معنى السلام في اللغة
د. سامح عبدالسلام محمد
من يتتبع لفظ السلام في اللغة، يتبين له أنه لفظ مشترك يدل على معان مختلفة[1]، ومن مادته (س ل م) نعبر عن معانٍ كثيرة، فهو اسم لشجر وحجر، وآلة كالدلو وما يُرتقى عليه، ومعاملة التسليف، وهو صفح وعفو، وبراءة من العيوب وعافية، وصلح وموادعة، وانقياد وتسليم، وهو تحية واستئذان.
ففي مختار الصحاح: و(السَّلَمُ) بفتحتين: السَّلَف، و(السَّلَم) أيضًا: الاستسلام، و(السَّلَم) أيضًا: شجرٌ من العِضاة الواحدة (سَلَمة)، و(سلمة) أيضًا: اسم رجل، و(السُّلَّم) بفتح اللام واحد السلاليم التي يُرتقى عليها، و(السِّلْم): السلام، وقرأ أبو عمرو: ﴿ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ [البقرة: 208]، وذهب بمعناها إلى الإسلام، و(السَّلْم): الصلح بفتح السين وكسرها يذكر ويؤنث، و(السِّلْم): المسالم تقول: أنا سلمٌ لمن سالمني، و(السلام): السلامة، و(السلام): الاستسلام، و(السلام): الاسم من التسليم. و(السلام): اسمٌ من أسماء الله تعالى، و(السلام) البراءة من العيوب، وقُرِئ ﴿ وَرَجُلًا سَلَمًا ﴾ [الزمر: 29]، و(السُّلامَيات) بفتح الميم: عظام الأصابع واحدها سُلامَى وهو اسم للواحد والجمع أيضًا، و(السليم): اللديغ كأنهم تفاءلوا له بالسلامة، وقيل: لأنه أسلم لما به، وقلبٌ سليم: أي: سالم، و(سلِم) فلان من الآفات بالكسر سلامةً وسلَّمه الله منها، و(سلَّم) إليه الشيء فتسلمه؛ أي: أخذه، و(التسليم) بذل الرضا بالحكم، و(التسليم) أيضًا: السلام، و(أسلم) في الطعام: أسلف فيه، و(أسلم) أمره إلى الله: أي: سلَّم، و(أسلم): دخل في السَّلَم بفتحتين، وهو الاستسلام، و(أسلم) من الإسلام، و(أسلمه): خذله، و(التسالم): التصالح، و(المسالمة): المصالحة، و(استلم) الحجر: لمسه إما بالقبلة أو باليد ... و(استسلم): أي: انقاد[2].
وفى معجم مقاييس اللغة: (سلِم): السين واللام والميم معظم بابه من الصحة والعافية، ويكون فيه ما يشذ، والشاذ عنه قليل، فالسلامة: أن يسلم الإنسان من العاهة والأذى؛ قال أهل العلم: الله جل ثناؤه هو السلام؛ لسلامته مما يلحق المخلوقين من العيب والنقص والفناء؛ قال الله جل جلاله: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾ [يونس: 25]، فالسلام الله جل ثناؤه، وداره الجنة، ومن الباب أيضًا الإسلام: وهو الانقياد؛ لأنه يسلم من الإباء والامتناع، والسلام: المسالمة، و(فِعال) تجيء في المفاعلة كثيرًا نحو: القتال والمقاتلة، ومن باب الإصحاب والانقياد: (السَّلَم) الذي يسمى السلف، كأنه مالٌ أسلمُ ولم يمتنع من إعطائه، وممكن أن تكون الحجارة سميت (سِلامًا)؛ لأنها أبعد شيء في الأرض من الفناء والذهاب؛ لشدتها[3].
وفي لسان العرب: "(سلم) السلام والسلامة: البراءة، (تسلم) منه: تبرأ، وقال ابن الأعرابي: السلامة العافية، السلامة شجرة، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]؛ معناه: تسلُّمًا وبراءة، لا خير بيننا وبينكم ولا شر، وليس السلام المستعمل في التحية؛ لأن الآية مكية ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين، هذا كله قول سيبويه ... وقوله عز وجل: ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5]؛ أي: لا يستطيع الشيطان أن يصنع فيها شيئًا، وقد يجوز أن يكون السلام جمع سلامة، والسلام التحية ... وقال أبو الهيثم: السلام والتحية معناهما واحد، ومعناهما السلامة من جميع الآفات ... و(السلام) الله عز وجل اسم من أسمائه؛ لسلامته من النقص والعيب والفناء، حكاه ابن قتيبة، وقيل: معناه أنه سلم مما يلحق الغير من آفات الغير والفناء، وأنه الباقي الدائم الذي تفنى الخلق ولا يفنى وهو على كل شيء قدير ... وسميت دار السلام؛ لأنها دار السلامة الدائمة التي لا تنقطع ولا تفنى، وهي دار السلامة من الموت والهرم والأسقام، وقال أبو إسحاق: أي: للمؤمنين دار السلام، وقال: دار السلام الجنة؛ لأنها دار الله عز وجل فأضيفت إليه تفخيمًا لها كما قيل للخليفة: عبدالله ... وقوله عز وجل: ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ [طه: 47]؛ معناه: أن من اتبع هدى الله سلم من عذابه وسخطه.
