دنين مرة أخرى، ووطدوا أقدامهم على ضفاف النيل، وجرت المعركة في "شهر شعبان 19هـ/ شهر يوليو 640م".

    عندما بلغت أنباء الهزيمة من بحصن بابليون من الجند خافوا على أنفسهم، ففر بعضهم عبر النهر إلى نقيوس إلى الشمال من منف (عاصمة مصر)، وبقي بعضهم الآخر في الحصن للدفاع عنه، استغل عمرو انتصاره الحاسم هذا، فنقل معسكره من عين شمس، وضربه في شمالي الحصن وشرقه بين البساتين والكنائس، وهو المكان الذي عرف فيما بعد بالفسطاط، ثم سار إلى مدينة مصر (منف) واستولى عليها بدون قتال، ولم يستطع الجيش البيزنطي الموجود في الحصن أن يمد لها يد المساعدة [6].

    فتح الفيوم

    خريطة إقليم الفيُّوم.
    عندما بلغت أنباء انتصار المسلمين دومنتيانوس حاكم الفيوم، خشي أن يهاجمه هؤلاء، وهو لا قبل له بمقاومتهم، وفضل الفرار، فخرج في الليل مع جنوده، وتوجه إلى نقيوس، ولما علم عمرو بذلك أرسل فرقة عسكرية فتحت إقليم الفيوم، وتوغلت في جنوبي الدلتا، فاستولت على أثريب ومنوف في إقليم المنوفية [7].

    فتح حصن بابليون

    أطلال حصن بابليون.
    لم يبق بأيدي البيزنطيين سوى
    حصن بابليون، فكان هدف عمرو بن العاص التالي قبل أن يتوجه إلى الإسكندرية لفتحها، إذ لم يشأ أن يشتت قواته، ويضعفها ليذر قسمًا منها على حصار الحصن، وليسير بالقسم الآخر إلى الشمال حتى يبلغ الإسكندرية، مما يشكل خطرًا على إنجازاته التي حققها حتى ذلك الحين من واقع رد فعل البيزنطيين الذي سوف يستغلون هذه الفرصة؛ ليقوموا بحركات ارتدادية يستعيدون بواسطتها ما فقدوه من أراضي، ويطردون المسلمين من مصر، لذلك ركز جهوده العسكرية على فتح الحصن، فسار إليه في شهر "شوال 19هـ/ سبتمبر 640م" وحاصره.

    أدرك سكان الحصن، وأفراد حاميته أن الحصار سوف يطول لسببين:
    الأول: أنه بدأ في وقت فيضان النيل وارتفاع مياهه، فيتعذر على المسلمين أن يجتازوه أن يهاجموا الحصن، ولا بد لهم من الانتظار حتى هبوط الفيضان.

    بوَّابة «قصر الشمع»، وهي إحدى تسميات حصن بابليون، كما كانت تبدو سنة 1830م. يُعتقدُ بأنَّ تسمية الحصن بهذا الاسم سببها أنَّه في أوَّل كُل شهر كانت الشُموع تُضاء فوق بُرجٍ من أبراج الحصن، والبعض يعتبر أنها تحريف لِلفظ «خيمي»
    الثاني: أن مناعة الحصن ومتانة أسواره، وما يحيط به من الماء وضعف وسائل الحصار؛ سوف يشكل عائقًا أمام المحاصرين من الصعب أن يجتازوه بسرعة، وما غنموه من بعض آلات القتال أثناء فتح الفيوم لم يكن لهم خبرة باستعمالها أو بطرق إصلاحها إذا تعطلت، لذلك استعد الطرفان لحصار طويل، والواقع أن الحصار لم يكن محكمًا، فقد ظلت طريق الإمدادات بين الحصن والجزيرة -الروضة- مفتوحة؛ لأن عمرًا لم يكن قد أحكم سيطرته على الطرق المائية بعد.

    صرد يظهر عليه نقشٌ لِقيصر الروم الإمبراطور هرقل (في الوسط، الرجُل المُلتحي) في سنواته الأخيرة، يُحيطُ به ولداه قُسطنطين وهرقلوناس.

    كان المقوقس داخل الحصن عندما بدأ الحصار، أما قيادة الجيش فكانت للأعيرج (هو قائد بيزنطي)، وتراشق الطرفان بالمجانيق من جانب البيزنطيين والسهام والحجارة من جانب المسلمين، مدة شهر، حيث بدأ فيضان النيل بالانحسار، وأدرك المقوقس أن المسلمين صابرون على القتال، وأنهم سوف يقتحمون الحصن بصبرهم، وشجاعتهم كما يئس من وصول إمدادات من الخارج، والحقيقة أن شدة بأس المسلمين في القتال، وصبرهم أدى إلى هبوط معنويات المقوقس، فاضطر إلى عقد اجتماع مع أركان حربه للتشاور في الأمر، وتقرر بذل المال لهم ليرحلوا عنهم، وأن يذهب المقوقس بنفسه للتفاوض مع عمرو في هذا الشأن بشكل سري حتى لا يعلم أحد من المدافعين عن الحصن، فتهن عزائمهم، فخرج من الحصن تحت جنح الظلام مع جماعة من أعوانه، وركب سفينة إلى جزيرة الروضة، فلما وصل إليها أرسل رسالة إلى عمرو مع وفد ترأسه أسقف بابليون، يعرض عليه أن يرسل وفدًا لإجراء مفاوضات بشأن التفاهم على حل معين، وانتظر أن يعود أعضاء الوفد في اليوم نفسه يرد عمرو، لكن هذا الأخير تعمد الإبطاء في الرد مدة يومين، وأبقى أعضاء الوفد عنده حتى خاف المقوقس وقال لأعوانه: "أترون القوم يحبسون الرسل، أو يقتلونهم ويستحلون ذلك في دينهم! "، وإنما أراد عمرو بحبسهم أن يطلع المقوقس، وأهل مصر على بأس المسلمين وحالهم.
    ومهما يكن من أمر، فقد عاد أعضاء الوفد بعد يومين يحملون رد عمرو يخير المقوقس إحدى ثلاث خصال: إما الدخول في الإسلامأو الجزية أو القتال. كان من الصعب على المقوقس وجماعته، وأهل مصر التخلي عن دينهم، واعتناق الإسلام، ذلك الدين الذي لا يعرفون عنه شيئًا، وبذلك رفضوا الشرط الأول، وخشوا إن هم قبلوا بدفع الجزية أن يستضعفهم المسلمون، ويذلوهم في الوقت الذي استبعدوا فيه فكرة الحرب خشية الهزيمة، وبخاصة بعد أن وصف أعضاء الوفد وضع المسلمين الجيد، وتضامنهم وجهوزيتهم القتالية، ومع ذلك فقد قبل المقوقس الدخول في الصلح، وطلب من عمرو أن يرسل إليه جماعة من ذوي الرأي للتباحث بشروطه، فأرسل إليه وفدًا برئاسة عبادة بن الصامت، فطمأنه بأنهم سيكونون آمنين على أنفسهم، وأموالهم وكنائسهم، وذراريهم إن هم قبلوا دفع الجزية مما شجعه على المضي في طريق الإذعان.
    ويبدو أن القبول بقرار الاستسلام لم يكن عامًا، فقد وجدت فئة من الجند رفضت الصلح مع المسلمين، وكانت بقيادة الأعيرج، وأصرت على المقاومة المسلحة، عند ذلك طلب المقوقس من عمرو المهادنة مدة شهر للتفكير في الأمر، فمنحه ثلاثة أيام.
    ولم تلبث أنباء المفاوضات أن انتشرت بين عامة الجند، فثارت ثائرتهم ضد المقوقس، ولما انتهت أيام الهدنة، استعد الطرفان لاستئناف القتال، وأحرز المسلمون بعض الانتصارات مما دفع المقوقس إلى تجديد الدعوة لأركان حربه للاستسلام، فقبلوا مكرهين، واختار المقوقس خصلة دفع الجزية، واشترط:
    - موافقة الإمبراطور.

    قطعة نُقود من عهد الإمبراطور هادريان تحتفي بِولاية مصر كونها إحدى مصادر ثراء الإمبراطوريَّة. ضُربت هذه القطعة حوالي سنة 135م، وقد صُوِّرت فيها مصر على هيئة امرأة مُستلقية تحملُ شخشيخة الإلهة حتحور، وقد وضعت كوعها على سلَّة غِلال، في إشارةٍ إلى غناها.
    - تجميد العمليات العسكرية حتى يأتي الرد من القسطنطينية، وتبقى الجيوش في أماكنها خلال ذلك، وتعهد أن يبعث بعهد الصلح إلى القسطنطينية لأخذ موافقة الإمبراطور.

