تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان

    النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان (1)


    د. عبدالحكيم الأنيس





    رمضان الأول في السنة الثانية


    قال الذَّهبي في "المغازي" من (تاريخ الإسلام) في أحداث السنة الثانية: "وفي رمضان فرَض الله صومَ رمضان، ونسخ فريضة يوم عاشوراء"[1].

    وقال ابن كثير: "قال ابن جرير: وفي هذه السنة فُرض - فيما ذكر - صيام شهر رمضان، وقد قيل: إنه فُرض في شعبان منها"[2].

    وقال الأستاذ العُمري: "أمَّا الصوم فقد كانت فرضيته يوم الاثنين لليليتين خلَتَا من شعبان من السنة الثانية من الهجرة"[3].
    ••••


    وعن أحوال الصيام يحدثنا معاذ بن جبل فيقول:
    "أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال... وأمَّا أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينةَ فجعل يصوم من كل شهر ثلاثةَ أيام، وصام عاشوراء.

    1- ثم إن الله فرض عليه الصيام، وأنزل الله تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ï´¾... إلى قوله تعالى: ï´؟ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ï´¾ [البقرة: 183، 184]، فكان مَنْ شاء صام، ومن شاء أطعم مسكينًا فأجزأ ذلك عنه.

    2- ثم إن الله عزَّ وجلَّ أنزل الآيةَ الأخرى: ï´؟ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ï´¾... إلى قوله: ï´؟ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ï´¾ [البقرة: 185]، فأثبت الله صيامَه على المقيم الصَّحيح، ورخَّص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام[4]، فهذان حالان.

    3- قال [معاذ]: وكانوا يأكلون ويَشربون ويأتون النِّساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثم إن رجلًا من الأنصار يقال له: (صِرْمَة) كان يعمل صائمًا حتى أمسى، فجاء إلى أهله فصلى العشاءَ ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح، فأصبح صائمًا، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهَد جَهدًا شديدًا، فقال: ((ما لي أراك قد جَهدت جهدًا شديدًا؟))، قال: يا رسول الله، إنِّي عملتُ أمس، فجئتُ حين جئت فألقيتُ نفسي فنمت، فأصبحتُ حين أصبحتُ صائمًا.

    قال: وكان عمر قد أصاب من النِّساء بعدما نام، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ï´؟ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ï´¾... إلى قوله: ï´؟ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ï´¾ [البقرة: 187]"[5].

    إذًا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ في شهر ربيع الأول، وجعل يصوم عاشوراء وثلاثةَ أيام من كل شهر - والراجح أنَّ صيام عاشوراء كان فرضًا، وأمَّا الأيام الثلاثة فهي على سبيل التطوُّع، ولم يثبت فَرض صيامٍ قبل رمضان غير عاشوراء - إلى أن دخلَت السنة الثانية (وتبدأ عدَّتها من محرم) ففُرض صيام رمضان، وقد مرَّ صوم رمضان بهذه الأحوال الثلاثة التي فصَّلها معاذ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون[6]، إلا أنَّنا لا ندري متى تمَّ إيجاب الصيام على الجميع ونُسخ التخيير، كما أننا لا ندري متى نزلَت الآية: ï´؟ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ... ï´¾، ترى هل كان هذان الحالان في رمضان الأول أم في الثاني؟

    وهُناك رواية أخرجها الطبري من طريق العَوفي - وهي طريق ضعيفة - نصها: "إنَّ عمر بينما هو نائم إذ سوَّلَت له نفسه فأتى أهلَه، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه، ثم أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعتذر إلى الله، وإليك من نفسي، فإنها زيَّنت لي، فهل تجد لي من رخصة؟ فقال: ((لم تكن بذلك حقيقًا يا عمر))، فلما بلغ بيته أرسل إليه، فأتاه، فعذره في آية من القرآن، وأمر الله رسولَه أن يضعها في المائة الوسطى من البقرة"[7].

    وتشير هذه الرواية - ورواية أخرى عن البراء[8] - إلى التراخي في نزول هذه الآية.

    وعلى أية حالٍ فهي رخصة لِمن امتنع عن الطَّعام فجَهد وهو صِرْمَة - وفي اسمه خلاف كثير[9] - ولمن قارب زوجه وهو عمر وغيره.
    ••••


    وقد جاء في الآية: ï´؟ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ï´¾ [البقرة: 187]، ولفظ: ï´؟ مِنَ الْفَجْرِ ï´¾ نزَل وحده بعد الآية، فقد روى الشيخان عن سهل بن سعد قال: أُنزلت: ï´؟ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ï´¾، ولم ينزل: ï´؟ مِنَ الْفَجْرِ ï´¾، وكان رجال إذا أرادوا الصومَ ربط أحدهم في رجليه الخيطَ الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبيَّن له رؤيتهما، فأنزل الله بعده: ï´؟ مِنَ الْفَجْرِ ï´¾، فعلِموا أنَّما يعني الليل من النهار[10].

    قال ابن عطية: "رُوي أنه كان بين طَرفي المدَّة عام من رمضان إلى رمضان، تأخر البيان إلى وقت الحاجة"[11].

    وقال القرطبي المحدِّث (ت: 656 هـ): "روي أنه كان بينهما عام"[12]، قال ابن حجر: "ولم يبين الاثنانِ مستندًا"[13].
    ••••


    وفي رمضان هذا اعتكف النَّبي صلى الله عليه وسلم العشرَ الأول:
    روى الطبراني بسنَد حسن عن أمِّ سلمة قالت: اعتكف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أوَّلَ سنة: العشرَ الأول، ثم اعتكف العشرَ الوسطى، ثمَّ العشر الأواخر، وقال: ((إنِّي رأيتُ ليلة القدر فيها، فأُنسيتها))، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيهنَّ حتى توفي[14].
    ••••


    وفي رمضان هذا كانت وقعة بدر الكبرى في (17) منه، وأحداثها مشهورة معلومة[15].
    ••••


    وفيه توفيَت رقيَّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان يُمَرِّضُها، وخلَّفه الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك فلم يشهد بدرًا:
    قال ابن حجر: "ذكر السرَّاج في (تاريخه) من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: تخلَّف عثمان وأسامة بن زيد عن بَدر، فبينا هم يَدفنون رقيَّةَ سمع عثمان تكبيرًا، فقال: يا أسامة ما هذا؟ فنظروا فإذا زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء بشيرًا بقتل المشركين يوم بدر"[16].

