مراتب الصعود في مدارج القبول في مدرسة الصيام
جمال زواري


إن مدار الأمر بالنسبة للعبد المؤمن في شهر رمضان، يدور حول ضمان القبول في مدرسته الإيمانية، واعتلائه منصة التتويج في نهاية تربصه المغلق، ليكتب في قوائم المرحومين والمقبولين والمعتوقين، ويعلن فائزًا متوجًا، ليتداول اسمه في الملأ الأعلى، وهو شرف ما بعده شرف، يتمناه كل مؤمن صادق الإيمان، لأن ذلك علامة علو المقام وارتفاع المنزلة عند المولى عز وجل، وقد كان هذا التشريف (ذكر الاسم في الملأ الأعلى) مبتغى الصالحين ومرتجى السائرين إلى الله، لأنهم يدركون قيمته ونفاسته ويعرفون فضله ونتيجته ومنتهاه، لذلك لمّا نزلت: ((لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب)) إلى آخرها، قال جبريل: يا رسول الله، إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا (أي ابن كعب). فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: ((إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة)). قال أبي: وقد ذكرت ثمّ (أي هناك في الملأ الأعلى) يا رسول الله؟ قال: نعم. فبكى أبي.(رواه أحمد).


وللوصول إلى هذا التتويج، وتحقيق هذه الغاية في موسم الخيرات هذا، لا بد من السير والتحليق العملي بصدق وإخلاص وعزم وإرادة وتصميم، في مراتب الصعود في مدارج القبول في مدرسة الثلاثين يوما، وتخطّيها بنجاح مرتبة مرتبة، للوقوف في نهاية المطاف على منصة الفوز والقبول.


وهذه المراتب هي:
المرتبة الأولى: الشهود:
أول مراتب الصعود في مدارج القبول في مدرسة الصيام، والتي تعتبر عتبته هي الشهود، وتتفرّع هذه المرتبة إلى فرعين، فرعها الأول هو البلوغ، وذلك بأن يدعو العبد المؤمن ربه من قبل ليبلّغه رمضان، لينال أفضاله وخيراته، ويستنشق عبير نفحاته وأجوائه، المفعمة بعبق الإيمان والكرم الإلهي غير المحدود، فإن أكرم العبد ببلوغ الشهر وإدراكه، فقد خطى الجزء الأكبر من هذه المرتبة، ليبقى له منها جزءها العملي، وهو شهوده للمائدة الربانية المتنوعة الأطباق والوجبات والممتلئة على آخرها بما لذ وطاب، واستشعاره بقيمتها، وعزمه أن يكون له منها حظ ونصيب وافر.

صحيح أن مرتبة شهود هذه النعم في موسم الطاعات هذا علامة من علامات القبول كما قال ابن عطاء:( كفى من جزائه إياك على الطاعة أن رضيك لها أهلا، ومتى أطلق لسانك فأعلم أنه يريد أن يعطيك).

لكنها لا تكفي بمفردها للوصول إلى قمة القبول والتتويج، ما لم تتبع بأخواتها من مراتب الصعود، وتكن سببا دافعا لحصول القرب من الله عز وجل، والنعم عموما إن لم تكن سببا في القرب من الله فهي بلايا، كما قال أبو حازم:(كل نعمة لا تقرّب من الله عز وجل فهي بليّة).

وشهود الشهر من دون تفاعل عملي مع أجوائه، ومن غير الاستثمار والتجارة الرابحة مع الله عز وجل فيه، والتوقف عند الشهود وفقط دون الانتقال إلى غيرها من مراتب الصعود في مدارج سلّم القبول هو الخذلان بعينه كما قال ابن عطاء أيضا: (الخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه إليه، وتقلّ عوائقك ثم لا ترحل إليه).

أما إذا كان مع الشهود انصراف القلب عن تحصيل خيرات الشهر، والزهد في الإقبال عليها، ليصل الأمر إلى التضجر من الصيام والتأفف منه، وتمني زواله وذهابه بسرعة، خاصة عندما يكون في فصل الصيف فهو عين الحرمان والغرق في حال مرغوم الأنف الذي يدرك رمضان ولا يغفر له كما ورد في الحديث، والانحراف عن منهج الصالحين من السلف الذين كانوا يتمنون السنة كلها رمضان، ويدعون الله بإلحاح أن يبلغهم رمضان، بل كانوا يفضلون الصيام في الصيف لأنه من علامات التمايز لدى المؤمنين، كما كانت تفعل إحدى الصالحات بحيث تختار أشد أيام الصيف حرارة فتصومه، فلما سئلت عن السبب، قالت: إن الشيء إذا رخص اشتراه كل أحد.