    غادر المقوقس حصن بابليون وتوجه إلى الإسكندرية حيث أرسل عهد الصلح إلى القسطنطينية، وطلب موافقة هرقل عليه, ويبدو أن بنود الصلح التبست على الإمبراطور، أهي عامة تطبق على البلاد كلها أم خاصة يحصن بابليون؟ وهل يبقى المسلمون في البلاد بعد أخذ الجزية، أو يرحلون عنها؟ وهل معنى ذلك التناول عن مصر للمسلمين؟ واحتاج إلى بعض الإيضاحات، لذلك استدعى المقوقس إلى القسطنطينية.
    والواقع أن المقوقس فشل في إنقاع هرقل بوجهة نظره بشأن الصلح مع المسلمين، ورأى الإمبراطور أن العوامل القومية والجغرافية التي ساعدت هؤلاء على فتح بلاد الشام غير متوفرة في مصر، وأن بحوزته -المقوقس- قوة عسكرية كبيرة تفوق في العدد قوة المسلمين، كما أن الحصن كان محصنًا، ومتينًا يصعب على المسلمين اقتحامه، فلا يعقل والحالة هذه أن ينتصر المسلمون، ولا بد من وجود سر في الأمر أدى إلى هذه النكبة، واتهمه بالتقصير والخيانة، والتخلي للمسلمين عن مصر، ونفاه بعد أن شهر به، ورفض عرض الصلح مع المسلمين، إلا أنه وقف عند هذا الحد، فلم يرسل مددًا إلى مصر، ولم يفعل شيئًا من تنظيم الدفاع عن هذا البلد لرفع معنويات جنوده القتالية، ولعل مرد ذلك يعود إلى شعوره بالاضطراب في التفكير، إذ إن الدولة البيزنطية ترزح تحت عبء ثقيل من عار الهزيمة على أيدي المسلمين في بلاد الشام الذين طردوا البيزنطيين منها، وانتشر هؤلاء في أرجاء مصر يفتحون المدن، ويبثون الرعب في نفوس السكان.


    علم المسلمون برفض هرقل لعهد الصلح في شهر "ذي الحجة 19هـ/ ديسمبر 640م"، فانتهت بذلك الهدنة، واستأنف الطرفان القتال، كان المدافعون عن الحصن قد قل عددهم بسبب قرار كثير منهم إلى الإسكندرية، ولم تأتهم نجدة من الخارج، وبدأ المرض ينتشر بينهم، وانتهى فيضان النيل، وغاض الماء عن الخندق حول الحصن، فأضحى بمقدور المسلمين الآن أن يهاجموه، غير أن المدافعين صمدوا بضعة أشهر اقتصر الأمر أثناءها على التراشق بالمجانيق والسهام, وألقوا حسك الحديد في الخندق بدل الماء مما أعاق عمليات المسلمين العسكرية. وجاءهم وهم على هذا الحال نبأ وفاة الإمبراطور هرقل في شهر "ربيع الأول 20هـ/ فبراير 641م"، ففت ذلك في عضدهم، واضطربوا لموته، وتراجعت قدرتهم القتالية، مما أعطى الفرصة للمسلمين لتشديد الحصار قبل أن يقتحموا الحصن في "21 ربيع الآخر 20هـ/ 9 أبريل 641م"، وقد اعتلى الزبير بن العوام مع نفر من المسلمين، السور، وكبروا، فظن أهل الحصن أن المسلمين اقتحموا، فهربوا تاركين مواقعهم، فنزل الزبير، وفتح باب الحصن لأفراد الجيش الإسلامي فدخلوه في رواية أن الزبير ارتقى السور، فشعرت حامية الحصن بذلك، ففتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم،.
    "ونزل الزبير عليهم عنوة حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا بعدما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذ عنوة مجرى ما صالح عليه، فصاروا ذمة، وكان صلحهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم، وملتهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم؛ لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم، والنوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثاثا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته، وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير الؤمنين، وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا، وكذا فرسًا، على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة، ولا واردة، شهد الزبير وعبد الله ومحمد، ابناه، وكتب وردان (مولى عمرو بن العاص) وحضر" [8].

    [1] ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها ص131. الواقدي: فتوح مصر، ج2 ص36-38.
    [2] ابن عبد الحكم: ص131- 134. البلاذري: فتوح البلدان ص241.
    [3] ابن عبد الحكم: ص135 – 136. المقريزي: المواعظ والاعتبار، ج1 ص340.
    [4] ابن عبد الحكم: ص136، 137.
    [5] بتلر: ص252 – 256.
    [6] ابن عبد الحكم: ص139، بتلر، ألفر. ج: فتح العرب لمصر: ص260 - 265. البلاذري: يذكر رقمين عشرة آلاف، واثني عشر ألفًا فتوح البلدان: ص214. هيكل: ج2، ص109.
    [7] ابن عبد الحكم: ص292، 293، بتلر: ص263، 264، 266.
    [8] البلاذري: ص214، 220. الطبري: ج4 ص102، ص108، 109. ابن عبد الحكم: ص154، بتلر: ص290 - 297، وانظر هامش رقم1. العريني: الدولة البيزنطية، ص137. لا يشير المؤرخون المسلمون إلى سفر المقوقس إلى القسطنطينية، ولا إلى نبأ نفيه ثم عودته، بل يذكرون أن هرقل كتب إليه يقبح رأيه، ويوبخه ويرد عليه ما فعل، ويأمره أن يقاتل المسلمين، وألا يكون له رأي غير ذلك، وأنه أرسل إليه الجيوش، فأعلقوا أبواب الإسكندرية، وحاربوا المسلمين، انظر ابن عبد الحكم: ص152. ويشير المؤرخون المسلمون بأن هرقل بعث الجيوش إلى الإسكندرية وأغلقها، ويبدو أنهم وقعوا في الخلط بين أحداث فتح حصن بابليون، وأحداث فتح الإسكندرية؛ لأن الإمبراطور البيزنطي هرقل توفي، والمسلمون يحاصرون الحصن كما سيمر معنا، انظر: البلاذري: ص220، ابن عبد الحكم ص154.
    منقول بتصرف



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان


    فتح مصر في عهد عمر بن الخطاب (2 - 2)


    (21هـ -642م)

    قصة الإسلام



    (18)


    رسم تخيّليّ لِما كانت عليه الإسكندريَّة في العُصور القديمة حتَّى الفتح الإسلامي.

    أوضاع الإمبراطورية البيزنطية بعد وفاة هرقل
    ساد الاضطراب عاصمة الإمبراطورية البيزنطية بعد وفاة هرقل بسبب النزاع الأسري على العرش، فقد عين هرقل قبل وفاته ولديه الكبيرين لخلافته، وهما قنسطنطين الثالث ابن فابيا إيدوسيا البالغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا، وهرقلوناس ابن مارتينا البالغ من العمر خمسة عشر عامًا، وحاول أن يجعل لزوجته مارتينا نصيبًا في الحكم، وأشار في وصيته إلى أنه ينبغي أن يشترك الأخوان معًا في الحكم، وأن يتساويا في المكانة والحقوق، ولحرصه على أن يجعل لمارتينا قدرًا من النفوذ المباشر في إدارة الدولة، أعلن في وصيته بأنه ينبغي أن تشترك الإمبراطورة الأم في الحكم.

    عندما أعلنت مارتينا وصية زوجها لقيت معارضة شديدة من جانب أركان الحكم والشعب، فأثيرت نتيجة ذلك مسائل تتعلق بالوضع الدستوري العام، إذ أقر أفراد الشعب تولية الأخوين العرش غير أنهم لم يقروا باشتراك مارتينا في إدارة الشئون العامة، وأعلنوا أنها بوصفها امرأة لا تمثل الإمبراطورية، وليس لها أن تستقبل السفراء، وزعمت مارتينا لنفسها هذا الحق، ووقع الشقاق داخل شطري الأسرة الحاكمة، وهكذا ساد الصراع الحياة العامة في العاصمة البيزنطية في وقت تعرضت فيه الإمبراطورية لخطر سياسي بالغ الشدة في الخارج.
    كان قنسطنطين الثالث أكثر أتباعًا وأنصارًا من أخيه غير أنه كان مريضًا، وتوفي في "8 جمادى الآخرة 20هـ/ 25 مايو 641م" بعد أن حكم ثلاثة أشهر، وأضحى هرقلوناس متفردًا في الحكم، والواقع أن مارتينا هي التي كانت تسير شئون الدولة، فنفت أنصار قنسطنطين وقربت أنصارها، كان من بينهم البطريرك بيروس المونوثليستي.
    كانت مصر في رأس اهتمامات مارتينا، إذ إن ضياع هذا البلد من شأنه أن يعرض الإمبراطورية لنقص في الأقوات، لذلك أسرعت باستدعاء المقوقوس من المنفي، ووضعت ثقتها فيه، وأعادته إلى منصبه السابق في مصر.