    وقال: "أخرج ابن سعد من طريق علي بن زيد عن يوسف بن مهران[17]، عن ابن عباس قال: لما ماتَت رقيَّة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحقي بسلفنا عثمان بن مظعون))، فبكت النساء على رقية، فجاء عمر بن الخطاب فجعل يضربهنَّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مهما يكن من العين ومن القلب فمِن اللهِ والرحمةِ، ومهما يكن من اليد واللسان فمِن الشيطان))، فقعدَتْ فاطمة على شفير القبر تَبكي، فجعل يَمسح عن عينها بطرف ثوبه.

    قال الواقديُّ: هذا وهم، ولعلَّها غيرها من بناته؛ لأن الثابت أن رقيَّة ماتت ببدر، أو يحمل على أنه أتى قبرها بعد أن جاء من بدر"[18].
    ••••


    وفيه توفِّي سعد بن مالك الخزرجي الساعدي والد سهل بن سعد، وكان تجهَّز إلى بدر فمات قبلها في رمضان، قال الذَّهبي: "فيقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب له بسهمه، وردَّه على ورثته"[19].
    ••••


    وفيه كانت سرية عمير بن عدي الخطمي:
    قال الذهبي: "ذكر الواقدي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه لخمسٍ بَقين من رمضان، إلى عصماء بنت مروان، من بني أميَّة بن زيد، كانت تَعيب الإسلام، وتحرِّض على النَّبي صلى الله عليه وسلم، وتقول الشِّعر، فجاءها عُمير بالليل فقتَلها غيلة"[20].

    وانظر تفصيلَ الخبر في (المغازي)؛ للواقدي[21].
    ••••


    وفي آخره فُرضَت صدقة الفطرة؛ كما قال الذهبي[22].

    وقال ابن كثير: "قال ابن جرير: وفي هذه السنة أمر الناس بزكاة الفطر، وقد قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناسَ قبل الفطر بيوم - أو يومين - وأمرهم بذلك"[23].

    وعن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوم شهر رمضان معلَّق بين السماء والأرض، ولا يُرفع إلا بزكاة الفطر))[24].
    ••••


    وفي أول شوال من هذه السنة "صلَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم صلاةَ العيد، وخرج بالناس إلى المصلَّى، فكان أول صلاة عيد صلَّاها، وخرجوا بين يديه بالحربة - وكانت للزبير وهبها له النَّجاشي - فكانت تُحْمَلُ بين يدَي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأعياد"[25].



    [1] (2/ 126).

    [2] البداية والنهاية (3 / 254)، وتاريخ الطبري (2/ 417).

    [3] السيرة النبوية الصحيحة (2/ 626، 627).

    [4] قال ابن كثير في التفسير (1/ 215): "حاصل الأمر: أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه...".

    [5] مسند أحمد (5/ 246، 247)، وسنن أبي داود، كتاب الصلاة (1/ 140)، والمستدرك (2/ 274)، وانظر: الدر المنثور (1/ 184).

    [6] في كتاب "أيام حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم" ص (18، 19) بحث عن أوَّل يوم من رمضان الأول، وعدد أيامه، ويوم العيد؛ فانظره.

    [7] جامع البيان (3/ 497، 498)، وانظر: الدر المنثور (1/ 206).

    [8] انظر: الدر المنثور (1/ 205).

    [9] ينظر: العجاب في بيان الأسباب (1/ 445، 446).

    [10] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب قول الله تعالى: ï´؟ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا... ï´¾ (4/ 132)، والتفسير (8/ 182، 183): باب ï´؟ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا... ï´¾؛ والعزو دائمًا إلى البخاري مع فتح الباري فليعلم - وصحيح مسلم، كتاب الصيام (2/ 767).

    [11] المحرر الوجيز (3/ 126).

    [12] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/ 149، 150).

    [13] فتح الباري (4/ 134).

    [14] المعجم الكبير (23/ 412)، ومجمع الزوائد (3/ 173)، والسيرة الشامية (8/ 441).

    [15] انظر: تاريخ الطبري (2/ 418 - 479).

    [16] الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 305).

    [17] علي ضعيف، ويوسف ليِّن الحديث، كما في التقريب ص (468، 708).

    [18] الإصابة (4/ 304).

    [19] المغازي (2/ 142).

    [20] المغازي (2/ 136).

    [21] (1/ 172 - 174).


    [22] المغازي (2/ 126)، وانظر بعض الأحاديث عن زكاة الفطر في: بلوغ المرام لابن حجر ص (108)، برقم (503 - 505)، والترغيب والترهيب (2/ 149، 150).

    [23] البداية والنهاية (3/ 255، 256)، وتاريخ الطبري (2/ 418).

    [24] رواه أبو حفص ابن شاهين في "فضائل رمضان"، وقال: حديث غريب جيِّد الإسناد؛ الترغيب والترهيب (2/ 150).

    [25] البداية والنهاية (3/ 256)، وانظر: تاريخ الطبري (2/ 418).





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان

    النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان (2)



    د. عبدالحكيم الأنيس





    رمضان الثاني في السنة الثالثة












    قضاه النَّبي صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ كما يدلُّ عليه قول ابن إسحاق: "وكانت إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه من نجران، جمادى الآخرة ورجبًا وشعبان وشهر رمضان، وغَزته قريش غزوة أُحُد في شوال سنة ثلاث"[1].



    ♦ ♦ ♦







    وفيه ولد الحسَن:



    قال الذهبي: "وفي رمضان ولد السيد أبو محمد الحسن بن علي رضي الله عنهما"[2]، وولادته في نصف رمضان[3].



    ♦ ♦ ♦







    وفيه تزوَّج النَّبي صلى الله عليه وسلم بحفصة بنت عمر[4].







    وتزوَّج زينب بنت خزيمة:



    قال الذهبي في أحداث السنة الرابعة: "وفيها توفِّيَت أمُّ المؤمنين زينب بنت خزيمة... وكانت تسمَّى أم المساكين؛ لإحسانها إليهم، تزوَّجَت أولًا بالطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبدمناف، ثمَّ طلَّقها فتزوَّجها أخوه عبيدة بن الحارث، فاستشهد يوم بدر، ثمَّ تزوَّجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنةَ ثلاث، ومكثَت عنده على الصحيح ثمانيةَ أشهر، وقيل: كانت وفاتها في آخر ربيع الآخر، وصلَّى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ودَفَنها بالبقيع، ولها نحو ثلاثين سنة رضي الله عنها"[5].











    [1] سيرة ابن هشام (2/ 59، 60).




    [2] المغازي (2/ 164).




    [3] أزمنة التاريخ الإسلامي صـ 18.




    [4] المغازي (2/ 164)، وانظر عنها: الإصابة (4/ 273).




    [5] المغازي (2/ 255)، وانظر عنها: الإصابة (4/ 315).