وذكر محمد بن يزيد أن (السلام) في لغة العرب أربعة أشياء؛ فمنها: سلَّمت سلامًا مصدر سلمت، ومنها (السلام) جمع سلامة، ومنها (السلام) اسم من أسماء الله تعالى، ومنها (السلام) شجر، ومعنى (السلام) الذي هو مصدر (سلمت): أنه دعاء للإنسان بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه وتأويله التخليص، قال: وتأويل السلام اسم الله أنه ذو السلام الذي يملك السلام؛ أي: يُخلِّص من المكروه ... وقوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 89]؛ أي: سليم من الكفر، وقال أبو إسحاق في قوله عز وجل: ﴿ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ ﴾ [الزمر: 29]: "وقُرئ (ورجلًا سالمًا لرجل)، فمن قرأ (سالمًا) فهو اسم الفاعل على (سلِم) فهو سالم، ومن قرأ (سِلْمًا) و(سَلْمًا) فهما مصدران وُصف بهما على معنى: ورجلًا ذا سِلْم لرجل وذا سَلْم لرجل، والمعنى: أن من وحَّد الله مَثَلُه مثل السالم لرجل لا يشركه فيه غيره، ومَثَلُ الذي أشرك الله مثل صاحب الشركاء المتشاكسين ... وقوله تعالى: ﴿ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴾ [الواقعة: 91]؛ قال: إنما وقعت سلامتهم من أجلك، وقال الزجاج: ﴿ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴾ [الواقعة: 91]، وقد بيَّن ما لأصحاب اليمين في أول السورة، ومعنى (فسلام لك): أي: أنك ترى فيهم ما تحب من السلامة، وقد علمتَ ما أُعدَّ لهم من الجزاء ... تقول: أنا سِلْمٌ لمن سالمني، وقوم سِلْمٌ وسَلْمٌ: مسالمون وكذلك امرأة سِلْمٌ وسَلْمٌ، تسالموا: تصالحوا، المسالمة: المصالحة؛ وفي حديث الحديبية أنه أخذ ثمانين من أهل مكة سَلمًا؛ قال ابن الأثير: يُروى بكسر السين وفتحها، وهما لغتان للصلح، وهو المراد في الحديث على ما فسره الحميدي في غريبه، وقال الخطابي: إنه (السَّلَم) بفتح السين واللام يريد: الاستسلام والإذعان؛ كقوله تعالى: ﴿ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ﴾ [النساء: 90]؛ أي: الانقياد، وهو مصدر يقع على الواحد والاثنين والجمع، قال: وهذا هو الأشبه بالقضية؛ فإنهم لم يؤخذوا عن صلح، وإنما أُخذوا قهرًا وأسلموا أنفسهم عجزًا، وللأول وجه؛ وذلك أنهم لم يجرِ معهم حرب، إنما لما عجزوا عن دفعهم أو النجاة منهم رضوا أن يؤخذوا أسرى ولا يُقتلوا، فكأنهم قد صُولحوا على ذلك؛ فسُمِّيَ الانقياد صلحًا وهو (السِّلْم)، ومنه كتابه بين قريش والأنصار: ((وإن سَلْمَ المؤمنين واحدٌ، لا يُسالَم مؤمن دون مؤمن))؛ أي: لا يصالح واحد دون أصحابه، وإنما يقع الصلح بينهم وبين عدوهم باجتماع مَلَئِهم على ذلك، قال: ومن الأول حديث أبي قتادة: ((لآتينك برجل سَلَمٍ))؛ أي: أسير لأنه استسلم وانقاد، ومنه الحديث: ((أسلم سالمها الله)): هو من المسالمة وترك الحرب، ويحتمل أن يكون دعاءً وإخبارًا، إما دعاءً لها أن يسالمها الله ولا يأمر بحربها، أو أخبر أن الله قد سالمها ومنع من حربها[4].
وقد أورد ابن القيم رسالة لطيفة ضمنها أسئلة عن السلام في كتابه (بدائع الفوائد)، وقد صدَّرها بسؤال: ما معنى السلام وما حقيقته؟
ثم أجاب: هذه اللفظة حقيقتها البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريفها، فمن ذلك قولك: سلمك الله، وسلم فلان من الشر، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط: ((ربِّ سَلِّم اللهم سلم)).
ومنه سَلِم الشيء لفلان؛ أي: خلص له وحده، فخلص من ضرر الشركة فيه؛ قال تعالى: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ ﴾ [الزمر: 29]؛ أي: خالصًا له وحده لا يملكه معه غيره، ومنه (السلم) ضد الحرب؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ﴾ [الأنفال: 61]؛ لأن كلًّا من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر؛ ولهذا يُبنى منه على المفاعلة فيُقال: المسالمة مثل المشاركة.
