المناسبات في سورة الكهف


إن معرفة المناسبات بين اسم السورة وموضوعاتها وبين افتتاحية السورة وخاتمتها، وبين مقاطع السورة وهدفها، فوائد عظيمة لمعرفة الحكم والأسرار المكنوزة في ثنايا الآيات الكريمة.سنحاول أن نذكر وجوها من المناسبات في سورة الكهف للأنواع الثلاثة المتقدمة.

أولًا: المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها

لكي نستنبط وجه المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها، لا بد أن يكون اسم السورة توقيفيًا أي ثابتًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم: الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وقد تقدم في الروايات أن السورة تسمى “سورة الكهف” وتسمى “سورة أصحاب الكهف” وفي التسمة الأولى النظر إلى المكان الذي تم اللجوء إليه لحمايتهم من الفتنة التي تعرض لها الفتية فلجئوا إلى مكان حصين عصمهم من الأعين وحفظ عليهم دينهم وعقائدهم.
فلو نظرنا إلى هذا الاسم وإلى موضوعات السورة، لوجدنا بين الاسم والموضوعات مناسبة لطيفة إن الموضوعات المعروضة في هذه السورة الكريمة من تدبرها ولجأ إليها كانت له كالكهف الحصين من الفتن جميعها، كما ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان الوضع الذي لجأ إليه الفتية كهفًا محسوسًا ملموسًا، فإن الكهف الذي يأوي إليه قارئ هذه السورة كهف معنوي من عناية الله سبحانه وتعالى وحفظه وستره فلا تؤثر فيه الفتن المعروضة ولو كانت مثل قطع الليل المظلم.
وإذا نظرنا إلى الاسم الآخر للسورة “سورة أصحاب الكهف” نلاحظ أن الأشخاص أصحاب العقيدة الحقة والموقف السديد هم الملاحظون في التسمية.
ولو نظرنا إلى هؤلاء الفتية: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 13-14] .
نجدهم يمثلون موقف المتمسكين بالقيم الصحيحة الذين يملكون الميزان الرباني لقياس الأمور بها، الإيمان، الجرأة في الحق، المنطق السليم، الحجة المقنعة، التضرع إلى الله سبحانه وتعالى، اتخاذ الأسباب الظاهرة في مقارعة الباطل. يعقب كل ذلك العناية الربانية بهم وتسخير جزء من الكون لحمايتهم وحفظهم، ثم نصره دعوتهم -ولو بعد حين.
إن أصحاب الكهف أنموذج فريد للوقوف في وجه الباطل، وسيرتهم مثال لمن يبتلى ويفتتن في دينه، لذا كانت هذه التسمية أيضًا مناسبة للموضوعات في سورة الكهف حيث تمثل العنصر البشري المفتتن -والله أعلم بمراده وبأسرار كتابه.
ثانيا: المناسبة بين افتتاحية السورة وخاتمتها