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان

    النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان (3)



    د. عبدالحكيم الأنيس





    رمضان الثالث في السنة الرابعة








    يجب البحث عن أحداث رمضان هذا، ولعلَّ فيه كان ما يرويه البخاري عن أبي الدرداء قال: "خرَجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضَع الرجل يدَه على رأسه من شدَّة الحر، وما فينا صائم، إلَّا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة"[1].







    وعند مسلم من طريق سعيد بن عبدالعزيز أيضًا: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، في حرٍّ شديد"[2].







    قلتُ هذا لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة والخامسة والسادسة والسابعة كان يَقضي رمضان في المدينة، ولا يمكن حَمل الحديث على بَدر؛ لأنَّ أبا الدرداء لم يكن أسلَم، ولا على الفتح؛ لأنَّ ابن رواحة استشهد في مؤتة قبله[3].







    على أن من المشهور أن سفَر النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان منحصر في بدر والفتح، فالله أعلم.



    ♦♦♦








    هذا، وقد صام النبي صلى الله عليه وسلم رمضان هذا وقد أصبح له حفيدان من ابنته السيدة فاطمة: الحسَن والحسين؛ إذ ولِد الحُسين في شعبان من هذه السنة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.








    [1] صحيح البخاري، كتاب الصوم - ولم يذكر الباب - (4/ 182).




    [2] صحيح مسلم، كتاب الصيام: باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (1/ 790).




    [3] انظر: فتح الباري (4/ 182، 183).




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان

    النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان (4)


    رمضان الرابع في السنة الخامسة



    د. عبدالحكيم الأنيس








    عاد النَّبي صلى الله عليه وسلم في بدايته إلى المدينة، وكانت فيه مِحنة الإفك:



    قال الأستاذ العمري: "وفي يوم الاثنين لليلتين خلَتا من شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بجيشه من المدينة نحو ديار بَني المصطلق، وهذا هو الرَّاجح، وهو قول موسى بن عقبة الصَّحيح، حكاه عن الزهري وعن عروة، وتابعه أبو معشر السندي والواقدي وابن سعد، ومن المتأخِّرين ابن القيم والذهبي، أمَّا ابن إسحاق فذهب إلى أنَّها في شعبان سنة ست، ويُعارض ذلك ما في صحيحي البخاري ومسلم من اشتراك سعد بن معاذ في غزوة بني المصطلق مع استشهاده في غزوة بني قُريظة عقب الخندق مباشرة، فلا يمكن أن تكون غزوة بني المصطلق إلَّا قبل الخندق"[1].







    ثمَّ قال: "وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لهلال رمضان بعد أن غاب عنها شهرًا إلَّا ليلتين"، وأحال على مغازي الواقدي[2].







    وفي هذه الغزوة - التي اتَّفق أهل المغازي على وقوعها في شعبان، وإن اختلفوا في السنة[3] - بدأت حادثة الإفك، واستمرَّت - إذًا - رمضان كله، ويؤخَذ من الروايات أن البراءة نزلت بعد شهر، أو أكثر، أي: في شوَّال، وحديث المِحنة مشهور، وهو عند البخاري وغيره مطولًا من حديث عائشة رضي الله عنها، ولم أجد فيه ما يشير إلى رمضان[4]!







    قال العمري: "وما إن رجَع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى جاءته جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار تَستعينه في عتق نفسها من ثابت بن قَيس بن الشماس الذي وقعَت في سهمه، وكانت قد كاتبَتْه، وقد ذَكَرَتْ للرسول مكانها في قومها، فقضى عنها كتابَها وتزوَّجها..."[5].







    وإذا علِمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رجع إلى المدينة لهلال رمضان خلصنا إلى أنَّ مجيء جويرية - حسب ظاهر هذا الكلام - كان في ذلك الحين، وكذلك زواجه منها، ولكن يعارض هذا أنَّ البيت النبوي كان مشغولًا بمِحنة الإفك، فلا بدَّ - والله أعلم - أن يكون الزواج قبل الرجوع، أو بعده بوقتٍ ما.







    ويُرَجِّح الأولَ - أي كان قبل الرجوع - ما جاء عن جويرية: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على المريسيع، فأسمعُ أبي يقول: أتانا ما لا قِبَلَ لنا به، قالت: وكنت أرى من الناس والخيل والعدد ما لا أصِف من الكثرة، فلمَّا أن أسلمتُ وتزوَّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعنا جعلتُ أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنتُ أرى، فعرفتُ أنه رعب من الله..."[6]، وكذلك يرجِّح هذا سياقُ الخبر عن السيدة عائشة[7].



    ♦♦♦








    ولعلَّه في رمضان هذا حَوَّل النبي صلى الله عليه وسلم اعتكافَه إلى العشر الأواخر:



    روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عامًا، حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين - وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه - قال: ((مَنْ كان اعتكف معي فليعتكف العشرَ الأواخر، فقد أُرِيتُ هذه الليلة ثم أُنسِيتُها، وقد رأيتني أَسجد في ماء وطين من صَبيحتها، فالتمِسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كلِّ وِتر))، فمطرت السَّماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد، فبصرت عيناي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على جَبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين"[8].







    وجاء عن أم سلمة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتَكف في أول سنة العشر الأُوَل، ثمَّ اعتكف العشر الوسطى، ثم اعتكف العشر الأواخر، وقال: ((إني رأيت ليلةَ القدر فيها، فأنسيتُها))، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعتكف فيهنَّ حتى توفي صلى الله عليه وسلم"[9].







    ومن مجموع هذين الحديثين قد نخرج بما يلي:



    اعتكف النَّبي العشر الأول مرةً واحدة.







    اعتكف العشرَ الأوسط أكثر من مرَّة بحيث عُرف ذلك عنه، يدلُّ على هذا قول أبي سعيد الخدري: كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، وأقل ما تعرف به العادة ثلاث مرات، فيكون اعتكف في رمضان الثاني والثالث والرابع في العشر الأوسط، وفي الرابع هذا لعله استمرَّ معتكفًا العشر الأواخر.







    كان النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان هذا محزونًا لِمحنة الإفك، وقد يدلُّ هذا على انصرافه إلى ربِّه واعتزاله الناس، وتسلية الله تعالى له بليلة القدر[10]، والله تعالى أعلم.












    [1] السيرة النبوية الصحيحة (2/ 406).




    [2] المصدر السابق (2/ 408)، وانظر: "المغازي"؛ للذهبي (2/ 349).




    [3] انظر: "مرويات غزوة بني المصطلق"؛ للشيخ إبراهيم قريبي ص (89 - 102).




    [4] ورجعت كذلك إلى جزء "حديث الإفك"؛ للحافظ عبدالغني المقدسي (ت: 600 هـ)، وقد أورد فيه عدَّةَ روايات في ذلك، وإلى "مرويات غزوة بني المصطلق"، ولم أجد ما يشير إلى رمضان أيضًا!




