الصالحون في كلّ جيل يجدّدون سمت السلف وهديهم




عبد المجيد أسعد البيانوني







أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني
ما أحوج الدعوة إلى الإسلام إلى أن يجدّد الدعاة سمت السلف وهديهم، في أنفسهم، وفي أسرهم، وفي مناهجهم التربويّة والدعويّة، وفي علاقاتهم بالناس أجمعين.. لتعوْد إليها حيويّتُها، وليكون لها تأثيرها الذي تسعد به الأمّة، وتعود لها عزّتها..

ولو أردنا أن نوجز سمت سلف هذه الأمّة لرأينا أنّه يتمثّل في الحقائق التالية:
الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وشدّة التمسّك بالكتاب والسنّة، والحرص على الاتّباع، والبعد عن البدع المحدثة في الدين، والورع والتقوى، وقوّة التوكّل على الله تعالى، وصدق التعلّق به، ودوامُ اللجوء إليه سبحانه، وحضور القلب ورقّته، وصفاؤه وخشعته.
ولنقف عند هذه الحقائق وقفة يسيرة، إذ لا يسعف المقام بأكثر من ذلك.
أ ـ الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة: وإذا كان الزهد في حقيقته ليس بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، وإنّما أن يكون الإنسان بما في يد الله تعالى أوثق منه بما في يده، وألاّ يفرح الإنسان بما أوتي، ولا يأسى على ما فقد، وأن تسخو نفسه ببذل الدنيا في مرضاة الله تعالى وطاعته، فقد كان الشيخ أحمد رحمه الله على حظّ كبير من ذلك، كما كانت رغبته الصادقة الوالهة بالآخرة، تكشف عن نفسها لجليسه أكثر ممّا يفصح بذلك منطقه أو كلامه.
فممّا حفظت من كلامه في مناسبات عديدة قوله رحمه الله: " والله لو كانت الدنيا لقمة، وكان في بذلها هداية إنسان لبذلتها في ذلك وأنا مغتبط رابح ". ففي هذه الكلمة تعبير عن أكثر من حقيقة من الحقائق السالفة.
ب ـ وشدّة التمسّك بالكتاب والسنّة، والحرص على الاتّباع لرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في كبير الأمور وصغيرها، والبعد عن البدع المحدثة في الدين:
فأمّا شدّة التمسّك بالكتاب والسنّة، والحرص على الاتّباع لرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقد عرف الشيخ بذلك من القريب والبعيد، والقاصي والداني، عرف بذلك في نفسه في أخذه بالعزائم، كما عرف بذلك في منهجه التربويّ مع إخوانه..
ـ فلم يكن ليقرأ شيئاً في كتب العلم ليحفظ، أو يتعلّم فحسب، أو ليزداد ثقافة واطّلاعاً، وإنّما كان يقرأ ليستفيد علماً يعمل به، فيقرّبه إلى الله تعالى.
ـ ولم يطّلع على شيء من هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم وسنّته إلاّ وسارع للعمل به فرِحاً مغتبطاً، أكثر ممّا يفرح أهل الدنيا بالغنيمة المادّيّة ينالونها.. ولم يكن ليصدّه عن ذلك شيء، أو يحول بينه وبين ذلك الهدي أيّ حاجز.. كما لم يستهن بأيّ أدب من آداب النبوَّة مهما تساهل به الناس، أو عدّه بعضهم صغيراً..
وقد حدّثنا أحد محبّيه أنّه رآه في سوق " بانقوسا " وعلى رأسه عمامة، وقد أرخى لها عذبة طويلة على غير هيئة عمامته، فسأله مستغرباً هذه الهيئة، فقال له مغتبطاً: " لقد مرّ بي في بعض كتب الشمائل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض أحواله وضع عمامة وأرخى لها عذبة طويلة، أدنى من ركبتيه، فأحببت ألاّ يفوتني العمل بهذه السنّة.. ".
وفي مرض وفاته، والآلام الشديدة التي كان يعاني منها تذهل الأصحّاء عن غير أنفسهم وذواتهم، قدّمت له زوجته قميصه ليلبسه، فمدّت له الكمّ الأيسر، فأشار لها وصوته مختفٍ لا يسمع أن تقدّم له الكمّ الأيمن، ونظر إليها نظرة عتاب: كيف تغفل عن ذلك.؟!
وكان مضطجعاً مرّة فقدّمت له كأس الماء، ولا يستطيع بحالته إلاّ أن يمسكه بشماله، فتحامل على نفسه، وقدّم اليمين لتعين الشمال، فلا يشرب بشماله.. إنّه التمسّك بالأدب النبويّ حتّى آخر لحظة من العمر.!