إن المناسبات بين افتتاحية سورة الكهف وخاتمتها كثيرة وواضحة، بل نكاد نقول إن الحقائق التي عرضت في افتتاحية السورة كررت ذاتها بأسلوب آخر في الخاتمة، وفيما يلي نذكر جملة من هذه المناسبات والروابط:
1- جاء في افتتاحية السورة توجيه الحمد المطلق لله، فهو المستحق لهذا الحمد المطلق وحده، وعلة ذلك أنه أنزل هذا الكتاب العظيم على محمد عبده ورسوله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. جاء ذكر هذا الحمد المطلق في أول آية في السورة في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف : 1].
فهو ثناء على الله سبحانه وتعالى لأفعاله، وإرشاد للعباد للتوجه إليه بما يستحق من الذكر والشكر والعبادة. وجاء في خاتمة السورة تخصيص الله سبحانه وتعالى بالعبادة والذكر والشكر وسائر الأعمال الصالحة، وذلك في قوله تعالى: { يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] .
فتكون السورة قد افتتحت بذكر الألوهية واختتمت بذكر الربوبية.
2- الوحي المنزل من الله سبحانه وتعالى: جاء التعبير عنه في افتتاحية السورة بصيغة “أنزل، الكتاب”. وجاء التعبير عنه في خاتمة السورة بصيغة “كلمات ربي، يوحي إلي” والكتاب الذي أنزله الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم جزء من الكلمات التي لا تحصى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] .
3- ذكر حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه من البشر ومن عباد الله لا يتميز عن سائر البشر بشيء في ظاهره وأسلوب معيشته وما يعتوره من الحوادث والأعراض، إلا أنه يمتاز عنهم بتلك الصلة بالملأ الأعلى عن طريق الوحي. جاء ذلك في افتتاحية السورة في قوله تعالى: {أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَاب} فالمنزل عليه عبد من عباد الله، إلا أن إنزال الكتاب عليه من ربه جعل له تلك الميزة، وقد جاءت لفتة التكريم والتشريف في إضافة العبد إلى الضمير العائد إلى لفظ الجلالة “عبده”، وفي تقديم الجار والمجرور “على عبده” على الكتاب المنزل، ففي هذا التقديم نوع من التكريم والتشريف.
وجاء ذكر حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وكونه من البشر لا يتميز عن غيره بشيء سوى الوحي، جاء صريحًا في خاتمة السورة في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} .
4- تحديد مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم: وهي ذات شقين: حمل البشارة للمؤمنين المتقين الملتزمين بالهدايات الربانية سلوكًا ومنهج حياة، وهذه البشارة هي الخلود في جنات النعيم.
5- إنذار المكذبين بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، المتخذين لله أندادًا وشركاء، بالمصير السيئ وهو جهنم وساءت منزلًا ومقيلًا.
جاء ذكر المهملة بشقيها في افتتاحية السورة في قوله تعالى: { وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 2 -3 ] .
وفي قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف: ٤] . كما جاء بيان المهمة بشقيها في خاتمة السورة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 107- 108] (1)
وجار الإنذار في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف: 102] .
وفي قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: 106] .
6- مصدر التلقي للمعرفة: إن النتائج الصحيحة تترتيب على الأساليب الصحيحة والمنطلقات الصحيحة في التفكير والاستدلال والبرهان.
أما إذا كانت المنظلقات الفكرية خاطئة والأساليب ملتوية، فلا شك أن النتائج تكون باطلة.
لذا جاءت الإشارة إلى المنهج الصحيح في التلقي في افتتاحية السورة وأنه الوحي المنزل من الله سبحانه وتعالى على رسله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا} [الكهف: 1 -2] .
كما جاءت الإشارة إلى المنهج الخاطئ في التلقي في قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5] .
فالجهل، وتقليد الآباء على ضلالهم، ولجوءهم إلى الكذب كان منهج المعرفة عندهم فأدى أن يقولوا ما يستحيله العقل وترده الفطر السليمة وتكذبه الحقائق الملموسة وهو قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} حاشاه وسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
وجاء التنبيه على المنهجين في خاتمة السورة أيضًا.
فقد ورد ذكر المنهج الصحيح من خلال الإشارة إلى كلمات الله سبحانه وتعالى والوحي بها إلى عبده ورسوله، ومضمون هذا الوحي: { أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] .
وجاء ذكر المنهج الخاطئ في تلقي المعرفة في خاتمة السورة في قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا، أَفَحَسِبَ الَّذِين كفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صنْعًا} ، [الكهف: 101-104] .
إنهم عطلوا وسائل المعرفة، فأعينهم عليها غشاوة، وفي آذانهم وقر فلم يتدبروا آيات الله المبثوثة في الآفاق والأنفس ولم يقرءوا كتاب الله المفتوح لكل ذي بصر ألا وهو مخلوقات الله في هذا الكون الفسيح، وأدى بهم تفكيرهم القاصر إلى ربط الضر والنفع بما بين أيديهم من المخلوقات فاتخذوا العباد أولياء من دون الله، وهم بذلك يظنون -وخاب ظنهم- أنهم يحسنون صنعًا فزين لهم شركاؤهم تكذيب رسل الله والكفر بالبعث عبد الموت، فكانت جهنم لهم نزلًا.
7- القيمة الحقيقية للحياة الدنيا وما يجري فيها: إن من المبادئ الراسخة في العقيدة الإسلامية أن الأرض وما عليها من الكائنات مصيرها الزوال، وأن هذه الحياة على هذا الكوكب حياة مؤقتة، وأن الحكمة من وجودها الابتلاء والاختيار، وأن هذه الحياة مزرعة الآخرة فما زرعه الإنسان في هذه الحياة سيحصد ثماره في الحياة الآخرة.
وأن المقصد من متع هذه الحياة جعلها وسيلة للحياة الباقية وأنها إن لم ترتبط بالقيم الصحيحة الباقية زلت واندثرت باندثار ما على الأرض وكانت وبالًا على أصحابها.
هذه الحقيقة عرضت عرضًا معجزًا في افتتاحية السورة وخاتمتها ففي الافتتاحية جاءت في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 7 -8] .
وجاء ذكر مصير ما تعلقت به نفوس أهل الدنيا، وآثروه على كل شيء وجعلوه مقياس التفاضل والتعظيم واحتكموا إلى مقاييسه المادية كل ذلك لم يكن له وزن في ميزان الله يوم القيامة بل انهارت وذهبت أدراج الرياح: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] (1)
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه” (3). إن من قصر همه على دنياه وجعلها أكبر همه ومبلغ علمه فقد خسر الحياة الحقيقية: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] .
هذه جملة من الحقائق التي وردت في الافتتاحية وفي الخاتمة(4) فمن التزم بها عقيدة ومنهج حياة كانت له نورًا يكشف له الطريق وميزانًا يفرق به بين الحق والباطل، ولعل هذا يكشف لنا جانبًا من سر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال” وفي رواية: “من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال” والحكمة في ربط أول السورة بآخرها. أن من أدرك حقيقة الدنيا وزينتها، وأدرك المنهج الصحيح في تلقي المعرفة وعلم أن الباقيات الصالحات هي خير ثوابًا وخير أملًا من أدرك كل ذلك لم تفتنه الدنيا -بإذن الله- ولم يضره حطامها الزائل ويعلم أن ما عند الله خير وأبقى.
ثالثا: المناسبة بين مقاطع السورة وهدفها