    [5] السيرة النبوية الصحيحة (2/ 413).




    [6] "المغازي"؛ للذهبي (2/ 259، 260) عن مغازي الواقدي (1/ 408).




    [7] ينظر في: "المغازي"؛ للذهبي (2/ 263 - 264).




    [8] صحيح البخاري، كتاب الاعتكاف: باب الاعتكاف في العشر الأواخر... (4/ 271).




    [9] رواه الطبراني في المعجم الكبير (23/ 412)، وإسناده حسن؛ مجمع الزوائد (3/ 173)، والسيرة الشامية (8/ 441)، وقد مرَّ.




    [10] وعن هذه الليلة انظر: زاد المسير صـ (1570 - 1573).





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان

    النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان (5)


    د. عبدالحكيم الأنيس

    رمضان الخامس في السنة السادسة










    قضاه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، ولم يصح خروجه فيه إلى الحديبية:



    قال ابن إسحاق: "ثم أقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة شهرَ رمضان وشوالًا، وخرج في ذي القعدة معتمرًا، لا يريد حربًا"[1].







    وقال الذهبي في قصَّة غزوة الحديبية: "خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة ستٍّ؛ قاله نافع وقتادة والزهري وابن إسحاق وغيرهم وعروة في مغازيه، رواية أبي الأسود.







    وتفرَّد علي بن مسهر عن هشام عن أبيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرَج إلى الحديبية في رمضان، وكانت الحديبية في شوال..."[2].



    • • •








    ومن المشهور أنه عليه الصلاة والسلام استسقى لأمَّته أكثر من مرَّة، ومن ذلك استسقاؤه في مصلَّى العيد:



    روى الإمام البخاري عن عبدالله بن زيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلَّى فاستسقى، فاستقبل القبلةَ، وقلب رداءَه، فصلَّى ركعتين[3].



    قال ابن حجر: "أفاد ابن حبَّان أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المصلَّى للاستسقاء كان في [أول] شهر رمضان سنة ستٍّ من الهجرة"[4].



    • • •








    وفي رمضان هذا بَعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدَ بن حارثة رضي الله عنه في سريَّة إلى وادي القرى[5].



    • • •








    وفيه كانت سريَّة عبدالله بن عتيك رضي الله عنه إلى سلَّام بن أبي الحقيق؛ على قول ابن سعد[6].



    • • •








    وكذلك سريَّة عبدالله بن رواحة رضي الله عنه إلى خيبر[7].








    [1] سيرة ابن هشام (2/ 308).




    [2] المغازي (2/ 363).




    [3] البخاري: كتاب الاستسقاء (2/ 497، 498)، ثم قال أبو عبدالله البخاري: "كان ابن عيينة يقول: هو صاحب الأذان، ولكنه وهم؛ لأنَّ هذا عبدالله بن زيد بن عاصم المازني، مازن الأنصار".




    [4] الفتح (2/ 499)، و"السيرة النبوية"؛ لابن حبان صـ (201)، وما بين المعقوفتين منه.




    [5] انظر التفصيل في: السيرة الشامية (6/ 99، 100).




    [6] انظر: السيرة الشامية (6/ 102 - 105).




    [7] انظر: السيرة الشامية (6/ 111، 112).









    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان

    النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان (6)


    د. عبدالحكيم الأنيس






    رمضان السادس في السنة السابعة



    قال ابن إسحاق: "فلمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من خيبر أقام بها شهري ربيع وجماديين ورجبًا وشعبان ورمضان وشوالًا، يبعث فيما بين ذلك من غزوه وسراياه صلى الله عليه وسلم، ثم خرج في ذي القعدة في الشهر الذي صدَّه فيه المشركون معتمِرًا عمرة القضاء، مكان عمرته التي صدُّوه عنها"[1].
    ♦♦♦


    ورمضان السادس هذا أول رمضان صامه أبو هريرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    وقد روى البخاري عنه[2] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
    1- ((الصِّيامُ جُنَّة، فلا يرفث ولا يَجهل، وإن امرؤ قاتَلَه أو شاتَمَه فليقل: إنِّي صائم - مرَّتين - والذي نفسي بيده، لخلوف فَمِ الصَّائم أطيب عند الله من ريح المِسك، يترك طعامَه وشرابه وشهوتَه من أجلي[3]، الصيام لي وأنا أجزي به[4]، والحسنة بعشر أمثالها))[5].

    وفي لفظ آخر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله: كلُّ عمَل ابن آدم له، إلَّا الصيام فإنَّه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب؛ فإن سابَّه أحَد أو قاتله فليقل: إنِّي امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصَّائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرِح، وإذا لقي ربَّه فرح بصومه))[6].

    فلعلَّ أبا هريرة سمعه في هذه السنة أو فيما بعدها.

    2- وكذلك روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا جاء رمضان فتِّحت أبواب الجنَّة))[7].

    3- وقال: ((إذا دخَل شهر رمضان فتِّحت أبواب السماء، وغلِّقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين))[8]، وزاد الترمذي وابن ماجه والحاكم: ((ونادى منادٍ: يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشر أقصِر))[9].

    4- وكذلك روى عنه أنه قال: ((مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، ومَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه))[10].

    5- وقال: قال نبيَّ الله وهو يبشِّر أصحابه: ((قد جاءكم رمضان، شَهر مبارَك، افترض عليكم صيامه، تُفتح فيه أبواب الجنَّة، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه الشياطين))[11].

    6- وقال: ((مَنْ لم يدَعْ قولَ الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدَع طعامَه وشرابه))[12].

    7- وقال: ((لا يتقدمنَّ أحدُكم رمضانَ بصوم يوم أو يومين، إلَّا أَن يكون رجل كان يصوم صومَه فليصم ذلك اليوم))[13].

    8- وقال: ((إذا نَسي فأكل وشرب فليُتِمَّ صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه))[14].

    9- وقال: بينما نحن جلوس عند النَّبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكتُ، قال: ((ما لك؟))، قال: وقعتُ على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تجِد رقبةً تعتقها؟))، قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟))، قال: لا، قال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟))، قال: لا، قال: فمكث النَّبي صلى الله عليه وسلم، فبينما نحن على ذلك أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فيها تمر - والعرق: الـمِكْتَل - قال: ((أين السائل؟))، فقال: أنا، قال: ((خُذْ هذا فتصدَّق به))، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسولَ الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرَّتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدَت أنيابه ثم قال: ((أطعمه أهلَك))[15].

