المدارس النظامية استجابة العالم السنّي للتحدي الشيعي




. شريف حازم







واجه العالم الإسلامي في القرن الخامس العديد من التحديات الداخلية والخارجية الخطيرة، ولكن أخطرها على الإطلاق كان حالة التمرد الشيعي التي عمّت المشرق والمغرب الإسلامي-باستثناء بلاد الأندلس.
وكان لظهور الوزير الكبير نظام الملك أحد وزراء الدولة السلجوقية والذي يعد علامة بارزة عبر العصور على ساحة الأحداث إيذاناً بظهور الشخصية التي ستقود حركة فكرية مضادة للتحدي الشيعي.
ترجمته ونشأته ورحلة صعوده
هو قوام الدين أبو علي الحسين بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي الملقب بخواجة بزك أي نظام الملك، ولد في بلدة صغيرة من نواحي طوس تسمى نوقان في 10 أبريل 1018 م/ 21 ذو القعدة 408 ﻫ، وكان أبوه من الدهاقين، أي رؤساء الفلاحين ، وتوفيت أمه زمرد خاتون من عائلة آل حميد الدين الطوسي الذين كان أكثرهم وزراء، وقد عُني به أبوه فتعلم العربية وحفظ القرآن الكريم وهو في سن الحادية عشر وألم بالفقه على مذهب الإمام الشافعي وسمع الحديث بأصفهان من محمد بن علي بن مهريزد الأديب، وأبي منصور شجاع بن علي بن شجاع، وبنيسابور من أبي القاسم القشيري ، والأخير سيكون له عليه تأثير كبير في اعتناق المذهب الشافعي مع العقيدة الأشعرية وسيظهر أثر ذلك بعد ذلك.
بدأت فكرة المدراس النظامية انطلاقًا من استشعار الوزير نظام الملك لخطورة التمرد الشيعي وانتهاجه لخطوات مدروسة وخطط محكمة من أجل اختراق قلب العالم السنّي
بدأ أمره في خدمة أبي علي بن شاذان وزير السلطان ألبَ أرسلان الذي أحبه لما رأى فيه من العفة والأمانة والتقوى، وأوصى به السلطان عند وفاته، فقربه السلطان إليه ونصبه وزيراً مكانه. واتصل نظام الملك بداود بن ميكال شقيق طغرل بك، وكان يحكم خراسان، وعمل معه فأعجب بكفاءته وإخلاصه، فألحقه بحاشية ابنه ألب أرسلان، وقال له:" اتخذه والداً، ولا تخالفه فيما يشير به" ومن هنا تلقب نظام الملك بالأتابك وهي لفظة تركية معناها "مربي الملك".
بعد سلسلة من الأحداث والصراعات بين أمراء السلاجقة عقب وفاة طغرل بك تربع السلطان ألب أرسلان على عرش الدولة السلجوقية واختار مربيه نظام الملك ليكون وزيراً له واشتركا سوياً في معركة ملازكرد الشهيرة سنة 463 ه، وبعد مقتل ألب أرسلان سنة 465ه أصبح ابنه ملك شاه سلطان الدولة السلجوقية وأقر نظام الملك على الوزارة ولعشرين سنة متصلة حقق فيها نظام الملك أحد أعظم الإنجازات العلمية التي عرفها التاريخ الوسيط للمسلمين.
فكرة المدارس النظامية
نظام الملك كان رجل دولة من الطراز الأول، حريصًا على أسباب القوة والبقاء والنهوض، وزيادة على ذلك كانت خصال نظام الملك الشخصية وصفاته الإيمانية وميوله الفكرية تؤهله للقيام بأعباء أكبر نهضة فكرية وعملية وتربوية شهدها العالم الإسلامي في منتصف القرن الخامس والتي ستكون بمثابة ردّ فعل العالم السنّي إزاء التمرد الشيعي وأقوى استجابة لتحدي الاختراق العقدي والسياسي الذي مالت كفته لصالح الشيعة عامة والفاطميين العبييدين خاصة في تلك الفترة.