ذكرنا في السابق أهداف سورة الكهف واخترنا أحدها لنجعله محور البحث في تفسير السورة موضوعيًا، وقلنا: إن مقاطع السورة تدور حول الهدف لإبرازه وتقريره فما وجه الصلة بين مقاطع سورة الكهف وبين “القيم”.
وذكرنا في تبرير اختيارنا لعنوان البحث “القيم في ضوء سورة الكهف” أن من أدرك الحقائق التي وردت في سورة الكهف ملك الميزان الذي يفرق به بين الصحيح والسقيم والحق والباطل، ولما كان موضوع إثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته من الأهداف الأساسية ومن المحاور التي تدور حولها السورة، فإن الميزان الذي تدلنا عليه سورة الكهف هو الفيصل الذي نتعرف به على صدق هذه الدعوة وعلى صدق الرسول الذي جاء بها.
إذا أدركنا ذلك وحددنا هذا الهدف، سهل علينا الربط بين مقاطع السورة كلها وبين الهدف الذي تبرزه السورة وتقرره.
تمثل القصص الأربع التي وردت في سورة الكهف مقاطعها الرئيسية إلى جانب الافتتاحية والخاتمة.
وتضمن فاتحة السورة وخاتمتها للقيم الصحيحة التي توزن بها الأمور تقدم الحديث عنه في بحث المناسبات بين الافتتاحية والخاتمة.
أما المقاطع الأربعة الأخرى وبالأحرى القصص الأربع في السورة فإنها وثيقة الصلة أيضًا بهدف السورة.
فقصة أصحاب الكهف وكذلك قصة ذي القرنين واضحة الاتصال بهدف السورة لأن القصتين جاءتا إجابة للسؤال الموجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في سبب النزول.
أما قصة صاحب الجنتين فاتصالها بالسؤال أيضًا من زاوية الاستنكار على قريش في أصل التوجه بالسؤال.
وفيما يلي تفصيل ذلك:
إن قريشًا لم تكن بحاجة إلى مثل هذا السؤال والاستفسار للتأكد من صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فإن محمدًا قد عاش بينهم وليدًا وترعرع في ديارهم شابًا يافعًا ثم كهلًا، وهم أعرف الناس بشئونه كلها، وينبغي أن يكونوا المرجع العدل الذي يرجع إليه الناس في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الحقيقة برزت على ألسنة بعض زعمائهم في لحظات وعي وتعقل:
قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: قال النضر بن الحارث فقال: يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها: هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم (5).
كان هذا حديث أحد زعمائهم عن شخص محمد صلى الله عليه وسلم، وكان حدث آخر منهم عن القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمغدق أسفله وإنه لمثمر أعلاه، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته وما هو بقول بشر” (6).
كانت تلك شهادة حق من الوليد بن المغيرة في لحظة صدق مع نفسه.
فعلى الرغم من إدراك القوم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق دعوته كانوا يحاولون طمس نور الحق بأي وسيلة يتمكنون منها، وكانوا يصرون على موقفهم المعادي ويحاولون تبريره بأي حجة كانت، مهما كانت واهية متناقضة مع مداركهم وقناعاتهم الذاتية، والسبب الدافع لهم إلى كل ذلك هو اختلال موازين القيم عندهم، فقد أعماهم الجاه وحب المال أن ينظروا إلى القيم إلا من خلالها، وهذه القيم الزائفة هي التي حملتهم على طلب إبعاد فقراء المسلمين وضعفائهم من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لكيلا يراهم الناس يجالسون الأرقاء المستضعفين فيعيروهم بذلك.
إن مثل هؤلاء في طمس نور الفطرة في نفوسهم، واستيلاء سكرة المال والجاه على بصائرهم كمثل صاحب الجنتين الذي أعماه الغرور بالمال والجاه وكثرة النشب والأولاد فكفر بربه الذي خلقه من تراب ثم من نطفة ثم سواه رجلًا.
