العافية في التغافل



التغافل هو تعمد الغفلة، مع علم الإنسان التام وإحاطته بما هو مُتغافل عنه ترفعًا عن الدنايا وسفاسف الأمور، والتغافل أدب عظيم وخلق شريف تأدب به الحكماء، ونوَّهَ بفضله العلماء، فيجب على صاحب المروءة أن يتغافل ويتجاوز عن أهله وأصحابه وموظفيه إن هم قصروا بشيء ما، فلا يستقصي مكامن تقصيرهم فيبرزها لهم ليلومهم ويحاججهم عليها، ولا يذكرهم بحقوقه الواجبة عليهم تجاهه عند كل زلة وإنما يتغافل عن اليسير وهو يعلمه.

ولا ينبغي لمن رام تقويم نفسه واستكمال فضائلها أن يغفل عن هذا الخلق الرفيع؛ فإن مجال استعماله واسع فسيح في حياة الإنسان، فليستعمله مع موظفيه أو زملائه وأصدقائه، مع زوجه وأبنائه، مع خدمه وطلابه، وهو أيضًا يُعد فنًّا من فنون الأخلاق التي ينبغي الاعتناء بها، وقد ذكروا أنَّ الناصر صلاح الدين الأيوبي كان يتحلى كثيرًا بأدب التغافل، وكذلك قتيبة ابن مسلم وغيرهم الكثير.
ما أحوجنا لهذا الأدب!
فما أحوجنا للتأدب بهذا الأدب والتحلي به في مواقف حياتنا! فإن استقصاء كل صغيرة وكبيرة يقدح شرارة الغضب والشحناء بين القلوب، وهذا ما لا ينبغي على المسلم أن يقع فريسته بحال من الأحوال، فتغافل عن الخطأ ولا تفكر في الوقوف عند الخطأ وتعاتب؛ فإن كثرة العتاب تنفر وتفرق، ولا تنس أن تلتمس العذر وتحسن الظن وتقبل الاعتذار، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «لا تظنَّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا».
قال الإمام ابن القيم: من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته، حقا كانت أو باطلًا، وتكل سريرته إلى الله، وقال الإمام الشافعي: «الكيس العاقل هو الفطن المتغافل»، وقال الأعمش: التغافل يطفئ شرا كثيرا، وقال سفيان: ما زال التغافل من شِيَم الكرماء.
وجاء في لامية ابن الوردي الشهيرة:
وتغافل عن أمورٍ إنهُ
لم يفزْ بالحمدِ إلا مَن غفلْ
وقال عمرو المكي - رحمه الله-: من المروءة التغافل عن زلل إخوانك، وقال الأعمش - رحمه الله-: التغافل يطفئ شرًا كثيرًا، وقال جعفر - رحمه الله-: ‏ عظموا أقدراكم بالتغافل‏، وقال بعض العارفين: تناسَ مساوئ إخوانك تستدِم ودّهم.
قال الشاعر:
أحب من الإخوانِ كل مواتيِ
وكلَ غضيض الطرفِ عن هفواتِ
وقال أخر:
ويغضُ طرفًا عن إساءةِ من أساءَ
ويحلمُ عند جهلِ الصاحبِ
وقالوا:
وإن أساء مسيءٌ فليكُنْ لك في
عُروضِ زَلّتِه صَفْـحٌ وغُفـرانُ
التغافل منْسي بيننا
إنَّ خلق التغافل منسي بيننا رغم أنه ُخلقٌ مُريح مُسْعِد، ورغم أنَّ ربنا قد أوصانا به كثيرا لفوائده المُسْعِدَة؛ فيقول -تعالى علي سبيل المثال لا الحصر ممتدحا إياه-: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)، يقول الإمام السعدي في تفسيره للآية الكريمة: هذه الآية جامعة لحُسْن الخلق مع الناس.. أن يأخذ العفو: أي ما سَمَحَت به أنفسهم وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم، بل يشكر من كلّ أحد ٍما قابله به من قول ٍأو فعل ٍجميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم ويغضّ طرفه عن نقصهم، بل يُعامِل الجميع باللطف والمقابَلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم، {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي بكل قول ٍحسن ٍوفعل ٍجميل ٍوُخلق ٍكامل ٍللقريب والبعيد، وأمَرَ الله -تعالى- أن يُقابَل الجاهل بالإعراض عنه وعدم مقابلته بجهله، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه، ومَن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فصِله، ومن ظلمك فاعدِل فيه، ويقول الإمام البغوي في تفسيره: «مثل قبول الاعتذار والعفو والمُساهَلة وترك البحث عن الأشياء ونحو ذلك».
التجاوُز والتسامُح
إنَّ خلق التغاُفل يعني غضّ النظر والتجاوُز والتسامُح عن بعض الأخطاء والسلبيات، فلا تدقيق وتحليل وترصّد للسوء في كل كلمة ٍوأي تصرّف، كما يقول -تعالى- موصيًا ومنبّها لخُلق ٍكريم ٍمن أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنقتدي به ونفعل مثله: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} (التحريم:3 )، وقال فيه الإمام الآلوسي في تفسيره: «… دلالة علي أنه يَحْسُن … التلطفّ في العَتَب والإعراض عن استقصاء الذنب..»، وليس هذا بالتأكيد تسطيحا للأمور وتبسيطا، وإنما هو في عُمْقها وصَميمها؛ لأنه يُعطِي فرصة للمخطئ لكي يُصَوِّبَ نفسه بنفسه، بعقله وإرادته، فيكون هذا أستر له بعدم فضحه أو تغيير صورته الجيدة لدي الآخرين وأكثر تشجيعا للتقويم، فيسعد الجميع، المخطئ بالتصحيح، ومَنْ حوله بإحسانه وبألا َّيفعلوا خطأه، كما يُفهَم ضمنا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «.. ومَنْ سَتَرَ مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة..» جزء من حديث رواه البخاري، ومن قوله: «إنَّ الله رفيق يحب الرفق ويُعطي علي الرفق ما لا يُعطي علي العنف وما لا يُعطِي علي سواه» رواه مسلم. فكثير من المشكلات في حياتنا يمكن أن تختفي نهائيا، وكثير من النيران التي تشتعل في بيوتنا يمكن أن تنطفئ، وكثير من الخلافات والصراعات الحادة في مجتمعاتنا يمكن أن تزول بعلاج واحد، وخلق فريد ألا وهو خلق التغافل.

د. محمود الحفناوي الأنصاري