بشائر النصر على طريق الهجرة




د. أحمد رزق شرف




في كلِّ عامٍ تمرُّ علينا ذكرى الهجرة المباركة، نستلهمُ منها الدروس والعبر، ونُسقِطها على واقعنا، ويكون لنا فيها قراءة جديدة، واستنباط مختلفٌ، يفتح لنا آفاقًا أوسع، وأبوابًا من النور نرى بها بنور البصائر لا بنور الأبصار.

لقد كان المسلمون مستضعفينَ في مكة، يُسامُون سوءَ العذاب، يُعذَّبون ويُضطَهَدون، وتُصادَر أموالهم، فكيف يَطِيب لهم عيشٌ في وطنهم، وقد اضطُهِدوا وحُوصِروا وقُوطِعوا وسُلِبت أموالهم، وشُنَّت عليهم حرب إعلامية شعواء؟! فكان لا بد لهم أن يُغيِّروا تلك البيئة التي تحارب دعوتهم، وتحاول قتلها في مهدها.

في مثل هذه البيئة وفي تلك الظروف، هل كان هناك من يظن - منهم أو من غيرهم - أن الغلبة والنصر سيكونانِ لهؤلاء المستضعفين بعد سنوات قليلة، لم تكن هناك أي علامات للنصر، كان تواتر الأحداث مُحبِطًا لا يدعو للتفاؤل.

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُثبِّتهم بأضواءٍ من اليقين على طريق مظلم حالك، فكان يقول لهم وهم يُعذَّبون: ((والله، ليُتِمَّن الله هذا الأمر حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاء إلى حضرموت لا يخافُ إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون))؛ رواه البخاري.

ولما اشتدَّ عليهم البلاء، واستخدمت قريش ضدهم قوتها العسكرية والأمنية الغاشمة، أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهجرة إلى المدينة، لم يكونوا يعلمون أنهم سيعودون إلى وطنِهم بعد سنوات قليلةٍ ظافرين منصورين، ولم يرَوا النصرَ الموعود في أتُّونِ المحنة العصيبة، بيدَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يراه ويعلمُه علم اليقين بنور وبعلم من الله.

خرجوا إليها ثم لحِقهم - صلى الله عليه وسلم - هو وصاحبه أبو بكر، خرجوا قاطعين طريقًا موحشًا؛ بأنسِ الهجرة إلى الله.

هل كان أحدٌ يظنُّ أن هؤلاء النَّاجين بأنفسهم من الموت سيسودون العالم كلَّه؟!


هل كان أحدٌ يظنُّ أن هذين الرَّجلينِ المختبئينِ في الغار سيُقيمانِ دولةً حدودُها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب - المعلوم لديهم حينئذٍ؟!

مَن كان يظن أن هذا الرجل الذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو نظر أحدُهم تحت رجليه لرآنا"، مَن كان يظن أنه سيحكمُ الدولة العظمى الوليدة، التي سيدين لها العرب والعجم، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يردُّ عليه: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!))، إنه اليقين الذي يجعل الإنسان يتحمَّل الصِّعاب والمشاقَّ من أجل أداء رسالتِه، منتظرًا الأجر من الله، لا من أحدٍ من البشر.

كان العالَم كلُّه حينئذٍ ينظر إليهم على أنهم مغلوبون مطرودون، وأن من أخرجوهم هم الغالبون المنتصرون، ويظنون أن الحرب انتهت بالغلبة لأهل الباطل، وأن الحق قد غلب.

خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه مطرودينِ مطارَدينِ، لكن يقينهما كان يبعث الطمأنينة في نفسيهما، خرجا وبهما من الألم النفسي ما تعجز عن تحمُّله النفوس، لكن صبرهما وثقتهما في نصر الله كان يُخمد نار صدرَيْهما.


لم يَيْئَسا رغم صولة الباطل وبطشه وقوته الغاشمة وغلبته الظاهرة، ولم تنكسر العزيمة في قلبيهما؛ فهما يعلمان أن دولة الباطل ساعة، وأن دولة الحق إلى قيام الساعة.

لم يَكفَّا عن الأخذ بأسباب نصرٍ ليس له أيُّ بوادر أو علامات، ولا يعلمان كيف ومتى سيأتي، لكنهما لم يركنا إلى الخمول واليأس.

لم تؤثِّر فيهما حرب إعلامية شنَّها إعلام قريش على الدعوة الجديدة وأصحابها، وعلِمَا أن الحق يومًا سيظهر على الباطل، وسيعلم الناس مَن الصادق ومَن الكاذب.

لم يؤثِّر فيهما إغراءٌ بالمال أو المُلْك، أو مبادرات تَعِدُهما بحقِّ المواطنة، وتَعِظُهما بالانخراط في الحياة السياسية القرشية، على أن يدعا ما يدعوان إليه، وألا يُثِيرا مشاكل قد تهدم كيان وطنهما مكة.

لم يؤثِّر فيهما تهديد أو وعيد بالقتل أو الاعتقال أو مصادرة الأموال، وأكملا طريقهما لا يلويان على شيء إلا على دعوةٍ يقومان بحقِّها خير قيام، فيلقيا الله - عز وجل - وقد أدَّيا ما عليهما.

لم يتعجَّلا نصرًا، وإنما وطَّنا نفسَيْهما على الصبر والثبات حتى يأتي أمر الله، ولم يشترِطا على الله نصرًا سريعًا عاجلاً، إن لم يأتِ يكن من بعده يأس، إن الصبر واليقين والثقة بموعود الله يهوِّن على الإنسان ما يراه من متاعب على طريق الدعوة، فقط أدُّوا ما عليكم وانتظروا من الله النصر، واعلموا أن المحنة في طيها منحة، وأن الصبر آخره الفرج.

نسألكم الدعاء