    أطلال البُرج الغربي الذي شادهُ البطالمة ودعَّمهُ الروم، وكان قائمًا يوم ضرب المُسلمون الحصار على المدينة.



    كان المقوقس لا يزال على رأيه أن لا جدوى من مقاومة المسلمين، ولكنه تظاهر بالاقتناع بحجج الذين يرون ألا يدخل البيزنطيون في صلح مع المسلمين، ووعدته مارتينا بمساعدته بالإمدادات الكبيرة، وجهزت السفن من أجل ذلك. أسرع المقوقس بالسفر إلى مصر على رأس جيش أعد لهذه الغاية، ورافقه عدد من القساوسة، ثم حدث أن تدهورت أوضاع مارتينا، وابنها هرقلوناس بعد أن انقلب أصحاب السلطة، والنفوذ في الإمبراطروية على حكومتهما، أمثال أعضاء الناتو، والقادة العسكريون، ورجال الدين الأرثوذكس، وظل الناس على كراهيتهم للإمبراطورة والبطريرك بيروس، وجرى اتهامهما بأنهما تآمرًا ضد قنسطنطين بدس السم له، وطالبوا بأن يكون العرش لابن قنسطنطين الثالث، ولم يكن يتجاوز الحادية عشرة من عمره، واتخذ اسم هرقل عند تعميده، غير أنه عند تتويجه اتخذ اسم قنسطنطين، وأطلق الناس عليه اسم قنسطانز، وهو مصغر قنسطنطين، وثارت القوات المسلحة المرابطة في آسيا الصغرى ضدهما، وزحفت نحو العاصمة حتى بلغت خلقدونية، فاضطر هرقلوناس للإذعان للثائرين، وتوج قنسطانز قسيمًا له في الحكم، غير أن هذا الإجراء لم يمنع سقوطه في شهر "شوال/ سبتمبر"، كما تقرر عزل مارتينا، وتفرد قنسطانز بالحكم [1].
    الزحف نحو الإسكندرية

    خريطة تُظهرُ تقسيم مدينة الإسكندريَّة خِلال العهدين البطلمي والرومي وزمن الفتح الإسلامي.

    كان لسقوط حصن بابليون، ذلك الموقع العسكري الحصين الذي حدشت فيه أعظم طاقات البيزنطيين العسكرية في مصر، التأثير الجذري على مسار المعركة، فلم يعد هناك مجال للشك، بأن المبادرة قد أصبحت في أيدي المسلمين، وأن أبواب السيطرة قد فتحت أمامهم على هذه البلاد الواسعة، ويعد هذا السقوط بمثابة انهيار خط الدفاع الأول عن مصر، حيث إن الطريق بات مفتوحًا إلى الإسكندرية. بعد الانتهاء من فتح
    حصن بابليون، طلب عمرو من الخليفة أن يأذن له بالزحف نحو الإسكندرية لفتحها، وضمها إلى الأراضي الإسلامية، وهو خطوة لا بد منها لاستكمال فتح مصر، ثم أخذ ينظم إدارة البلاد المفتوحة.

    والحقيقة أن الخليفة لم يتأخر في منح الإذن لقائده بالسير إلى الإسكندرية، وبخاصة أنه علم أن النيل سيعود بعد ثلاثة أشهر إلى مده وفيضانه، وأنه من الأفضل أن يسير جيش مصر إلى الإسكندرية قبل ذلك، وما لبث عمرو حين تسلم الإذن أن زحف نحو الإسكندرية، وترك حامية عسكرية في حصن بابليون بقيادة خارجة بن حذافة السهمي.
    كانت الإسكندرية في ذلك الوقت قصبة الديار المصرية، وثانية حواضر الإمبراطورية بعد القسطنطينية، وأول مدينة تجارية في العالم، وقد أدرك البيزنطيرون أن سقوطها في أيدي المسلمين من شأنه أن يؤدي إلى زوال سلطانهم من مصر، وقد عبر الإمبراطور البيزنطي عن ذلك بقوله: "لئن ظفر العرب بالإسكندرية لقد هلك الروم وانقطع ملكهم، فليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية"، فأسرعوا بإرسال المقوقس على رأس قوة عسكرية.
    وصل المقوقس إلى الإسكندرية في شهر "شوال 20هـ/ سبتمبر 641م"، وفي نيته الدخول في صلح مع المسلمين بسبب عجزه عن مواجهتهم، وبخاصة أنه بدت في الأفق السياسي ملامح انهيار الإمبراطورية البيزنطية، لكن يبدو أن أركان حربه رفضوا توجهه هذا، وأصروا على المقاومة.
    وكان عمرو بن العاص قد غادر حصن بابليون في شهر "جمادى الأولى 20هـ/ أوائل مايو 641م"، وقد آثر السير على الضفة اليسرى للنيل حيث مديرية البحيرة اليوم، حتى لا تشكل الترع الكثيرة المنتشرة في جنوبي الدلتا عائقًا يؤخر زحفه، وقد ساعده بعض الأقباط في إصلاح الطرق وإقامة الجسور، كما اصطحب معه عددًا من زعمائهم ليكونوا أداة اتصال بينه، وبين من يلقاهم في طريقه، وهذا يعني أن سكان مصر الوطنيين كانوا على عداء مع البيزنطيين المحتلين لأرضهم، واستوعبوا أهمية الوجود الإسلامي الذي من شأنه أن يطرد هؤلاء من بلادهم.
    صادف عمرو والمسلمون أثناء سيرهم عدة عقبات عسكرية من جانب البيزنطيين، كان أولها في ترنوط (قرية بين مصر والإسكندرية) حيث تصدت لهم قوة عسكرية إلا أنهم تغلبوا عليها، وتابعوا تقدمهم حتى وصلوا إلى نقيوس الواقعة على بعد عدة فراسخ من منوف، فأسرع سكانها إلى التسليم والإذعان، لكن حامية الحصن أصرت على المقاومة، وهذا يعني أن لم يكن هناك تنسيق بين السكان الوطنيين والحاميات البيزنطية، ولعل مرد ذلك يعود إلى فقدان الثقة بين الجانبين بسبب العداء المستحكم بينهما، فاصطدم عمرو بأفراد الحامية وانتصر عليهم، ودخل نقيوس، وفرت فلول المنهزمين إلى الإسكندرية.
    تابع عمرو بن العاص تقدمه، واصطدم بقوة عسكرية بيزنطية أخرى عند سلطيس (بمصر القديمة)، وتغلب عليها، وكان حصن كريون (قرب الإسكندرية) آخر سلسلة الحصون قبل الإسكندرية، وقصد اعتصم به تيودور قائد الجيش البيزنطي مع حامية قوية، كما تدفقت عليه الإمدادات من المناطق المجاورة، واشتبك الطرفان في عدة معارك على مدى بضعة عشر يومًا، كان بعضها شديدًا حتى إن عمرًا صلى يومًا صلاة الخوف4. وتمكن المسلمون أخيرًا من اقتحام الحصن، وتغلبوا على الحامية العسكرية، فقتلوا بعض أفرادها، وفر البعض الآخر إلى الإسكندرية للاحتماء بها، وكان تودور من بين هؤلاء، وطاردهم المسلمون حتى بلغوا الإسكندرية في "منتصف رجب 20هـ/ أواخر يونيو 641م".
    فتح الإسكندرية

    خريطة تُبيِّن توسُّع حُدود دولة الخلافة الراشدة بعد دُخول مصر في حظيرتها وتراجع حُدود الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة في شمال أفريقيا.
    أدرك عمرو بن العاص فور وصوله إلى الإسكندرية ودراسته للوضع الميداني، أن المدينة حصينة إذ يحيط بها سوران محكمان، ولها عدة أبراج ويحيط بها خندق يملأ من ماء البحر عند الضرورة للدفاع، وتتألف أبوابها من ثلاث طبقات من الحديد، ويوجد مجانيق فوق الأبراج، ومكاحل، وقد بلغ عدد جنود حاميتها بعد الإمدادات التي أرسلها الإمبراطور البيزنطي خمسين ألف جندي، ويحيمها البحر من الناحية الشمالية، وهو تحت سيطرة الأسطور البيزنطي، الذي كان يمدها بالمؤن والرجال والعتاد، وتحميها قريوط من الجنوب، ومن المعتذر اجتيازها، وتلفها ترعة الثعبان من الغرب، وبذلك لم يكن للمسلمين طريق إليها إلا من ناحية الشرق، وهو الطريق الذي يصلها بكريون، وكانت المدينة حصينة من هذه الناحية، ومع ذلك لم ييأس، ووضع خطة عسكرية ضمنت له النصر في النهاية؛ قضت بتشديد الحصار على المدينة حتى يتضايق المدافعون عنها، ويدب اليأس في نفوسهم، فيضطروا للخروج للاصطدام بالمسلمين لتخفيف وطأة الحصار، وهكذا يستدرجهم ويحملهم على الخروج من تحصيناتهم ثم ينقض عليهم، لذلك نقل معسكره إلى مكان بعيد عن مرمى المجانيق، بين الحلوة وقصر فارس، استمر الوضع على ذلك مدة شهرين لم يخرج البيزنطيون من تحصيناتهم للقتال، سوى مرة واحدة حيث خرجت قوة عسكرية بيزنطية من ناحية البحيرة، واشتبكت مع قوة إسلامية، ثم ارتدت إلى الحصن، ولعلها كانت بمثابة قوة استطلاع أو جس نبض.