ومنه القلب السليم: وهو النقي من الغل والدَّغَلِ، وحقيقته: الذي قد سلم لله تعالى وحده، فخلص من دغل الشرك وغله، ودغل الذنوب والمخالفات، بل هو المستقيم على صدق حبه وحسن معاملته، فهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذابه والفوز بكرامته، ومنه أُخذ (الإسلام) فإنه من هذه المادة؛ لأنه الاستسلام والانقياد لله تعالى، والتخلص من شوائب الشرك، فسلم لربه وخلص له كالعبد الذي سَلِم لمولاه ليس فيه شركاء متشاكسون؛ ولهذا ضرب سبحانه هذين المَثَلَيْنِ للمسلم المخلص الخالص لربه والمشرك به.
ومنه (السَّلَم) للسلف، وحقيقته: العِوَض المسلم فيه؛ لأن مَن هو في ذمته قد ضمن سلامته لصاحبه، ثم سُمِّيَ العقد (سَلَمًا) وحقيقته ما ذكرناه.
فإن قيل: فهذا ينتقض بقولهم للديغ (سليمًا).
قيل: ليس هذا بنقضٍ له بل طرد لما قلناه؛ فإنهم سمَّوه (سليمًا) باعتبار ما يهمه ويطلبه ويرجو أن يؤول إليه حاله من السلامة، فليس عنده أهم من السلامة، ولا هو أشد طلبًا منه لغيرها؛ فسُمِّيَ (سليمًا) لذلك، وهذا من جنس تسميتهم المَهْلَكة (مفازة)؛ لأنه لا شيء أهم عند سالكها من فوزه منها؛ أي: نجاته، فسميت مفازة؛ لأنه يطلب الفوز منها.
وهذا أحسن من قولهم: إنما سميت (مفازة) وسمي اللديغ (سليمًا)؛ تفاؤلًا، وإن كان التفاؤل جزءَ هذا المعنى الذي ذكرناه، وداخل فيه فهو أعم وأحسن.
فإن قيل: فكيف يمكنكم رد (السُّلَّم) إلى هذا الأصل؟
قيل: ذلك ظاهر؛ لأن الصاعد إلى مكان مرتفع لما كان متعرضًا للهُويِّ والسقوط، طالبًا للسلامة راجيًا لها - سميت الآلة التي يتوصل بها إلى غرضه (سُلَّمًا)؛ لتضمنها سلامته؛ إذ لو صعد بتكلف من غير سلم، لكان عطبه متوقعًا، فصح أن السلم من هذا المعنى.
ومنه تسمية الجنة بدار السلام، وفي إضافتها إلى السلام ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنها إضافة إلى مالكها السلام سبحانه، الثاني: أنها إضافة إلى تحية أهلها فإن تحيتهم فيها السلام، الثالث: أنها إضافة إلى معنى السلام؛ أي: دار السلام من كل آفة ونقص وشر، والثلاثة متلازمة، وإن كان الثالث أظهرها؛ فإنه لو كانت الإضافة إلى مالكها لأُضيفت إلى اسم من أسمائه غير السلام، وكان يُقال: دار الرحمن أو دار الله أو دار الملك ونحو ذلك، فإذا عهدت إضافتها إليه ثم جاء دار السلام، حملت على المعهود، وأيضًا فإن المعهود في القرآن إضافتها إلى صفتها أو إلى أهلها.
أما الأول فنحو: دار القرار، دار المجد، جنة المأوى، جنات النعيم، جنات الفردوس، وأما الثاني فنحو: دار المتقين، ولم تعهد إضافتها إلى اسم من أسماء الله تعالى في القرآن؛ فالأَولى حمل الإضافة على المعهود في القرآن، وكذلك إضافتها إلى التحية ضعيف من وجهين:
أحدهما أن التحية بالسلام مشتركة بين دار الدنيا والآخرة، وما يضاف إلى الجنة لا يكون إلا مختصًّا بها كالخلد والقرار والبقاء، والثاني أن من أوصافها غير التحية ما هو أكمل منها مثل كونها دائمة وباقية ودار الخلد، والتحية فيها عارضة عند التلاقي والتزاور، بخلاف السلامة من كل عيب ونقص وشر فإنها من أكمل أوصافها المقصودة على الدوام التي لا يتم النعيم فيها إلا به؛ فإضافتها إليه أولى وهذا ظاهر[5].
[1] قال الراغب الأصفهاني: "الأصل في الألفاظ أن تكون مختلفة بحسب اختلاف المعاني، لكن ذلك لم يكن في الإمكان؛ إذ كانت المعاني بلا نهاية، والألفاظ مع اختلاف ترتيبها ذات نهاية، وغير المتناهي لا يحويه المتناهي، فلم يكن بُدٌّ من وقوع الاشتراك في الألفاظ"؛ [راجع مقدمته في التفسير، ص 80].
[2] مختار الصحاح، ج: 1، ص: 150.
[3] معجم مقاييس اللغة، ج: 3، ص: 68، ابن فارس.
[4] ابن منظور، لسان العرب، ج: 12، ص: 289.
[5] بدائع الفوائد، ج: 2، ص: 361، ابن القيم.