    10- وقال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصَّوم، فقال له رجل من المسلمين: إنَّك تواصل يا رسول الله؟ قال: ((وأيكم مثلي؟ إني أبيتُ يطعمني ربي ويسقين))، فلمَّا أبَوا أن يَنتهوا عن الوصال واصَل بهم يومًا ثم يومًا، ثمَّ رأوا الهلالَ فقال: ((لو تأخَّر لزدتُكم))، كالتنكيل لهم حين أبَوا أن يَنتهوا"، وفي رواية أخرى: ((فاكلفوا من العمل ما تطيقون))[16].

    11- وقال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((شهر الصبر، وثلاثة أيام من كلِّ شهر، صوم الدَّهر))[17].

    12- وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اغزوا تغنموا، وصوموا تصحُّوا، وسافروا تستغنوا))[18].

    13- وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ عمل ابن آدم يُضاعَف، الحسَنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف؛ قال الله عزَّ وجلَّ: إلَّا الصَّوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدَع شهوته وطعامه من أجلي...))[19].

    زاد ابن ماجه بعد قوله: ((سبعمائة ضعف)): ((إلى ما شاء الله))[20].

    14- وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عزَّ وجلَّ: إن أحبَّ عبادي إلى أعجلهم فطرًا))[21].
    ♦♦♦


    وفي هذه السنة تزوَّج النَّبي صلى الله عليه وسلم صفيَّةَ بنت حُيي (من يهود خيبر):
    وقد روى البخاري عن علي بن الحسين رضي الله عنهما، أنَّ صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرَته أنها جاءت إلى رسول الله تزوره في اعتِكافه في العشر الأواخر من رمضان، فتحدَّثَت عنده ساعةً ثم قامت تنقلِب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يَقلبها[22]، حتى إذا بلغَت بابَ المسجد عند باب أم سلمة مرَّ رجلان من الأنصار فسلَّما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ((على رِسلكما، إنما هي صفيَّة بنت حُيي))، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! وكَبُرَ عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الشيطان يَبلغ من ابن آدم مَبلَغ الدَّم، وإني خشيتُ أنْ يَقذِف في قلوبكما شيئًا))[23].

    فلعلَّها زارَته في هذه السَّنة أو في العاشرة، وأمَّا الثامنة فقد كان النَّبي صلى الله عليه وسلم في غَزوة الفتح، وأمَّا التاسعة فيترجَّح لي أنَّه لم يَعتكف فيها في رمضان.
    ♦♦♦


    وفي رمضان هذا كانت سريَّة غالب بن عبدالله الليثي إلى الميفعة[24].



    [1] سيرة ابن هشام (2/ 370).

    [2] إذا كان الحديث في البخاري اكتفيتُ بالعزو إليه.

    [3] هذا من رِواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، كما في اللفظ الثاني.

    [4] اختلف العلماء في تفسير هذا التخصيص على عشرة أقوال، انظرها في: إتحاف السادة المتقين للزبيدي (4/ 189 - 194).

    [5] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب فضل الصوم (4/ 103).

    [6] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب هل يقول: إني صائم إذا شُتم (4/ 118).

    [7] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب هل يقال: رمضان أو شهر رمضان (4/ 112).

    [8] المصدر السابق.

    [9] انظر: الإتحاف للزبيدي (4/ 192)، والدر المنثور (1/ 192).

    [10] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية (4/ 115)، وقال ابن حجر: "المراد بالإيمان الاعتقاد بحق فرضيَّة صومه، وبالاحتساب: طلَب الثَّواب من الله تعالى، وقال الخطابي: احتسابًا؛ أي: عزيمة، وهو أن يصومه على مَعنى الرغبة في ثوابه طيِّبةً نفسه بذلك، غير مستثقل لصيامه، ومستطيل لأيامه".

    [11] رواه ابن أبي شيبة، الإتحاف (4/ 192).

    [12] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب من لم يدَع قول الزور... (4/ 116).

    [13] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين (4/ 127، 128).

    [14] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا (4/ 155).

    [15] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليُكَفِّر (4/ 163)، وهذا يذكِّرنا بحديث المُظاهِر سلمة بن صخر الأنصاري، وهو غيره.

    [16] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب التنكيل لمن أكثر الوصال (4/ 205، 206).

    [17] رواه النسائي (4/ 218، 219) بسند صحيح.

    [18] رواه الطبراني في المعجم الأوسط (8/ 174)، برقم (8312)، قال المنذري: ورواته ثقات، الترغيب (2/ 100).

    [19] صحيح مسلم، كتاب الصيام: باب فضل الصيام (2/ 807).

    [20] سنن ابن ماجه، كتاب الصيام: باب ما جاء في فضل الصيام (1/ 525).

    [21] رواه أحمد (2/ 329)، والترمذي وحسنه برقم (696)، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، صحيح ابن حبان (8/ 275، 276)، الترغيب والترهيب (2/ 143).


    [22] يوصلها إلى بيتها.

    [23] صحيح البخاري، كتاب الاعتكاف: باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد (4/ 278).

    [24] انظر: السيرة الشامية (6/ 133) وفيه: "ذكر ابن سعد وتبعه في (العيون) و(المورد) أن في هذه السريَّة قَتَلَ أسامةُ بن زيد رضي الله عنه نهيك بن مرداس الذي قال: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا شققتَ عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟))؛ إلخ، وسيأتي الكلام على ذلك في سريَّة أسامة إلى الحرقات"، انظر: (6/ 192، 193).



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان

    رمضان السابع في السنة الثامنة

    (رمضان الفتح)



    د. عبدالحكيم الأنيس



    في أول هذا الشهر بعث النَّبي صلى الله عليه وسلم سريَّةً إلى بطن إضم، بقيادة أبي قتادة بن ربعي الأنصاري، في ثمانية نفر، ليظن ظانٌّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجَّه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار[1].
    وبعث هشامَ بن العاص السهمي في سريَّة[2].

    ثم كان المسير إلى مكة:
    قال ابن إسحاق راويًا بسنده عن ابن عباس: "وخرج - أي النبي - لعشر مضين من رمضان، فصام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وصام الناسُ معه، حتى إذا كان بالكُديد، بين عُسفان وأَمَج أفطر"[3]، ثم قال: "وكان فتح مكَّة لعشر ليالٍ بقين من شهر رمضان سنة ثمان"[4].

    وقال الذَّهبي: "قال سعيد بن عبدالعزيز عن عطية بن قيس، عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا لغزوة فتح مكَّة لليلتين خلتا من شهر رمضان صوامًا، فلمَّا كنا بالكديد، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفطر"[5].

    ثم قال: "قال الزهري: فَصَبَّحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكَّة لثلاث عشرة ليلة خلَت من رمضان..."[6]، وثَمَّ قول آخر[7] - وهو عند الترمانيني[8] - في (10) رمضان؛ وهو وَهَم.

