صفحات من المساعدات العسكرية العثمانية لفرنسا (1)



الجُذُور التَّارِيْخِيَّ ة لمَوْقِف الحُكُوْمَة الفَرَنْسِيَّة من الأُمَّة الإسْلامِيَّة (19)


أ. حسام الحفناوي


فَشْل الصُّلح بين فرانسوا وشارلكان:

بعد أن أَمْضى الإمبراطور الفرنسي فرانسوا الأول مع شارلكان معاهدة نيس سنة 1538م، والتي جاءت عقب تَخَلُّفه عن تنفيذ ما أَبْرَمه من اتفاق مع الدولة العثمانية لغَزْو إيطاليا، سَعى فرانسوا في السنة التي تليها لدى السلطان العثماني؛ لكي يَقْبل بعَقْد هُدْنة مع شارلكان، فاشْتَرَط السلطان سليمان أن يَرُدَّ شارلكان لفرانسوا جميع القِلاع والحُصون الفرنسية التي استولى عليها، فرفض شارلكان ذلك، مما جَدَّد التوتر في العلاقات بين فرنسا والهابسبورج، وصارت الحرب قاب قَوْسَيْن، أو أَدْنى بين البلدين في سنة 1541م.
سَعْيُ فرنسا للتحالف العسكري مع العثمانيين ضد الهابسبورج:
أرسل فرانسوا سفيرًا إلى السلطان العثماني عندما دُقَّت طُبولُ الحربُ بينه وبين شارلكان؛ للاتفاق على الترتيبات الحربية اللازمة، فقتله أحدُ أعوان حاكم إقليم ميلانو الإيطالي التابع لشارلكان، حين مَرَّ عليه في طريقه إلى القسطنطينية، وكان ذلك بناء على أوامر من شارلكان، عسى أن يجد مع السفير وثائق، تَطْعن في وَلاء فرانسوا الأول للنصرانية، يستطيع أن ينشرها بين ملوك وأمراء أوروبا؛ ليُوْغِر صُدورَهم ضد فرانسوا، فيتركوه دون مساعدة؛ ليَسْهُل على شارلكان هزيمته.
لكنهم لم يَعْثروا مع السفير المقتول على شيء، فكان هَدْر دَمْه دون طائل يُذْكَر، بل أَضْرَم ذلك الفعل الشنيع الغَيْظَ في قلب فرانسوا على شارلكان أكثر مما كان، فأرسل إلى السلطان سليمان سفيرًا آخر، يطلب منه المساعدة بأُسطول حربي يَقْوده القبودان خير الدين باشا.
تَرَدَّد السلطان سليمان في بداية الأمر؛ لِما يعلمه من عدم ثبات ملك فرنسا على وعوده، وضعف عزيمته، مثلما ظهر منه عند نُكوصه عن تنفيذ اتفاقهما حول غَزْو إيطاليا، ولكن السلطان قَبِل مساعدة فرنسا بعد إلحاح السفير الفرنسي عليه، وتَعْضِيد خير الدين باشا له، لاسيما وقد جاءت الأنباء بمهاجمة شارلكان لمدينة الجزائر، ورجوعه عنها خائبًا في سنة 1541م.
اتحاد الأُسطولين الفرنسي والعثماني وانتزاع مدينة نيس:
أَقْلَع خيرُ الدين باشا بالأُسْطول العثماني من الآستانة في سنة 1543م، وبصُحْبته السفير الفرنسي، قاصدًا ميناء مدينة مرسيليا بجنوب فرنسا، وغزا في طريقه إليها سواحل جزيرة صِقِلِّيَّة، ومملكة نابولي، والتي كانت تابعة لشارلكان في ذلك الوقت، واستسلمت له دون مقاومة مدينتا مسينا، وريجيو كلابريا الواقعتين على جانبي مضيق مسينا، الفاصل بين جنوب إيطاليا وصِقِلِّيَّة، فدَمَّر استحكاماتهما العسكرية كُلِيًّا، ولم يَمَسَّ السُّكان بسوء، ثم أَكْمَل طريقه.
ولما قاوَمَه حاكمُ قلعة جاييتا الواقعة بين نابولي وروما القائد الإسباني دون دييجو جايتانو، اقتحم الأتراك عليه قلعتَه، ولم يَمَسُّوا أحدًا من السُّكان بسوء، وعَقَد خيرُ الدين باشا النِّكاح على ابنة قائد القلعة، البالغة من العمر ثمانية عشر عامًا، والتي كانت مشهورة بجمالها في أوروبا كلها، وأرسلها إلى إستانبول.
ثم فتح خيرُ الدين باشا ميناء أوستيا، الواقع على مَصَبِّ نهر تيبر، والذي يَبْعُد عن روما خمسة عشر كيلو مترًا فقط، وكان خيرُ الدين بربروسة باشا يريد دخول روما قَلْب البابَوِيَّة الكاثوليكية، وإجراء عَرْض عسكري فيها، لكن السفير الفرنسي المُصاحِب له خَرَّ على قدميه، ورَجاه ألا يفعل، حتى لا يُصْدِر بابا روما حِرْمانًا للمَلَك الفرنسي.
ولما وصل الأُسطول العثماني إلى ميناء طولون، قاعدة البحرية الفرنسية في البحر المتوسط في ذلك العصر - وهي إلى الآن كذلك - رفعت السُّفنُ الفرنسية الأعلامَ العثمانية، وأَطْلَقَت مَدافِعَها تَحِيَّةً له.
ولما وصل مرسيليا، استقبله الأميرال الفرنسي الكبير الدوق فرانسوا دي بوربون باسم الملك، ورَحَّب به، ولما نزل إلى البر، استقبلوه باحتفال لا يُقام مثلُه إلا للحُكَّام؛ لأن الأوروبيين كانوا لا يزالون يعتبرونه مَلِكًا على الجزائر، والتي حَرَّر سَواحَِلها هو وإخوته من الإسبان، ووَلَّاه وأخاه عليها السلطانُ العثماني سليم الأول.
وقد جعل خير الدين من مرسيليا قاعدةً لقِيادته، ومَقَرًّا لأُسطوله، وباع فيها خير الدين ورجال أُسْطوله ما معهم من الرَّقيق الإسباني من الرجال والنساء، فتَداولَتْهم الأَيْدي، واشتراهم الفرنسيون كبِضاعة رابحة؛ فقد كان يهود مدينة ليفورنو الإيطالية يشترونهم منهم بأسعار كبيرة، ثم يُعيدون بَيْعَهم إلى شارلكان بأرباح خيالية.
انضم الأُسطول الفرنسي بقيادة الأمير فرانسوا دي بوربون إلى أُسطول خير الدين باشا، ووضع قائد الأسطول الفرنسي قواته تحت قيادة خير الدين، وبعد أن مكث في مرسيليا ستة عشر يومًا، رجع إلى طولون، ثم اتَّجَها سَوِيًّا صَوْبَ مدينة نِيْس بجنوب فرنسا، وكانت تابعة حينئذ لدوق سافوي، وهو حَلِيف لشارلكان، فحاصروها من جهة البحر، فاستسلمت لهم المدينة بعد أن استشهد في القتال حولها نحو مائة جندي عثماني، ولم يَمَسَّ العثمانيون السكان بأَذَى، وسَلَّم خيرُ الدين باشا مفاتيح المدينة إلى الفرنسيين، فلما انسحب الأسطول العثماني من المدينة، ودخلها الجيش الفرنسي، قام بأعمال سَلْب فظيعة، مع كون أهلها من الفرنسين الكاثوليك مثلهم.
طولون الفرنسية في ظل الإدارة العثمانية:
ثم أَذِن فرانسوا الأول للأُسطول العثماني بقيادة خير الدين باشا أن يُمْضِي فصلَ الشتاء في ميناء طولون بفرنسا، وأعطاه نَفَقات الجُنْد، فاسْتَقَرَّ خيرُ الدين بأُسْطوله في المدينة، وجعلها قاعدة للأُسطول العثماني المسلم، بعد أن انسحب كافة الموَظَّفِيْن الفرنسيين، وكثيرٌ من أهل المدينة أيضًا، وأَدار العثمانيون المدينة، ورفعوا الأَذان في الصلوات الخمس، ورفعوا العَلَم العثماني على المدينة، وجمعوا الضَّرائب في تلك السَّنة من أهلها، وظَلُّوا بالمدينة ثمانية أشهر، واستفادوا من هذه الفترة في قَصْف سَواحل إسبانيا، وإيطاليا.
وقد أَثار صَنِيعُ مَلِك فرنسا هذا ثائرة النصارى في أوروبا جميعًا ضده، واجْتاحَت أوروبا حَمْلةٌ إعلاميةٌ صَلِيْبِيَّة؛ للتَّشْنِيع على فرنسوا، فأَشاعوا أن خير الدين باشا قد اقْتَلَع أَجْراسَ الكنائس، فلم يَعُد يُسْمَع في طولون إلا أَذانُ المؤذِّنِيْن، فتَعَرَّض فرانسوا من جراء ذلك لضغوط كبيرة جدًا؛ حيث نَسَبه نصارى أوروبا إلى المُروق عن الدين النصراني؛ لاستعانته بالمسلمين في القتال ضد مَلِك من أهل مِلَّته، وتسليمه إحدى مُدنه لهم، يُقيمون فيها شعائرَهم، ويُسَيِّرون أمورَها، فكان ذلك سببًا رئيسًا في انْفِصام عُرَى الحِلْف العسكري المُشْتَرَك بين فرنسا والدولة العثمانية إلى حين، ورحيل خير الدين باشا عن طولون.
العودة للصُّلْح بين شارلكان وفرانسوا وتوقيع معاهدة كريسبي دي فالوا:
كان شارلكان قد تَعَرَّض لأكثر من هزيمة قَصْمَت ظَهْرَه، فانهزم تحت جُدران شاتو تييري عندما هاجم شمال شرقي فرنسا، ثم اضطر للذهاب إلى ألمانيا، حيث كانت حركة التَّمَرُّد البروتستانتي ضد الكاثوليكية بصفة عامة - وضده بصورة خاصة - قد أخذت أَبْعادًا خطيرة، وكانت هزيمته المُنْكَرة على سواحل الجزائر أمام أُسْطول حسن ابن خير الدين باشا قد آذَنَت بذهاب مَجْده، وانهيار قوته الضاربة، وآلت فيما بعد لاعتزاله المُلْك، وعُزْلَته عن الناس.
ثم جاءت هذه الحملة العسكرية البحرية العثمانية الفرنسية المُشْتَرَكة؛ لتُلْقِي اليأسَ في قلب شارلكان، فأَجْبَرَته هذه الظروف مُجْتَمِعة على عَقْد معاهدة صُلْح مع ملك فرنسا، وكان هذا في سبتمبر من سنة 1544م، في مدينة كريسبي دي فالوا، والتي كان من آثارها مُغادرة الأُسْطول العثماني بقيادة خير الدين باشا مدينة طولون، راجعًا إلى القسطنطينية في نفس العام، بعد أن استغرقت حَمْلَتُه في مُجْمَلها عامًا وثلاثة أشهر، ولكن كل أُسطول كان يَرْسُو في فرنسا بعد ذلك، صار يُمَثِّل كابوسًا لشارلكان.
وقد تَوَقَّف خيرُ الدين باشا في طريق عودته أمام مدينة جَنَوة، فارْتاع مَجْلسُ شيوخها، فأرسل له مجموعة من الهدايا الثمينة، مُقابِل عدم التَّعَرُّض للمدينة بأَذَى، فتابع خير الدين طريقَه، حتى وصل جزيرة إلبا ثالث أكبر الجزر الإيطالية بعد صِقِلِّيَّة، وسردينيا، والواقعة في البحر التيراني، قُبالة ساحل توسكانا، والتي كانت تحت حُكم إسبانيا آنذاك، ففتحها، وغَنِم ما بها، كما فتح عددًا من المدن والجزر الساحلية، من بينها جزيرة ليباري القريبة من الساحل الشمالي لجزيرة صِقِلِّيَّة، وتقع في البحر التيراني، ورجع إلى إستانبول مُثْقَلًا بالغَنائم، فاستقبله أهلُها استقبال الفاتحين الأبطال.
فرنسا تَسْعى لإفشال مفاوضات الدولة العثمانية مع النمسا:
لما أرادت فرنسا تجديد الصُّلْح مع الدولة العثمانية بعد ذلك، سَعَت إلى إفْشال مفاوضات الصُّلْح التي كانت دائرة بين العثمانيين وخَصْمهم التقليدي المُتَمَثِّل في إمبراطورية النمسا، وذلك بعد حروب استمرت زمنًا، ولكن المفاوضات بين الدولة العثمانية والنمسا انتهت إلى عَقْد الصلح في عام 1547م، وهو العام الذي توفي فيه فرانسوا الأول، ولعل وفاته كانت سببًا في تيسير عَقْد الصلح الذي كانت فرنسا تَسْعى للحَيْلولة دون إتمامه؛ طَمَعًا في تجديد اتفاقياتها مع الدولة العثمانية[1].





[1] تاريخ الدولة العلية العثمانية لمحمد فريد بك (ص235-238)، والدولة العثمانية تاريخ وحضارة لمجموعة من العلماء والمؤرخين الأتراك بإشراف أكمل الدين إحسان أوغلي (1/43،42)، وتاريخ الدولة العثمانية ليلماز أوزتونا (1/300-302)، والدولة العُثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط للدكتور (ص202-205،221،231،232).