حسن الخلق في رمضان


محمد بن محمود الصالح السيلاوي






إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فهو المهتدِ، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

فإن مما يميز أجواء هذا الشهر المبارك معاليَ الأخلاق؛ فهو شهر البُعد عن الخصومات والنزاعات، وهو شهر التآلف والمحبة بين المسلمين، وقد دعا الإسلام إلى التحلي بمكارم الأخلاق، ورغب في حُسن الخُلق، فجعله سببًا لدخول من يتحلى به الجنة؛ إذ جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثرِ ما يُدخل الناس الجنة، قال: ((تقوى الله، وحُسن الخُلق))[1].



وعُدَّ صاحبُ الخُلق الحسَن مِن خيار المسلمين وأكملهم إيمانًا، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حُسن الخُلق هو أثقل الأعمال في ميزان المؤمن، كما أخبر أن حُسن الخُلق قد يبلغ بصاحبه درجةَ الصائم القائم، وبيَّن أن صاحب الخُلق الحسَن هو أحب الناس إليه، وأقربهم منه مجلسًا يوم القيامة.



ويكفي أن تقرأ في سيرته الشريفة، وتنظر كيف كان صلى الله عليه وسلم يعامل الناس كلهم؟ كيف كان يعامل أزواجه؟ كيف كان يعامل أقاربه؟

كيف كان يعامل أصحابه؟ كيف كان يعامل أعداءه أيضًا؟

وهذا جليٌّ جدًّا في سيرته صلى الله عليه وسلم حين زكاه الله تعالى بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وحين سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلقه صلى الله عليه وسلم فقيل لها: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألستَ تقرأ القُرْآن؟ قيل: بلى، قالت: فإن خُلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القُرْآن[2]، وقد صرَّح هو بالغاية مِن بعثته، بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما بُعِثت لأتمِّمَ صالح الأخلاق))[3].



والخُلقُ الكريمُ هو محصلة العبادات في الإسلام، بدونه تبقى طقوسًا وحركات لا قيمة لها ولا فائدة منها، وإن كان حُسن الخُلق مطلبًا شرعيًّا في كل الأيام والشهور، فإنه في رمضان أوجبُ وأَوْلى، ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالًا واضحًا لحُسن الأخلاق في شهر رمضان حين قال: ((فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَله، فليقل: إني امرؤ صائمٌ))[4]؛ متفق عليه.



فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أوضح مثال على تحلِّي الصائم بالأخلاق الفاضلة، وقد يكون الصايم مظنة أن يثور المكلف إذا استثير؛ ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصائم عن سوء الخُلق، وبيَّن أنه لا يخلُقُ به أن يُفحِش في القول، أو أن يعلوَ صوته صائحًا عند مخاصمة غيره، أو أن يقابل إيذاء غيره له بالسبِّ أو الشتم أو غيرهما بمثله، وإنما ينبغي عليه إذا قُصد بهذا الإيذاء أن يقول: (إني امرؤٌ صائمٌ)، مذكرًا نفسه وغيره بما ينبغي أن يتحلى به الصائم من حُسن الخُلق؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني امرؤٌ صائمٌ))[5].



قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقًا على الحديث: (والمراد بالرفَث هنا: الكلام الفاحش، وهو يُطلق على هذا، وعلى الجماع، وعلى مقدماته، وعلى ذكره مع النساء، أو مطلقًا، ويحتمل أن يكون لِما هو أعم منها، قوله: ولا يجهَل؛ أي: لا يفعل شيئًا مِن أفعال أهل الجهل؛ كالصِّياح والسَّفه، ونحو ذلك)[6]؛اهـ.



والنهيُ عن الرفَث والصخَب في الصيام لا يقتضي إباحتهما في غيره، وإنما يتأكد النهي عنهما في الصيام، وكذلك الأمر بعدم مقابلة الإيذاء بمثله في الصيام لا يقتضي الأمرَ بمقابلة الإيذاء بمثله في غيره، بل قد رغَّب الشارع الحكيم بمقابلة الإساءة بالإحسان؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].



وما أحوجَنا إلى التعامل بحُسن الخُلق في هذا الشهر الكريم!؛ فإن الصوم يُهذِّب الخُلق، ويربي النفس، ويعوِّد على الصبر، إن هذا الشهر فرصةٌ لنا أن نربي أنفسنا على كف الأذى، والإكثار من الصدقات، وحب الإصلاح، وصدق اللسان، وقلة الكلام، وصلة الأرحام، والصبر، وشكر النِّعَم، والابتعاد عن السِّباب، واللعان، والغِيبة، والنميمة، والحقد، والبخل، والحسَد، وأن تحبَّ للآخرين كما تحبُّ لنفسك.



وحُسنُ الخُلق يُطالَب به المسلمُ مع جميع الخَلق؛ المسلم منهم والكافر، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحسن إلى من يحسن إليه من الكفار، كما هو ثابت في وقائع عديدة من السيرة النبوية، ومما يُنقل في ذلك عن مجاهد رحمه الله قال: (كُنت عند عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما وغُلامه يسلخ شاة، فقال: يا غلام، إذا سلخت فابدَأْ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مرارًا، فقالوا له: كم تقول هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورِّثه)[7].



ولعله كان تطبيقًا عمليًّا مِن هذا الصحابي الجليل لِما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((ما زال يوصيني جبريلُ بالجار، حتى ظننتُ أنه سيورِّثه))[8].



هذا، والحمد لله رب العالمين

وصلَّى الله وسلَّم على نبينا وعلى آلِه وأصحابِه أجمعين






[1] أحمد: 9696، والترمذي: 2004، وابن ماجه: 4246، وصححه الألباني في الصحيحة: 977.





[2] مسلم: 746.




[3] أحمد: 8952، والبخاري في الأدب المفرد: 273، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: 207، وفي الصحيحة: 45.




[4] البخاري: 1094، ومسلم 1151.




[5] انظر الهامش السابق.




[6] فتح الباري: 4/ 104.




[7] مكارم الأخلاق للخرائطي: 220.




[8] البخاري: 6014، ومسلم: 2625.