فالقصة وثيقة الصلة بموقف قريش الذين أرسلوا إلى اليهود في المدينة ليسألوهم عن شأن محمد ودعوته، ولو كانوا ذوي حكمة وتعقل وفطر سليمة لما تصرفوا مثل هذا التصرف الكاشف عن سفاهة وحقد، فعندهم من أمارات صدق محمد صلى الله عليه وسلم في سيرته وإطلاعهم على رجاحة عقله، وطهارة ذيله واستقامة سلوكه ونبل أخلاقه وعظيم أمانته ما يغنيهم عن الترحال والاستفسار.
بالإضافة إلى ملكتهم البيانية في إدراك فصاحة الكلم وبلاغته فهم أمراء البيان ومنهم خطباء المحافل وشعراء المواسم، فبإمكانهم أن يدركوا حقيقة القرآن وأنه ليس من قول البشر.
– أما قصة موسى والخضر عليهما السلام، فلها صلة وثيقة بالهدف أيضًا، فهو توبيخ وتأنيب لليهود الذين يشكلون الطرف الثاني في اختبار صدق محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد لقنت اليهود وفد قريش أسئلة تاريخية وعلمية لاختبار صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء من دعوة الحق.
والأسئلة التعجيزية لا تكون الوسيلة المثلى دائمًا للتعرف على الحقيقة. كان الأليق باليهود -وهم أهل الكتاب الأول، ولديهم من الهدايات والوحي المنزل- أن يتدبروا حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد سؤال الوفد عن دقائق حياته وشأنه -كما فعل
قيصر الروم عندما سأل أبا سفيان عنه-(7)، وكان عليهم أن يتدبروا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدايات ويقارنوها بما عندهم -كما فعل النجاشي رضي الله عنه-(8) ليحكموا بعد ذلك على الدعوة وصاحبها، هاتان الوسيلتان هما المنهج الصحيح الذي كان على اليهود أن يسلكوه. أما مثل هذه المعلومات الغيبية فإن الجهل بها ليس دليلًا على عدم صدق المسئول، فهذا موسى عليه السلام، وهو من أعظم أنبياء بني إسرائيل قاطبة ومن أولي العزم من الرسل، ومجال افتخار اليهود جميعًا قد جهل أمورًا ثلاثة في رحلته مع الخضر عليه السلام، ولم يؤثر ذلك في مكانته عند بني إسرائيل ولا من أذهان المسلمين، ولم يقل أحد إن جهله بها قد أثر على صدقه في نبوته، ومقامه عند ربه.
فلماذا تجعلون -معشر اليهود- مثل هذه الاستفسارات وسيلة تشكيك في دعوة الحق التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.
ولئن لجأت قريش إلى مثل هذا الموقف لأن الموازين مختلة عندهم وليسوا أهل علم وكتاب سماوي، وقد انطمست أنوار الفطرة لديهم فإن لديكم مقاييس الوحي السماوي -مما لم تطاوله أيديكم بالتحريف والتشويه- وبواسطتها يمكنكم تقويم الدعوات والمواقف والأشخاص وإدراك الصادق من غيره.
ومن هذا الجانب أيضًا نجد أن قصة موسى والخضر عليهما السلام وثيقة الصلة بهدف سورة الكهف، وبالقيم الصحيحة التي اشتملت عليها، وبالموازين المختلفة والقيم الزائفة التي تبناها المنحرفون والمفسدون. فكل القصص الأربع -التي تشكل المقاطع الأساسية في السورة- توجه الأنظار إلى ما ينبغي أن يكون عليه الحال تجاه دعوة الحق، وتبرز القيم الصحيحة التي تتخذ موازين لتمييز الحق والصدق والصواب من غيرها.
لقد اشتملت القصص الأربع في سورة الكهف أسباب الفتن الأساسية في الحياة الدنيا؛ فتنة السلطان، والمال، والعلم، والأسباب.
ولهذا كانت قراءة سورة الكهف نورًا كاشفًا وعلاجًا ناجحا للفتن جميعها، فإن قيم هذه الأشياء إذا أدركت في ضوء الإيمان بالله واليوم الآخر، علم المؤمن أنها قيم مموهة داجلة ما لم ترتبط بالإيمان بالله سبحانه وتعالى ورجاء مثوبته يوم القيامة.
فكانت تمثل القيم الحقيقية في سورة الكهف عقيدة وسلوكًا عصمة من أنواع الدجل كلها، وعلى رأسها فتنة المسيح الدجال.

