حلاوة الإيمان في رمضان


فوزية عبدالرحيم محمد




أسئلة دائمًا تتردد في خيالي كلما قرأتُ أو تذكَّرت حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاق طعمَ الإيمان...))، وأقف متأملًا بين هذه الكلمات قبل أن أُكمل الحديث:
ما هو الذوق؟
وهل للإيمان ذوق يذاق كالطعام والشراب؟
وكيف الإحساس عندما نذوق طعم الإيمان؟

فوفَّق الله لي أن أحضر ورشة عمل تتحدث فيها الأستاذة عن (حلاوة الإيمان)، ومن وقتها أشعر وكأن الدنيا حِيزَتْ لي عندما عرَفتُ كيف يُذاق الإيمان، وصار حديث: ((ذاق طعم الإيمان...)) كالشاحن أملأُ به رصيدي كلما شعرت بضعف الإيمان.

فما هو الذوق إذًا؟
ذكر ابن القيم في "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين": "الذوق مباشرة الحاسة الظاهرة والباطنة للملائم والمنافر، ولا يختص ذلك بحاسة الفم في لغة القرآن، بل ولا في لغة العرب، والذوق منزلة رفيعة من منازل إياك نعبد وإياك نستعين".

وقد ذُكر الذوق في القرآن في عدة مواضع:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾ [الأنعام: 148].

﴿ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأعراف: 22].

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].

﴿ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [الروم: 33].
﴿ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 26].
﴿ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الحشر: 15].

من خلال هذه الآيات الكريمة يتبيَّن لنا أن الذوق ليس فقط للسان، بل للعين ذوق، وللأذن والسمع كذلك؛ إذًا للقلب ذوق أيضًا، إن أبصر القلب ذاق كما يذوق الفم الطعام والشراب.

لذا للذوق حاستان:
1- ظاهرة: وهي أدوات الحس، وتتوفر في الصحيح لا في السقيم، فلنفترض تعطل حاسة الشم لدى الإنسان بسبب مرضٍ أصابه؛ كالزكام، فهل يستطيع أن يشم؟! لا، إذًا الصحيح المعافى هو من يحس ويذوق كذلك الإذن والسمع والعين.
2- باطنة: وأين مكانها وجوهرها؟!

في القلب.
تتعطل حاسة الجسد عند المرض، والقلب أيضًا تتعطل حواسه عند مرضه؛ لذلك القلب السليم المعافى من أمراض المعاصي هو من يستشعر هذه اللذة.

فلنكمل باقي الحديث لتتضح الصورة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاق طعم الإيمان مَن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا)).

إذًا من يذوق طعم الإيمان؟
مَن رضي بالله ربًّا، وينقسم إلى قسمين:
1- الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته، وهذا لكل الناس، بل يكمل إسلام المرء عند إفراد الله بالعبادة والإخلاص له.
2- الرضا بتدبيره وتقديره لعبده، فيتوكل على مولاه كمال التوكل، بكمال الثقة والاستعانة به، والناسُ في هذه منازل؛ لذلك الرضا ليس فقط القول باللسان، ولكنه منزلة معناها أنك تسعد بما أنت فيه، وتكتفي ولا تطلب معه غيره، تعني أنك راضٍ بكل ما كتبه الله لك وأعطاك ومقتنع به، فمن وصل إلى هذه المنزلة تُرى كيف شعوره؟! أراه يتقلب بين مشاعر خاصة: لهفة، شوق، إقبال، سعادة وطمأنينة لا تُوصف.
والدرجة التي تليها ((وبالإسلام دينًا))؛ أي الرضا بدين الله تعالى، والتسليم له، ويليه الرضا بالرسول صلى الله عليه وسلم، والانقياد له.

والسؤال ما يزال في ذهني: ما هي حلاوة الإيمان؟ وكيف لي أن أذوق حلاوته؟!
ونجد الحل الشافي في هذا الحديث الشريف: ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه، وجد بهن حلاوة الإيمان: مَن كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار)).

قال الشيخ ابن جبرين رحمه الله في شرحه للحديث: "الحلاوة: اللذة التي يجدها الإنسان في فمه إذا طعم شيئًا له طعم حال، وضدها: المرارة، فالمذوقات التي توضع في الفم، منها ما هو حلو، ومنها ما هو مر، والحاليات مثل: التمر، والعسل، والعنب، وغير ذلك من الفواكه والمأكولات اللذيذة التي يحس بطعمها في فمه، وهناك مأكولات أو مطعومات مرة المذاق".

وللإيمان حلاوة أيضًا، كما كان السلف يتلذذون بحلاوة العمل الصالح، ويجدون أثرًا عظيمًا في قلوبهم وأجسادهم، فيقول بعضهم: "إنه لتمرُّ بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيشٍ طيب".
وقال غيره: "إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربًا".

كما ورد عن بلال رضي الله عنه عندما سُئل: كيف صبَر على عذاب قريش له في رمضاء مكة؟ قال: "مزجت حلاوة الإيمان بمرارة العذاب، فطغت حلاوة الإيمان على مرارة العذاب؛ فصبرت"؛ لأنه ذاق حلاوة الإيمان فلم يؤثر فيه مرارة العذاب، يا لها من لذة!

وهذا خالد بن الوليد يقول: "ما مِن ليلةٍ يُهدى إليَّ فيه عروسٌ أنا لها مُحِب - أحبُّ إليَّ مِن ليلة شديدةِ البرد، كثيرة الجليد، في سريَّةٍ أصبِّحُ فيها العَدُوَّ"، فلذَّة الجهاد عند خالد بن الوليد خيرٌ له من عروس تُزَفُّ إليه.

وحلاوة الإيمان لها ثلاثة شروط كما ورد في الحديث:
1- أن يحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم: يُقدِّم محبتهم على محبة نفسه وولده وأهله والناس أجمعين.

2- أن يحب المرء لا يحبه إلا لله تعالى: وهذا هو الحب الذي يدخل صاحبه في السبعة الذين يظلُّهم الله في يوم لا ظل إلا ظله؛ ((ورجلان تحابَّا في الله، اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه)).

4- وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار: يكره الكفر الذي هداه الله منه بفضله ومنته، كما يكره أن يلقى في النار؛ لأن مَن عرف طريق الهداية طريق الله تعالى، لا يمكن أن يُعيد النظر في أي طريقٍ غيره، فهو الطريق المستقيم، طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، وهو طريق الجنة التي يَحِن لها قلب كل مؤمن.

أعرف أيها القارئ أنك قد تتساءل: ما علاقة حلاوة الإيمان برمضان؟
ألست تدري أن روح العبادة أن تتذوق حلاوتها؟! فكيف تريد أن تظفر برمضان بدون أن تتذوق حلاوة القرب من الله عند القيام في صلاة التراويح أو التهجد؟ أو عند قراءتك كلام الله تعالى الذي أُنزل في هذا الشهر الكريم؟

ألا توافقني أنك تريد أن تلذذ بحلاوة الصيام، مهما كان اليوم طويلًا، وفي الحر أو البرد الشديد؟! وماذا عن الفوز بالعتق وليلة خير من ألف شهر؟
أراك توافقني ويطير قلبك شوقًا لهذا الشهر الكريم الذي وصفه الله تعالى وكرَّمه أنه ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185].

ترى هل يوجد في الدنيا كلام أعز وأعظم من كلام الله تعالى؟!
لا والله، بل ويحتاج منا أن نشكره أنْ هدانا لهذا الدين العظيم، وجعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أشرف الأنبياء، وأنزل عليه أشرف الكتب وخاتمتها، الذي حفظه الله من أي تحريف.

لذلك أيها القارئ العزيز لا بد من استعداد جذري لهذا الشهر، نبدأ به من الآن، فلم يبقَ سوى شهرين على وصول هذا الضيف الكريم على كل مسلمٍ في وجه الأرض، فتدرج بين هذه العبادات التالية، وحاول أن تستشعر حلاوة الإيمان فيها:
تذوق الآن حلاوة الصيام، بأن تصوم كل اثنين وخميس، كما كان يفعل رسولك صلى الله عليه وسلم، وثلاثة أيام من كل شهر؛ لأن أجره عظيم كما جاء في الحديث ((ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعَدَ الله بذلك اليوم وجهَه عن النار سبعين خريفًا))؛ متفق عليه.

وتلذذ بقراءة القرآن تلاوةً وسماعًا، وحفظًا وتدبرًا؛ لأنك تستعد لشهر القرآن الذي هو ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، وانهَلْ من بركاته وخيراته.

ذُقْ واستشعر حلاوة القيام بأن تبدأ الصلاة ركعتين حتى ولو كانت قليلة، وتداوم عليها؛ لأنها أحب إلى الله تعالى، كما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((أدومه وإن قلَّ)).

مَرِّن لسانك أن يلهج بذكر الله ليلًا ونهارًا، وعِش في جنة الدنيا، التي من لم يدخلها هنا لم يدخلها في الآخرة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن في الدنيا جنة مَن لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة"، ألا وهي الذكر، وقال الله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152]، ولاحِظ المد بين ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]، مما يدل على أن العبد كثير الذكر يحظى بشرف ذكر الله تعالى له، وتخيل معي بمجرد ذكرك لله كثيرًا يذكرك الله، نعم أنت، وأين؟ في الملأ الأعلى، وأي شرف خير من هذا؟!

جاهِد نفسك على الصدقة؛ فإن الصدقة تطفئ غضب الرب، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الصدقة لتطفئ غضب الرب))، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم "أجود الناس، وَكَانَ أجود مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كل لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بِالخَيرِ مِن الرِّيحِ المُرْسَلَةِ"‏.

ما ذكرته الآن هي خطوات عملية تساعدك في الاستعداد لرمضان، وتُعينك على تذوق حلاوة الإيمان في رمضان وما بعد رمضان، وبإذن الله لنا تكملة لعوامل تيسر لك استمرارية هذه الحلاوة.

أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يبلغنا رمضان، ويكتبنا من عتقائه، وأن يرزقنا حلاوة الإيمان فيه.