أنشأها جوهر الصقلي، ووسعها بدر الجمالي



أسوار القاهرة وأبوابها


مجدي إبراهيم علي






حقيقة تسمية القاهرة بهذا الاسم أيام جوهر الصقلي.

أسوار القاهرة القديمة من روائع العمارة الحربية في الحضارة الإسلامية.

♦ ♦ ♦ ♦ ♦




في البدء كانت القاهرة حصنًا، وسيرتُها الأولى ليست سوى قصَّةِ قلعة هائلة، أقام فيها الخليفة الفاطمي مع حاشيتِه وجنودِه المَغاربة، بمعزِلٍ ومنأًى عن بقية أهل مصر.



وتبدأ قصة الحصن الملَكي الذي كان في الفسطاط - العاصمة الإسلامية الأولى - بنجاح القائد جوهر الصقلي في القضاء على آخر فُلول الإخشيديِّين في مصر، ورضوخ البلاد له بعد خطاب الأمان الذي أصدره؛ ليطمئِنَّ الناس.



فبعد دَحْره للإخشيديين دخل جوهرٌ الصقلِّيُّ مدينةَ الفسطاط مساء 17 شعبان عام 358 (6 يوليو 969م)، ثم غادرها شمالاً إلى موقع كان يعرف بالمناخ، حيث كانت تستريح القبائل بإبلها، وهو عبارة عن سَهْل رمْلِي، يَحُدُّه مِن الشرق جبلُ المُقطَّم، ومِن الغرب خليج أمير المؤمنين (فرعٌ مِن النِّيل كان يتصل بالبحر الأحمر)، وكان يمتَدُّ ليصل بين شمالي الفسطاط ومدينة هليوبوليس القديمة، وينتهي عند القِرْم (السويس) على البحر الأحمر... وكان هذا السهل خاليًا من البناء، إلا مِن بضعة مَبانٍ ملحَقةٍ ببساتينِ وأشجارِ الكافور، ودِيرٍ فَسِيح للنصارى اسمه دير العظام، وحصنٍ صغير يسمَّى "قصر الشوك".



وفي هذا الموضع شَرع جوهر الصقلي في تأسيس ما صار يُعرف بعد ذلك بالقاهرة، ففي ذات ليلة اختَطَّ جوهر المدينة، وحفر أساسَ قصر الخليفة، وحسَبَما يذكر بعض المؤَرِّخين أن المصريِّين باتوا، فلما أصبحوا حضروا للتهنئة، فوجدوه قد حَفر أساس القصر في الليل، وكان فيه زوراتٌ غيرُ معتدلة، فلما شاهد جوهرٌ ذلك لم يُعجبْه، ثم قال: "قد حُفر في ليلة مباركة وساعة مباركة"، ثم تركه على حاله.



وأخذت كل قبيلة من القبائل التي تألَّفَ منها جيشُه تخطِّط لنفسها حاراتٍ للإقامة بها، وكان غرض جوهر من إنشاء المدينة أن تكون معقلاً حصينًا؛ لِرَدِّ قرامطة البحرين عن الفسطاط ليقاتلهم مِن دونها؛ ولذا أحاط بها بسور من الطوب اللَّبِن، وجعل بداخل هذا السور معسكراتِ قواته، وقصرَ الخليفة، والمسجدَ الجامِعَ (الأَزْهر).



ثم حفر خندقًا عميقًا من الجهة الشمالية؛ ليمنع اقتحام جيش القرامطة للحصن، ولمصر مِن ورائه، وكانت المياهُ تَجري إليه مِن خليج أمير المؤمنين؛ ليصبح عائقًا مزدوجًا على المهاجمين، تجاوزه قبل الوصول إلى أسوار المدينة، التي كانت سميكة إلى حد أن تستوعب مرور فارسين بخيولهما وهما يسيران جنبا إلى جنب.



وقيل في سبب تسميتها بالقاهرة: أن جوهرًا الصقلي لما أراد بناءها أحضر المنجِّمين، وعرَّفهم أنه يريد عمارة بلدٍ خارج الفسطاط؛ ليقيم فيها هذا الجند، وطلب منهم اختيارَ طالع سعيد لوضع الأساس، وطالَعٍ لحفر السور، فجعلوا بدائرةٍ قوائمَ مِن خشب، وفيما بين كل قائمتين عُلِّقت أجراس، وقالوا للعمال: إذا تحرَّكت الأجراس فارموا ما بأيدكم من الطين والحجارة، فوقفوا ينتظرون قرار المنجمين بأن الوقت الملائم فلَكيًّا قد حان، وتصادف أن غرابًا وقع على حبل من الحبال التي فيها الأجراس، فتحرَّكت كلُّها، وظن العمَّال أنَّ المنجِّمين قد حركوها، فألقوا ما بأيديهم من الطين والحجارة، وبنَوْا، فصاح المنجِّمون: "لا، لا... القاهرة في الطالع" يَعنُون بذلك كوكبَ المرِّيخ، فتم البناء على غير الطالع الذي أراده جوهر الصقلي.





