سياسة الدولة الإسلامية في التعامل مع الطابور الخامس
( المنافقين )



عبدالستار كريم المرسومي







أولاً: استراتيجية عمل المنافقين:

قام المنافقون بتشكيلِ جبهةٍ سياسية داخلية تعملُ بمبدأ التقيَّة في العاصمة الإسلامية، وهذه الجبهة تعمل بشكل منسَّق مع المشركين من قريش ومشركي بقيَّة العرب من جهة، ومع اليهود في الجزيرة العربية من جهة أخرى، ضد الدولة الإسلامية من أجل إضعافها وشل مساعيها في البناء والتطور وإسقاطها فيما بعد، ويترأَّس هذه الكتلةَ المنافقُ عبدالله بن أُبي بن سلول، وقد أظهر الإسلامَ هو ومَن معه وأضمر الكفرَ والعداء للإسلام والمسلمين ولشخص رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم.



وقد قام المنافقونَ بأعمالٍ لا يستهان بها، ولها من التأثير السلبي الشيءُ الكثير، ولكن انضباط المجتمع المسلم بالتكاليف، والانصياع بشكل كامل للأوامر، والإخلاص في العمل من أجل رضا الله - سبحانه وتعالى - والحكمة في التصرف - كان سببًا مباشرًا في تشتُّت أعمالِ المنافقين كافَّة، على الرغم من عظم حجمها وخطورتِها.



ونذكرُ هنا بعض الأعمال التي قام بها المنافقون:

1- تخذيل وتوهين الجيوش الإسلامية، وإحداث البلابل، واختلاق المشاكل، وبث الأقاويل والدعايات قبل الغزوات وأثنائها وبعدها؛ فمن ذلك:

الانسحاب بثلث الجيش في معركة أُحُدٍ، بحجة أنهم لا يعتقدون أنَّ قتالاً سيحصل مع المشركين.



التخاذل والتسلُّل من أجل ألا يشاركوا في حفرِ الخندق قبل غزوة الأحزاب.



أثناء حفر الخندقِ ظهرت صخرةٌ كبيرة استعصت على الصحابة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو مَن حطَّمها، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بسم الله))، فضربها فوقعت فلقة ثلثها، فقال: ((الله أكبر، قصور الشام ورب الكعبة))، ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة، فقال: ((الله أكبر، قصور فارس ورب الكعبة))، فقال عندها المنافقون: نحن نخندقُ على أنفسنا وهو يعِدُنا قصور فارس والروم"[1].



التخاذل ومحاولة الهروب أثناء التراشق والمرابطة والحصار في غزوة الخندق، فمنهم مَن قال: "إن بيوتنا عورة فلننصرف إليها، فإنا نخاف عليها".



بعد الفراغ من غزوة بني المصطلق، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقيمًا على المُرَيْسِيع، ووردت واردة الناس، وكان مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أجيرٌ يقال له جَهْجَاه الغفاري، فازدحم هو وسِنَان بن وَبَر الجهني على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها مُنْتِنَة))، وبلغ ذلك عبدَالله بن أبي بن سلول فغضِب، وقال قولته المذمومة: أوقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: "سمِّنْ كلبكَ يأكُلْك"، أما والله، لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرِجن الأعزُّ منها الأذل، ثم أقبل على مَن حضره فقال لهم: هذا ما فعلتُم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله، لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.



عندما بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتجهَّز لغزوةِ تبوك، أخذ المنافقون يثبِّطون همم الناس ويقولون لهم: لا تنفِروا في الحر.



2- القيام بمحاولة قتل رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد حدث ذلك في طريق عودة الجيش الإسلامي من غزوة تبوك؛ حيث (كانوا قد أجمعوا أن يقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلوا يلتمسون غِرَّته، فلما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، وقالوا: إذ أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي، فأخبر الله - تعالى - رسولَه بمكرِهم، فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك العقبة نادى مناديه للناس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ العقبة فلا يأخذها أحدٌ، واسلكوا بطن الوادي، فإنه أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي إلا النفر الذين مكَروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سمعوا ذلك استعدوا وتلثَّموا، وسلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة ويقودها وأمر حذيفة بن اليمان أن يسوقَ مَن خلفه، فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير من العقبة؛ إذ سمع حس القوم قد غشوه، فنفروا ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سقط بعض متاعه وكان حمزة بن عمرو الأسلمي لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة، وكانت ليلة مظلمة، قال حمزة: فنور لي في أصابعي الخمس، فأضاءت حتى جمعت ما سقط من السوط والحبل وأشباههما، فغضِب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر حذيفة أن يردَّهم، فرجع حذيفة إليهم، وقد رأى غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه محجن يضرب وجوه رواحلهم، وقال: إليكم إليكم يا أعداء الله - تعالى - فعلم القوم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اطلع على مكرهم، فأنطحوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفةُ حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اضرِبِ الراحلةَ يا حذيفة، وامشِ أنت يا عمار، فأسرعوا حتى استوى بأعلاها، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العقبة ينتظر الناس، وقال لحذيفة: ((هل عرفتَ أحدًا من الرَّكْبِ الذين رددتهم؟))، قال: يا رسول الله، قد عرفت رواحلهم، وكان القوم متلثمين فلم أبصرهم من أجل ظلمة الليل، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((هل علمتم ما كان من شأنهم وما أرادوا؟))، قالوا: لا والله يا رسول الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنهم مكروا ليسيروا معي فإذا طلعت العقبة زحموني فطرحوني منها - أن شاء الله تعالى - قد أخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم وسأخبركم بهم إن شاء الله تعالى)) قالوا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاء الناس أن تضرب أعناقهم؟ قال: أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه، فسماهم له، ثم قال: "اكتماهم"))[2].



3 - الطعن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شخصيًّا، بهدف الإضرار به نفسيًّا، من خلال تعرُّضهم لأهلِه، ومعروفة غَيْرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد فعلوها مرتين:

طعنوا في زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الطاهرة بنت الصديق - رضي الله عنهما - يومَ اتهموها بحادثةِ الإفك المعروفة.



الطعن في قضية زواجه - صلى الله عليه وسلم - بالسيدة زينبَ بنتِ جحش - رضي الله عنها - لكونها كانت في أول الأمر تحت الصحابي الجليل زيد بن حارثة - رضي الله عنه - ثم طلَّقها فتزوَّجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان كلامُهم القبيح من جانب أنها الزوجة الخامسة وأنها زوجة مَن ربَّاه فهو في حكم أبيه! (طبعًا هذا بزعمهم ومن أجل تنفيذ مآربهم).



4 - استثمار الأحداث من أجل إثارةِ الشُّكوك والقلاقل بين أفرادِ الصفِّ الداخلي وزعزعة الوضع، ومن ذلك:

في قضية تغيير القِبْلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرَّفة، قال المنافقون: ما يدري محمَّد أين يتوجه، إن كانت الأولى حقًّا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل.



حين سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغزوة تبوك خلَّف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في المدينة، فقال المنافقون: استثقله، فقال علي - رضي الله عنه -: "يا رسول الله، أتخلفني بعدك، ولم أتخلَّف عنك في غزاة قط، قال: ((يا علي ارجِعْ))، فقال: يا رسول الله، إن المنافقين ليقولون: إنما خلفتني استثقالاً، فقال: ((يا علي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبيَّ بعدي، فارجِعْ فاخلفني في أهلي وأهلك))[3].



التشكيك بالصحابي الكريم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - عندما حُمِلت جنازتُه، بقولهم: ما أخفَّ جنازتَه! وسعد - رضي الله عنه - من كبار الصحابة، وله مكانةٌ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم.



لمَّا صلَّى رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي مَلِك الحبشة عند موته، تكلَّم المنافقون فقالوا: أيصلي على هذا العلج؟!



5- العمل كجواسيس للأعداء، وتسريب أخبار الدولة الإسلامية للخارج؛ ومن ذلك: حين أراد الجيش الإسلامي غزو خيبر بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل رأسُ المنافقين عبدُالله بن أبي إلى يهود خيبر: إنَّ محمدًا قصد قصدكم، وتوجَّه إليكم، فخذوا حِذْرَكم، ولا تخافوا منه فإن عددكم وعدَّتكم كثيرة، وقوم محمَّد شرذمة قليلون، عُزَّل لا سلاح معهم إلا قليل، فلما علم ذلك أهل خيبر، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وهَوْذَة بن قيس إلى غطفان يستمدونهم؛ لأنهم كانوا حلفاء يهود خيبر، ومظاهرين لهم على المسلمين، وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن هم غلبوا المسلمين.



محاولة خلق البِدَع في الدين الإسلامي ونشرها، ولكن بطرقٍ ظاهرُها الإيمان وحب الإسلام، فقد بنَوْا (مسجد الضِّرَار) وهو مسجد أسّسوه كفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمَن حارب الله ورسولَه، وكان مرصدًا لهم للتواصل مع مَلِك غسَّان، ثم منه إلى الروم لإبلاغهم أخبار المسلمين، وعرضوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُصلِّيَ فيه؛ لكي يُضفوا عليه طابعًا شرفيًّا ورسميًّا، وإنما مرامُهم بذلك أن يخدعوا المؤمنين، فلا يفطنوا ما يؤتى به في هذا المسجد من الدس والمؤامرة ضدهم، ولا يلتفتوا إلى مَن يَرِدُه ويصدر عنه، فيصير وكرة مأمونة لهؤلاء المنافقين ولرفقائهم.



ثانياً: التحليل السياسي للتعامل مع المنافقين:

سعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحكمته البالغة ألا يدع للمنافقين فرصةً واحدة لإشعال فتيل الاحتراب الداخلي، وشق الصف داخل العاصمة الإسلامية مهما كان الثمن، حتى لو كان هذا الثمن شخصَه هو - صلى الله عليه وسلم - أو واحدًا من أهل بيته، وقد حصل ذلك بالفعل، والمشكلة الحقيقية معهم أنَّ الإسلام يحكمُ على الناس بالظاهر، وظاهر هؤلاء أنهم أعلنوا إسلامهم ولكنهم أضمروا كفرهم.



وقد اتَّبع رسولُ اللهِ محمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - أسلوبًا سياسيًّا محترفًا معهم، وأبدى انضباطًا عجيبًا، حتى إنه لم يدَعْ لهم أيَّ مجال لشرخِ وحدة صفِّ المجتمع المسلم، فأُسقِط في أيديهم، وكان الأسلوب يتضمن:

1- أن الطابور الخامس (المنافقين)، بدؤوا بالعمل مبكرًا مع أول دخولِ النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ولم تَقْوَ شوكةُ الدولة الإسلامية بعدُ، ولم تُفتَح الجزيرة العربية، فالكثير من القبائل والمدن تتسمَّع الأخبار وتنتظر النتائج.



لقد كانت رؤيةُ النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ما قاله لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين أراد أن يضرب رأس كبير المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول يومًا ما؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر - رضي الله عنه -: ((لا يتحدَّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)).



وعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - يقول: كنا في غزاةٍ فكسع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمِعها الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما هذا؟))، فقالوا كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوها فإنها منتنة))، قال جابر: وكانتِ الأنصارُ حين قدِم النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر، ثم كثُر المهاجرون بعدُ، فقال عبدالله بن أبي: أوقد فعلوا، والله لئن رجَعنا إلى المدينة ليُخرِجن الأعزُّ منها الأذل، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: دَعْني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))[4].




وبالفعل فإنه كان من الخطورة بمكان أن يُشاع بين الناس مثلُ هذا القول، فيمتنعوا عن اعتناق الإسلام، وقد أثبت مرور الوقت صحَّةَ نظرية النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فمع مرور الوقت صار أتباع عبدالله بن أبي بن سلول هم مَن يُعاتِبونه ويأخذونه ويعنِّفونه ويتوعَّدونه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب حين بلَغه ذلك عنهم من شأنهم: ((كيف ترى يا عمر؟ أما والله، لو قتلتُه يومَ أمرتَني بقتله لأرعدت له آنُفٌ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلَتْه))، قال: فقال عمر: قد والله علمتُ، لأمرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم بركة من أمري[5].



2- إضافة لحكمة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في التعامل معهم، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - مؤيَّدًا بالوحي كما ذكرنا مرارًا وتَكرارًا، وهنا كان التأييد أكثر حاجة، والسبب في ذلك حتى لا يظن عامَّة الناس أن عداءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - للمنافقين هو عداء شخصي؛ لأنهم أحيانًا ينالون منه شخصيًّا أو من أهله، فكان الوحي ينزل بالقرآن يوثِّقُ أعمال المنافقين الإجرامية ويوضِّحها ويوجِّه بالإجراءات التي يجب أن تتبع معهم، فمن ذلك:

الآيات في سورة النور في براءة أم المؤمنين السيدة عائشة بنت الصديق - رضي الله عنهما - من قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11] إلى قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 23].



في قول رأس النفاق (ليخرجن الأعز منها الأذل)، نزل قول الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].




في طعنهم بزواجه - صلى الله عليه وسلم - من أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش - رضي الله عنها - نزل قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37].



أنزل الله - سبحانه وتعالى - حين قال المنافقون في غزوةِ الخندق (بيوتنا عورة)، قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ﴾ [الأحزاب: 13].



في قول المنافقين للناس يوم غزوة تبوك (لا تنفروا في الحر)، أنزل الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 81].



وغير ذلك الكثير من آيات القرآن التي كانت تؤيِّد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المخلصين وتفضح المنافقين وكيدهم.



3- أنه - صلى الله عليه وسلم - تعامل مع ما يحدث مع المنافقين مثل ما يتعامل مع أي شخص آخر في الدولة، ولا يحاسب أو يردع أو يقيم حدًّا إلا بنفس القدر الذي يردع به الآخرين، وبذلك استطاع - صلى الله عليه وسلم - أن يُبْقِيَهم على حجمهم ويمنع انتفاخهم، وكما حصل مع مَن شارك في حادثة الإفك، حيث جلد مَن ثبت خوضه في الحديث بالدليل القطعي وانتهى الأمر، كأنه حادثة اعتيادية طُبِّقت فيها أحكام الإسلام، مثلما طُبِّقت وأُقِيم الحدُّ في مواضع أخرى وفي وقتٍ آخر على الزاني وشارب الخمر والسارق وغيرهما.



4- في الأمور التي كانوا يُشكِّكون فيها بإثارةِ التساؤلات لبعث الرِّيبة في قلوب المسلمين، كان النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يبادر بإيضاح الأمر بالإجابة عن هذه التساؤلات بكل هدوء وسكينة، فمن ذلك موضوع تشكيكِهم في جنازة سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "لما حُمِلت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخفَّ جنازتَه! وذلك لحُكمِه في بني قريظة، فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إنَّ الملائكة كانت تحمله))[6].



5- حين تخلَّف المنافقون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الحديبية وقبلها في غزوة أحد، صار النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يتعاملُ معهم بطريقة جديدة في غزواته، فلما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السير إلى خيبر أعلن ألا يخرج معه إلا راغبٌ في الجهاد، فلم يخرج إلا أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة، وفي ذلك غاية الحكمةِ في السياسة الحربية؛ لأن مَن يخرج مرغمًا من هذا النوع من الناس ربما كان عنصرًا سلبيًّا في المعركة، أو حتى إذا بقي وهو مخالفٌ للأمر ولم يخرج تبقى العقدة النفسية بداخله، فهو يشعر بأنه مخالفٌ للأوامر وأن كل الأعينِ تتَّجِه نحوه، فيبدأ بإثارة المشاكل والقلاقل ليبرِّر ما فعل.



6- مَن يحضرُ من المنافقين إلى المسجد النبوي ويمارس السخرية والاستهزاء يأمر بهم رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - فيخرجون من المسجد إخراجًا عنيفًا، فمن ذلك: "أن أبا أيوب خالد بن زيد الأنصاري قام إلى عمرو بن قيس، أحد بني غنم بن مالك بن النجار، فأخذ برِجْله فسحَبه حتى أخرجه من المسجد، ثم أقبل أبو أيوب أيضًا إلى رافع بن وديعة - أحد بني النجار - فلبَّبه بردائه ثم نتره نترًا شديدًا، ولطم وجهه ثم أخرجه من المسجد، وأبو أيوب يقول له: أفٍّ لك منافقًا خبيثًا، أدراجك يا منافق من مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم"[7].



7- فيما يخص المسجد الضِّرار الذي بنَوْه فقد رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة فيه، بل وأمر بهدمه، فنزل قول الله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 107].



وبهذه السياسة الفذَّة رُدَّ كيدُ الطابور الخامس، ونجح المسلمون نجاحًا باهرًا في منع اتساعه أو تأثيره داخل الدولة الإسلامية أو خارجها.






[1] المعجم الكبير للطبراني - من اسمه عبدالله، وما أسند عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما.




[2] سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد، محمد بن يوسف الشامي، ج5 ص 466.




[3] البحر الزخار مسند البزار، ومما روى إبراهيم بن سعد.




[4] صحيح البخاري - كتاب تفسير القرآن - سورة البقرة - باب قوله: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا ﴾ [المنافقون: 8].




[5] جامع البيان في تفسير القرآن للطبري - سورة المنافقون القول في تأويل قوله - تعالى -: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ﴾ [المنافقون: 8].




[6] سنن الترمذي الجامع الصحيح – الذبائح، أبواب المناقب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باب مناقب سعد بن معاذ - رضي الله عنه.




[7] سيرة ابن هشام، ج 1، ص 528.