    من أحداث الطريق:
    1 - روى البخاري عن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهو صائم، فلمَّا غابت الشمس قال لبعض القوم: ((يا فلان، قم فاجدح لنا[9]))، فقال: يا رسول الله لو أمسيتَ، قال: ((انزل فاجدح لنا))، قال: يا رسول الله، فلو أمسيت؟ قال: ((انزل فاجدح لنا))، قال: إنَّ عليك نهارًا، قال: ((انزل فاجدح لنا))، فنزل فجدح لهم، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم))[10].

    قال ابن حجر: (هذا السفر يشبه أن يكون سفر غزوة الفتح، ويؤيِّده رواية هشيم عن الشيباني عند مسلم بلفظ: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في شهر رمضان"[11]، وقد تقدَّم أن سفره في رمضان منحصِر في غزوة بدر وغزوة الفتح؛ فإن ثبت فلم يشهَد ابن أبي أوفى بدرًا فتعيَّنَت غزوة الفتح)[12].

    2 - وروى مالك في الموطَّأ من طريق أبي بكر بن عبدالرحمن عن رجل من الصحابة قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصبُّ الماء على رأسه من العطش أو من الحرِّ... فلمَّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكديد دعا بالقدح فشرب، فأفطر الناس[13].

    وأحداث فتح مكَّة معلومة مَشهورة، وكذلك أيام مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة[14]، فلا أتعرَّض لها.
    ♦ ♦ ♦

    وفي هذا الشهر:
    أَرسل النَّبي صلى الله عليه وسلم سعدَ بن زيد الأشهلي لهَدم مناة لستٍّ بقين منه[15].
    وأرسل خالدَ بن الوليد لهدم العزَّى لخمسٍ بقين منه[16].
    وأرسل عمرَو بن العاص لهدم سواع[17]، في ثلاث سرايا.



    [1] طبقات ابن سعد (2/ 133)، وانظر: "السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة"؛ للدكتور: بريك العمري صـ 269، والسيرة الشامية (6/ 190، 191).

    [2] قاله الواقدي، انظر: الإصابة (3/ 604).

    [3] سيرة ابن هشام (2/ 399، 400)، والكديد: ماء بين الحرمين، وعُسفان: موضع على مرحلتين من مكة؛ القاموس صـ (401 و1082).

    [4] المصدر السابق (2/ 437).

    [5] المغازي (2/ 536).

    [6] المصدر السابق (2/ 537).

    [7] السابق (2/ 538).

    [8] أزمنة التاريخ الإسلامي صـ 24.

    [9] الجدح: تحريك السويق ونحوه بالماء بعودٍ يقال له: الـمِجْدَح، مجنح الرأس؛ الفتح (8/ 197)، وانظر: النهاية (1/ 243).

    [10] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب متى يحل فطر الصائم (4/ 196).

    [11] كتاب الصيام: باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار (2/ 772).

    [12] فتح الباري (4/ 197).

    [13] الموطأ برقم (807)، ونقله في الفتح (4/ 182).

    [14] انظر: تاريخ الطبري (3/ 42 - 65).

    [15] انظر: تاريخ الطبري (3/ 66)، والسيرة الشامية (6/ 199).

    [16] انظر: تاريخ الطبري (3/ 65، 66)، والسيرة الشامية (6/ 196).

    [17] انظر: تاريخ الطبري (3/ 66)، والسيرة الشامية (6/ 198).




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان

    النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان (8)

    رمضان الثامن في السنة التاسعة


    (سنة الوفود)


    د. عبدالحكيم الأنيس

    في هذا الشهر كان وفد ثقيف في المدينة[1]:
    قال ابن إسحاق: "وقدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ من تبوك في رمضان، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف"[2].

    وقال: "حدَّثني عيسى بن عبدالله بن عطية بن سفيان بن ربيعة الثقفي عن بعض وفدهم، قال: كان بلال يأتينا حين أسلَمنا وصمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي من رمضان، بفطورنا وسحورنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتينا بالسحور، وإنا لنقول: إنا لنرى الفجر قد طلع، فيقول: قد تركتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يتسحَّر، لتأخير السحور، ويأتينا بفطرنا، وإنا لنقول: ما نرى الشمس كلها ذهبَت بعد فيقول: ما جئتكم حتى أكَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يضع يده في الجفنة، فيلتقم منها"[3].

    وقد روى أبو داود في سننه بسنده عن أوس بن حذيفة حديثًا فيه صورةٌ عن لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بوفد ثقيف: قال أوس: قدِمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف، قال: فنزلَت الأحلاف على المغيرة بن شعبة، وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني مالك في قبَّة له - قال مسدد: وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقيف، قال: كان كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدِّثنا، قال أبو سعيد: - قائمًا على رجليه حتى يراوِح بين رجليه من طول القيام - وأكثر ما يحدِّثنا ما لقي من قومه من قريش، ثم يقول: لا سواء، كنا مستضعفين مستذلين - قال مسدد: بمكة - فلمَّا خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم: نُدال عليهم ويُدالون علينا، فلما كانت ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلنا: لقد أبطأت عنَّا الليلة، قال: إنه طرأ عليَّ جزئي من القرآن فكرهتُ أنْ أجيء حتى أتمَّه[4].

    قال أوس: سألتُ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحزِّبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده..."[5].

    وعن عثمان بن أبي العاص - وقد أسلم في المدينة في وفد ثقيف[6] - رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الصوم جنَّة من النار كجُنة أحدكم من القتال))، وسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((صيامٌ حسن: ثلاثة أيام من كل شهر))[7].

    ويظهر لي أنَّ تأجيل النبي صلى الله عليه وسلم اعتكافه إلى شوال كان في رمضان هذا:
    روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعتكف في كلِّ رمضان، فإذا صلَّى الغداة دخل مكانه الذي اعتكف فيه، قال: فاستأذنته عائشة أَنْ تَعتكف، فأذِن لها، فضربت فيه قبَّة، فسمعَت بها حفصة فضربَت قبَّةً، وسمعت زينب بها فضربَت قبَّة أخرى، فلمَّا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغداة أبصر أربع قباب، فقال: ((ما هذا؟))، فأُخبر خبرهنَّ، فقال: ((ما حملهنَّ على هذا؟ آلبر؟ انزعوها فلا أراها))، فنزعَت، فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال[8].

    والذي حملني على هذا الاستظهار ما يلي:
    1 - قال ابن العربي في تعليل اعتكاف النَّبي صلى الله عليه وسلم عشرين يومًا في آخر رمضاناته: "يحتمل أن يكون سبَب ذلك أنه لمَّا ترك الاعتكاف في العشر الأخير بسبب ما وقع من أزواجه واعتكف بدله عشرًا من شوال، اعتكف في العام الذي يليه عشرين ليتحقَّق قضاء العشر في رمضان"؛ اهـ[9]، فيكون تركه الاعتكاف في رمضان الثامن هذا[10].