    ورأى عمرو أن يقوم بعمل عسكري يشغل به جنوده، إذ إن الانتظار قد يؤثر على معنوياتهم القتالية، ويدفعهم إلى الخمول، فشغلهم بالغارات على الدلتا، وأبقى معظم جنوده على حصار الإسكندرية. ونتيجة لاشتداد الصراع في القسطنطينية بين أركان الحكم، انقطعت الإمدادات البيزنطية عن الإسكندرية، إذ لم يعد أحد منهم يفكر في الدفاع عنها، مما أثر سلبًا على معنويات المدافعين عنها، فرأوا أنفسهم معزولين ولا سند لهم، ومما زاد من مخاوفهم ما كان يقوم به المسلمون من غارات على قرى الدلتا والساحل، فإذا سيطروا عليه فسوف يقطعون الميرة عنهم.
    كان عمر بن الخطاب في المدينة ينتظر أنباء مصر، وهو أشد ما يكون استعجالًا لنبأ سقوط الإسكندرية في أيدي المسلمين، ولكن هذا النبأ أبطأ عنه أشهرًا، فراح يبحث عن السبب، وهو لم يقصر عن إمداد عمرو بما يحتاج إليه من المساندة التي تكفل له النصر، وخشي أن تكون خيرات مصر قد أغرت المسلمين، فتخاذلوا، وقال لأصحابه: "ما أبطأوا بفتحها إلا لما أحدثوا"، ثم كتب إلى عمرو يقول له: "أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذلك إلا لما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكونوا غيرهم غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا، فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعًا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة، ووقت الإجابة وليعج الناس إلى الله، ويسألوه النصر على عدوهم".
    شكل كتاب عمر عامل دفع للمسلمين، فاقتحموا حصون الإسكندرية، ففتحوها بحد السيف في "28 ذو القعدة 20هـ/ 8 نوفمبر 641م" بعد حصار دام أربعة أشهر ونصف، وفر البيزنطيون منها بكل اتجاه للنجاة بأنفسهم، وأذعن سكانها من الأقباط، واستبقى عمرو بن العاص أهلها، ولم يقتل ولم يسب، وجعلهم ذمة كأهل حصن بابليون.
    هل فتح الإسكندرية أكان عنوة أو صلحًا؟
    تتباين روايات المصادر حول كيفية فتح الإسكندرية، أكان عنوة أو صلحًا؟ ويذكر البلاذري أن المسلمين قاتلوا الحامية البيزنطية قتالًا شديدًا، وحاصروهم مدة ثلاثة أشهر، ثم إن عمرًا فتحها بالسيف، وغنم ما فيها واستبقى أهلها، ولم يقتل ولم يسب، وجعلهم ذمة كأهل بابليون، ويخالف
    ابن إسحاق البلاذري، في روايته حول فتح الإسكندرية، فيذكر أنها فتحت صلحًا وليس عنوة، على الرغم من أن كلا الطرفين، الإسلامي والبيزنطي في مصر، استعدا للقتال الذي أمكن تجنبه في اللحظة الأخيرة، وتشير هذه الرواية إلى أن المسلمين فتحوا الكثير من القرى حتى وصلوا إلى الإسكندرية، وكانت سباياهم من فتوح هذه القرى عظيمة جدًا، وقد بلغت المدينة ومكة واليمن، حتى إذا وصل إلى بلهيب راسله صاحب الإسكندرية، وعرض عليه الجزيرة مقابل رد السبايا، فأرسل عمرو كتابًا إلى عمر يستشيره، فجاءه الجواب بالموافقة على أن يخير السبايا بين البقاء على دينهم وعليه الجزية، وبين الدخول في الإسلام، فترفع الجزية عنهم، أما من تفرق في الجزيرة العربية، "فإنا لا نقدر على ردهم، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به".

    وتشير الرواية النصرانية أن الإسكندرية فتحت صلحًا، فيذكر حنا النقيوسي أن قيرس -المقوقس- لم يكن وحده الذي رغب في السلام، وإنما رغب فيه السكان والحكام، ودومنتيانوس الذي كان مواليًا للإمبراطورة مارتينا، ولذا اجتمعوا واتفقوا مع قيرس على إنهاء الحرب يعقد الصلح مع المسلمين، وذهب قيرس إلى بابليون حيث كان عمرو بن العاص هناك بعد غاراته على الدلتا، وعقد معه معاهدة يصح أن نطلق عليها معاهدة بابليون الثانية، تمييزًا لها عن المعاهدة الأولى، أو أن نسميها معاهدة الإسكندرية؛ لأنها كانت خاصة بأهل الإسكندرية وحاميتها، وأهم ما جاء في هذه المعاهدة:

    أطلال الفسطاط ومُحيطها.

    - أن يدفع الجزية كل من دخل في العقد.
    - أن تعقد هدنة مدتها أحد عشر شهرًا تنتهي في أول شهر بابه القبطي، الموافق للثامن والعشرين من شهر أيلول عام 642م.
    - أن يبقى المسلمون في مواضعهم خلال مدة هذه الهدنة على أن يعتزلوا وحدهم، ولا يسعوا أي يسعى لقتال الإسكندرية، وأن يكف الروم عن القتال.
    - أن ترحل مسلحة الإسكندرية في البحر، يحمل جنودها معهم متاعهم وأموالهم جميعًا، على أن من أراد الرحيل من جانب البر فله أن يفعل، على أن يدفع كل شهر جزءًا معلومًا ما بقي في أرض مصر في رحلته.
    - أن لا يعود جيش من الروم إلى مصر، أو يسعى لردها.
    - أن يكف المسلمون عنأخذ كنائس المسيحيين، ولا يتدخلوا في أمورهم أي تدخل.
    - أن يباح لليهود الإقامة في الإسكندرية.
    - أن يبعث الروم رهائن من قبلهم، مائة وخمسين من جنودهم وخمسين من غير الجند، ضمانًا لإنقاد العقد [2].

    والراجح أن الإسكندرية فتحت عنوة، غير أن عمرو بن العاص عامل أهلها كأهل ذمة لأسباب سياسة تتعلق بالمحافظة على مكتسبات الفتح من جهة، والتفرغ لتنظيم إدارة البلاد من جهة أخرى، بالإضافة إلى الانطلاق لتحقيق فتوح جديدة على ساحل شمالي إفريقية.

    ذيول فتح الإسكندرية
    زال السلطان البيزنطي عن مصر كلها بعد فتح الإسكندرية، باستثناء بعض الجيوب المنتشرة في أماكن متفرقة من الدنيا، إلا أنها كانت محصورة ومعزولة لا فاعلية لها، وحتى يحافظ المسلمون على مكتسبات الفتح كان عليهم إحكام سيطرتهم على قرى الساحل، وطرد الحاميات البيزنطية من هذه الجيوب.


    والواقع أن هذه المسالح البيزنطية لم تقاوم المسلمين باستثناء بعض القرى الساحلية، أو القريبة من الساحل أمثال: إخنا القريبة من الإسكندرية، وبلهيب الواقعة في جنوبي رشيد، والبرلس، ودمياط، وتنيس، ولكن سرعان ما أخضعها المسلمون، فأمنوا بذلك الساحل من العريش إلى الإسكندرية، وتحطمت مقاومة البيزنطيين [3].

    [1] العريني: الدولة البيزنطية، ص137 – 139.
    [2] البلاذري: فتوح البلدا، ص222 – 223، 231، 232. ابن عبد الحكم: فتوح مصر، ص156 – 158، 162 – 163. سالم، عبد العزيز: تاريخ الدولة العربية ص488. بتلر، ألفر. ج: فتح العرب لمصر: ص310، 311، 320، 334 - 343.
    [3] ابن عبد الحكم: ص170، 171.
    منقول بتصرف










    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان



    الفتح الإسلامي وملحمة تعريب المغرب


    . أحمد الظرافي
    (19)

    خارطة تُبيِّنُ مسار الفُتوحات الإسلاميَّة لِبلاد المغرب.