سور القاهرة الأول:

جاء سور القاهرة من الطوب اللبن على شكل مربَّع، طولُ كلِّ ضِلع مِن أضلاعه 1200 ياردة، وكانت مساحةُ الأرض التي ضمَّها السور المربَّعُ 340 فدانًا، منها نحو سبعين فدانًا بَنَى عليها جوهرٌ القصرَ الكبير، وخمسة وثلاثين للبستان الكافوري، ومِثلُهما للميادين، والباقي جرى توزيعه على الفرق العسكرية لتشييد حاراتها.





ويوضح التصميم الأصلي للقاهرة مدى تأثُّرِ جوهر بالتخطيط الروماني لبعض مدن شمال أفريقيا؛ حيث كان بالقاهرة شارعٌ يشُقُّها من الشمال إلى الجنوب (شارع "بين القصرين" حاليًّا) منتهيًا إلى طريق المواصلات للوجهين القبلي والبحري، مارًّا بالميادين الوسطى التي بها قصر الخليفة وخدَمُه وجُنده وحدائقه، ويقطع هذا الشارعَ واحدٌ آخرُ يمتد من الشرق إلى الغرب، وينتهي من ناحية الشرق إلى الجامع الأزهر.




وإذا كان السور القديم الذي كان يحيط بالقاهرة عند نشأتها قد اختفى الآن تمامًا وعفت آثاره، إلا أنه يمكن تحديد موقعه من الشمال، بذلك الخط الذي يمتد من جنوب جامع الحاكم بأمر الله إلى شارع بورسعيد، الذي كان آنذاك خليجَ أمير المؤمنين، ومن الجنوب بخط يقع شمالَ جامع المؤيد شيخ، ومن الجهة الشرقية بموقع باب البرقية والباب المحروق، المواجهَين لجبل المقطَّم، ومِن ناحية الغرب بموقع باب سعادة المُطِلِّ على خليج أمير المؤمنين (شارع بورسعيد حاليًّا) بعيدًا عنه بنحو ثلاثين مترا.



وقد تَرك سورُ جوهر الصقلي بصماتٍ قويةً على مُسَمَّيات أبواب القاهرة؛ حيث عُرفت تلك الأبواب التي شيَّدها بَدْرٌ الجماليُّ في منتصف القرن الخامس الهجري (القرن الحادي عشر الميلادي) بذات المسميات الأولى.



ففي السور الجنوبي شَيَّدت قبيلةُ زويلة المغربية بابين متجاورين، عُرِفا باسم بَابَيْ زُوَيلة، تمامًا كما هو الحال في المنصورية بالقيروان، التي عُرف أحد أبوابها باسم هذه القبيلة المغربية التي لعبت دورًا كبيرًا في تثبيت خلافة الفاطميين.



باب زويلة:

تقع هذه البوابة إلى الجنوب مِن حصن القاهرة الفاطمي، وتطل حاليًّا على شارعٍ تحت الرَّبْع، ويَذْكر المقْرِيزيُّ والقَلْقَشَنْدِ يُّ أنَّ البوابة القديمة التي أنشأها جوهر الصقلي كانت قائمةً حتى عصرهما، بالقرب من مسجد سام بن نوح، وأن البوابة الأولى كانت بفتحتين متجاورتين، فلما جاء المعِزُّ لدين الله إلى القاهرة بعد أن أسَّسها جوهر، دَخل مِن الفتحة اليُمنى، فتَفاءل الناس بها، وتُرِكت اليسرى لخروج الجنازات.



ولما أعاد بدر الجمالي بناء الأسوار جعلها من فتحة واحدة، وتشْبِه هذه البوابةُ بوابةَ الفتوح، فتتكون من برجين مستطيلين، حَوَافُّها على هيئة أنصاف دوائر، والبرجان مُصْمَتان إلى ثلثيهما، ويعلو كلَّ برج غرفةٌ مخصصَّةٌ للجنود والمدافعين عن الحصن، وقد أُدخل على هذه البوابة تعديلٌ تمَّ في عصر المماليك الجراكسة، زمنَ السلطان المؤيد شيخ المحمودي، الذي استغل البرجين في عمل قاعدتين لمئذنتي مسجده الجامع.



والعنصر الجديد في هذه البوابة هو المقعد الذي وضع فوق عقد فتحة الباب، وكان المقعدُ مخصَّصًا للمراقبة العسكرية، ولما ضُمت القاهرة إلى العواصم بسور واحد، استغلَّ المقعد لمراقبة الأسواق وخروج المحمل، ويؤدي الباب إلى دركاة مربَّعة بفتح نافذتين بذيل البرج الشمالي متصلان بمسجده الجامع.



وهذه البوابة لها شهرتها في التاريخ المملوكي والعثماني؛ حيث شُنِق عليها الكثيرُ مِن الأمراء وكبار رجال الدولة، ولم يتوقَّف استخدامُها لتعليق رؤوس المشنوقين عليها إلا في عصر الخديوي إسماعيل.



سور بدر الجمالي:

السور الثاني أنشأه أمير الجيوش بدر الجمالي مِن الحجر، بعد أن تهدَّم سور جوهر الصقلي، وجاء بناء هذا السور بعد أن وسَّع مساحة القاهرة بمقدار 150 مترًا إلى شمال السور القديم، وحوالي ثلاثين مترًا إلى الشرق وإلى الجنوب، وأقام بدر الجمالي أسوارَه وبواباتِها خلف أسوار وأبواب جوهر الصقلي وموازيةً لها، وتم البناء من الحجر المنحوت، مصقول السطح، المثبَّت في صفوف منتظمة، وما زال هذا السور بأبوابه قائمًا حتى اليوم يشهد بعظمة العمارة الإسلامية في القاهرة الفاطمية.



وبلغ عدد هذه الأبواب ثمانيةً: باب الفتوح، وباب النصر، وفي الجهة الشرقية باب البرقية وباب القراطين، وفي الجهة الغربية باب سعادة وباب القنطرة، وفي الجهة الجنوبية باب الفرج وباب زويلة.



شُيِّد هذا السور في أيام الناصر صلاح الدين الأيوبي، الذي حرص على تحصين القاهرة، فبَنَى قلعة صلاح الدين، وأمر بهاء الدين قراقوش ببناء أسوار القاهرة، وذلك عام 566 هـ، ويقال: إنه سخَّر أعدادًا كثيرةً مِن أَسْرى الفِرَنْجة في بناء القلعة والأسوار، وقد أقام قراقوش سورًا دائريًّا على القاهرة وقلعة الجبل والفسطاط، وجعل فيه عدة أبواب، منها: باب البحر، وباب الشعرية، والباب المحروق.



وقد كَشفت حفائرُ الفسطاط - التي بدأت عام 1912 وانتهت عام 1920 - عن القسم الشرقي القائم من سور صلاح الدين بين القلعة وحدود الفسطاط من الجهة الجنوبية.



أبواب القاهرة القديمة:

تُعَدُّ الأبواب التي ظهرت في أسوار القاهرة خلالَ العصور الثلاثة التي نشأت فيها - من روائع العمارة الحربية في الحضارة الإسلامية؛ لِمَا تميَّز به مِن شموخ وروعة وجمال في الفن المعماري والتصميم، ففي الأسوار التي أقامها جوهر الصقلي وجددها بدر الجمالي، اشتهرت بمجموعة مِن الأبواب التي تمثِّل العمارة الحربية في العصر الفاطمي، وتعبِّر عن الهيبة والعظمة لذلك العصر، منها:

باب النصر: تقع هذه البوابة بالجهة الشمالية الشرقية من سور الحصن، تتكوَّن مِن برجين مربعين، بارزين عن سمت الجدران، مُصْمَتين إلى ثلثيهما، يعلو كلَّ برج حجرةٌ مربَّعةٌ، مغطَّاةٌ بقبَّةٍ ضَحْلة مِن الحجر، مُقَامة على مثلَّثاتٍ كروية، وبكل حجرة مجموعة من المزاغل لإطلاق السهام.



ويُتَوصَّل إلى الطابق العلوي لهذين البرجين مِن سُلَّم خلفي داخل الحصن، والسلم مُكَوَّن من عمود حجري، يلتف عليه دَرَجٌ بشكل حلزونِيٍّ، وبسقف السلم حجري على هيئة قَبْوٍ صاعد، وبين هذين البرجين بداية ضخمة يعقودة، ترتَدُّ عن بروز البرجين بمقدار 4.54 متر، وللبوابة فتحة مستطيلة ارتفاعها 6.50 واتساعها 4.70 متر، بأعلى هذه الفتحة عِقْدٌ مستقيم من صنجات معشقة، يعلوها عقد عاتق، ثم عقد مقوَّس من صنجات معشقة أيضًا، يلي هذه المنطقةَ لوحةٌ عليها نَصُّ تأسيسٍ بالخط الكوفي.



وحليق واجهة البوابة بمجموعة من الزخارف البارزة، ملائمةٍ لطبيعة البناء العسكرية، فزُخرفت كوشات عقد البوابة بدِرْع وسيف.



مما يُؤْسَف له أنَّ هذه البوابةَ وغيرَها استُخدمت في عهد الحملة الفرنسية، وأَجرى قَوَّادُ الحملة عليها بعضَ التعديلات المعمارية، خاصة في الغرف العلوية؛ بتحويل فتحات المزاغل الضيقة إلى فتحات للبنادق أو لفوهات المدافع.



باب الفتوح: تقع هذه البوابة بالجهة الشمالية الغربية من السور الشمالي الذي جدده بدر الجمالي سنة 480 هـ، ويُذكر المقْريزي أن البوابة القديمة التي أنشأها جوهر كانت قائمةً حتى عهده، وأنه تخلَّف منها بقايا أَقْبِيَةٍ ودِعَامات، وبعض الكتابات الكوفية، وإنها كانت على رأس حارة بهاء الدين إلى الجنوب من جامع الحاكم، ومن المعروف أن هذا الجامع بُنِيَ خارج أسوار جوهر الصقلي؛ لأن القاهرة وقت بنائه لم يكن بها مساحات كافية تستوعب جامعًا ضخمًا كهذا الذي أعده صاحبه ليكون دارًا للحكمة، وحينما جدد بدر الجمالي أسوار القاهرة أدخل فيها الجامع الحاكمي.



وتتكون بوابة الفتوح من برجين كبيرين بارزين مستطيلين، لهما واجهة مستديرة، وهما مصمتان إلى فتحات المزاغل، وترتد فتحة الباب إلى الخلف بين البرجين، وهي على هيئة باب معقود بعقد نصف دائري مزخرف بأشكال معينة بها طلاسم سحرية، وإلى الخلف من عقد البوابة عقد آخر، بينهما سقاطة لإلقاء الزيوت المغلية والمواد الكاوية على مَن يقتحم البوابة من الأعداء، كما يوجد فوق البوابة مباشرة شرفة صغيرة، مكوَّنة من خمسة عقود مهمتها المراقبة.



وتعَدُّ بوابة الفتوح آيةً في الجمال الزخرفي؛ حيث حليَتِ الأبراج من أسفلها بثلاث حشوات معقودة، واحدة بالواجهة واثنتان جانبيتان، وهذه الحشوات مكونة من صنجات متتالية تشبه الوسائد، وتفضي بوابة الفتوح إلى دركاة مربعة، على جانبيها دخلات لجنود الحراسة، ويسقف الدركاة قبة ضحلة مقامة على مثلثات كروية من الحجر.



وقد أُنشِئَت في عصر الدولة الأيوبية مجموعةُ أبواب، مرتبطة بسور القاهرة الذي بناه صلاح الدين، ومنها:

أ- باب الشعرية: أزيل سنة 1884؛ لِخَلل في بنائه.

ب- الباب الأحمر في القلعة: يعرف ببرج المقطم، ويُشْرِف على باب المقطَّم.

جـ- باب البحر: أنشأه صلاح الدين في السور الشرقي المشْرِف على الصحراء، ولا تزال آثاره باقيةً حتى اليوم.

د- باب الوزير: يقع بين الباب المحروق وقلعة الجبل، وما زال موجودًا حتى الآن.

هـ- الباب المدرج: أقدم أبواب قلعة الجبل، أنشأه صلاح الدين سنة 579، ولا يزال موجودًا على يسار الداخل إلى القلعة.

و- باب السلسلة: يطل على ميدان صلاح الدين في القلعة، ويعرف بباب العزب.

ز- باب السر: خصص لأكابر الأمراء وخواص الدولة، ويعرف الآن باسم الباب الوسطاني.



ولا شك أن الآثار المتبقية من هذه الأبواب القديمة حتى اليوم، تدل على روعة تصميم وشموخ العمارة الإسلامية.