بدأت فكرة المدراس النظامية انطلاقًا من استشعار الوزير نظام الملك لخطورة التمرد الشيعي وانتهاجه لخطوات مدروسة وخطط محكمة من أجل اختراق قلب العالم السنّي، وإيمان الوزير بأهمية التحصين الفكري والعلمي والتربوي، وبناء وتربية الكوادر العلمية القادرة على هذا التصدي، لتكون خط الدفاع الأول عن حصون الأمة التي تعرضت لهجمة شيعية عنيفة لأكثر من قرن من الزمان، تسربت خلالها العقائد الضالة والأفكار المنحرفة، وتخلخل البناء العقدي للمسلمين، وسرت الثقافات الدخيلة التي حاول البويهيون والفاطميون فرضها على المسلمين قسراً خلال فترة ضعف الخلافة العباسية. وظهر أثر ذلك في شيوع البدع والخرافات والاحتفالات البدعية، وما تبعه من صدامات عنيفة بين المؤيدين والمعارضين، وهي الصراعات التي أحرقت بلاد العراق والشام وأضعفت الكيان السنّي بشدة.
في القرن الرابع الهجري تبلورت فكرة إنشاء المدارس كمؤسسات متخصصة للتدريس وقد أوقفت لها الأوقاف لدعم ميزانيتها المالية وسد نفقاتها واحتياجاتها وجعلت فيها خزانات الكتب وأيضًا مساكن للغرباء
خصال نظام الملك الأخلاقية وخلفيته الثقافية القائمة على أصول المذهب الشافعي والعقيدة الأشعرية وتعظيمه وتثمينه لدور الدين والعلماء في الحياة العامة كان لها دور كبير في تشكيل رؤيته الإستراتيجية التي بلورت فكرة المدراس النظامية بصورة مؤسسية تلعب دور التعليم المقاوم للتغلغل الشيعي يدخل فيها جهاد العلم مع جهاد السيف، ويواجه فيها التمرد الشيعي بنفس أدواته وطرائقه الفكرية والدعوية.
التعليم من المسجد إلى المدرسة
بعد اتخاذ المساجد كمؤسسات تعليمية لعدة قرون، لاحظ المعنيون بالشأن التعليمي أن هذه الأخيرة أصبحت لا تفي بغرض التعليم، خصوصًا وأن العلوم أخذت تزداد في آفاقها وأصبحت حركة الترجمة تفتح آفاقا علمية جديدة، لذا بدأ التفكير في إنشاء مدارس متخصصة بدلاً من المساجد الجامعة، وفي القرن الرابع الهجري تبلورت فكرة إنشاء المدارس كمؤسسات متخصصة للتدريس وقد أوقفت لها الأوقاف لدعم ميزانيتها المالية وسد نفقاتها واحتياجاتها وجعلت فيها خزانات الكتب وأيضًا مساكن للغرباء. وشكل ذلك بداية لنهضة تعليمية قائمة على أسس التجديد والتحديث. وقد وُجدت عدة مدارس قبل ظهور المدراس النظامية مثل المدرسة البيهقية والصابونية والدقاقية في نيسابور، كما كان للأقلية الشيعية مدارس في مدن قم وكاشان والري وبيهق ومدن إيرانية أخرى، ناهيك عن الدور الخطير والكبير الذي كان يمارسه أزهر الفاطميين العبيديين بالقاهرة والذي كان يمثل المؤسسة العلمية الشيعية الأهم والأكبر والأخطر ولكونها المسئولة عن تخريج الدعاة الشيعة المدربين على الاختراق، وبتأسيس المدارس النظامية حدثت في البلدان الإسلامية نهضة علمية ومعرفية واسعة.
أم المدارس
هذا هو الوصف الذي أطلقه المؤرخون على نظامية بغداد، فقد كان إنشاء المدرسة النظامية ببغداد سنة 459 ه*/ 1066 م، من قبل الوزير نظام الملك فاتحة عصر جديد تبنت فيه الدولة رسمياً إنشاء المدارس ورعاية التعليم كأداة من أدوات النهوض والمقاومة والتحصين العقدي والفكري. وكان لنظامية بغداد أهمية كبيرة في الحضارة الإسلامية باعتبارها أول مدرسة نظامية عليا-شبه جامعية- في العالم الإسلامي، وأيضًا لأن نظام الملك وضع قاعدة مهمة اتبعت من بعده في العصور اللاحقة، ألا وهي إنشاء المدارس من قبل الدولة واستقلالها عن المساجد، وتوفير مستلزمات السكن وقاعات التدريس للمدرسين والطلبة مع تخصيص أجور شهرية لهم من خزانة الدولة وليس من جيوب المحسنين والأثرياء كما كان يحدث من قبل. وعلى غرار تجربة نظامية بغداد انطلقت حملة مكبرة لبناء المدراس في العالم الإسلامي.
عبقرية التوزيع الجغرافي
بعد بناء نظامية بغداد دخلت فكرة المدارس السنية حيز التنفيذ بصورة موسعة، وبدعم قوي من نظام الملك انتشرت بالعراق وخراسان عشرات المدارس النظامية، حتى قيل: (إن له في كل مدينة بالعراق وخراسان مدرسة)، وكان ينشئ المدارس حتى في الأماكن النائية، وكان كلما وجد في بلدة عالمًا قد تبحر في العلم بنى له مدرسة ووقف عليها وقفًا، وجعل فيها دار كتب. وكان التلاميذ يتعلمون فيها مجانًا، وللتلميذ الفقير منحة يتقاضاها من ميزانية مخصصة لذلك.
وقد تجلت عبقرية التوزيع الجغرافي للمدارس النظامية في المشرق الإسلامي في بناء شبكة محكمة لتلك المدارس في مدن وأقاليم بعينها تهدف في محصلتها لتحقيق هدف إستراتيجي كبير وهو غلبة التيار السنّي ومحاصرة التيار الشيعي.
قال السبكي في ترجمته الحافلة للوزير نظام الملك: "إنه بنى مدرسة ببغداد، ومدرسة ببلخ، ومدرسة بنيسابور، ومدرسة بهراة، ومدرسة بأصفهان، ومدرسة بالبصرة، ومدرسة بمرو، ومدرسة بآمل طبرستان ومدرسة بالموصل". فهذه إذن هي شبكة أهم المدارس النظامية، ويتضح من توزيعها الجغرافي أن معظمها أُنشئ إما في بعض المدن التي توصف بالكبرى وتحتل مركز القيادة والتوجيه الفكري، كبغداد وأصفهان، حيث كانت الأولى عاصمة للخلافة العباسية السنية، ويتركز فيها عدد كبير من علماء أهل السنّة أيضا، والثانية كانت عاصمة للسلطنة السلجوقية في عهد ألب أرسلان وملكشاه، وإما في بعض المناطق التي كانت مركزاً لتجمع شيعي نشط وموتور أيضاً في تلك الفترة كالبصرة ونيسابور، وطبرستان، وخوزستان، والجزيرة الفراتية.
وقد تخرج في هذه المدارس أجيال تحقق على يديها معظم الأهداف التي رسمها نظام الملك، فوجدنا كثيرًا من الذين تخرجوا فيها يرحلون إلى أقاليم أخرى ليقوموا بتدريس الفقه الشافعي والحديث الشريف، وينشروا عقيدة أهل السنة في الأمصار التي انتقلوا إليها، أو يتولوا مجالس القضاء والإفتاء، أو يتولوا بعض الوظائف الإدارية المهمة في دواوين الدولة، وينقل السبكي عن أبي إسحاق الشيرازي -أول مدرِّس بنظامية بغداد- قوله: " خرجت إلى خراسان، فما بلغت بلدة ولا قرية إلا وكان قاضيها أو مفتيها أو خطيبها تلميذي أو من أصحابي".
وكان من الطبيعي أن تؤدي كل هذه الجهود في تشييد هذه المدارس وتيسير سبل العلم فيها، وتوفير الحياة الكريمة بداخلها، إلى رواج سوق العلم بها، فأقبل عليها طلاب العلم والجاه حتى بلغ عددهم في نظامية بغداد سنة 488 ﻫ ثلاثمائة طالب كانوا يتفقهون على الإمام الغزالي، أما نظامية نيسابور فكان يجلس بين يدي أستاذها الجويني إمام الحرمين كل يوم نحو من 300 من الأئمة والطلبة.
ورغم مقتل الوزير نظام الملك على يد الباطنية الإسماعيلية سنة 485ه إلا إن فكرته بقيت حياة واستمر عمل المدارس النظامية في العراق وخراسان لفترة طويلة وامتدت ثمار هذه المدرسة إلى بلاد الشام أيام الزنكيين وبلاد مصر أيام الأيوبيين، فانتشرت بهما المدارس العلمية على نفس غرار النظامية، وتحقق للوزير العظيم مراده من الحفاظ على العالم السنّي سياسياً وعقائدياً من التمرد والاختراق الشيعي.
بالجملة كان مشروع نظام الملك للنهضة السنية عن طريق التعليم والدراسة ونشر روح الدين والعلم في الأمة الإسلامية سببًا مباشرًا في تراجع المشروع الشيعي والباطني لقرون، بحيث تأجل ظهور مثل الدولة الصفوية الشيعية الخبيثة حوالي خمسة قرون بسبب الإحياء السني الذي قام به نظام الملك في القرن الخامس الهجري.