    يعتبر الفتح الإسلامي للمغرب من الأحداث الكبرى والخالدة في تاريخ الإسلام في الثلث الأخير من القرن الأول الهجري، لما ترتب عليه من نتائج حاسمة غيرت مجرى تاريخ هذه البلاد وحددت معالم هويتها إلى الأبد، ومنها انتشار الإسلام والتعريب، وبالتالي حدوث عملية الاختلاط الكبرى بين العرب والبربر في بوتقة الإسلام وتحول المغرب إلى جزءٍ عزيز من عالم الإسلام والعروبة.
    أولاً: بدايات استقرار العرب بالمغرب:
    جاءت عملية استقرار العرب في ربوع المغرب الكبير نتيجة حتمية للفتوحات الإسلامية في هذه الناحية من جهة، وكجزءٍ من رسالتهم السامية وهي تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس أجمعين ومنهم البربر سكان هذه البلاد من جهةٍ أخرى، وليس لرغبتهم في الاستيطان فيها واستغلال خيراتها والتحكم في رقاب أهلها. ولولا عملية استقرار العرب المسلمين في هذه البلاد وما قدموه من تضحيات جبارة أثناء عملية الفتح والتي كانت هي الأطول والأصعب على الإطلاق في تاريخ الفتوحات الإسلامية كلها[1] لما تحررت من هيمنة البيزنطيين، ولما انتشر الإسلام في ربوعها، ولما شملها التعريب، وبالتالي لما اجتمع شمل أهلها واتحدت كلمتهم. وترجع البدايات الأولى لاستقرار العرب المسلمين في ربوع بلاد المغرب إلى بداية الفتوحات الإسلامية في هذه الناحية، وذلك بعد فتح مصر مباشرة بقيادة عمرو بن العاص، إذ قام هذا القائد بغزو إقليمي برقة وطرابلس سنة 23هـ لتأمين حدود مصر الغربية من خطر الروم البيزنطيين الذين كانوا يحكمون المغرب الأدنى، إذ كان يخشى أن يحاولوا استعادة مصر من هذا الطريق الغربي[2]. وقد تركز استقرار العرب في البداية في برقة والتي كانت جزءاً من مصر بحسب التقسيم الإداري البيزنطي[3] نظراً لقربها من الإسكندرية. وكذلك كان استقرارهم في طرابلس على ساحل البحر المتوسط وكانت طرابلس هي الأخرى تابعة إدارياً لمصر طبقاً لبعض الروايات. وظل الأمر على هذا النحو طوال العهد الراشدي فلما كانت الخلافة الأموية بقيت برقة تابعة إدارياً لمصر بينما أصبحت طرابلس من عمل إفريقية بعد أن أصبحت هذه الأخيرة ولاية مستقلة في عهد الوليد بن عبد الملك[4]. وكان استقرار العرب في هذه المدن على شكل حاميات عسكرية لمنع البيزنطيين الدخلاء من العودة إليها من جهة، ومن جهة أخرى لحماية الدعاة إلى الله الذين انتشروا بين أهلها لتعريفهم بمبادئ الإسلام وتعليمهم القرآن الكريم والحديث الشريف واللغة العربية. وقد أخذت أعداد العرب المستقرين في هذه المدن تزداد شيئاً فشيئاً مع توالي الحملات التي كانت تخرج من مصر لفتح إفريقية بمن كان يفد عليها من المجاهدين أحياناً من المدينة أولاً كحملة عبد الله بن أبي سرح سنة 27هـ، ثم من الشام ثانياً كحملة معاوية بن حديج الكندي سنة 45هـ. ولكن لم يبدأ العرب في الاستقرار المنظم في إفريقية التي تمثل اليوم تونس الحالية والتي تعتبر جزءاً من المغرب الكبير إلا عندما أنشأ عقبة بن نافع مدينة القيروان ومسجدها الجامع فيما بين سنتي 50 و55هـ[5]، أي خلال ولايته الأولى على إفريقية في خلافة معاوية: فبدأت منذ ذلك الحين أنظار العرب تتجه إلى إفريقية إذ أصبح لهم فيها عاصمة أو مركز يتبعه الإقليم المحيط به[6]، وتلك العاصمة بطبيعة الحال هي القيروان إحدى العواصم الإسلامية المشهورة في القرن الأول الهجري بعد المدينة ومكة والبصرة والكوفة ودمشق والفسطاط.
    ثانياً: تأسيس القيروان:

    جامع عقبة بن نافع في مدينة القيروان. من أكبر وأشهر وأقدم المساجد في المغرب وشمال أفريقيا.


    يذكر ابن الأثير في «أسد الغابة» وفي «الكامل» أن عقبة بن نافع أدخل كثيراً من البربر في الإسلام واتسعت خطة المسلمين في عهده وقوي جَنَان من هناك من الجنود بمدينة القيروان وأمنوا واطمأنوا على المقام فثبت الإسلام بها[7]. ورُوي أيضاً أن عقبة بن نافع كان معه في عسكره 25 من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جمع وجوه أصحابه وكبار العسكر فدار بهم حول القيروان وأقبل يدعو لها ويقول في دعائه: اللهم املأها علماً وفقهاً واعمرها بالمطيعين والعابدين واجعلها عزاً لدينك وذلاً على من كفر وأعز بها الإسلام وامنعها من جبابرة الأرض»[8]. وكان عقبة خلال إقامته الطويلة في تلك الأصقاع قد أدرك بنظره الثاقب أن أعمال الفتوح في شمال إفريقيا لابد أن تكون طويلة وشاقة ولا يجوز أن تظل معتمدة على قواعد بعيدة وصعبة الاتصال بالشام أو بمصر. لذا صمم على بناء مدينة جديدة في بلاد تونس تكون قاعدة لقوات المسلمين ومخزناً للمؤن والأغذية ومقراً لعمالهم وقادتهم ومركزاً للعلم والعلماء. وربما فوق ذلك تعمد بهذا أن يشير لأعدائه الروم إلى أن وجود المسلمين في هذه البلاد هو أمر دائم وثابت ولن يكون آنياً أو عابراً. ولمناعة المدينة التي صار اسمها «القيروان» اختار لها موقعاً يبعد عن السواحل حيث تتواجد القوى البيزنطية بما فيه الكفاية ويقتربون من تخوم الصحراء في الداخل بما يجعل المسلمين يرتاحون للإقامة فيها لوجودهم في بيئة جغرافية تقرب مما ألفوه في مواطنهم وبما يتيح لهم في الوقت نفسه القرب من البربر لمراقبتهم ورصد تحركاتهم[9].
    ويبدأ عصر الولاة في إفريقية من إنشاء القيروان وبها قامت الولاية سنة 50هـ، أما بالنسبة للمغرب الأوسط فيبدأ من حوالي سنة 85هـ، وأما بالنسبة للمغرب الأقصى فيبدأ عصر الولاة حوالي سنة 90هـ وهي السنة التي أنشأ فيها موسى بن نصير ولايتي المغرب الأقصى والسوس أو سجلماسة[10].
    والواقع أن القيروان سرعان ما اتخذت لنفسها مكانة بارزة بين مدائن دولة الإسلام فباتت في إفريقية مقراً للولاة والعمال، منها تخرج جيوش الفتوح وإليها تعود غنائمها، ومن مساجدها ومدارسها يخرج الرسل والعلماء والفقهاء ليدعموا وجود الإسلام في تلك الأصقاع بنشر مبادئ هذا الدين بين البربر وبتعريف هؤلاء القرآن وتعليمهم لغته. وبسرعة مدهشة عمرت بالدور والمنشآت العامة وأقبل كثيرون ممن أسلموا من البربر على الإقامة فيها يختلطون بالعرب ويتعايشون ويتآلفون معهم. وبذا يكون عقبة بن نافع قد نجح في أن يقيم في السهل التونسي قاعدة قوية للإسلام ينتشر منها في جموع البربر الضاربين حولها[11]. وبرغم سيطرة كسيلة عليها بعد استشهاد عقبة سنة 64هـ إلا إن سيطرته تلك: لم تكن قاضية على كل أثر للمسلمين في البلاد[12]. ثم إن المسلمين لم يلبثوا أن عادوا إليها بعد أربع سنوات فقط أي في ولاية زهير بن قيس البلوي وبعد مقتل كسيلة في معركة ممس سنة 69هـ.
    ثالثاً: التقسيم الإداري لولاية المغرب:

    تجدر الإشارة إلى أن إفريقية كانت في البداية تابعة إدارياً لوالي مصر حتى كانت خلافة الوليد بن عبد الملك الذي جعلها ولاية مستقلة سنة 86هـ، ومنح الولاة فيها من السلطات ما منح للولاة في العراق ومصر[13]. وقبل ذلك ومع تولي حسان بن النعمان الغساني (74- 85هـ) أمور إفريقية كان قد تم وضع أساس النظام الإداري لهذه الولاية الجديدة، وكانت حدودها الجغرافية والسياسية مطابقة لولاية إفريقية البيزنطية والتي كانت تشمل ولاية طرابلس مضافاً إليها إفريقية نفسها وتقابل على وجه التقريب جمهورية تونس الحالية ثم جزءاً مما عرف فيما بعد بإقليم الزاب عند الجغرافيين المسلمين[14]، وهو الإقليم الذي كان يشمل بلاداً واسعة، من مدنها بسكرة وقسنطينة وقفصة. فكان حسان هو الذي دون الدواوين (ديوان الجند وديوان الخراح وديوان الرسائل)، وجعل العربية لغة رسمية في البلاد وصالح على الخراج وقسّم البلاد خططاً: لكل قبيلة خطة، ثم أقام العمال على نواحي الإدارة من خراج وزكاة وجند[15].

