مواقف على طريق الهجرة


خميس النقيب




الهجرة موسم من مواسم الطاعة، وملحمة من ملاحم الدين، ومرحلة من مراحل الإسلام، يجب أن يعيشها المسلم، ويحياها المؤمن، ليأخذ منها الدرس والعبرة، ويستخلص منها السلوك والتطبيق، ما إن بدأ التنفيذ حتى مضت مواكب المهاجرين إلى نحو الموطن الجديد.. دار الهجرة.. ونزلت الآيات الكريمة تأمر بالهجرة وتوضح فضلها منذ السنة التي وقعت فيها لغاية سنة 8 ه- عند أوقفت الهجرة بعد فتح مكة وإعلان النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيّة وإذا استنفرتم فانفروا).



ويثرب مهد الإيمان وموطن الإسلام، ومنبع الجهاد الذي انطلق لمواجهة الأعداء المتربصين بالمسلمين من قريش واليهود والأعراب، فكان لا بد من إمدادها بالطاقة البشرية الكافية مما يفسر سبب نزول القرآن بهذه الآيات الواعدة للمهاجرين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 218] ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّه ُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾ [النحل: 41] ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ﴾ [النساء: 100].


وقد حاز المهاجرون والأنصار والذين ساروا على نهجهم وسلكوا طريقهم شرفاً عظيماً في الدنيا فضلاً عن ثواب الله ووعده الكريم، فقد اعتبروا أهل السبق في تأسيس دولة الإسلام فنالوا رضى الله والقربى منه ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ [التوبة: 100]، وهذه بعض المواقف على طريق الهجرة...!!



أبو سلمة:


هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة على ما قاله ابن إسحاق - وزوجته وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره‏:‏ هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه‏؟‏ علام نتركك تسير بها في البلاد‏؟‏ فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم، فقالوا‏:‏ لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به‏.‏ وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة‏.‏


وكانت أم سلمة رضي الله عنها وبعد ذهاب زوجها وضياع ابنها تخرج كل غداة بالأبطح تبكى حتى تمسي، ومضى على ذلك نحو سنة، فرق لها أحد ذويها وقال‏:‏ ألا تخرجون هذه المسكينة‏؟‏ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها‏:‏ الحقي بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وخرجت تريد المدينة - رحلة تبلغ حو إلى خمسمائة كيلو متر تمر بين شواهق الجبال ومهالك الأودية - وليس معها أحد من خلق الله‏.‏ حتى إذا كانت بالتَّنْعِيم لقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وبعد أن عرف حالها شيعها حتى أقدمها إلى المدينة، فلما نظر إلى قباء، قال‏:‏ زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف.

صهيب الرومي: هاجر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الهجرة قال له كفار قريش‏:‏ أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك‏؟‏ والله لا يكون ذلك‏.‏ فقال لهم صهيب‏:‏ أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ فإني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏‏(ربح صهيب، ربح صهيب).‏




سراقة بن مالك:

رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة وقال له أبو بكر: الطلب وراءنا يا رسول الله، قال: لا تخف، قال: الطلب قاب قوسين، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفنيه بما شئت... فلما دنا غاصت قوائم فرسه في الأرض، أو عثرت به وسقط عنها. فنادى: يا محمد! ادع ربك كي ينجيني مما أنا فيه ولن يصيبك مني أذى.



هناك عرف بأن لمحمد رباً أحسن من ربه، وعرف الحق، فلما دعا له النبي قام، فتعجب سراقة مما رأى، وقام يعرض عليهم الزاد فقالوا: نحن في غنى عن ذلك. قال: خذ هذا السهم من كنانتي وستمر بغنمي، فاعرضه على الراعي وخذ من غنمي ما شئت. قال: يغنينا الله عن غنمك...ثم قال له صلى الله عليه وسلم: أتعجب يا سراقة من هذا؟ كيف بك يا سراقة إذا أنت لبست سواري كسرى؟ قال كسرى أنوشروان؟! أمر مذهل ما استطاع سراقة أن يتحمل، فهذا شخص أخرجه قومه.. ويمكر به قومه، ثم هو وصاحبه فقط ويَعِد سراقة بأن دينه سيظهر، وأنه سوف يأخذ عرش كسرى، وأن سراقة يلبس سواريه... فقال: اكتب لي كتاباً بسواري كسرى، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتب له يا أبا بكر، فكتب له فرجع سراقة، وكلما رأى طلباً يطلب النبي صلى الله عليه وسلم قال ارجعوا اطلبوه في غيره فقد كفيتم تلك الجهة، هذا سراقة الآن يفي الله سبحانه وتعالى له بوعد رسوله.. ففي زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، يفتح الله على المسلمين المدائن، ويؤتى بلباس كسرى وله سواران من الذهب، وله تيجان وصولجان وأشياء عجيبة جداً، فنظروا فإذا هو لباس طويل لرجل ضخم، وعمر رضي الله تعالى عنه كان يريد أن يراه كي يعطيه مَن يرتديه، فأخذوا يستقرئون الحاضرين فلم يجدوا أطول من سراقة، فلبس والصك في جيبه، وتذكر: كيف بك إذا أنت لبست سواري كسرى. وقبل ذلك تحقق وعد الله وعاد النبي إلى مكة في عشرة ألاف مسلم موحداً ظافراً منتصراً متواضعاً على ظهر دابته يستغفر من ذنبه ويدعو ربه في الفتح الأعظم ﴿ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ﴾ [النصر: 1-3].



أم معبد:

الخزاعيِّة، صحابية جليلة، لم تكن من النساء ذوات الشهرة في الجاهلية، بل كانت امرأة بدوية لا تتعدى شهرتها خيمتها أو أهلها، وقد هبطت عليها البركة عند نزول النبي صلى الله عليه وسلم ضيفاً عليها عند هجرته إلى المدينة حتى غدت بذلك إحدى شهيرات النساء في الإسلام. اسمها عاتكة بنت خالد بن منقذ أخت حبيش بن خالد الخز اعي الكعبي الصحابي، وهو صاحب حديث أم معبد الخزاعيِّة رضي الله عنها، وإليك قصة أم معبد الخزاعيِّة رضي الله عنها، كما هي في الطبقات الكبرى لابن سعد. عن أبي معبد الخز اعي رضي الله عنه أن رسول صلى الله وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي، فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعيِّة، كانت امرأة جلدة، برزة، تحتبي وتقعد بفناء الخيمة، ثم تسقي وتطعم، فسألوها تمراًَ أو لحماً يشترون، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وإذا القوم مرملون مسنتون، فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: هذه شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم، بأبي أنت وأمي، إن رأيت بها حلباً! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح ضرعها، وذكر اسم الله، وقال: اللهم بارك لها في شاتها. قال: فتفأجت ودرت واجترت، فدعا بإناء لها يربض الرهط، فحلب فيه ثجاً حتى علبه الثمال فسقاها، فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم آخرهم، فشربوا جميعاً عللاً بعد نهل حتى رضوا، ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدء، فغادره عندها ثم ارتحلوا عنها.



فقلما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً حيلاً عجافاً، فلما رأى اللبن عجب قال: من أين لكم هذا والشاة عازبة، ولا حلوبة في البيت؟ قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت. قال: والله إني لأراه صاحب قريش الذي يطلب، صفيه لي يا أم معبد، قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، متبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثلجة، ولم تزر به صلعة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور أكحل أزج أقرن، شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار، إذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقه خزرات نظم يتحدرن، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هزر، أجهر الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بني غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابث ولا منفد، قال: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولو كنت وافقته يا أم معبد لالتمست أن أصحبه، لأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً.



الوصول إلى يثرب:

قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة والناس في فرح وسرور بمقدمه صلى الله عليه وسلم لم نجد فرحاً وسروراً مثل ذلك، فكان لبنات الأنصار موقفاً مشرفاً حيث قمن بإنشاد هذه الأبيات وهم في فرح وسرور:



طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع




وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع




أيها المبعوث فينا

جئت بالأمر المطاع




جئت شرفت المدينة

مرحباً يا خير داع






فالضيف الذي يحل على قوم ويفرحون به فيكون ذلك موقفاً مشرفاً لهم.



وكان للصبيان موقفاً عظيماً فقد خرجوا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرفعون أصواتهم بالتكبير والتبشير بمقدمه الشريف، يقولون: الله أكبر، جاء رسول الله، الله اكبر جاء محمد، والحبشة تسير أمامه تلعب بحرابها، وهنا تتع إلى الفرحة وتتسع البهجة والسرور لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأرض التي اختارها الله لبناء الدولة الإسلامية فيها فشتان بين قوم أخرجوه وآذوه وبين قوم استقبلوه وفرحوا لمقدمه.



أبي أيوب الأنصاري:

نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب الأنصاري، وقال المرء مع رحله، فقال أبو أيوب: داري هذه وقد حططنا رحلك فيها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب وهيئ لنا مقيلاً، فذهب يهيئ ذلك ثم جاء فقال: يا نبي الله قد هيأت مقيلاً، فقم على بركة الله تعالى. ونزل معه زيد بن حارثة ثم أجاب في الليل دعوة بني النجار أخوال جده عبد المطلب، ولما أصبح عاد إلى منزل أبي أيوب. وكان أبو أيوب قد أعد المكان لرسول الله في الطابق السفلى من الدار وهو وزوجته بالطابق العلوي فآلم ذلك أبا أيوب. فقال: يا رسول الله إني أكره أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلوي وننزل نحن فنكون في السفلى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن أكون في أسفل البيت، وبذلك طابت نفس أبي أيوب رضي الله عنه، وكان يصنع الطعام لرسول الله فإذا أكل منه أخذ الطعام ليأكل فكان رضي الله عنه يسأل عن موضع أصابع رسول الله ليتتبع موضع أصابعه فيأكل منه رجاء البركة، أبي أيوب لم تطب نفسه أن يكون فوق رسول في السكن ولم تطب نفسه أن يأكل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب الأنصاري حتى أتم بناء المسجد وبعض حجراته ثم انتقل إلى حجراته صلى الله عليه وسلم.



التلاقي والتآخي:

لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة عمل على بناء المجتمع الجديد، فآخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار آخى بينهم على الحق والمساواة. لم يشهد التاريخ مثل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فلم يتم الأمر من خلال القمح والإرهاب، ولا من خلال الاستيلاء على السلطة، والتأميم للأموال المنقولة وغير المنقولة، لقد كان تشريع المؤاخاة الذي تم بإشراف الرسول صلى الله عليه وسلم وبأقصى ما يملك المتآخون من رغبة واندفاع للتنفيذ. هي النموذج الحي للحكم على مستوى الدعاة في الأرض اليوم، ومدى قدرتهم على أن تتمثل فبهم هذه الروح الأخوية. لقد أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المؤاخاة بنفسه، وقال: تآخوا في الله أخوين أخوين، ولم يكن الأمر وعظاً عاماً، وكلاماً جميلاً تُبح الأصوات فيه، ولا ينتج عنه إلا الصداقة النادرة، والمرتبطة بالمن والأذى إنما كانت خطوة عملية حية، قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتنفيذها وتحديد التآخي المباشر بين كل أخ مهاجر وأخ أنصاري.



عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع:

وتتجلى في هذه المؤاخاة مواقف بطولية لم يزل يذكرها التاريخ مواقف رائعة فيها كل معاني التضحية والوفاء والكرم، وهذا موقف عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع: قدم عبد الرحمان بن عوف إلى المدينة مهاجراً، فآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض سعد بن الربيع على عبد الرحمان أن يناصفه أهله، وماله فقال له عبد الرحمان بن عوف: بارك الله لك في أهلك، ومالك. دلني على السوق، فذهب إلى السوق وباع واشترى حتى ربح كثيراً حتى أنه قال عن نفسه: ولقد رأيتني ولو رفعت حجراً لرجوت أن أصيب ذهباً أو فضة. لقد كان هذا مثلاً رائعاً وموفقاً بطولياً يذكره التاريخ، لقد ارتفع سعد بن الربيع فوق المستوى، فقد عرض خير أرضه، وخير أهله، وترك الاختيار لأخيه عبد الرحمن بن عوف وشهد له القرآن بذلك: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].



أثني عليهم ربهم فلا يحتاجون بعد ذلك إلى ثناء الناس، لقد بذل الأنصار كل شيء لإخوانهم المهاجرين حتى أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً من كثير، لقد كفونا المئونة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: لا! ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم،. وهكذا كانت المؤاخاة في ظروف الحاجة، ولما وسع الله على المسلمين نسخ التوارث بها، وأقر المودة والحب بينهم فقال تعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِين َ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾.



عبد الله بن سلام:

لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، أنجفل الناس عليه، وكنت فيمن أنجفل، فلما رأيته، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. فكان أول شيء سمعته يقول: يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام. وروى حميد، عن أنس: أن عبد الله بن سلام أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقدمه إلى المدينة، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمها إلا نبي. ما أول أشراط الساعة؟ وما أول ما يأكل أهل الجنة؟ ومن أين يشبه الولد أباه وأمه؟. فقال: أخبرني بهن جبريل آنفا. قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة فتلا رسول الله ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 97، 98] قال: أما أول أشراط الساعة فنار تخرج من المشرق، فتحشر الناس إلى المغرب، وأما أول ما يأكله أهل الجنة، فزيادة كبد حوت، وأما الشبه، فإذا سبق ماء الرجل، نزع إليه الولد. وإذا سبق ماء المرأة، نزع إليها. قال: أشهد أنك رسول الله. وقال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت؛ وإنهم إن يعلموا بإسلامي بهتوني، فأرسل إليهم، فسلهم عني. فأرسل إليهم. فقال: أي رجل ابن سلام فيكم؟ قالوا: حَبْرُنا، وابن حبرنا؛ وعالمنا، وابن عالمنا. قال: أرأيتم إن أسلم، تسلمون؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك. قال: فخرج عبد الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ وأن محمدا رسول الله. فقالوا: شرُّنا وابن شرنا؛ وجاهلنا وابن جاهلنا. فقال: يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت، وهنا نزل القرآن ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُ مْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الاحقاف: 10].



كانوا أفضل أهل الأرض من البشر، إيمانا وإحسانا شجاعة وإقداما..!! صفاء نفوس، ونقاء سريرة، وحسن سلوك وزهدا في الدنيا، ورغبة في الآخرة، إقبالا على الله، بذلا للنفس والنفيس، وتضحية بكل شيء في سبيل الله عز وجل، هؤلاء الذين أخلصوا لله نواياهم، وصفوا لله سرائرهم، وترفعت عن الدنيا هممهم، وذهبوا عن المتاع الوقتي والاطمئنان الدنيوي فهموا أن ذلك يورد المهالك..!! كيف؟!! ﴿ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 8]... هل من حراس للإسلام يفهمون ويعودون مثل سراقة؟، هل من أم معبد جديدة تؤوي المهاجرين إلى الله وتعطيهم مما تملك؟ هل من نبلاء مثل سعد بن الربيع مضرب المثل في الاخاء والوفاء؟ وهل من عفيف مثل عبد الرحمن بن عوف، أوصلته عفته إلى أن يكون ملياردير الصحابة و احد المبشرين بالجنة..!! ألا من عبد الله بن سلام يعرف الحق ويعلم الحقيقة فينجفل إليها بدلا من السلوليين المنتشرين في العالمين و الذين يعلمون ضد الحق ويعاندون؟..!!



بتلك الصفات الكريمة والمواقف المؤثرة لهؤلاء الصحابة العظام كانت الهجرة طريقا إلى قيام دولة الإسلام في المدينة، وأرست ركائز المجتمع الإسلامي على أساس من الوحدة والمحبة والتكافل والتآخي والحرية والمساواة وضمان الحقوق، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو رئيس هذه الدولة وقائد جيوشها وكبير قضاتها ومعلمها الأول. وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم شريعة الإسلام، وكان القرآن يتنزل بها منجماً، فكان الصحابة يدرسون ما ينزل ويطبقونه على أنفسهم، ويتعلمون تفسيره وبيانه من النبي صلى الله عليه وسلم فتكوّن جيل رباني تمكن من الجمع بين عبادة الله وعمران الحياة وعمل تحت شعار: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، تحت هذا الشعار وفي خلال عقد واحد توحدت معظم الجزيرة العربية في ظل الإسلام، ثم انتشر في خلال عقود قليلة تالية ليعم منطقة واسعة امتدت من السند شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً حيث آمن الناس بالإسلام، واستظلوا بشريعته العادلة وأقاموا حضارة زاهرة آتت أكلها قروناً طويلة في حقول التشريع والتربية وعلوم الكون والطبيعة.



اللهم اجعلنا مهاجرين إليك متوكلين عليك مستعينين بك، واجمعنا مع المهاجرين والأنصار والشهداء الأبرار والأنبياء الأطهار وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى أهله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.