نداء رمضان عبر الزمان والمكان


خميس النقيب





إخوة الإسلام في كل مكان وفي كل زمان: أنتم في نعمة عظيمة أن بلَّغكم الله رمضان، لماذا؟ أبواب الجنة مفتَّحة، وأبواب النار مغلَّقة، والشياطين مصفَّدة، وطرق الإحسان ممهَّدة، وأبواب الخير كثيرة وأسباب الهدى وفيرة، وفرص التوبة فيه كبيرة، وروافد الإيمان فيه عظيمة والمنادي ينادي كل يوم بل كل ساعة: يا باغي الخير أقبل، بل يُنادي الله - عز وجل -: ﴿ .. ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].

يا باغي الخير أقبل: فإذا كان العمر لحظات فإن بعض اللحظات عُمرٌ، ومِن هذه اللحظات شهر القرآن، ساعة الجمعة، ساعات السحر؛ حيث ينزل الله - تعالي - من عرشه إلى السماء الدنيا، يستقبل دعوات الداعين، واستغاثات المستغيثين، وحاجات المحتاجين، وتسبيحات الراكعين، وأنات الساجِدين، ألا مِن مُستغفِر فاغفر له؟ ألا مَن تائب فأتوب عليه؟ ألا من سائل فأعطيه؟ ألا مِن داع فأجيبه، يدعونه فيستجب دعاءهم، ويَستغفرونه فيغفر لهم، يسألونه فيُعطيهم سؤلهم؛ ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].

يا باغي الخير أقبل: فرمضان تجتمع فيه القلوب، وتُغفَر فيه الذنوب، وتُستَر فيه العيوب، حالة الصيام تسمو بالروح، وعبادة القيام تعلو بالنفس، وصِلَة الأرحام تُبارك في العمر، والتجمُّعات على الإفطارات تُضفي فرحةً على الزمان والمكان، فيُشرق بالأسرار والأنوار كما يُشرِق البستان بالرياحين والأزهار!

يا باغي الخير أقبل: جاءك شهر الصيام يحمل بين ثناياه ليلة القدر التي هي خير من ألْف شهر، تَعدِل عبادة اثنين وثمانين عامًا ونيِّفًا؛ ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 1 - 5]، ((إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرِمها فقد حُرم الخير كله))؛ (حسن) انظر حديث رقم: 2247 في صحيح الجامع.

يا باغي الخير أقبل: أقبل على القرآن الذي هو المعجزة الخالدة، نزل في هذه الليلة المباركة؛ ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3]، في هذا الشهر المبارك ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].

يا باغي الخير أقبل: النافلة في رمضان بفريضة، والفريضة فيه بسبعين فريضة!

يا باغي الخير أقبل: معك في رمضان مُعينات، والمساعدات مِن فضْل الله، يُعين العبد في شهر رمضان على الوصول لهذه المنازل وتلك الدرجات؛ ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، صفِّدت الشياطين ومردة الجن، وغلِّقت أبواب النار فلم يُفتَح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ كل ليلة يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عُتَقاء من النار وذلك كل ليلة))؛ (حسن): انظر حديث رقم: 759 في صحيح الجامع.

يا باغي الخير أقبل: فرمضان تتحقَّق فيه المساواة والمواساة، المساواة الكل يبدأ بالصيام في وقت واحد؛ الغني والفقير، الخفير والوزير، الكبير والصغير، الرئيس والمرؤوس، الحاكم والمحكوم، الكل يُمسِك عند طلوع الفجر الصادق ويُفطِر عند غروب الشمس وأذان المغرب، وكأنه نظام دقيق، وصفٌّ مستقيم، كصفِّ القتال؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف: 4]، ولمَ لا وفيه قتال الشهوات، ونضال المعاصي والسيئات، وجهاد النفس والهوى؟ ومواساة لأنَّ الغني يَعطِف على الفقير، والكبير يحنو على الصغير، والمقيم يقدِّم للمسافر الغريب؟!

يا باغي الخير أقبل: فرمضان شهر التدريب، تدريب على الصبر، صبر على الطاعة، صبر على المعصية، صبر على الشهوات والملذات، صبر الاستعلاء لا صبر الاستسلام، صبر النهوض لا صبر القعود، صبر الأمل والعمل لا صبر القنوط والكسل.

وتدريب على المراقبة، فأنت تراقب الله في صيامك وقيامك، في حركاتك وسكناتك، في حلك وترحالك، في خروجك وولوجك، لا تحتاج إلى مراقبة أحد، بين يديك طعام شهي وتترفَّع عنه لله، بجوارك زوجة حسناء، وتسمو تنفيذًا لأمر الله، مِن حولك شراب بارد إنما تعلو ابتغاء مرضاة الله.

يا باغي الخير أقبل: وحصِّل التقوى في شهر التقوى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، والتقوى هي جماع مكارم الخير، ووصية الله للأولين والآخرين؛ ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ﴾ [النساء: 131]، ولذلك مردودها على العبد إذا بلَغها أنها تكون غذاءه ورُواءه ولباسه وميراثه وما يَتركُه لولده، كيف؟ تكون له خير زاد: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، وأجملَ لباسٍ: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26]، وأفضلَ ميراث؛ ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 63]، وأحسنَ تركةً لأولادك من بعدك؛ ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9]، ومِن ثمَّ تَقيه من كل شرٍّ ومِن كل بلاء، وتقرِّبه من ربِّ الأرض والسماء.

يا باغي الخير أقبل: بحبٍّ على ربِّك في رمضان؛ ففيه أُلفَة النفوس، وفيه نشوة الطاعة، وفيه فرحة القلوب؛ ((للصائم فرحتان؛ فرحة حين يُفطِر، وفرحة حين يلقى ربه))؛ (صحيح): انظر حديث رقم: 5183 في "صحيح الجامع"، ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].

يا باغي الخير أقبل: وكنْ في رمضان ممن يَزرعون فيه الخير، ويَنشرون فيه المحبَّة فيجدون ثواب كل ذلك أمامهم، ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المزمل: 20]، نعم؛ يَجدون كل هذا الخير مُحضَرًا: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30] متي يجدون ذلك وأين؟! ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].

يا باغي الخير أقبل: أنفِقْ في رمضان يُنفَق عليك في غير رمضان، اجعلْ يدك ممرًّا لعطاء الله، الحسنة بسبعين ضعفًا، ويُضاعف الله لمن يشاء، أغِث الملهوف، وفرِّج عن المكروب، ويسِّر على المتعسِّر، واعلم أن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه؛ قال عروة بن الزبير: باع قيس بن سعد من معاوية أرضًا بتسعين ألفًا، فقدم المدينة فنادى مُناديه: من أراد القرض فليأت، فأقرض منها خمسين ألفًا وأطلق الباقي، ثم مرض بعد ذلك فقلًّ عوَّاده.

فقال لزوجته - قريبة بنت أبي عتيق أخت أبي بكر الصديق - إني أرى قلَّةَ مَن عادني في مرضي هذا، وإني لأرى ذلك من أجْل مالي على الناس من القرض، فبعَث إلى كلِّ رجل ممن كان له عليه دين بصكِّه المكتوب عليه، فوهبهم ماله عليهم، وقيل: إنه أمر مناديه فنادى: من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو منه في حلٍّ، فما أمسى حتى كُسرتْ عتبة بابه من كثرة العواد!

يا باغي الخير أقبل: وافرح بقدوم رمضان، افرح بطاعة ربك في رمضان، ورَد أنه مَن فَرِح بقدوم رمضان حرَّم الله جسده على النار، وحدَّث شخصٌ أسلم عن قصة إسلامه وأنها كانت بسبب رمضان، قال: إنه تعجَّب من المسلمين في قريته، كيف كانت وجوهُهُم تتقلَّـب في السماء عندما انصرم الشهر الذي قبل شهر الصـوم، كأنهـم يَنتظِرون إشارةً من خالق الكون من فوقهم ليقوموا بشيءٍ بعدها، فلما رأَوا الهلال، فرحوا فرحًا عظيمًا، كأنهم بُشِّروا بأعظم البشرى، ولم أتوقَّع أن يكون فرحهم بأنهم سيَمتنعون عن الشهوات طيلة شهر في النهار كلِّه، هذه الشهوات التي يتقاتل بنو البشر عليها، وتُخاض الحروب التي تَفتِك بالملايين من أجلها، وأنهم سيصلُّون بمناجاة ربهم في الليل، قال: فأخذ هذا منهم بلُبِّي، واستحوذ على قلبي، فصمتُ معهم، وأنا لا أعرف الإسلام، ولم أنطق بالشهادتين، بل أكتفي بالامتناع عن الأكل والشرب وإتيان زوجتي إذا ذهب المسلمون لصلاة الصبح، وكنت أفطر إذا سمعت أذان المسجد لصلاة المغرب، وأذهب فأصلي معهم في الليل - صلاة التروايح - وأصنع مثل ما يصنعون، قيامًا، وركوعًا، وسجودًا، غير أنني لا أتكلم بشيء، فأجد راحة عجيبة، وسكينة لم تعرفْها روحي من قبل، حتى إذا انتصف الشهر، لاحظني الإمام وأنني غريب عن القوم، فسألني عني، فدهُش من قصتي اندهاشًا حمَله على أن يجمع الناس ليَسمعوا مني، فلما سمعوا قصتي علَّموني الإسلام، فنطقتُ بالشهادتين، فكبَّروا وقالوا: أنت أسلمت على يد رمضان فسمَّوني رمضان، فهل من باغٍ للخير يقبل؟! هل مِن باغٍ للشر يُقصر؟! هل من باحث عن التقوى يُشمِّر؟! هل مِن راغب في العتق يعمل.؟!


اللهم وفِّقْنا للعمل بكتابك وبسنة نبيك، اللهم بلِّغنا رمضان، اللهم فرِّحنا بالإسلام، وفرِّحنا بالقرآن، وفرِّحنا برمضان، وفرِّحنا في رمضان، وشفِّع فينا الصيام والقرآن، واجعلنا من المخلصين لك، العاملين لدينك، الفرحين بلقائك، التواقين للقاء حبيبك وصفيك في الجنة، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا ولا مبلغ علمنا، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى أهله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.