    ويتطرق المالكي إلى سياسة حسان مع البربر فيذكر أن «البربر استأمنوا إليه فلم يقبل أمانهم حتى أعطوه 12 ألف فارس يكونون مع العرب مجاهدين فأجابوه وأسلموا على يديه»، ولم يكتف بذلك بل «وأخرجهم مع العرب يفتحون إفريقية». «فمن ذلك صارت الخطط للبربر بإفريقية فكان يقسم الفيء بينهم والأرض. فدانت له إفريقية ودوّن الدواوين»[16]. وفي التقسيم الإداري تم اعتبار مجال كل قبيلة كبيرة قسماً إدارياً[17] وله مركز ينزله عامل من عرب إفريقية ويتولى إدارة منطقته بالتعاون مع زعماء القبيلة، وأرسل الخليفة قاضياً للقيروان أسوة بغيرها من العواصم الإسلامية الكبرى.. وبهذا تم فتح المغرب وتنظيمه[18].
    وفي هذه الفترة حدثت عملية الاختلاط الكبرى بين العرب والبربر في بوتقة الإسلام. وكل ذلك بمعاونة عرب إفريقية أو العرب البلديين الذين كانوا قد اكتسبوا خبرة بطبيعة البلاد وخبروا أهلها وعقدوا الصلات معهم وتزوجوا من بناتهم وصار بعضهم موالي لهم، وذلك بحكم وجودهم المبكر في ولاية إفريقية. وكذلك أنشأ حسان مدينة تونس بين عامي (82 - 86هـ) لتكون قاعدة بحرية إسلامية في المغرب بدلاً من مدينة قرطاجة المهدمة القريبة منها كما أسكن فيها جالية من المسلمين لمقاومة الخطر البيزنطي، ومن هذا الميناء الكبير بدأ المسلمون غاراتهم الأولى على صقلية وجزيرة سردينية[19] في البحر المتوسط. وما لبثت المدن أن ازدهرت بمجملها مع استقرار الحال وساعد على ذلك تعاظم هجرات القبائل العربية التي تمركزت في البداية حول المدن ثم اندفعت لاحقاً في كل مكان ناشرة أينما ذهبت اللغة العربية والإسلام. وعندما تولى أمور إفريقية موسى بن نصير أكمل هو وأولاده فتح المغرب الأوسط والمغرب الأقصى وأنشأ موسى ثلاث ولايات جديدة، الأولى ولاية المغرب الأقصى وتشمل النصف الشمالي للملكة المغربية الحالية، والثانية ولاية سجلماسة وكانت تطلق على النصف الجنوبي من المملكة المغربية الحالية، أما الولاية الثالثة فهي تلك المساحة التي امتدت من الحدود الغربية لولاية إفريقية إلى حدود ولاية المغرب الأقصى وهي تشمل جزءاً كبيراً من أراضي جمهورية تونس الحالية[20].

    رابعاً: انتشار الإسلام والتعريب:

    أحداث فتح إفريقية والمغرب في عهد الخليفة الأُموي عبدُ الملك بن مروان.


    وفي جميع هذه الولايات استقرت جاليات عربية ولعبت دوراً كبيراً في نشر الإسلام واللغة العربية فيها. ففي عاصمة كل ولاية منها أقيمت قاعدة عربية إسلامية على رأسها والٍ واستقرت جماعات من العرب فيها لتعلم أهل الناحية قواعد الإسلام، وفي الوقت نفسه أخذت العربية في الانتشار بين البربر[21]. وعلى هذا هدفت سياسة هؤلاء الولاة إلى تقوية الصلات مع البربر عن طريق نشر الإسلام بينهم على نطاق واسع وتعريبهم بإعطائهم لغة القرآن وعادات العرب وتقاليدهم وثقافتهم. فالولاة الأوائل كانوا أساساً بدرجة تقل أو تكثر دعاة للإسلام ومبشرين به وعاملين على رفع لواء لغة الضاد ومحاولين إحلالها مكان اللغات واللهجات المحلية. والواقع أن نجاح هؤلاء في هذه المجالات بين البربر كان عظيماً، إذ انتشر الإسلام سريعاً بينهم وظهرت طبقة من المسلمين الجدد لا تقل حماسة للإسلام والرغبة في العمل على إعلاء شأنه ونشر كلمته عن العرب. ويبدو أن انتشار اللغة العربية كان يسير بمحاذاة توسع الإسلام؛ ذلك أن معتنقي الدين الجديد من البربر كانوا بحاجة ماسة للعربية كونها لغة كتابهم القرآن ولسان سادتهم الجدد وحكامهم[22] (هكذا)[23]. ولم يكتمل القرن الأول الهجري حتى كان المغاربة قد صاروا جميعاً مسلمين صادقين في إسلامهم ومتحمسين لرفع راية النضال في سبيل عز عقيدتهم الجديدة.. بل وتعربوا وصاروا يتحدثون العربية ويكتبونها ويخطبون بها بفصاحة، واكتسبوا ما تفيده تلك اللغة من تفكير وتعبير فصارت لهم العقلية العربية نفسها وصار يوجد فيهم الفقهاء والشعراء والخطباء.. كذلك صارت حياتهم ومعاملاتهم قائمة على أساس الشريعة الإسلامية[24]. وبذلك أصبح المغرب جزءاً لا يتجزأ من عالم الإسلام والعروبة كما أن بعض هؤلاء العرب أنشأوا العديد من الحصون والمعاقل على شواطئ البحر المتوسط ورابطوا فيها للتصدي لأي هجوم على هذه السواحل من قبل البيزنطيين الذين كانوا يحنون للعودة إليها. ثم كان هؤلاء العرب الفاتحون لإفريقية والذين انتسبوا إليها فصار يطلق عليهم عرب إفريقية وهم الصخرة التي تكسرت عليها أمواج العاصفة العاتية الهوجاء التي أثارها الخوارج في المغرب سنة 123هـ أو بعبارة أدق كانوا من أهم العوامل التي ساعدت جيوش الخلافة في انتزاع الانتصار الحاسم على جيوش أولئك الخوارج في معركة الأصنام تحت قيادة حنظلة بن صفوان الكلبي، لكونهم قاموا بنصيب كبير من القتال في سبيل استخلاص إفريقية من الثائرين على الخلافة، ولولاهم لما استطاع جند الخلافة الوصول إلى هذا النصر الحاسم[25] الذي وضع حداً للخطر الداهم الذي كان يشكله الخوارج على الوجود الإسلامي في المغرب. ولولا الإسلام لما بقيت للعروبة بقية في هذه الربوع التي ظلت على مر العصور هدفاً للحملات الصليبية المتعاقبة وحسبك 130 عاماً استيطاناً مسعوراً وتغريباً مسموماً وفرنسة حاقدة[26]. ودخول العروبة إلى هذه الربوع في ظل الإسلام هو الذي ضمن لها المقومات الأساسية من لغة وحضارة وفكر وثقافة ودعم هذه المقومات بالروح والعقيدة.. ومن هذا المنطلق حفظ الإسلام للعروبة في شمال إفريقيا مواقف وبطولات على مر العصور وأنجب لها أبطالاً وقواداً وبناة حضارة[27].