وأمّا شدّة بعده عن البدع المحدثة في الدين، فذلك تبع لشدّة تمسّكه بالكتاب والسنّة، وحرصه على الاتّباع لرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في كبير الأمور وصغيرها، فعلى قدر تمسّك المؤمن بالوحيين الشريفين تمسّكاً صادقاً، وقوّة اتّباعه يعظم نفوره من البدع المحدثة في الدين، وإعراضه عن أهلها.
أذكر أنّه بلغه مرّة عن بعض المشايخ المنتسبين إلى التصوّف قول فيه ابتداع، وخروج عن منهج السلف في العقيدة، فاستشاط رحمه الله غضباً، وطلب من بعض تلامذة ذلك الشيخ، وكان حاضراً مجلس شيخنا أن يبلّغ شيخه: " ألاّ حجّة له في كلام أحد من السلف والمشايخ فيما يذهب إليه ويقوله، ولا خير فينا إن خرجنا عن منهج السلف وتخلّينا ".
وكان لا يرضى أن يزاد شيء بعد الأذان في مسجده، وينهى المؤذّنين عن ذلك برفق، مع أنّ بعض الفقهاء المتأخّرين نصّوا على استحباب الجهر بالصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، لتذكير الناس بها، أو أنّها لا بأس بها مطلقاً.. وانتشرت في كثير من البلاد وعمّت.. وكان يرى في ذلك حجّة لأهل البدع ومبرّراً أن يزيدوا على الأذان بأهوائهم ما يشاءون..
ومن البدع التي أنكرها بشدّة، وسبّبت له جفوة مع بعض أهل العلم: إنكاره على صياح بعض الناس في مجالس الذكر، ممّا يؤدّي إلى تنفير الناس، وبخاصّة فئة الشباب من الحضور إلى المساجد والتردّد إليها.. وقد استفتى عدداً من العلماء في حكم هذا الأمر، فأفتوا جميعاً بحرمة ذلك، فلم يتوان عن الإنكار والصدع بالحقّ..
وكان يأمر المنشدين بلطف ورفق أن يتخيّروا القصائد والأناشيد الدينيّة التي ليس فيها شيء من الشبهات، ولا تحتاج إلى شيء من التأويل لفهم معناها، وكان يتخيّر بنفسه بعض القصائد، التي ليست فيها أدنى شبهة، ويقدّمها لبعضهم..
ج ـ والورع والتقوى. وهل يعرف ورع الرجل وتقواه إلاّ عند بريق الدنيا، ورنّة الدينار والدرهم، واضطرام هوى النفس نحو أيّ أمر كان..؟
" وقد جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم الورع كلّه في جملة واحدة، هي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) [حديث حسن رواه الترمذيّ برقم /2318/، وله شواهد عند عدد من الأئمّة ترفعه إلى درجة الصحيح لغيره، انظر فيض القدير 6/12/ ومجمع الزوائد 8/18/]، فهذا يعمّ الترك لما لا يعني: من الكلام والنظر، والاستماع، والبطش والمشي والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع ".
وقال أبو سليمان الدارانيّ رحمه الله: " الورع أوّل الزهد، كما أنّ القناعة أوّل الرضا ".
وقال يحيى بن معاذ رحمه الله: " الورع الوقوف على حدّ العلم من غير تأويل ".
وقال: " الورع على وجهين: ورع في الظاهر، وورع في الباطن، فورع الظاهر: ألاّ يتحرّك إلاّ لله، وورع الباطن: هو ألاّ تدخل قلبك سواه ".
وقال: " من لم ينظر في الدقيق من الورع، لم يصل إلى الجليل من العطاء ".
وقال يونس بن عبيد رحمه الله: " الورع: الخروج من كلّ شبهة، ومحاسبة النفس في كلّ طرفة عين ".
وقال سفيان الثوريّ رحمه الله: " ما رأيت أسهل من الورع ما حاك في نفسك فاتركه "[" تهذيب مدارج السالكين " للشيخ عبد المنعم صالح العليّ العزّيّ ص/290/].
ولقد كنّا نرى هذه الحقائق والمعاني مشهودةً حيّةً في حياة الشيخ أحمد وسلوكه.. رأيته مرّة في طريق جامع أبي ذرّ، فظهرت نساء في الطريق متحجّبات، لا يبدو منهنّ شيء، فأشاح بوجهه بقوّة، وبصورة غير شعوريّة إلى جهة أخرى من الطريق..
وما رأيت رجلاً يستوي في نفسه وسلوكه الذهب والتراب كما كان الشيخ أحمد رحمه الله..
وممّا سمعت منه مرّات كثيرة قوله: " أين نحن من أكل الحلال الذي كان عليه السلف.؟ لو لم يكن بيننا وبينهم من فرق سوى ذلك لكفى، فكيف لنا أن نسبقهم أو ننافسهم ؟!".
وكان يرى أنّ عصرنا هذا قد عمّت فيه الشبهات، وانتشر الحرام.. فكان لا يدّخر شيئاً من المال الذي يأتيه، ويروي عن بعض السلف قوله: " الحرام والمشبوه لا يقبل الادّخار ".
وكان يقول: " شتّان بين من يأكل ويضحك، وبين من يأكل ويبكي "، أي لفقد الحلال الخالص، فما أعجب هذا الورع والتقوى.!
وحدّثني والدي رحمه الله أنّ الشيخ عندما قاموا بتجديد بناء جامع أبي ذرّ وفرشه كان ضيّق ذات اليد عن تقديم شيء من المال، فعمد إلى سجّادة غرفة نومه، وكانت سجّادة نفيسة غالية الثمن، ففرش بها بعض المسجد..
ومن ورعه أنّه كان يحفظ لسانه، فلا يتكلّم بلغو أو غيبة، ولا يرضى أن يذكر أحد في مجلسه بسوء، بغير مبرّر شرعيّ، ولو كان فاسقاً فاجراً، معروفاً بفسقه وفجوره.. ذكر مرّة بعض جلسائه طاغية ظالماً، معروفاً بفساده وشرّه، فقال له الشيخ: " نزّه فمك ومجلسك " فقال له: وهل لهذا الفاجر من غيبة.؟ فقال له الشيخ: " لا ينبغي للمؤمن أن يعوّد لسانه ذكر الفاسقين بغير ضرورة ".
ومن وَرعه مَوقفه من التصوير ( الفوتوغرافي ) فقد كان يأخذ بالعزيمة في ذلك، ولا يرضى شيئاً من أقوال المخفّفين فيه، ويرى في ذلك فتحاً لباب التهاون في أمر اشتدّ في الشرع نكيره، ولا يقف التساهل فيه عند حدّ، ولكنّه كان يرى أنّ للمخفّفين في حكم التصوير الفوتوغرافي وجهة نظر لا يستهان بها، وقد شهدت بينه وبين العلاّمة الشيخ عبد الفتّاح أبو غدّة رحمه الله مجلساً أمام الكعبة المشرّفة طال فيه نقاشهما في هذا الأمر، وبخاصّة فيما يعرض من حاجات للتصوير معاصرة، للتعليم وغيره، ثمّ سلّم الشيخ أحمد للشيخ عبد الفتّاح في اتّجاهه في الترخيص بالتصوير إذا كان لحاجة أو مصلحة، وبقي الشيخ على منهجه في التورّع عن ذلك.
د ـ وقوّة التوكّل على الله تعالى، وصدق التعلّق به، ودوامُ اللجوء إليه سبحانه:
ومن كلامه رحمه الله في ذلك ينبغي: " أن يكون حال المؤمن مع ربّه كحال الطفل الصغير مع والده، كيف نراه يرتكن على والده في كلّ شأن من شئونه، فيما يقدر عليه والده، وفيما لا يقدر عليه ؟ فكذلك ينبغي أن يكون حال المؤمن مع ربّه القادر على كلّ شيء سبحانه، ولله المثل الأعلى، يعتمد على ربّه في كلّ شأن، ويطمئنّ إلى حول الله وقوّته أكثر من أيّ أحد من البشر "، وكذلك كنّا نراه رحمه الله في جميع أحواله.
وكثيراً ما سمعته يستشهد بقول سلمان الفارسيّ رضي الله عنه: " أنا عبدٌ في بيت سيّدي، ما أطعمني أكلت، وما كساني لبست ".
هـ ـ وحضور القلب ورقّته، وصفاؤه وخشعته: وكان حال الشيخ في ذلك عجباً من أبلغ العجب، لا تكاد تراه منبسطاً مبتسماً حتّى تراه خاشع القلب، دامع العين، لأدنى سبب يذكّره بالله تعالى واليوم الآخر، أو يعرض عليه شيئاً من مآسي المسلمين ومصائبهم، ولو بعدت أقطارهم، أو نأت ديارهم.. وهل ينسى من صلّى وراءه في جامع أبي ذرّ خشوعه وبكاءه ؟! في الصلوات، وفي قيام رمضان.. وفي خطبة الجمعة في جامع العثمانيّة، وفي الرحلات.