وكما روي عن الإمام علي رضي الله عنه قوله: حبب إلي من الدنيا الصوم في الصيف وإقراء الضيف والضرب بالسيف.
فالشهود أول مراتب الصعود.

المرتبة الثانية: التذوق:
بعد أن من الله على عبده المؤمن بأن بلّغه موسم الطاعات الوفير، وأشهده مائدته الروحية والإيمانية الغنية بشتى الأصناف، ينتقل العبد إلى المرتبة الثانية في سلم الصعود في مدارج القبول، وهي مرتبة التذوق، والتي تبدأ بأن يجد العبد ريح رمضان، ويملأ أريجه الطيب عليه قلبه وعقله وجسده وجوارحه، ثم يتذوق بكل ذلك لذائذ الصيام المتنوعة التي زيّنها المولى عز وجل لعباده، بحيث كلما ذاق العبد لذة انتقل إلى أخرى، حتى ينتهي إلى المتعة الحقيقية، متعة الطمأنينة والسكينة والإيمان والرحمة والقرب، فتحيط به هذه اللذائذ والهدايا الربانية من كل جانب، وتغمره متعتها وفيوضاتها الروحية، حتى يصل إلى جنة الدنيا التي عبّر عنها الصالحون بقولهم: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة)، وقول أحدهم: (إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش رغيد).


فالخسارة كل الخسارة أن تكون أمام مائدة زاخرة بكل أنواع الأطباق وأنت محروم من تذوقها، بحيث تحرمك من ذلك ذنوبك ومعاصيك، وتكبّلك عن الانطلاق في منهج التذوق هذا، ويحول بينك وبين تذوق لذائذها ران الغفلة الذي لم تقوى إرادتك كي تتخلص منه رغم كل الأجواء المساعدة على ذلك، فلا بد أن تجاهد نفسك وتقوي عزمك وتهيئ المحل بشكل جيد، لتكون حاسة الذوق لديك قوية، فمراتب الاستفادة على قدر مراتب الاستعداد، فمن استعد استمد، فينبغي أن تتذوق لتعرف، فما عرف من لم يذق.

المرتبة الثالثة: التعرّف:
بعد مرتبة التذوق بالضرورة تأتي مرتبة التعرف أو المعرفة، فمن ذاق عرف، فمن ذاق بعض لذائذ الشهر ونفحاته الماتعة، عرف قيمة الموسم وغنى محاصيله، وتعرف على أفضاله وأنواله، وأدرك سعر ووزن طاعاته وقرباته وخيراته في ميزان الله عز وجل، فعند تعرف العبد على كل ذلك فيلتقط قلبه إيقاعات الكرم الإلهي، ويتسمع ضميره أصداء الهداية، وتتلقى بصيرته إشراقات الأنوار الربانية التي تملأ الآفاق في هذا الشهر، وتتلمس روحه أشعة الرحمات الإلهية، وينشرح صدره لتدفق الشحنات الإيمانية، فتستجيب جوارحه باغتنام أجوائه واقتناص فرصه بالإقبال على الطاعات والقربات.

ومرتبة التعرف هذه تقاس بثمارها العملية ، وما يتبعها وينبني عليها من عمل، وإلا فإن المعرفة المجردة من العمل، وغير المسببة لليقظة والصحو، تكون وبالا وحجة على صاحبها، كما قال أحد السلف:(الله المستعان على ألسنة تصف وقلوب تعرف وأعمال تخالف).

وقد كان هذا هو ميزان الصالحين في التعامل مع منزلة المعرفة، وقياسها بمردودها الشعوري والعملي، فقد روي أن ثلاثة حضروا عند بعض السلف وقالوا له: أوصنا.

فقال للأول: ألست تقول أن الله عالم؟، فقال: بلى، قال: إياك أن يعلم منك شيئا فيفضحك به غدا.


وقال للثاني: ألست تقول أن الله بصير؟ فقال: بلى، قال: إياك أن يراك على عمل تستحي منه يوم القيامة.


وقال للثالث: ألست تقول أن الله سميع؟، فقال: بلى، قال: احذر أن يسمع منك شيئا يردك عن باب رحمته بسببه.
فالتعرف هو ثمرة التذوق، كما أنه سبب التيقظ.