    2 - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان مشغولًا بوَفد ثقيف، يدعوهم إلى الإسلام، ثم بعد إسلامهم يفقِّههم في الدين، ويتألَّفهم، وقول أوس بن حذيفة: "كان كل ليلة يأتينا بعد العِشاء يحدِّثنا قائمًا على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام..." قد يشير إلى عدم اعتكافه؛ إذ كان في اعتكافه يَنصرف إلى العبادة انصرافًا تامًّا؛ "كان إذا دخل العشر الأواخر شدَّ مئزرَه، وأحيا ليله، وأيقظ أهلَه".

    3 - ويخطر لي أنَّه ربَّما أمَر بالقباب التي ضربَتها نساؤه أمَّهات المؤمنين، فَنُزِعت؛ لأن المسجد كان مشغولًا بهذا الوفد (وربما غيره أيضًا فهذه سنَة الوفود) ووجودها يضيِّقُ على المصلِّين والمعتكفين والوافدين.
    ♦ ♦ ♦

    وفي رمضان هذا كان قدوم وَفد بني سعد هذيم[11]، وقدوم وفد الداريين[12]، ووفد فزارة وطلبهم الاستسقاء، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم ونزول الغيث[13]، وقدوم وفد مرة[14].
    ♦ ♦ ♦

    وفي رمضان الثامن هذا صام عديُّ بن حاتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    وقد روى البخاري عنه قال: "لما نزلت: ﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ [البقرة: 187]، عمدتُ إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض فجعلتُهما تحت وسادتي، فجعلتُ أنظر في الليل فلا يَستبين لي، فغدوتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرتُ له ذلك، فقال: ((إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار))[15].

    قال ابن حجر: "قوله لما نزلت.."، ظاهره أنَّ عديًّا كان حاضرًا لما نزلَت هذه الآية، وهو يقتضي تقدُّم إسلامه؛ وليس كذلك لأن نزول فرض الصوم كان متقدِّمًا في أوائل الهجرة، وإسلام عدي كان في التاسعة أو العاشرة؛ كما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي[16]، فإمَّا أن يُقال: إنَّ الآية التي في حديث الباب تأخَّر نزولها عن نزول فرض الصوم وهو بعيد جدًّا، وإمَّا أن يؤول قول عدي هذا على أن المراد بقوله: "لما نزلَت"؛ أي: لما تُليَت عليَّ عند إسلامي، أو لما بلغني نزول الآية، أو في السياق حذفٌ تقديره: لما نزلت الآية ثمَّ قدمتُ فأسلمتُ وتعلَّمتُ الشرائع عمدت[17]، وقد روى أحمد[18] حديثه من طريق مجالد بلفظ: "علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة والصيام فقال: ((صلِّ كذا، وصم كذا، فإذا غابت الشمس فكل حتى يتبيَّن لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود))، قال: فأخذت خيطين... الحديث"[19].

    ومما جرى لعدي بن حاتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللقاءات الأولى نذكر ما يأتي:
    روى أحمد والبغوي في معجمه وغيرهما، من طريق أبي عبيدة بن حذيفة قال: كنت أحدث حديث عدي بن حاتم فقلت: هذا عدي في ناحية الكوفة، فأتيته فقال: لما بُعث النَّبي صلى الله عليه وسلم كرهتُه كراهية شديدة، فانطلقت حتى كنت في أقصى الأرض مما يلي الرُّوم، فكرهتُ مكاني أشدَّ من كراهته، فقلت: لو أتيته؛ فإن كان كاذبًا لم يخف عليَّ، وإن كان صادقًا اتَّبعته، فأقبلت، فلما قدمت المدينةَ استشرفني الناس فقالوا: عدي بن حاتم، فأتيته فقال لي: ((يا عدي، أَسلِم تَسلم))، قلت: إن لي دِينًا، قال: ((أنا أعلم بدِينك منك، ألستَ ترأس قومك؟))، قلت: بلى، قال: ((ألست تأكل المرباع؟))، قلت: بلى، قال: فإن ذلك لا يحل لك في دينك، ثم قال: ((أسلِم تَسلم، قد أظن أنه إنما يَمنعك غضاضة تراها ممَّن حولي، وأنك ترى الناس علينا أَلْبًا واحدًا))، قال: ((هل أتيت الحيرة؟))، قلت: لم آتِها وقد علمتُ مكانها، قال: ((يوشك أن تخرج الظعينة منها بغير جوار حتى تَطوف بالبيت، ولتفتحنَّ علينا كنوز كسرى بن هرمز))، فقلت: كسرى بن هرمز؟! قال: ((نعم، وليفيضن المال حتى يهم الرجل من يقبل صدقته))، قال عدي: فرأيتُ اثنتين: الظَّعينة، وكنت في أول خيل أغارت على كنوز كسرى، وأحلف بالله لتجيئن الثالثة[20].
    ♦ ♦ ♦

    وفي هذه السنة أسلم واثلة بن الأسقع وكان من أهل الصفَّة:
    وعنه قال: "حضر رمضان ونحن في الصفَّة فصمنا، فكنا إذا أفطرنا أتى كلَّ رجلٍ منَّا رجلٌ، فأخذه فانطلق به فعشَّاه.

    فأتَت علينا ليلة لم يأتنا أحد، فأصبحنا صيامًا، ثم أتَت القابلة علينا فلم يأتنا أحد، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بالذي كان من أمرنا، فأرسل إلى كلِّ امرأة من نسائه يسألها: هل عندها شيء؟ فما بقيَت منهنَّ امرأة إلا أرسلت تُقسم: ما أمسى في بيتها ما يأكل ذو كبد.

    فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجتمعوا))، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهمَّ إنا نسألك من فضلك ورحمتك، فإنهما بيدك لا يملكهما أحدٌ غيرك)).

    فلم يكن إلَّا ومستأذن يستأذن، فإذا شاة مَصْلِيَّة ورُغُفٌ، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضِعَتْ بين أيدينا، فأكلنا حتى شَبعنا، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنا سألنا اللهَ من فضله ورحمته، وقد ذخر لنا عنده رحمته))[21].
    ♦ ♦ ♦



    [1] انظر عن هذا الوفد: تاريخ الطبري (3/ 96 - 100)، و"المغازي"؛ للذهبي (2/ 667)، ومجمع الزوائد (3/ 149)، والإصابة (3/ 103)، والسيرة الشامية (6/ 365).

    [2] سيرة ابن هشام (2/ 537).

