على أبواب رمضان غير نفسك بتدبر القرآن
صفية محمود





عجيبٌ أمرُ هذا القرآن..
عَبر العمرِ لم أجد شيئًا يعصف بالأفكار، ويهزُّ الوجدان، ويعيد صياغة الإنسان من جديد، وينشئه نشأةً أخرى، يزيل داء قلبه ويشفيه، ويعدل قالبَه ويهديه - مثلَ ما لهذه الآيات العلية تقرؤها في عزلة، أو تسمعها في هدأة ليل من صوت عذبٍ ندي، أو تطرق أذنيك بصوت إمامك في الصلاة؛ لتجذبك من هموم الدنيا الصغيرة، فتدخل بك عالَمًا رحبًا من الرغبة والرهبة، عالَمًا لا مثل له من التربية بالوعظ تارة، وبالزجر أخرى، بوعد ووعيد، ولين وتشديد، فمع تلك الآية يعلو رجاؤك في اللحاق بالصالحين، ومع آيات أُخَرَ يعظم خوفك من تدنِّيك مع الهالكين، كلمات ربانية تفعل في نفسك الأعاجيب، وتَحفِرُ في قلبك الأخاديد، تجري منك أحر المدامع، وتثير فيك أنبل العزائم، وتُميت فيك وحشيَّ الغرائز.

مع كلمات القرآن وآياته، وعبره وحكاياته - يكاد القلم يقف عن الخط، واللسان يحصر عن اللفظ، والخيال يَحار في الوصف، إنها الآيات رفيعة القدر، كلام الرب عز وجل، إن أنختَ بها مطاياك، وحططت عندها رحالك، فلن يقرَّ قرارك حتى تسلم لها قيادَك، تعدِّل فيك وتضيف، تحذف منك مكروهَ الصفات، وتزيد فيك للتقى خلة وسمات؛ حتى تلحقك بركب السائرين إلى الله منذ العصور الماضية على تباعد الأزمان، وتوصلك الآيات كذلك بركب السائرين إلى الله من بَني زمنك ومعاصريك، مهما تناءت أماكنكم وتفرقت الديار.

آيات تنمي فيك تلك الصلةَ النورانية بأعضاء الجسد الواحد؛ فتأرق لأرقِهم، وتضنى لألمهم، وتأسى لحزنهم، وتفرق لفراقهم، وتسعد بلقياهم، يا لها من سعادة يورثها قارئ القرآن وتاليه، لا يشعر بها إلا من ذاقها، وأما مَن حُرم منها ولم يدرِ شيئًا عنها، وأشاح بوجهه زاهدًا فيها معرضًا عنها، فإنْ حدَّثته عنها أو حثثته عليها، فكأنك تصف النور لأعمى، والعبير لمزكوم، فهيهات أن يدري! وإن بُح المنادي.

وأما إن كنت من المتشوقين للنعيم، الباحثين عن الهداية، الزاهدين في وطن الغَواية، فتلك بضاعتنا لا تحتاج إلى تزيين، فها هي تأخذ بلبِّ السامعين، وتروق للناظرين، ومن أراد السلعة فقد دللناه على السوق، ولم يبقَ إلا أن يشمر للسعي، ويأتي بالثمن، وينطق بالرغبة، فإن وقع ندائي منك موقع الإسماع، ولاقى منك القَبولَ والانصياع، فهلمَّ للقرآن هلم إليه؛ فهو مصنع الرجال والمكارم، ومزيل العيوب ونافي الرذائل، هو الوصفة الربانية لعلاج النفوس، ونقاء القلوب، وراحة المُعَنَّى، وسعد الكئيب، وشفاء العليل، ينقلك من أسر الطين الذي خُلقت منه وشارَكَك فيه كلُّ ذي دبيب، من سبع وديدان، وطير وحيتان، وأخلاقٍ بلا ضابط ولا ميزان، إلا إرادة الغلبة وإيثار الطغيان، ينقلك من ذلك الأسر، ويرقيك إلى أعلى عليِّين، في رفقة الصالحين؛ من رسولٍ ونبي، وصدِّيق وتقي، وشهيد وزكي؛ حتى يصل بك إلى أعلى درجات الجنان، بفضل الواحد المنان.


فاللهم اجعلنا من أهل القرآن؛ فمنك التوفيق وعليك التكلان.