مصيدة المودة







. عبده قايد أحمد الذريبي








الابتسامة الصادقة شعارٌ من شعائر الأنبياء، وسُنَّة من سنن المرسلين، وصفة من صفات المُؤمنين، وسِمَة نبيلة من سِمَات النُّبلاء، ولُغة سامية من لُغات الحضارة البشريَّة، وسهم مؤثر من أسهم اصطياد القلوب، قال ابن عيينة -رحمه الله-: «البشاشة مصيدة المودة»[1]، وقال أبو جعفر بن صهبان: «كان يقال: أول المودة: طلاقة الوجه، والثانية: التودُّد، والثالثة: قضاء حوائج الناس»[2].

وقال ابن حمدون: «عَشْر يُورِّثن المحبَّة»، وذكر منها: «.. واللُّطف بالكلام...»[3].

وقد أمر الله -سبحانه- عباده باللُّطف في الكلام والقول الطيب مع الناس جميعًا، فقال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة: ٨٣].

والإنسان إذا امتلك الابتسامة الصادقة فقد صار أوفر الناس حظًّا في كَسْب الآخرين، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنكم لن تَسَعُوا الناسَ بأموالكم، ولكن يَسعهم منكم بَسْط الوجه، وحُسْن الخُلُق»[4].

وقال ابن القيم -مبينًا أهمية الابتسامة، وأن الناس جُبِلُوا على النُّفْرَة من العبوس ولو أعطاهم من المال ما أعطاهم، وينبسطون للبشوش المبتسم ولو لم يُعْطِهم شيئًا من المال-: «إن الناس ينفرون من الكثيف، ولو بلغ في الدِّين ما بلغ، ولله ما يجلب اللطف والظرف من القلوب فليس الثقلاء بخواص الأولياء، وما ثقل أحد على قلوب الصادقين المخلصين إلا من آفة هناك، وإلا فهذه الطريق تكسو العبد حلاوةً ولطافةً وظرفًا، فترى الصادق فيها من أحبّ الناس وألطفهم، وقد زالت عنه ثقالة النفس، وكدورة الطبع»[5].

والمال وحدَه غيرُ كافٍ في تأليف القلوب، وكَسْب وُدّها؛ ما لم يصاحب ذلك ابتسامة صادقة، وأخلاق فاضلة، وقد كان عمر بن عبد العزيز يتمثل هذه الأبيات:

القَ بالبشر مَنْ لقيت من النا

س جميعًا ولاقهم بالطلاقهْ

تَجْنِ منهم به جناءَ ثمارٍ

طيبًا طعمُه لذيذَ المذاقهْ

ودعِ التيهَ والعبوسَ عن النا

س فإن العبوسَ رأسُ الحماقهْ

ولما كانت البسمة الصادقة، والأخلاق الكريمة متأصلة في النبي صلى الله عليه وسلم تَملَّك بها القلوب، قال عبد الله بن الحارث: «ما رأيت أحدًا أكثر تبسُّمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم »[6].

وقال جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-: «ما حَجَبني النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا رآني إلا تبسَّم في وجهي»[7].

والبسمة الصادقة حساب بنكي ووديعة استثمارية مربحة، ففي بعض الحِكَم الصينية: «إن الرجل الذي لا يعرف كيف يبتسم لا ينبغي له أن يفتح متجرًا».

ويؤكد على ذلك ما تقوم به الشركات العالمية والمتقدمة من تدريب موظفيها على التعامل مع الزبائن والعملاء؛ حيث تكون الابتسامة على رأس تلك التدريبات، وهم بذلك يرجون ثواب الدنيا، فكيف بمن يتخلق هذا الخلق رجاء ثواب الدنيا والآخرة؟!

والبسمة الصادقة في وجه أخيك المسلم صَدَقة تتصدق بها على الفقير والغَنِيّ، على الشريف والوضيع، على مَن يستحقُّ ومَن لا يستحقُّ، قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: «تبسُّمك في وجه أخيك صدقة»[8].

يا صاح لا خَطَر على شفتيك

أن تتثلما والوجه أن يتحطما

فاضحك فإن الشهب تضحك

والدجى متلاطم ولذا نحب الأنجما

والابتسامة وطلاقة الوجه من حُسْن الخلق، عن الشعبي قال: «حُسْن الخُلُق: البذلة والعطية والبشر الحسن».

وقال ابن المبارك عن حُسْن الخُلُق: «هو بَسْط الوجه، وبَذْل المعروف، وكفّ الأذى».

وسئل سلام بن أبي مطيع عن حُسْن الخُلُق، فأنشد:

تراه إذا ما جئته متهللا

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

ولو لم يكن في كفّه غير روحه

لجادَ بها فليتق الله سائله

هو البحر من أي النواحي أتيته

فلُجّته المعروف والجود ساحله[9]

والابتسامة الصادقة سفيرة القلوب -كما قيل-، قال أبو جعفر المنصور: «إن أحببتَ أن يكثر الثناء عليك من الناس بغير نائل فالْقَهُمْ بِبِشْرٍ حَسَنٍ».

وقال ابن عقيل: «البِشْر مُؤنِّسٌ للعقول، ومن دواعي القبول، والعبوس ضده».

وقال محمد بن حازم:

وما اكتسب المحامدَ حامدوها

بمثل البِشْر والوجه الطليق[10]

وقال أعرابي: «البِشْرُ سِحْرٌ، والهدية سِحْر، والمساعدة سحر»[11]

والابتسامة الصادقة تعمل في القلوب عَمَل السحر، ولها عظم الأثر في إزالة الشحناء، روى الشافعي أنه قال:

إني أُحَيِّي عدُوِّي عند رؤيته

لأدفعَ الشرَّ عني بالتحيّاتِ

وأُحسن البِشْرَ للإنسانِ أبغضُه

كأنه قد حشا قلبي محبّاتِ[12]

وقال القاضي التنوخي:

الْقَ العدو بوجهٍ لا قطوبَ به

يكاد يقطر من ماء البشاشات

فأحزم الناس مَن يلقى أعاديه

في جسم حقد وثوب من مودات

الرفق يُمْن وخَيرُ القول أصدقه

وكثرة المزح مفتاح العداوات[13]

وقال آخر:

ولاقِ بِبِشْرٍ مَن لقيت تَكُنْ له

صديقًا وإن أمسى مُغِبًّا على حقد[14]

والبسمة الصادقة من المعروف الذي ينبغي أن نُواجه بها كل من نلقاه، قال الحسن: «من الصدقة أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق»[15]، وجاء في حديث أبي ذر قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تحقرنّ من المعروف شيئًا ولو أن تَلْقَى أخاك بوجهٍ طَلْقٍ»[16]. والوجه الطَّلْق والطليق: هو المُتهلِّل بالبِشْر والابتسام. قال الشاعر:

بشاشة وجه المرء خيرٌ من القِرَى

فكيف بمن يقري القرى وهو يضحك[17]

فلقاء المسلم لأخيه المسلم بوَجْه طليق منشرح من المعروف، وهو سببٌ للمودة والمحبة، والدين الإسلامي دين المحبة والوفاء والأخوة[18].

والابتسامة الصادقة والمؤثرة والجاذبة للقلوب والكاسبة للآخرين لا بد أن تتوافر فيها موصفات، ومنها ما يلي:

أولاً: أن نُشْعِر المقابل أنها نقية من كلّ مقصد غير الحبّ الحقيقيّ، والحرص على الهداية.

ثانيًا: أن تتصاحب مع مُصافَحة أو عناق أو كليهما عند مقابلته؛ خاصةً إذا كان غائبًا أو مسافرًا.

ثالثًا: أن يصحبها كلمات الترحيب الجميلة والخالية من المُبالَغات الممقوتة.

رابعًا: أن يرافقها بالسؤال عن الأحوال والأهل والأبناء، وبعض مشاكله الخاصة واهتماماته.


خامسًا: أن يناديه بأحب الأسماء إليه.

والابتسامة يجب أن تكون بقَدْر الحاجة، وعلى الإنسان ألَّا يبالغ فيها، وألَّا يكون عبوسًا، بل عليه أن يكون وسطًا؛ كما قال بعض الحكماء: «الْقَ صديقك وعدوك بوجهِ الرضا، من غير مذلة لهما ولا هيبة منهما، وتوقَّرْ مِن غير كِبْر، وتواضعْ من غير مذلة، وكنْ في جميع أمورك في أوسطها، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم». وكما قيل:

عَلَيكَ بِأَوساطِ الأَمورِ فإِنَّها

طَريقٌ إِلى نَهجِ الصِراطِ قَويمُ

وَلا تَكُ فيها مُفرِطًا أَو مُفرِّطًا

كِلَا طَرَفَي قَصْدِ الأُمورِ ذميمُ





[1] فيض القدير، للمناوي، (3/226).

[2] الإخوان، لابن أبي الدنيا، رقم (138).

[3] التذكرة الحمدونية، لابن حمدون، (2/225).

[4] رواه أبو يعلى والبزار من طرق أحدها حسن جيد، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب.

[5] مدارج السالكين (3/ 171).

[6] رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: ٣٦٤١.

[7] رواه البخاري: ٣٠٣٥.

[8] رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الترمذي: ١٩٥٦.

[9] جامع العلوم والحكم: (2/ 544).

[10] بهجة المجالس: 2/298.

[11] الصداقة والصديق، ص: 181.

[12] مناقب الشافعي، للبيهقي: 2/ 87.

[13] أدب الدنيا والدين، ص: 182.

[14] الصداقة والصديق، ص: 240.

[15] الإخوان، لابن أبي الدنيا، رقم 132.

[16] رواه مسلم: 2626.

[17] تطريز رياض الصالحين، ص: 445.

[18] شرح رياض الصالحين: 4/ 453).