    [3] سيرة ابن هشام (2/ 537)، وانظر مجمع الزوائد (3/ 152).

    [4] لعلَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقصد عرضه القرآن على جبريل؛ إذ كان يلقاه كل ليلة من رمضان فيعرض عليه القرآن كما سيأتي.

    [5] سنن أبي داود (2/ 55)، ط العصرية، و(2/ 237)، ط دار القبلة.

    [6] انظر: الإصابة (2/ 460).

    [7] رواه ابن خزيمة في صحيحه (3/ 301) برقم (2125)، وهو في الترغيب (1/ 101).

    [8] صحيح البخاري، كتاب الاعتكاف: باب الاعتكاف في شوال (4/ 283، 284).

    [9] انظر: فتح الباري (4/ 285).

    [10] وأما قول ابن حجر (4/ 285): "وأقوى من ذلك أنه إنَّما اعتكف في ذلك العام [أي العام العاشر] عشرين؛ لأنه كان العام الذي قبله مسافرًا..." ففيه نظر؛ لأن رمضان السابق - وهو هذا - قضاه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بيَقين؛ فقد عاد من تبوك واستقبل وفدَ ثقيف وصاموا معه ما بقي من رمضان، إلا أن يحمل السفر على سفره في رمضان الفتح في العام الثامن.

    [11] انظر: السيرة الشامية (6/ 343، 344).

    [12] انظر التفصيل في السيرة الشامية (6/ 334).

    [13] المصدر السابق (6/ 394).

    [14] المصدر السابق (6/ 410).

    [15] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب قول الله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا... ﴾ [البقرة: 187] (4/ 132).

    [16] في الحاوي للماوردي (18/ 89) (كتاب السير) أن قدوم عدي في شعبان من السنة العاشرة.


    [17] وهذه الملاحظة تقودنا إلى ضرورة التأنِّي في التعامل مع هذه العبارة: "لما نزلت" وأمثالها.

    [18] في مسنده (32/ 117) برقم (19375) ط الرسالة.

    [19] فتح الباري (4/ 132، 133).

    [20] مسند أحمد (32/ 123) برقم (19381) ط الرسالة، والإصابة (2/ 468)، ولم يُذْكَر عدي في القسم المطبوع من معجم الصحابة للبغوي.

    [21] رواه أبو نعيم في الحلية (2/ 22)، وانظر: "رجحان الكفة في بيان نبذة من أخبار أهل الصفة"؛ للسخاوي ص (301، 302).





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان

    النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان (9)

    رمضان التاسع في السنة العاشرة


    (وهو الأخير)



    د. عبدالحكيم الأنيس

    في هذه السنة توفِّي إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم:
    قال ابن حجر: "وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة:
    فقيل: في ربيع الأول.
    وقيل: في رمضان.
    وقيل: في ذي الحجة.
    والأكثر على أنها[1] وقعَت في عاشر الشهر.
    وقيل: في رابعه.
    وقيل: في رابع عشرة.

    ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجَّة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذ ذاك بمكَّة في الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته وكانت بالمدينة بلا خلاف، نعم قيل: إنه مات سنة تسع، فإن ثبت يصح، وجزم النووي بأنها كانت سنة الحديبية، ويجاب بأنه كان يومئذ بالحديبية ورجع منها في آخر الشهر..."[2].

    قلت: والمعروف أن الشمس كُسِفَت يوم وفاة إبراهيم، وقد حقَّق محمود باشا الفلكي في كتابه "نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام وفي تحقيق مولده وعمره عليه الصلاة والسلام" أنَّ كسوف الشمس في المدينة كان في الساعة (8) والدقيقة (30) بعد نصف الليل من يوم (27) يناير سنة (632 م).

    قال: "وبناء على ذلك يكون اليوم التاسع والعشرون من شوال من السنة العاشرة للهجرة موافقًا لليوم السابع والعشرين من يناير سنة (632)"[3].
    وعلى هذا فيكون إبراهيم في رمضان هذا حيًّا، ولنا أن نتصوَّر سعادة النبي صلى الله عليه وسلم وسروره بوجوده.
    ♦ ♦ ♦

    في رمضان هذا كانت سريَّة علي رضي الله عنه الثانية إلى اليمن[4].
    ♦ ♦ ♦

    وفيه قدم وفد غسان وهم ثلاثة نفر[5].
    وفيه كان قدوم جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه؛ على قول محمد بن عمر الأسلمي[6].
    ♦ ♦ ♦


    وفيه اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم عشرين يومًا:
    روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كلِّ رمضان عشرة أيام، فلمَّا كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يومًا[7].

    وفي حديث ابن ماجه عن أبي هريرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يَعتكف كلَّ عام عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يومًا، وكان يعرض عليه القرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قُبض فيه عُرِضَ عليه مرتين"[8].

    وعن هذا يقول ابن عباس:
    "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ النَّاس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كلَّ ليلة في رمضان حتى ينسلخ[9]، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآنَ، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة"؛ رواه البخاري[10].

    ويقول أيضًا: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان أطلق كلَّ أسير، وأعطى كل سائل"[11].
    ♦ ♦ ♦

    وبعد هذه الجولة المباركة مع وقائع حياة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، مما نُصَّ على تاريخه، أو اجتهدت في معرفة تاريخه استدلالًا واحتمالًا، ننتقل إلى ذِكر شيء من أحواله العامَّة، سائلين اللهَ تعالى أن يقرِّبنا من النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به صيامًا وقيامًا وسلوكًا:


    [1] أي: وفاة إبراهيم.

    [2] فتح الباري (2/ 529)، وانظر: الإصابة (1/ 175).

    [3] نتائج الأفهام صـ (19)، وانظر: أيام حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم صـ (21).

    [4] انظر: السيرة الشامية (6/ 238).

    [5] المصدر السابق (6/ 391).

    [6] انظر تفصيل قدومه في المصدر السابق (6/ 311، 312).

    [7] صحيح البخاري، كتاب الاعتكاف: باب الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان (4/ 284 - 285).

    [8] سنن ابن ماجه، كتاب الصيام: باب ما جاء في الاعتكاف (1/ 562)، وانظر: فتح الباري (4/ 285)، وزاد المعاد (2/ 89).

    [9] يدلُّ هذا على أن اللِّقاء والمعارضة كانت كل ليلة، فما قيل من أن سبب اعتكافه في رمضانه الأخير عشرين ليلة لأن المعارضة كانت مرتين (كما نقل في الفتح 4/ 285) ففيه نظر، فالمعارضة لم تكن مختصة بالاعتكاف.

    [10] صحيح البخاري، كتاب الصوم: باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان (4/ 116).

    [11] أخرجه البزار والبيهقي؛ الدر المنثور (1/ 194).


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •