الشعر في العصر الجاهلي


يُقصد بـ «العصر الجاهلي» الفترة التي سبقت ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية، وهي فترة غامضة لم يُكشفِ اللثام عن معظم نواحيها. ويرى د. "يوسف خليف" أننا يمكن أن نطلق عليها "عصر ما قبل التاريخ العربي"[1]، ويزيد غموض تلك الفترة تدوين أخبارها في عصر متأخر تقريبًا، غير أنَّ ما تناقلته ألسنة الرواة وتوارثته من أخبار العصر الجاهلي وإحداثه يعدُّ كافيًا لإعطاء صورة عامة عن تلك الفترة التي تعتبر عصر "التقعيد والتأسيس" لمعظم آداب العصور الإسلامية اللاحقة.

ونتيجة لبداوة العرب قبل الإسلام وكونهم أمةً أميَّة لا تكتبُ ولا تخط، كانت الشفاهيَّة هي المحرك الرئيسي لرواية معظم مآثر وأخبار الجاهلية، وكان خير ما تناقلته ألسنة الرواة وعوام القبائل وساداتها هو الشعر، وساعد على ثرائه أن المجتمع العربي في تلك الفترة كان مجتمعًا يدين بالحرية الفردية إلى أبعد حدٍّ، ورغم أنه كانت هناك طوائف تعلمت الكتابة في الجاهلية، وكان هناك نوع من الكتابة الضيقة التي لا تتعدى التقييد؛ إلا أنَّ الحفظ والإنشاد وتناقل الأبيات من الأفواه إلى الأفواه هو العامل الأبرز في وصول دوواين الشعراء الجاهليين إلينا بهذه النضارة والبداوة في التعبير، والابتكار اللغوي المميز في الوصف.

قال "ابن قتيبة" - عن الشعر -: «إنَّ الله جعله لعلوم العرب مستودعًا، ولآدابها حافظًا، ولأنسابها مقيدًا، ولأخبارها ديوانًا لا يرَثُّ على الدهر ولا يبيدُ على مرِّ الزمان»[2].

ويقول الجاحظ في كتابه "الحيوان"[3]: « ... فكلُّ أمة تعتمد في استبقاء مآثرها، وتحصين مناقبها، على ضرب من الضروب وشكل من الأشكال. وكانت العرب في جاهلِيَّتها تحتال في تخليدها بأنَّ تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفَّى، وكان ذلك هو ديوانها».

ويرجح د. "ناصر الدين الأسد" أن الشعر الجاهلي كان يقيد في صحف متفرقة لأغراض شتى، وأن تدوين الحديث والتفسير واللغة والأنساب والشعر قد بدأ منذ عهد مبكر جدًّا؛ وأنه ليس صحيحًا ما يذكر من أن التدوين لم يعرفه العرب إلا في آخر القرن الثاني ومطلع القرن الثالث الهجري! [4].

والأكثر ترجيحًا أن الرواية الشفهية كانت تسير جنبًا إلى جنب مع الكتابة والتدوين، لا تعارض بينهما، ولا ينفي وجود أحدهما وجود الآخر.

ونجد أن أسلوب الرواية والسماع بالأسانيد كان له دور كبير في حفظ كثيرٍ من أشعار الجاهليين وصحتها، على عكس ما يذهب المستشرقون من الشك في مصادر الشعر الجاهلي ومنابعه، وليس أدل على اهتمام المؤرخين والرواة بتقييد المصادر والتأكد من صحتها من عدد من الأخبار المتناثرة في بطون الكتب تنبئ عن اتخاذ أسلوب "توثيق السند والمتن" في رواية وكتابة قصائد العصر الجاهلي فقد ذكر "الأصمعي" - الراوية واللغوي الشهير - يومًا بني أمية وشغفهم بالعلم، فقال: «كانوا ربما اختلفوا وهم بالشام في بيت من الشعر، أو خبر، أو يوم من أيام العرب، فيبردون فيه بريدًا إلى العراق».

وقال غيره: «كنا نرى في كلِّ يوم راكبًا من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة (توفي سنة 118 هـ) يسأله عن خبر أو نسب أو شعر، وكان قتادة أجمع الناس»[5].

وتبدو لنا عناية الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بالشعر وروايته في قوله لمؤدب ولده: « روِّهمْ الشعر، روِّهم الشعر، يمجدُوا وينجدوا». وقال - مرَّة لمؤدِّب أولاده -: «أدبهم برواية شعر الأعشى فإن لكلامه عذوبة»."[6].

وقد أورد ابن سلام الجمحي في طبقاته قول عمر بن الخطاب: «كان الشعرُ علمَ قوم لم يكن لهم علمٌ أصحَّ منه»[7].

وقد ساعد على وصول الشعر الجاهلي لنا في أبهى صوره طائفةٌ من الشعراء يطلق عليهم "الشعراء الرواة" وهم الذين يروون شعر من تقدَّمهم ويحفظونه ويتوارثونه؛ بل ويتخذونه مدرسة يتتلمذون على نهجها ويقلدونها إلى أن تكتمل لهم شخصيتهم الفنية المستقلة، ويرى د. "ناصر الدين الأسد" أن من أشهرها المدرسة التي تبدأ بأوْس بن حُجْر وتنتهي بكُثَيِّر؛ فقد كان زُهير بن أبي سُلْمَى راوية أوس وتلميذه؛ ثم صار زهير أستاذًا لابنه كعب وللحطيئة، حتى لقد قال الحطيئة لكعب بن زهير: «قد علمتم روايتي لكم أهل البيت وانقطاعي إليكم، فلو قلت شعرًا تذكر فيه نفسك ثم تذكرني بعدك». ثم جاء هُدْبة بن خَشْرم الشاعر وتتلمذ للحطيئة وصار راويته. ثم تتلمذ جميلُ بن مَعْمر العذري لهدبة وروى شعره، ثم كان آخر من اجتمع له الشعر والرواية كُثَيِّرًا تلميذ جميل وراويته[8].

هذا إلى جانب العديد من الرواة مختلفي المذاهب والتوجهات: كرواة القبيلة، ورواة الشاعر، والرواة العلماء، والرواة مصلحي الشعر.. بالإضافة إلى الوضَّاعين من الرواة أنفسهم الذين أرادوا ترويج بضاعتهم بنسبتها إلى العصور الأولى لتوكيد أصالتها وبداوتها.

ويذكر ابن سلَّام أنَّ «أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها: حمّاد الرَّاوية»[9]. ومن هنا أيضًا قالوا: «كان خلف الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، ذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه، وكان ضنينًا بأدبه». وقد أخذ عن هذين العالمين: أبي عمرو وحماد سائر المعروفين من شيوخ العلم والرواية كخلف الأحمر، والمفضل، والأصمعي، وأبي عبيدة، وأبي عمرو الشيباني. وأخذ عن هؤلاء من تلاهم: كابن الأعرابي، ومحمد بن حبيب، وأبي حاتم السجستاني. ثم أخذ عن هؤلاء السكري وثعلب وأضرابهما[10].

ومن أوائل من شكك في مصادر الشعر الجاهلي في العصر الحديث المستشرق "مرجليوث" في بحث له نُشِرَ في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية - عدد يوليو سنة 1925- عنوانه: "أصول الشعر العربي" وأنكر الوفرة الكمية والإبداعية التي نقلت عن شعراء جاهليين، ومنه انتقل لإنكار أدب العصر الجاهلي ككل، وعلى الرغم من ذلك جاء بداية مقاله متناقضًا غاية التناقض حين يذكر أنَّ وجود شعراء في بلاد العرب قبل الإسلام أمر شهد به القرآن، إذ «أن فيه سورة واحدة باسمهم، ثم يشير إليهم من حين إلى آخر في مواطن أخرى». ومن بين الأوصاف التي كان خصوم النبي - صلى الله عليه وسلم - ينعتونه بها أنه كان شاعرًا مجنونًا. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفي عن نفسه هذه الصفة ويجيبهم بأنَّه إنَّما جاء بالحق. ووردت، في سورة أخرى، ثلاث ألفاظ هي: كاهن، ومجنون، وشاعر، ورغم تلك الاستطرادات وتعدادها فمرجليوث ينكر كل ذلك بالجملة في نهاية بحثه بعد كل هذه الإقرارات! [11].

وقد ردَّ على "تشكيك" مرجليوث وتلامذته العرب - بدايات القرن العشرين - في صحة الشعر الجاهلي، كثيرٌ من إخوانه المستشرقين حيث أكدوا أن الرواية التاريخية عن بلاد العرب في عصورها الوسيطة "الجاهلية الأخيرة" ليست أوثق، ولا أضعف، من أية رواية أخرى عن أي عصر تاريخي يعوزنا فيه الدليل المباشر كما ذكر جورجيو ليفي[12].

أما عن سمات هذا الشعر الجاهلي وأهم خصائصه فهو شعر يتسم بالنضارة والغضارة والبساطة، وبالفتنة التي نعزوها إلى طفولة العالم، وسذاجة البداوة عند العرب، ومع ذلك فما أشبه الشعر الجاهلي العربي بالشعر الهومري عند اليونان الذي "تعالى عن خشونة الشكل، وتجنب الصراع الناشب بين المعنى واللفظ، وارتفع عن الحوشي المبتذل من أساليب القول، واستطاع أن يحتفظ بمستواه الرفيع حفظًا متَّزنًا، وبذلك تجنب هذه الخصائص التي يتصف بها الأدب في عصره البدائي[13].

والشعر الجاهلي مصدر تاريخي حيوي من مصادر تلك الفترة الهامة من تاريخ العرب، وقد لجأ القدامى أنفسهم إلى الشعر العربي الجاهلي يستنطقونه ويستنبطون منه توضيح بعض جوانب الحياة في الجاهلية، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما فعله ابن قتيبة في كتابه "الميسر والقداح"، وما فعله أبو طالب المفضل بن سلمة في كتابه "الملاهي وأسماؤها".

يقول الأستاذ "علي الجندي" في كتابه "في تاريخ الأدب الجاهلي": أن «مصادر الأدب الجاهلي والتي ضمت كثيرًا من النصوص الجاهلية التي جاءت إلينا عن طريق الرواة الموثوق بأمانتهم وصدقهم، حازت القبول والاحترام من العلماء والنقاد والباحثين، واعتمد عليها الجميع في دراساتهم، واعتبرت مصدرًا أساسيًّا في تصوير الأدب واللغة في العصر الجاهلي تصويرًا صادقًا صحيحًا.

تلك النصوص هي تراث الجاهليين الأدبي، وتعتبر الأساس الأول الذي قام عليه صرح الأدب العربي، فقد توارثته الأمم العربية جيلًا بعد جيل، ووجدوا فيه الزاد الفني والثقافة الأدبية الرفيعة، فعلى تراث الجاهليين أقبل أدباء العصر اللاحق، ينهلون من موارده، ويغذون أرواحهم وعواطفهم من زاده فصقل مواهبهم، ونمى مشاعرهم ووسع مداركهم حتى إذا اكتملت شخصياتهم الأدبية أضافوا إليه من نتاجهم ما يعتبر ذخيرة تعتز بها الأمة العربية»[14].

[1] الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي (صـ 11).

[2] "تأويل مشكل القرآن": 14.

[3] (1: 71-72).

[4] "مصادر الشعر الجاهلي" (صـ 142).

[5] العسكري، التصحيف والتحريف: 4.

[6] جمهرة أشعار العرب: 63.

[7] "طبقات فحول الشعراء" : 22.

[8] ابن قتيبة، "الشعر والشعراء" (1: 93)، و"الأغاني" (8: 91).

[9] "طبقات فحول الشعراء" : 40 وما تلاها.

[10] أبو البركات الأنباري، "نزهة الألباء" : 37.

[11] D.S. Margoliouth, the origins of Arabic poetry, Journal of the Royal Asiatic Society, July 1925 pp 417- 449.

[12] Giorgio Levi Della Vida, pre - Islamic Arabia, the Arab Heritage, Now Jarsy, 1944 p. 41-48.

[13] ناصر الدين الأسد، "مصادر الشعر الجاهلي" (صـ290).

[14] "في تاريخ الأدب الجاهلي" (صـ 256).





منقول