رمضان بين عزيمة الاغتنام ونية التضييع


بشير شارف
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا دخل رمضان فإنه يرحّب بالصوم، فذلك واجب من شهده، وأما إذا أشرف وأذِن بالحضور وطرق الأبواب فإنه لا يقابل إلا بالعزيمة الصادقة على بذل الطاقة والجهد لاغتنامه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى). فمن كانت عزيمته قوية كان شهر رمضان عليه مباركا وفاتح خير من أول يومه، ومن كانت عزيمته واهية، فإنه لا محالة سيدرك العاقبة السيئة.
العزيمة كما عرّفها الأصوليون: أنها ما بنيت على خلاف التيسير، كالصوم في السفر لمن أطاقه، وعدم التلفّظ بكلمة الكفر وإن قتل. فمن الناس من ينصحه طبيبه بعدم صوم الشهر لكنه يصومه عزيمة من نفسه، مثله في ذلك ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه اجتهد قبل موته اجتهادا شديدا، فقيل له: لو أمسكت أو رفقت بنفسك بعض الرفق؟ فقال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها... أي إذا قاربت الخيل خط الوصول في السباق ضاعفت مجهودها رغم تعبها، فلم يزل على ذلك حتى مات رضي الله عنه.
واستقبال رمضان في هذه الأيام يكون بالعزيمة، بمعنى أن لا تفكر في أشياء تضعف حماسك وتحبسك عن الاجتهاد خلال رمضان، وإنما تستجمع قوى الإرادة على الفعل. وأن تعزم على صيام رمضان قبل حلول رمضان، فبعض من وهنت عزيمته قد زاد من وهنها ما يقوله لسانه: كيف سنصوم رمضان؟ نصوم رمضان في هذا الحر؟ نصوم مع هذا الغلاء؟! وبعض من قويت إرادته بدأ يغير من توقيت أخذه لدوائه الملازم له، حتى يصوم من أول يوم صيام الأصحاء.
إن المؤمن إذا لم ينشط عزيمته ولم يعقد الآمال بفعل جملة من الطاعات في شهر رمضان، فإنه إذا باغته الشهر وجده خبيث النفس كسلان، ومن المتخلّفين المتأخرين، وذلك لأنه لم يحل عقدة العادة والكسل والقعود قبل حلول رمضان.. كمن يريد السفر، فإنه يعد متاعه من قبل، أما إذا أجّل وسوّف إلى وقت انطلاق الركب فاته القطار.
وحتى لا يبقى معنى العزيمة غامضا وحتى نزيد في توضيحها: أن تكون عازما على فعل ما لا تألفه النفوس أو لا تحبه. أي لا تعزم على الصيام فحسب وعلى الإمساك عن المفطرات فقط،
فكل الناس يصومون في رمضان هذا الصيام، بل اعزم على ما هو أكبر وأعظم. فبعض أعمال الطاعات والعبادات تحمل في طياتها مشقة على النفس، فإذا لم تقوّ النفس بالعزيمة لمجاهدة العجز والكسل ثم القيام بذلك العمل لم تقم به. وما كان صاحب النفس الخاملة يوما من أهل العزائم بل من أهل الرخص، ولذلك قال الله عن الجهاد (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) ففي الآية وعد بالثواب لحمل وإعداد النفوس وشحنها بالعزيمة حتى تتهيأ لملاقاة الموت الذي تأباه الطباع.
وللعزيمة تمارين هي من صميم القيام بحق شهر رمضان وتحصيل المغفرة فيه، لأنه لا قوة للنفس ما لم تُعدّ العدة للطاعة، قال الله تعالى عن أسباب تخلّف القاعدين: ''ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين''. وكذلك رمضان وسائر الأعمار والطاعات، من لم يمرّن نفسه حرم خير رمضان وكان في آخره من المحرومين.
والمتأمل في حال سلفنا الذين تجافت جنوبهم عن المضاجع، وتناءت قلوبهم عن المطامع، يجد أن سر اجتهادهم حمل نفوسهم بالعزائم، فهذا ابن عمر رضي الله عنه كان إذا فاتته صلاة الجماعة صام يوما، وأحيا ليلة، وأعتق رقبة. وعن وكيع قال: كان الأعمش قريبا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة فما رأيته يقضي ركعة. وكان أبو مسلم الخولاني قد علّق سوطا في مسجد بيته يخوّف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي، فوالله لأزحفنّ بك زحفا، حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا دخلت الفترة (الفتور) تناول سوطه وضرب به ساقه، وقال: أنت أولى بالضرب من دابتي.
وكان يقول: أيظن أصحاب محمد أن يستأثروا به دوننا؟ كلا.. والله لنزاحمنّهم عليه زحاما حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالا. وعن أحمد بن حرب قال: يا عجبا لمن يعرف أن الجنة تزيّن فوقه والنار تسعّر تحته كيف ينام بينهما؟

هذه سيرة الأخيار في مجاهدة النفس ومغالبة الهوى، من استحضرها عند هبوب ريح الكسل وسأل الله حسن العمل قويت عزيمته وارتفعت همته.