هوامش :

(1) من لطائف التعبير القرآني أن البشارة جاءت في الافتتاحية بصيغة الاستقبال “يبشر، يعملون” لأن الدعوة قائمة والمجال مفتوح للعمل في الحال والاستقبال، أما في الخاتمة فقد جاءت بصيغة الماضي، وكأن المصائر قد تقررت واستقر أهل السعادة في النعيم {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} .

(2) التعبير بكلمة “حبط” تعبير موح، فأصل الحبوط هو أن تكثر الدابة من العشب حتى ينتفخ بطنها فيقضي عليها، يقول عليه الصلاة والسلام: “إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم”، فقد أكثر هؤلاء الكفرة المنكرون ليوم البعث من الأعمال الدنيوية؛ مالًا ورجالًا وحطامًا حتى انتفخت نفوسهم بها عجبًا وزهوًا وكبرًا فكان حتفهم في ذلك فحبطت تلك الأعمال، فذهبت هباءً منثورًا، فلا تزن عند الله جناح بعوضة.


(3) رواه الترمذي في الزهد: ٣/ ٣٨٤، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه في الزهد: ٢/ ١٣٧٧.



(4) من الملاحظ أنه لم تذكر تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخاتمة بينما ذكرت في الافتتاحية في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} . والحكمة في ذلك -والله أعلم- لأن القضية انتهت وعرفت المصائر واستقر كل في مآله ومصيره، فلا داعي للتسلية وإعطاء جرعات من الصبر، فلا مجال للانتظار والتربص وقد انتهى كل شيء


(5) سيرة ابن هشام مع حاشية الروض الأنف: ٢/ ٣٨.


(6) سيرة ابن هشام مع حاشية الروض الأنف: ٢/ ١٢ مع اختلاف في الألفاظ.


(7) انظر تفصيل ذلك في صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي: ١/٥.


(8) انظر تفصيل ذلك في: السيرة النبوية لابن هشام مع حاشية الروض الأنف: ٢/ ٨٨.



منقول