المرتبة الرابعة: التيقظ:
ويستمر العبد المؤمن الصائم في مراتب الصعود في مدارج سلم القبول، ليصل إلى مرتبة التيقظ أو اليقظة، فمن شهد وتذوق وتعرف، توفرت له كل أسباب الصحو والتيقظ، فإن شهد وتذوق وتعرف ولم يستيقظ قلبه المخمور، وبقي يغط في سباته العميق، فما ربح شيئا على طريق الوصول والقبول، كما قال إقبال:( لا بارك الله في نسيم السحر إذا لم تستفد منه الحديقة، إلا الفتور والخمول والذوى والذبول).


ومرتبة اليقظة كما يعرفها ابن القيم في المدارج:(هي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين)، وهي تحقيق الولادة الثانية التي ذكرها ابن القيم كذلك وهو يشرح قول سيدنا المسيح عليه السلام للحواريين: إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرّتين.


يقول ابن القيم: (فإن من لم تولد روحه وقلبه، ويخرج من مشيمة نفسه ويتخلّص من ظلمات طبعه وهواه وإرادته، فهو كالجنين في بطن أمه، الذي لم ير الدنيا وما فيها، فهكذا هو الذي بعد في مشيمة النفس والظلمات الثلاث هي: ظلمة النفس وظلمة الطبع وظلمة الهوى، فلا بد من الولادة مرّتين).

ومن علامات ولوج مرتبة التيقظ، استشعار عظمة الأجر ومضاعفة الثواب ووفرة الموسم وبركته، ليستسهل من أجل ذلك كل صعب، ويقبل على التزود من كل قربات الشهر وطاعاته بنفس منشرحة وعزم صادق، كما قال ابن الجوزي:(من لمح فجر الأجر، هان عليه ظلام التكليف).

مرتبة التيقظ كذلك، هي أن يكون جهاز الحساسية من التقصير في حق الله لدى العبد يعمل بشكل سليم وذاتي التشغيل ومبرمج على سرعة الإنذار وإشعال الأضواء الحمراء كلما استشعر تقصيرا أو فتورا أو تضييعا، لأن تبلد الإحساس عند التقصير والتضييع، وعدم الشعور بفداحة ذلك، ناقض من نواقض اليقظة التي نتحدث عنها، والتي إن لم تحدث للعبد في موسم الخير هذا، واستمر في انحداره، ولم يستثمر في بورصته الإيمانية المربحة، خسر على كل الأصعدة، وخرج من كل ذلك مفلسا خالي الوفاض، يرى قوافل المقبولين المتوجين، وهو يتحسر كمدا، على ما ضيع وفوت من خير وفير وأجر عظيم وفرض نجاة محققة يقينا.

المرتبة الخامسة: الاعتراف:
بحيث إذا شهد العبد وتذوق وتعرف فأستيقظ، فإن من دلائل الاستيقاظ أو التيقظ الاعتراف، ومرتبة الاعتراف تقوم على ارتفاع منسوب الحياء من الله عز وجل في قلب العبد، لأن الذي فقد هذا الحياء حرم الخير كله، كما قال جعفر الصادق:( من لم يستح من العيب ويرعو عند الشيب ويخشى الله بظهر الغيب، فلا خير فيه).


الاعتراف أن يقرع العبد بصدق باب الذل والافتقار والانكسار للدخول من خلاله على مولاه، كما قال ابن القيم:( دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام، فلم أتمكّن من الدخول، حتى جئت باب الذل والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه).


الاعتراف أن يتوجه العبد بأكف الضراعة إلى الله عز وجل معترفا مستسلما، جاعلا من مناجاته سبحانه وتعالى وسيلة زلفى وجسر عبور ودليل حب وعربون ذل وسكينة، مع سخاء العين بسكب العطر الحلال من ماء المآقي لاستجلاب رحمة الغفار وعفوه، كما قال ابن الجوزي:(ما ارتوى زرع توبة قط، إلا من جداول الحدق).


وكما قال البوصيري: وأستفرغ الدمع من عين قد امتلأت من المحارم وألزم حمية الندم الاعتراف هو الشعور الصادق بالافتقار إليه سبحانه وتعالى واعترافا بأنعمه التي لا تحصى التي أسداها لعبده كما قال أحد السلف:(قد أصبح بنا من نعم الله تعالى ما لا نحصيه، مع كثرة ما نعصيه، فلا ندري أيهما نشكر، أجميل ما ينشر أم قبيح ما يستر؟).