    خامساً: البيوتات العربية التي برزت في المغرب:

    كان عرب إفريقية والمغرب الذين صارت لهم اليد الطولى في هذه البلاد بعد انحلال سيادة الروم الهشة عليها يتشكلون من بيوت كثيرة وينتمون إلى قبائل عربية عديدة وخاصة القبائل اليمنية والحجازية. وقد مضى نصف قرن قبل أن يظفر العرب بالسيادة على الساحل الشمالي الذي يمتد من مصر إلى المحيط الأطلسي ولم تكد قرطاجة تسقط سنة 698م حتى زال الحكم الروماني من إفريقية زوالاً لا رجعة له كما أن إخضاع البربر قد مكّن العرب من أن يصبحوا سادة هذه البلاد[28]. ولكن أبرز البيوتات وكذلك الشخصيات التي ظهرت فيما بعد في إفريقية وحظيت بالنفوذ والرياسة والتأييد فيها سياسياً واجتماعياً وثقافياً كانت غالباً من أبناء وأحفاد القادة الفاتحين لإفريقية. ذلك أن نفراً من كبار الفاتحين خلّفوا وراءهم في المغرب بيوتاً عديدة الأفراد كثيرة الأتباع كان لها دور كبير في تاريخ المغرب فيما بعد[29]. ويشير حسين مؤنس إلى أن عدداً عظيماً من فاتحي إفريقية أنشأوا فيها أسراً من أهلهم وذريتهم فأصبحت هذه الأسر مع الزمن ذات جاه وسلطان بفضل من التف حولها من العرب والموالي والأتباع وأصبحت لها رياسة على جماعات العرب والبربر في النواحي التي استقرت فيها. ومن بيوت هذه الأسر بيت عقبة بن نافع وكان أقواها وأعظمها، وبيت معاوية بن حديج الكندي، وبيت بني نصير، وبيت أبي المهاجر دينار[30]. وهذه البيوتات سيتجه كل منها اتجاهاً خاصاً به، فبيت عقبة بن نافع سيتجهون إلى السياسة، أما بيت أبي المهاجر دينار فسيتجهون إلى العلم، أما أبناء موسى بن نصير فكان اهتمامهم بشئون المال والتجارة[31]. وكان لهذه البيوت الثلاثة النصيب الأوفى من السلطان في إفريقية خلال العصر الأموي بل صارت الأمور أخيراً إلى بيت عقبة بن نافع ممثلاً في شخص عبد الرحمن بن حبيب [بن أبي عبيدة] بن عقبة[32]. هذا الأخير الذي كان محبباً في المغرب لما كان من آثار جده عقبة فغلَبَ عليه بعد وفاة الخليفة هشام وتضعضع مكانة الدولة الأموية في المشرق بعد أن تكالب الخارجون عليها. وكان هؤلاء العرب الأفارقة (البلديون) أي عند اندلاع فتنة الخوارج في المغرب سنة 123هـ مقيمين جماعات كل جماعة في ناحية عليهم رئيس منهم يقوم بشئون الإقليم لحساب عامل إفريقية في القيروان. وقد سجل المؤرخون لنا منهم جماعات قوية في طرابلس وسبرت (صبرة) وقابس والقيروان. ومن شخصيات هؤلاء العرب الإفريقيين في ذلك الحين حبيب بن ميمون (سبرت) وعبد الرحمن بن عقبة الغفاري ومسلمة بن سودة القرشي (القيروان)، وصفوان بن أبي مالك (طرابلس)، وسعيد بن بجرة الغساني (قابس)، وحبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع ويبدو أنه كان على رأس هؤلاء العرب الأفارقة جميعاً[33]. وكان هؤلاء من أبرز القادة الذين اعتمدت عليهم الخلافة الأموية في القضاء على فتنة البربر. وكانت جماعة من هؤلاء العرب الإفريقيين تقيم في تلمسان يرأسها موسى بن أبي خالد، أحد موالي معاوية بن حديج أحد كبار قادة العرب الذين ساهموا في فتح إفريقية بنصيب كبير وكان عامل تلمسان[34] أثناء اندلاع تلك الفتنة، والذي نكل به عبيدة بن الحبحاب أمير إفريقية وقتذاك لاتهامه بممالأة الخوارج وتسببه في مقتل ولده إسماعيل والذي كان أحد أعوانه في إدارة أمور المغرب.
    [1] انظر عرض ابن خلدون لأسباب تلك المصاعب في المقدمة، دار الفكر- بيروت، د.ت ص164-165. وانظر أيضاً إبراهيم بيضون: الدولة العربية في إسبانيا، دار النهضة العربية - بيروت، ط2، 1406هـ/1986م، ص59.
    [2] أحمد العبادي: في تاريخ المغرب والأندلس، دار النهضة العربية، بيروت، ص36.
    [3] حسين مؤنس: أطلس تاريخ الإسلام، الزهراء للإعلام- القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص134.
    [4] نجدة خماش: خلافة بني أمية في الميزان، دار طلاس- دمشق، ص139.
    [5] محمد زينهم: مستند تاريخ مملكة الأغالبة لابن وردان دراسة وتقديم وتحقيق وتعليق، ملف PDF منشور على الرابط: (https://goo.gl/u1T6Td).
    [6] خماش: المرجع السابق، ص141.
    [7] مؤنس: فتح العرب للمغرب، مكتبة الآداب بالجماميز - مصر، ص283.
    [8] المالكي: رياض النفوس (10/1) حققه بشير البكوش (دار الغرب الإسلامي- بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ط2 1414هـ/ 1994م).
    [9] عبد المجيد نعنعي: تاريخ الدولة الأموية في الأندلس، دار النهضة العربية - بيروت، د.ت ص29-30.
    [10] مؤنس: أطلس، ص 178.
    [11] المرجع السابق، ص30.
    [12] مؤنس: فجر الأندلس، الشركة العربية - القاهرة، ط1، 1959م، ص41.
    [13] خماش: المرجع السابق، ص141.
    [14] زينهم: المرجع السابق.
    [15] مؤنس: فجر، ص45.
    [16] المالكي: (56-57/1).
    [17] زينهم: المرجع السابق.
    [18] مؤنس: فجر، ص45.
    [19] مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس، دار الرشاد، 2004م، ص53.
    [20] زينهم: المرجع السابق.
    [21] مؤنس: معالم، ص62.
    [22] نعنعي: الدولة الأموية، ص76 .
    [23] من أعظم المصائب التي أصابت أمتنا في الوقت الحاضر تصدي المؤرخين العلمانيين لكتابة تاريخها، كهذا المؤرخ الذي اضطررنا أن ننقل كلامه إلى آخره التزاماً بالأمانة العلمية برغم تعسفه في وصف العرب الفاتحين وما يحمله هذا الوصف من طعن في الفتوحات والنتائج التي ترتبت عليها.
    [24] العبادي: مرجع سابق، ص47.
    [25] المرجع السابق، ص76.
    [26] صالح الخرفي: عروبة المغرب العربي، العربي، العدد 322 سبتمبر 1985م، ص48.
    [27] المرجع السابق، ص49.
    [28] أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن الإبراهيم، مكتبة النهضة المصرية، ط1، 1947م، ص111.
    [29] مؤنس: معالم، ص62.
    [30] المرجع السابق، ص77.

    [31] المرجع السابق، ص77-78.
    [32] مؤنس: فتح العرب للمغرب، ص297.
    [33] المرجع السابق، ص297.
    [34] مؤنس: فجر، ص168
    منقول بتصرف





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: معارك حربية مهمة فى التاريخ الاسلامى ...يوميا فى رمضان



    سقوط بغداد (1)
    ابن العلقمي والخيانة العظمى


    قصة الإسلام
    (20)

    خارطة لِبغداد العبَّاسيَّة وضواحيها كما كانت تبدو تقريبًا زمن الغزو المغولي.


    ابن العلقمي.. اسم تفوح منه رائحة الخيانة والغدر، اسم ارتبط بجريمة من أفظع الجرائم، وكارثة من أخطر الكوارث، وهي سقوط بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية في أيدي التتار، فهو اسم خائن متربص بالشريعة، لا يخلو منه عصر من عصور هذه الأمة الإسلامية.


    ابن العلقمي .. مراحل حياته


    هو أبو طالب محمد بن أحمد بن علي، مؤيَّد الدين الأسدي البغدادي الرافضي المعروف بابن العلقمي (593- 656هـ/ 1197- 1258م)، وقال عنه الزركلي: "وزير المستعصم العباسي، وصاحب الجريمة النكراء في ممالأة هولاكو على غزو بغداد، اشتغل في صباه بالأدب، ووثق به المستعصم فألقى إليه زمام أموره، وكان حازمًا خبيرًا بسياسة الملك، كاتبًا فصيح الإنشاء"[1].


    شغل منصب أستاذ الدار أو الأستاذ دارية عام 629هـ، وجُعل مكان ابن الناقد فيها[2]، ومنصب أستاذ الدار هو من المناصب الإدارية التي استحدثها العباسيون في منتصف القرن الرابع الهجري، وصاحبها مسئول عن رعاية دار الخلافة العباسية وصيانتها، وتوفير ما يلزم ساكنيها من أسرة الخليفة.

    وقد اكتسب منصب أستاذ الدار في مطلع القرن السادس الهجري أهمية كبيرة، حيث أخذ يبرز في صياغة الأحداث الداخلية، وأصبح من حاشية الخليفة التي لها القرار بتنصيب الخليفة أو عزله، وترشيح المقربين لتولي المناصب العليا[3].

