رسالة في تفسير قول الله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب}*
عبد العزيز الداخل

أصدق علامات الإنابة : طمأنينة القلب المؤمن بذكر الله ، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)}
قال قتادة: (سكنت إلى ذكر الله واستأنست به). رواه ابن جرير.
فطمأنينة القلب بذكر الله: سكونه واستئناسه ورضاه بسبب ذكر الله وما دلَّ عليه.
والباء فسرت بالسببية والمصاحبة والملابسة والاستعانة والتبرك، وكلها معانٍ صحيحة تتسع لها دلالة هذا الحرف.
وهذه العلامة [طمأنينة القلب المؤمن بذكر الله] جامعة لمعانٍ عظيمة، يدلّ عليها ما فسّر به ذِكْر الله هنا؛
فقيل: الذكر: هو القرآن.
وقيل: الذكر هو ذكر العبد ربَّه بلسانه.
وقيل: الذكر هو ذكر العبد ربَّه في نفسه.
وقيل: الذكر هو التذكر الذي ينتفع به العبد من تفكره في آيات الله ومخلوقاته.
وكل هذه المعاني صحيحة وهي من مدلول معنى ذكر الله جلَّ وعلا، وبها تحصل طمأنينة القلب، ؛ فإن القلب إذا دهمه ما يُزْعِجُه ويُجْزِعه ثم ذَكَرَ ربَّه في نفسه وعلم أن له ربّا سميعاً بصيراً رحيماً ودوداً لا يخفى عليه شيء ولا يعجزه شيء ولا يخذل أولياءه ولا يتخلَّى عنهم، بل يهديهم وينصرهم ويحفظهم اطمأنَّ قلبُه لما تذكَّر من أسماء الله وصفاته وآثارها التي لا تتخلف عنها.
- وإذا ذكرَ وَعْدَ الله تعالى لمن اتبع هداه أن لا يخاف ولا يحزن وأن لا يضل ولا يشقى، وأن الله مع عباده المؤمنين المتقين يحبهم ويؤيدهم وينصرهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور: اطمأنَّ قلبه بذكر الله، وصدق وعده.
- وإذا تلا آيات الله وجد من نفسه طمأنينة لها وفرحاً بها ورضا ينشرح به الصدر وتسكن به النفس فيطمئنُّ القلب بذكر الله الذي أنزله على عباده؛ فيتبع العبد ما فيه من الهدى، ويعتبر بما فيه من العبر والمواعظ، ويعقل ما فيه من الأمثال، فيثبت بإذن ربه على الحق والهدى فيزيده الله هدى وفضلاً وثباتاً على الحق.
- وإذا تأمَّل آيات الله الكونية واعتبر بما فيها من العبر العظيمة وتعرَّف بها على أسماء الله وصفاته ، وأن من خلق هذا الكون العظيم فإنه أعظم منه، ومن سيَّر هذه الأفلاك العظيمة بنظام دقيق عجيب محكم حكيم عليم قدير، وأن من يدبّر أمور الكائنات على كثرتها الهائلة وتنوعها العظيم واختلافها وتزامنها لا يشغله شأن عن شأن ، ولا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء.
ولا يزال يتفكر في نفسه وفي الآفاق وفي ما يراه من عجائب خلق الله تعالى للكائنات وتدبيره لأحوالها وتقديره لأوصافها وقسمه لأقواتها وأرزاقها وطبائعها وأخلاقها.
فيكون هذا التفكر دليلاً يذكّره بالله فيطمئنّ قلبه بذكر الله، ويثمر له هذا التفكر والتذكر ما يثمر من خشية الله والإنابة إليه وتعظيمه ومحبته والخضوع لأمره، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له.
ويدلّ على هذا المعنى قول الله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)}
وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}
- وإذا ذَكَرَ العبدُ ربَّه بلسانه مؤمناً بالله جلَّ وعلا عَصَمَه الله من كيد الشيطان الوسواس الخناس الذي يوسوس فإذا ذكر العبد ربَّه خنس، وَوُقِي أيضاً شرَّ وسوسة نفسه الأمارة بالسوء وشر وسوسة شياطين الإنس والجن، وإذا اندفعت هذه الوساوس عن القلب وعُصم العبد من شرها اطمأن القلب لعصمته من الأذى الذي كان يزعجه ويقلقه ؛ فإن ما يحجب الطمأنينة عن القلب راجع إلى معانٍ متقاربة من التحزين والتيئيس والتشكيك والتخويف وكلها إنما مصدرها شرور النفوس ووساوس الشياطين؛ فإذا عُصم العبد منها بقي القلب مطمئناً بذكر الله جلَّ وعلا.
وهذه المعاني إذا تأملتها حقَّ التأمل وجدتها من أظهر علامات الإنابة إلى الله تعالى.
وأن الشقي المحروم هو المعرض عن ذكر ربه ، الذي إذا ذكر الله اشْمَأَزَّ قلبه، وإذا تليت عليه آياته أعرض عنها؛ فهذا من المجرمين كما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}
ومن تأمَّل العقوبات التي جعلها الله لمن أعرض عن ذكره علم شدة انتقام الله جلَّ وعلا ممن لا يُنيب إليه ولا يطمئنّ قلبه بذكره.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}
فتأمّل شدة هذه العقوبة، وكيف أنها في مقابل ما يمنّ الله به على أهل الإنابة والخشية من فهم القرآن وفقهه والانتفاع به.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُم ْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}
فانظر حفظني الله وإياك ووقانا أسباب سخطه ونقمته عظم هذا الذنب وهو عمل قلبي وكيف أنه سبب لهذه العقوبات العظيمة من الشقاء والخذلان، وتسلط الشياطين ، والحرمان من الهدى والانتفاع بالقرآن، وسبب ذلك : الإعراض عن ذكر الله.
وعلاجه : الإنابة إلى الله تعالى، وطمأنينة القلب بذكره.
وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} يدلك على أن القلوب لا طمأنينة لها على الحقيقة إلا بذكر الله جلَّ وعلا؛ الذي هو ربّها وخالقها ومعبودها الحق لا إله إلا هو.
وأنَّ ما يحصل لأهل المعصية والإعراض من الفرح والانبساط إنما هو سكرة نفسية وخفَّة شيطانية كما يسكر صاحب الهمّ بالخمر فيجد لها انبساطاً فإذا صحا من سكرته عاد إليه كَدَرُه، وحضَرَهُ ضيقُه وهمُّه أشد مما كان عليه؛ فيدفع أثر السُّكْرِ بِسُكْرٍ مثلِهِ أو أشد.



* هذه الرسالة مستلة من شرح لم يكتمل بعد على التحفة العراقية لشيخ الإسلام ابن تيمية.