وقد كان الصالحون يجدون لذة لا تضاهي في الدخول على الله من باب الاعتراف والاحتياج والمناجاة حتى قال قائلهم:(إنه ليكون لي إلى الله حاجة، فأدعوه، فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته، ما لا أحب معه أن يعجّل قضاء حاجتي، أو ينصرف عني ذلك، لأن النفس لا تريد إلا حظها).

فمرتبة الاعتراف تكون بلسان المقال والحال: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ﴾( القصص16).

المرتبة السادسة: التنقي (التخلية):
بعد الاعتراف تأتي مرتبة التنقي أو التخلية لكل ما من شأنه أن يقف عائقا أمام انطلاقة العبد نحو منصة القبول، فكنس هذه العوائق والعوالق من ساحات القلب والجوارح، وتنظيف المحل وتطهيره وتطييبه، ليكون معدّا لاستقبال فيض الرحمات الإلهي، وإشراقات أنواره المتدفقة ونفحاته المتتالية، كما قال ابن عطاء:(ورود الأمداد بحسب الاستعداد، وشروق الأنوار حسب صفاء الأسرار).

وقوله أيضا:(ربما وردت عليك الأنوار فوجدت القلب محشوا بصور الآثار، فارتحلت من حيث جاءت).

التنقي أن يحاسب العبد نفسه ويلجمها بلجام التقوى والمراقبة، ويلزمها الصالح من الأعمال، ويخلصها من ذنوبها وهواها ورعوناتها، لتأهيلها، ويزيح كل ما يكبّلها ويمنعها من المسارعة إلى محطة الوصول، لأن الذنب حاجز والتجاوز في حق الله مانع، كما قال ابن الجوزي:( ربّ شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه فحرم صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعمه فأظلم سرّه وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة.. إلى غير ذلك مما يعرفه أهل محاسبة النفس).

ووسيلة الوصول إلى مرتبة التنقي أو التخلية هي أن يغمس العبد نفسه في الأنهار المطهرة ليطهرها من آثامها، كما قال ابن القيم:( لأهل الذنوب ثلاثة أنهار عظام يطهّروا بها في الدنيا، فإن لم تف بطهرهم طهّروا في نهر الجحيم يوم القيامة: نهر التوبة النصوح ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها ونهر المصائب العظيمة المكفرة، فإذا أراد الله بعبده خيرا أدخله أحد هذه الأنهار الثلاثة، فورد يوم القيامة طيّبا طاهرا، ولم يحتج إلى التطهير الرابع))، ومن ثم يصفر العدّاد لينطلق من جديد.

فكلما أخلى العبد وتخلّى تحلّى فتجلّى، فجلاء النفس وصفاؤها هو ثمرة الإخلاء والتخلي والتنقي، فإن أفلح العبد في مرتبة التنقي والتخلية هذه، فقد قارب التتويج ولا مس القبول، وانفتحت شهيته نحو العب عبّا من العمل الصالح والتزود من القربات والطاعات، حتى يصل إلى حدّ الاغتراف.

المرتبة السابعة: الاغتراف:
فإذا نظف العبد المحل وطهره ونقاه وجلّاه، انطلق بشفافية لتحليته وتعبئته، لتحل الطاعات والنفحات والأنوار محل الأمراض والآثام والأهواء، ليدخل في سباق مع الزمن للاغتنام فلاغتراف من كل ما يقربه من الوصول، ويدفعه دفعا نحو القبول، فيتمثل حقيقة العبودية لمولاه التي شرحها ابن القيم بقوله:( حقيقة العبودية: ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناء واعترافا، وعلى قلبه شهودا ومحبّة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة).


فما يترك طاعة إلا أخذ منها بحظ وافر، ولا قربة إلا نال منها النصيب الأوفى، فإن أقبل على الصلاة كان فارسها الهمام الذي لا ينافس، وأغلق فيها العدّاد في نهاية الشهر بتحقيق المعادلة الربانية:
5x27x70x30=283500 صلاة فريضة، إضافة إلى خزان ممتلئ على آخره من النوافل، وإن أقبل على القرآن جعله أنيسه طوال أيام الشهر تلاوة وتدبرا، ولياليه قياما به، فيكون حاله مع كتاب الله حال الحال المرتحل، كلما طوى ختمة انطلق في غيرها، وهكذا يكون ديدنه مع كل القربات في الشهر الكريم.


لا يترك منها واحدة إلا اغترف منها اغترافا، ولم يكتف منها بالقليل، فتكون الحصيلة وافرة والرصيد كثير، واستثماره في فيوضات رحمات الله في شهر التكريمات، رابح على طول الخط، فيكتسب باغترافه الدائم هذا حساسية في الضمير وطهارة في القلب ورقة في الفؤاد وسلامة في الصدر وزيادة في الإيمان وإشراقه في الوجه ونظافة في الجسم وإمساكا للسان وغضا للبصر وصونا للسمع وحفظا للفرج وزيادة في العلم وارتفاعا في الخشية وسخاء في النفس وإدرارا في الدمع وحسنا في الخلق واستقامة في المعاملة وسماحة في التصرف وورعا في التعامل بالدرهم والدينار وإحسانا إلى جار وبرا للوالدين وصلة لرحم وتربية حسنة للأبناء وشفقة على مسكين ورحمة ليتيم وعدلا مع خصم وتقديرا للعلماء ونفعا للناس وحبا لله ورسوله والمؤمنين وخدمة للدين والدعوة إليه وغيرة على محارم الله وتفاعلا مع قضايا الأمة واهتماما بأمر المسلمين وذكرا للموت واستعدادا له.


فإن استيقظ وأخلى ونقى واغترف، وصل إلى معاينته لمرتبة التطلع الحقيقي والمستحق للترقي والصعود لأعلى درجات سلّم القبول، لوضع قدمه بكل ثقة ويقين عل قمة التتويج.

المرتبة الثامنة: التطلّع:
بعد الأخذ بنصيب معتبر من المراتب السبع السابقة، ويتأكد العبد المؤمن بأن شاحنه الإيماني موصول حقيقة لا إدعاء، بمورد الطاقة الذي لا ينضب، وأن عملية التعبئة قائمة بشكل صحيح وسليم، وبدفعات متدفقة كافية، ويستشعر بروحانية عالية وطمأنينة كبيرة، بأجواء السكينة التي تحيط به من كل جانب، وحب وشوق لمولاه وشآبيب الرحمات التي غمرته من رأسه إلى أخمص قدميه، ويستمتع بلذة المناجاة وأنات السحر، ويستنشق عبيرها الأخاذ المنعش للنفس والموقظ للقلب، كما قال ابن القيم:(لو استنشقت ريح الأسحار، لاستفاق قلبك المخمور).

فيصل إلى اليقين وتمثله عمليا بأماراته التي شرحها ابن القيم كذلك: (من علاماته (أي اليقين) الالتفات إلى الله في كلّ نازلة، والرجوع إليه في كلّ أمر، والاستعانة به في كل حال، وإرادة وجهه بكلّ حركة وسكون).

إلى الحد الذي يجعله بالتقوى التي اكتسبها لو أقسم على الله لأبره، وينل استجابة الدعاء، كلما توجه إلى مولاه وفر وسائل الاستجابة ونالها واستشعرها، كما عبر عنها الرجل الصالح ثابت البناني بقوله: (وإني أعلم حين يستجيب لي، فتعجبوا من قوله وقالوا: تعلم حين يستجيب لك ربك؟ قال: نعم، قالوا: كيف تعلم ذلك؟


قال: إذا وجل قلبي واقشعرّ جلدي وفاضت عيناي وفتح لي الدعاء، فثم أعلم أن قد أستجيب لي)..


وعند وصول العبد إلى هذه الحال، عندها يصل إلى مرتبة التطلع حقيقة لا خيالا، للتخطي السلس للدرجات الأخيرة لسلم الصعود، ليتربع على قمة القبول في هذا الشهر الكريم.


والذي استطاع أن يتخطى كل مراتب الترقي في مدارج القبول السابقة، يصبح مؤهلا لأن يكون من الصفوة الموفقة المتطلعة نحو المعالي، والسائرة في صعود وترق دائم نحو التتويج، كما قال ابن الجوزي:(من الصفوة أقوام منذ استيقظوا ما ناموا، ومنذ قاموا ما وقفوا، فهم في صعود وترق، كلما قطعوا شوطا نظروا فرأوا قصور ما كانوا فيه فاستغفروا).

المرتبة التاسعة: التوفيق:
فالغبن كل الغبن أن تغلب وحدات العبد عشراته، وأن يخطئه توفيق الله له في شهر التوفيق، وأن يحرم معيته الخاصة، التي يمنحها لعباده الصالحين، والحرمان كل الحرمان أن لا يراه مولاه أهلا لنيل شرف القبول، وأن يمر عليه رمضان وهو يراوح مكانه دون أن ينخرط بصدق في مدرسة العبودية، ودون أن ينل من عجائبها، ويرزق من أنوارها، ويقطف باقات حدائقها الفيحاء، ويخدع نفسه مع تقصيره وتفريطه، بحجة أنه يحسن الظن بربه من دون أن يقدّم الثمن، ويوفر الدليل، كما قال الحسن البصري:( إن قوما خدعتهم الأماني، يقولون نحسن الظن بالله، كذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل).

بل يجب عليه أن يعدّ للأمر عدته، ويقدم دلائل القبول في مدرسة العبودية هذه، ويجعل الصيام فرصة للتحول والصعود إلى المراتب العالية، ويواصل الترقي حتى يبشر بالقبول ويوفق للوصول، فالعباد بين موفق ومخذول، والسعيد من كتب له التوفيق والتسديد وترقى في مراتب الصعود السابقة في مدارج القبول، والشقي من كتب له الخذلان وفشل على عتبة أول مرتبة من مراتب الصعود، كما حكي أن رجلا حلّ ضيفا عند أحد أصحابه، فتعشى ونام عنده، فلمّا جن الليل، سمع الضيف دويا بالقرآن في أرجاء البيت، فلمّا أصبح قال لصاحبه: سمعت البارحة دويا بالقرآن في أرجاء البيت، فمن هو؟


قال له صاحب البيت: تلك أختي تقوم الليل كل ليلة.


فقال له الضيف: أولست أولى بذلك منها؟؟؟


فقال له صاحب البيت: يا هذا أما علمت أن في الناس موفق ومخذول.


شهر رمضان فرصة سانحة لحصول التوفيق والنجاة من الخذلان، وقد فتح الله عز وجل فيه كل أبواب التوفيق الإلهي على مصراعيها، وأغلق كل أبواب الخذلان وصفد كل مسبباته.


فللتوفيق دلائل وللخذلان دلائل، والعبد المؤمن حريص على توفير كل دلائل التوفيق لديه، ليكون في قافلة الموفقين، ليتذوق بحق بركات التوفيق ونفحاته في حياته كلها أثناء الشهر وبعده.


فالخسارة كل الخسارة أن يكون مخذولا في أحد أكبر مواسم التوفيق.


فإن أحاطت بالعبد أجواء الرعاية الإلهية، ورزق التوفيق في كل خطوة، واستشعر أنه في سمو روحي وعبادي وإيماني وأخلاقي وعملي دائم، وثبت على هذا الصعود لتكون ثمرة هذا التوفيق، فرحة القبول في مدرسة الثلاثين يوما.

المرتبة العاشرة: القبول:
لتكون نهاية السير في سلم الصعود والترقي مرتبة القبول، كنتيجة لكل المراتب التي سبقتها، فيضمن العبد المؤمن الصائم مكانا في قافلة المقبولين، ويحجز مقعدا في عداد الفائزين، بعد أن تدرج في معارج العبودية، ونال من لذائذها الشيء الكثير، لتكون المحصلة عتقا من النار، وذلك - ورب الكعبة - هو الفوز المحقق والنجاح الأبدي والنجاة التي ما بعدها نجاة، وهي النتيجة التي عمل لها الصالحون، وذابت في رغبة الوصول إليها قلوب المشتاقين، وانكسرت في الحرمان منها نفوس النادمين، فقد قال سبحانه: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾(آل عمران185).


لينادى على العبد الذي تدرج بنجاح في مراتب الصعود هذه مرتبة مرتبة، حتى وصل إلى منصة التتويج، وهي مرتبة القبول في آخر ليلة من ليالي الشهر، بأنه من أهل التهنئة، كما روي عن الإمام علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه؟ ومن هذا المحروم فنعزيه؟.



وينال الفرحة الثانية وهي فرحة التوفيق والقبول، كما جاء في الحديث:(للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه) (رواه البخاري).


وليعاهد ربه سبحانه وتعالى بعد نجاحه في امتحان العبودية هذا، وتتويجه مع المتوجين، بأن يري ربه منه ما يسره دوما بعد انقضاء الشهر، إلى أن يوفق من جديد لبلوغ الشهر العام المقبل -إن كان لعمره بقية -ليعاود الرحلة من جديد في مراتب الصعود في مدارج القبول هذه ، لأنه تيقن بمتعة الرحلة وجمال الرفقة ولذة الزاد وحلاوة التوفيق وطعم التتويج، جعلنا وإياكم من المتوجين بالقبول المبشرين بالوصول.