    ابن العلقمي .. وزيرًا للخليفة


    بعد وفاة الخليفة العباسي المستنصر، تولى المستعصم خلافة المسلمين، وكان لينًا سهل الانقياد ضعيف التدبير، وفي ذلك يقول الذهبي رحمه الله: "وكان -أي المستعصم- فيه شح، وقلة معرفة، وعدم تدبير، وحب للمال، وإهمال للأمور، وكان يتكل على غيره، ويَقْدُم على ما لا يليق وعلى ما يُستقبح، وكان يلعب بالحمام، ويهمل أمر الإسلام"[4].

    وقد اختار للوزارة ابن العلقمي، وذلك سنة 642هـ، وقد أورد ابن كثير ذلك في كتابه قائلاً: "استوزر الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين أبا طالب محمد بن أحمد بن علي بن محمد العلقمي المشئوم على نفسه، وعلى أهل بغداد، الذي لم يعصم المستعصم في وزارته، فإنه لم يكن وزير صدق ولا مرضيّ الطريقة، فإنه هو الذي أعان على المسلمين في قضية هولاكو وجنوده، قبَّحه الله وإياهم"[5].

    وكان داهية استطاع أن يستغل صفات الضعف في الخليفة لينفث سمومه وينفذ مخططاته، يقول الذهبي: "فأقاموا المستعصم، ثم ركن إلى وزيره ابن العلقمي، فأهلك الحرث والنسل، وحسَّن له جمع الأموال، والاقتصار على بعض العساكر، وقطع الأكثر، فوافقه على ذلك... وابن العلقمي يلعب به كيف أراد، ولا يُطلِعه على الأخبار، وإذا جاءته نصيحة في السر أطلع عليها ابن العلقمي، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً"[6].


    ابن العلقمي وخطة إسقاط الخلافة

    وقد كرَّس ابن العلقمي حياته؛ للقضاء على الخلافة العباسية، ومحاربة أهل السُّنَّة أينما حلَّوا أو ارتحلوا، وقامت تلك الخطة على محاور ثلاث، استطاع ذلك الوزير الخائن من خلالها أن يسقط دعائم الخلافة العباسية؛ لتعيش الأمة وللمرة الأولى منذ أكثر من خمسة قرون من دون خليفة يسيِّر أمور تلك الحضارة العظيمة.
    وكانت المراحل الثلاث لخطته كما يلي:


    1- إضعاف الجيش الإسلامي:

    حيث قطع من أرزاق العسكر، وسعى في تقليل النفقات على الجهاد، وهذا ما يؤكده ابن كثير بقوله: "وكان الوزير ابن العلقمي يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل، فلم يزل يجتهد في تقليلهم، إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف"[7].


    2- مكاتبة التتار:


    وهذا هو الفصل الثاني والمرحلة الثانية من الخيانة العظمى، حيث كاتب ذلك الوزير التتار؛ ليعرض عليهم معونتهم في اقتحام بغداد وإسقاطها، وأمدَّهم بما يحتاجونه من المعلومات. ويحكي ابن كثير عن ذلك قائلاً: "ثم كاتب التتار، وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهَّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال"[8].


    3- النهي عن قتال التتار وتثبيط الخليفة والرعية:

    ثم ضم إلى العقد غير الفريد لخياناته حلقة ثالثة، حيث بدأ في تثبيط همة الخليفة في جهاد التتار، والتخذيل في جماعة المسلمين، ويؤكد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على هذه الحقيقة حين قال عن ابن العلقمي: "وكان وزير الخليفة ببغداد الذي يقال له ابن العلقمي منهم -أي من الرافضة- فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم، وينهى العامة عن قتالهم -أي التتار- ويكيد أنواعًا من الكيد"[9].


    ولم يكتفِ بالتأثير على العامة، بل راح يثبط من عزيمة الخليفة في جهاد التتار، ويقاوم كل من أشار عليه بالثبات في وجههم، وفي ذلك يحكي ابن كثير في كتابه البداية والنهاية قائلاً: "وأوهم -أي ابن العلقمي- الخليفة وحاشيته أن ملك التتار يريد مصالحتهم، وأشار على الخليفة بالخروج إليه، والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم، ونصفه للخليفة، فخرج الخليفة إليه في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والأمراء والأعيان"[10].

    وأشار على الخليفة بالخروج إلى هولاكو، قائلاً: "فليجب مولانا إلى هذا؛ فإن فيه حقن دماء المسلمين"[11].

    وتمَّ بهذه الحيلة قتل الخليفة ومن معه من قواد الأمة وطلائعها بدون أي جهد من التتار، "وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير ابن العلقمي: (متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عامًا أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك)، وحسنُّوا له قتل الخليفة"[12].


    نتائج جريمته النكراء


    وبعد مقتل الخليفة اتجه فريق من أشقياء التتار لعمل إجرامي بشع، وهو تدمير مكتبة بغداد العظيمة، وهي أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن، وهي الدار التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام، وجمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون.


    لقد ألقى التتار بمجهود القرون الماضية في نهر دجلة، "حتى تحول لون مياه نهر دجلة إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب، وحتى قيل: إن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى"[13].

    وبعد ذلك خرج الجيش التتري بكامله من بغداد؛ لكيلا يصاب بالطاعون نتيجة الجثث المنتشرة في كل مكان، ويكفي في التعبير عن بشاعة ذلك العدوان، ما قاله الواعظ محمد بن عبيد الله الكوفي وقد شاهد تلك المأساة:

    إن ترد عبرة فتلك بنو العبـ *** ـاس حلت عليهــــم الآفات
    استبيح الحريم إذ قتل الأحـ *** ـياء منهم وأحرق الأمـوات


    كما أصدر هولاكو قرارًا بأن يُعيَّن مؤيَّد الدين العَلْقمي الشيعي حاكمًا من قِبل التتار على بغداد، على أن توضع عليه -بلا شك- وصاية تترية، ولم يكن مؤيد الدين إلا صورة للحاكم فقط، وكانت القيادة الفعلية للتتار بكل تأكيد.

    وفاة ابن العلقمي


    ولم يتوقف منصبه الجديد عند حد كونه حاكمًا صوريًّا، بل إن الأمر تزايد بعد ذلك، ووصل إلى الإهانة المباشرة للحاكم الجديد مؤيد الدين العلقمي، ولم تكن الإهانة تأتي من قبل هولاكو، بل كانت تأتي من صغار الجند في جيش التتار؛ وذلك لتحطيم نفسيته، فلا يشعر بقوته، ويظل تابعًا للتتر.

    ويروي السبكي -رحمه الله- طرفًا من تلك الإهانات فيقول: "وأما الوزير -أي ابن العلقمي- فإنه لم يحصل على ما أمَّل وصار عندهم أخس من الذُّباب، وندم حيث لا ينفعه الندم، ويحكي أنه طُلِب منه يومًا شعير، فركب الفرس بنفسه ومضى ليُحصِّله لهم، وهذا يشتمه وهذا يأخذه بيده، وهذا يصفعه بعد أن كانت السلاطين تأتي فتُقبِّل عتبة داره، والعساكر تمشي في خدمته حيث سار من ليله ونهاره.


    وإذا بامرأة تراه من طاقٍ، فقالت له: (يا ابن العلقمي، هكذا كنت تركب في أيام أمير المؤمنين)! فخجل وسكت، وقد مات غَبنًا بعد أشهر يسيرة، ومضى إلى دار مقبره ووجد ما عمل حاضرًا"[14].

    ومات بعد شهور قليلة جدًّا من السنة نفسها التي دخل فيها التتار بغداد، سنة 656هـ/ 1258م، ولم يستمتع بحكم ولا ملك ولا خيانة، وليكون عِبْرة بعد ذلك لكل خائن.
    [1] الزركلي: الأعلام 4/248.
    [2] الذهبي: سير أعلام النبلاء 23/162.
    [3] بحث بعنوان (منصب أستاذ الدار في الخلافة العباسية ما بين 352-656هـ)، مجلة جامعة الملك خالد، المجلد الرابع، العدد السابع، (1427هـ)، د. محمد بن عبد الله القدحات.
    [4] الذهبي: تاريخ الإسلام 11/177.
    [5] ابن كثير: البداية والنهاية 13/192.
    [6] الذهبي: تاريخ الإسلام 11/177.
    [7] ابن كثير: البداية والنهاية 13/235.
    [8] المصدر السابق، نفس الصفحة.
    [9] ابن تيمية: منهاج السنة النبوية 5/155.
    [10] ابن كثير: البداية والنهاية 13/201.
    [11] السيوطي: تاريخ الخلفاء 1/403.
    [12] ابن كثير: البداية والنهاية 13/201.
    [13] د. مصطفى طه: محنة الإسلام الكبرى ص177، 178.
    [14] السبكي: طبقات الشافعية الكبرى 8/159.
    منقول بتصرف



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •