خطبة الحرم المكي - فتنة المخدرات: أضرارها وطرائق محاربتها وعلاج آثارها


الفرقان

جاء خطبة الحرم المكي بتاريخ 6 من جمادي الآخرة 1444ه، الموافق 30 ديسمبر 2022، بعنوان فتنة المخدرات: (أضرارها وطرائق محاربتها وعلاج آثارها)، ألقاها إمام الحرم الشيخ عبدالرحمن السديس، واشتملت الخطبة على عدد من العناصر كان أهمها: فتن حالكة تحيط بالأمة، وكمال الدين الإسلامي وحفاظه على مصالح العباد، وبعض الحكم في تحريم المسكرات والمخدرات، وأسباب تفشي المخدرات، وطرائق محاربة المخدات وأساليب علاج آثارها.
في بداية الخطبة بين الشيخ السديس أنَّ أمَّتُنَا الإسلاميّة تَعيش فِتَنًا حَالِكةً، وعَوَاصِفَ مِن التحديات هالِكةً، اخْتَلَفَتْ ضُرُوبُها، واسْتَحَرَّت كُرُوبُها، وغَدَتْ كَعَارِضٍ مُنْهَمِر، ونَوْءٍ مُسْتَمِرٍّ، ومِنْ أنْكَى تِلْكُم الفِتَنِ في الأُمَّةِ فِتْنَةُ تغييبِ العقولِ: إمَّا بأفكارٍ هدَّامةٍ ضالةٍ، أو مُسْكِراتٍ ومخدِّراتٍ مُغَيِّبَةٍ مُضِلةٍ، والعقل والإدْرَاك مِن أزكى مِنَنِ البَارِي وأسْنَاها، وأجَلِّ النِّعَم وأغْلاها؛ فبالعقل يَسْمُو صَاحِبُه، وتَجِلُّ مَنَاقِبُهُ، وتنوء عَنِ الفَرَطاتِ عَوَاقِبُه.
مصالحُ العباد في المعاش والمعاد
لقد جاء الدين الإسلامي الحنيف بما فيه مصالحُ العباد في المعاش والمعاد، يقول الإمام الغزالي -رحمه الله-: «ومقصودُ الشرعِ من الخَلْق خمسة، وهي: أن يَحفظ عليهم دِينهم، ونفسَهم، وعَقلَهم ونَسلَهم ومالَهم، فكلُّ ما يتضمَّن حفظَ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكلُّ ما يُفوِّت هذه الأصولَ فهو مفسدةٌ، ودفعُه مصلحةٌ»، ولقد حرَّم اللهُ كلَّ ما فيه فساد للعباد، في المعاش والمعاد؛ لذا حرَّم الخمرَ والمسكرات، وقال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(الْ مَائِدَةِ: 90)، وروى الإمام أحمد، وأبو داود، عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها قالت: «نَهى رسولُ اللهِ عن كل مُسكِرٍ ومُفَتِّرٍ»، ومن حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعَنَ اللهُ الخمرَ وشاربَها وساقيَها، وبائعَها ومُبتاعَها، وعاصرَها ومُعتصرَها، وحاملَها والمحمولَةَ إليه» أخرجه أبو داود.
الحكمة من تحريم المسكرات والمخدِّرات
والحكمة من تحريم المسكرات والمخدِّرات أنها تقضي على الفرد في أعزِّ ما يَملِكُ، وهو عقله، والعقلُ أساسُ التكليفِ؛ لذا جاءت نصوص الشريعة بحفظه، قال الإمام الشاطبي -رحمه الله-: «وقد جاءتِ الشريعةُ بحفظِ العقلِ من جهتَي الوجودِ والعدمِ». كما أنها تذهب بالمال وتُهلكه، وربما ذهبت بالأنفس وأودَتْ بصاحبها في المهالك، وهَتْك الأعراض وسَفْك الدماء، وغير ذلك ممَّا حرَّم اللهُ، وكلما زادت ظاهرةُ استعمال المخدِّرات في مجتمع من المجتمعات، ارتفعت معدلاتُ الجرائم الأمنية والأخلاقية، المخدراتُ خَرابُ الدين، ودمارُ العقل، وإتلافُ الصحَّة، بَغِيضةٌ إلى الرحمن، رِجْسٌ من عمل الشيطان، ضَعْفٌ في الدِّين والإيمان، آفة العصر وسموم الدهر، وسرطان الشعوب، وخراب المجتمعات، ولقد أثبتتِ الإحصاءاتُ أنَّ أكثرَ من أربعين بالمائة من القضايا الجنائية وستين بالمائة من الجرائم المجتمعيَّة سببُها المخدراتُ والعياذ بالله.
أسباب تفشِّي المخدرات
وحينما نبحث عن أسبابِ تفشِّي هذا الأمر، ولاسيما في محيط الشباب، نجد أنَّ أهمَّ هذه الأسباب: ضَعْفُ الوازع الديني، وضمورُ مستوى التربية الإسلامية لدى كثيرٍ من الأجيال، والخُوَاءُ والفراغُ الكبيرُ، والتقليدُ الأعمى، وجلساءُ السوءِ، أَضِفْ إلى ذلك ما يعتري بعضَ المجتمعات في هذا الزمان من تزهيدٍ في العِلم والعمل.
حبائل قُرَناء السوء
وإن من أخطر الأخطار التي تهدِّد عامرَ الديار وقوعَ بعض الشباب وربما الفتيات في حبائل قُرَناء السوء الأشرار، وترويج بعض مواقع التواصل الاجتماعي للانحرافات السلوكية والمخدرات والمؤثِّرات العقلية، بدعوى المنشطات والمهدئات، وتعديل الأمزجة وصَقْل العقليات، وربما فُتِنَ بعضُهم بشرور المخدِّرات، تعاطيًا وتسويقًا، وتهريبًا وترويجًا، ويستهويه الأمرُ فيتمادى به إلى الهلوسة، والدمار، والضياع، والانتحار عياذا بالله.
ضَعُف التدين والجهل بالشريعة
وخلاصةُ الأمرِ أنه يوم أن ضَعُفَ التدين، وكَثُرَ الجهل بالشريعة، وطَغَت المادياتُ؛ سَهُلَ الأمرُ على مَنْ أراد بالمجتمعات سوءًا، فاسْتَنَاخ الأمرُ تحديًّا حالكًا، وحربًا ضروسًا سافرةً، تعددت ضروبُها وأشكالها؛ حشيشٌ وحبوبٌ، ومادة القات، والشبو المخدِّر، وأقراص الإمفيتامين، والمخدرات الإلكترونية، وغيرها في استهدافٍ خطيرٍ، وهوسٍ مسيطرٍ، تستغلّ المصاحي الكريمة، والأحشاء والفواكه والبضائع الاستهلاكية وإطارات السيارات ونحوها.
التدابير الواقية
وبعد تشخيص هذا الداء العُضَال، ومعرفة أثره الخَتَّال، فحتمًا ولابد، من أخذ التدابير الواقية للتصدي لهذا الخطر الداهم، قبل استفحاله واستحكام الندائم والغرائم، دفعًا ورفعًا وللإيذاء قولًا وفعلًا.
أولاً: تقوية الوازع الدينيّ
أُولَى الخطوات وأَوْلاهَا تقوية الوازع الدينيّ، ومُراقبة المولى العليّ، واستشعارُ معيته، وتعظيمُ أمره ونهيه، وتحقيقُ الاعتدال والوسطية، فشريعتُنا إعمارٌ لا دمارٌ، بناءٌ ونماءٌ، لا هدمٌ وفناءٌ، تدعو إلى كل صلاح، وتنهى عن كل فسادٍ وطلاحٍ؛ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}(النُّورِ: 40).
ثانيًا: إذكاء الجوانب التربوية والأخلاقية
وثاني هذه الخطوات الاحترازيَّة الاستباقيَّة: الوِقَايةُ وإذكاء الجوانب التربوية والأخلاقية؛ فهي معراجُ الروحِ لبناء الشخصية السَّوِية، وجَعْلها شخصيةً قويمةً متماسكةً، راسخةً متناسقةً، أُسوتُها وقدوتُها نبيُّ الهدى - صلى الله عليه وسلم - المُضَمَّخُ من القِيَم والطيب بأعظم الحظ والنصيب، ويؤكَّد هنا على مسؤولية البيت، والأسرة، والأبوين، والمدرسة، والمسجد، وجميع قنوات التربية، وكَمْ من شابٍّ ومُخدَّرات تعاطى المخدِّرات حتى هلك ومات، وهيهات هيهات من هذه السموم المهلكات.
ثالثًا: إحلال العقوبات الرادعة
كذلك لابد من إحلال العقوبات الرادعة، بمَنْ يَسعوَنْ فسادًا في مجتمعات المسلمين، من المهرِّبين والمروِّجين، بِالتشهيرِ بهم، وإظهارِ سوء صنيعهم، وإقامةِ حُكمِ اللهِ فيهم، والضرب على أيديهم، وعدم التهاون معهم؛ لأنهم يهدمون بناء المجتمع المتراص، وهذا ما تقوم به حكومة هذه البلاد وفَّقَها اللهُ.
كونوا على قَدْر المسؤولية
فلتكونوا أيها الشباب والفتيات على قَدْر هذه المسؤولية، ولا تغيبوا بالمخدرات عقولكم، عن تنمية بلادكم وجودة حياتكم، وإن واجبنا الديني والأخلاقي والوطني لَيُحَتِّمُ على كل فردٍ مِنَّا، ولا سيما الشبابَ والفتياتِ أن ينهض بواجباته؛ لنكون يدًا واحدةً في وجه المفسدينَ والمنتهِكينَ لحُرُمات الدينِ والوطنِ، من خلال التَّصَدِّي لمروِّجي هذه السموم الخطيرة.
التحذير من المخدرات
وإنَّ مِنْ أَوْلَى ما يجبُ الاهتمامُ به وإيلاؤه أوفرَ العنايةِ في هذه الآونة العصيبة، التحذيرَ من المخدرات، وتعاطيها، وترويجها، حمايةً للشباب والفتيات الذين هم عمادُ الأمة ومستقبلها، والمسؤولية في ذلك تقع على عاتق العلماء، والدعاة، وأهل التربية والفِكْر والإعلام، وحَمَلةِ الأقلام، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته؛ يجب الحفاظ على تلاحُم أفراد الأسرة، والمجتمع مع أبنائهم، وفَتْح قنوات الحوار الهادف، وتهيئة الفُرَص العملية لهم؛ حمايةً لهم من الفراغ والبطالة، وتعاوُن ذوي اليسار ورجال الأعمال في ذلك، مع الجهات المسؤولة، ليتحققَ للمجتمع ما يصبو إليه؛ من تحصين شباب الأمة، وحراستهم من المؤثِّرات السلبيَّة والعقليَّة التي قد تجذبهم إلى هذه المسالك المرذولة وإدمانها.