تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الحنين إلى الوطن في الشعر الأندلسي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي الحنين إلى الوطن في الشعر الأندلسي

    الحنين إلى الوطن في الشعر الأندلسي
    محمد حمادة إمام




    حَقًّا، بلادي وإنْ جارتْ عليَّ عزيزة، هذا إذا جارت، فما بالنا إن لم يتعدَّ أهلُها، ولم تجُر، فلم ولن يَقْدِر الإنسانُ على التنكُّر لوطنه، وطرْد حُبِّه له مِن جَنَانِه، وكيانِه.
    وكثيرًا ما يَغْضَب المرءُ، ولكنه سرعان ما يحنُّ إليه، ويئنُّ مِن وطأة الاغتراب ذاكرًا مآربَ قضاها الشباب هنالك، فتُثمر تلك الذكرى أفانينَ مِن الصُّوَر، تسيل رقةً، وتمُوج عذوبة وسلاسة.

    وأوضحُ دليلٍ في الحنين إلى الوطن وأبْيَنُه، حالُ سيِّدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما خرج مهاجرًا - من مكة إلى المدينة، إذ لم يكَدْ يبتعد عن معالمها، حتى وَلَّى وجهَه شطرَها، قائلًا: ((يا مكة، لأنتِ أحبُّ بلاد الله إلى الله، ولأنِت أحبُّ بلاد الله إليَّ، ولولا أن قومَك أخرجوني منكِ ما خرجتُ))، فنزل جبريل - عليه السلام - بقوله تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ [محمد: 13][1].

    "فالحنين إلى الأوطان والأهل والأحباب، مِن رقة القلب وعلامات الرشد؛ لما فيه من الدلائل على كرَم الأصل، وتمام العقل.
    وقد بين الله - تعالى - فضْل الوطن، وكلَف النفوس به، في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [2]؛ فجَعَل خروجَهم مِن ديارهم كُفْءَ قتلِهم لأنفسهم.
    وللقُدماء كلماتٌ مأثورة في الحنين، ممَّا يدلُّ على نُبْل هذه العاطفة، وعُمْقها في النفس الإنسانية.

    قال أعرابيٌّ: لا تَشْكُ بلدًا فيه قبائلُك، ولا تَجْفُ أرضًا فيه قوابلُك[3]، وقال آخرُ: ليس الإنسان أقنعَ بشيء منه بوطنه؛ لأنه يتبرَّم بكل شيء رديء، ويتذمَّم مِن كل شيء كريه، إلا مِن وطنِه وإنْ كان رديء التربة، كريه الغذاء، ولولا حبُّ الناس للأوطان، لَخَرِبَ أخابثُ الأرض والبلدان"[4].
    وللعرب - خاصة الأندلسيين - نصيبٌ كبير، وحظٌّ وافر من الأشعار في هذا الفن، رابطين فيها بين الحنين إلى الأوطان، والحنين إلى الشباب وأيامه وذكرياته.

    فهذا القاضي، أبو عبد الله محمد بن [أبي] عيسى[5]، يُصوِّر مشاعره، ويعرضها مع أحاسيسه، بعد أن خرج من الأندلس إلى غيرها، يومَها ذَرَفَتْ عيناه الدمع على أيام الشباب، التي كانت في جبين الدهر كواكبَ سواطعَ، ونجومًا لوامعَ، فهي أيام مكتظَّة بالمآثِر والمعالي؛ حيث كان يتنقل في قرطبة، بين الأحبَّة في إيناس وأمان، وقد أعاد إليه ذكراها وُرْقٌ مغرِّدة، فإذا به حينئذ يُقِيم موازنةً بين ماضِيه المجيد، وشبابِه السعيد، الذي التحَف بنضارته، وأتحَف روحَه ببهجة رفاقه وأحبته - وبين حاله المروِّع في المشيب؛ فيقول[6]: [من البسيط]
    ماذا أُكَابِدُ مِنْ وُرْقٍ مُغَرِّدة
    على قضيبٍ بذات الجِزْعِ مَيَّاسِ[7]


    رَدَّدْنَ شَجْوًا شَجَا قلبَ الخليِّ فَهَلْ
    في عَبْرةٍ ذرفتْ في الحُبِّ مِن بَاسِ


    ذكَّرْنه الزَّمنَ الماضي بقُرطبَةٍ
    بين الأحبَّة في أَمْنٍ وإيناسِ


    هُمُ الصَّبابةُ لولا همةٌ شَرُفَتْ
    فَصَيَّرَتْ قَلْبَهُ كالجنَدْلِ القَاسِي



    وعلى مثل هذا اللحن يَعْزف أبو بكر محمد بن أزرق[8]، باكيًا شبابَه ومَعاهدَه، وحِمَى أحبابه، وخاصة غانيته، التي ولهته، متعجِّبًا مِن تَوارُد الأحزان، وتوافُق الأشجان بينه وبين هذا الطائر الشجيِّ؛ فكلاهما صَبٌّ، ولِعهْد الصِّبا ووطنِه مُحِبٌّ، فيقول[9]: [من السريع]
    هَلْ عَلِمَ الطّائرُ في أَيْكه
    بأنَّ قلبي للحِمى طائرُ


    ذكَّرني عَهْدَ الصِّبا شَجْوُهُ
    وكُلُّ صَبٍّ للصِّبا ذاكِرُ


    سقَى عُهُودًا لهمُ بِالحِمى
    دَمْعٌ لَهُ ذِكْرهُمُ نَاثرُ



    عبارات افتتَحها الشاعر بتعجُّب، واختَتمها بدُعاء؛ بيانًا لإقامته بين حيرة ووجد، وهذا يصوِّر مدَى صبره على غُربته، ووفائه لمعهد شَبيبَتِه، وقد قسا عليه الزمان، وقلاه الخلَّان.

    وهذا ابن دراج القسطلي، يبكي شبابَه، الذي بَلِيَتْ بُرُوده وثيابُه، ويندب دياره، التي كانت عامرة أيامَه بصنوف اللَّهو والتصابي، معدِّدًا توابع فقدِه، وما كثَّرت لديه من حسرات، وتتابع الآهات فيقول[10]: [من الطويل]
    أضاء لها فجرُ النُّهَى فَنَهَاَهَا ♦♦♦ عن الدَّنِفِ المُضْنَى بِحَرِّ هَواها[11]


    إلى أن يقول:
    فيا لَلشَّباب الغضِّ أنهج بُرْدُهُ
    ويا لَرياضِ الَّلهْوِ جَفَّ سَفَاها[12]


    وما هي إلا الشَّمْسُ حَلَّتْ بمفْرقي
    فأعْشَى عُيونَ الغانياتِ سَنَاها


    وعينُ الصِّبا عارَ المشيبُ سَوادَها
    فَعَنْ أيِّ عَيْنٍ بَعْدَ تِلْك أُرَاها

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,454

    افتراضي رد: الحنين إلى الوطن في الشعر الأندلسي

    سَلامٌ على شَرْخِ الشَّبابِ مُرَدَّدٌ
    وآهًا لِوَصْل الغانياتِ وآها

    ويا لديار اللهو أقوَتْ وسُومها
    ومَحَّتْ مغانيها وصَمَّ صَدَاها[13]



    أخَذ المُجُون حظًّا وافرًا لدى كثير من الأندلسيين، في شبابهم خاصة، ولما بان عنهم، واستعار بياض المشيب سواد عين الشباب، الذي كان يَرى به الوجودَ جميلًا، كثُر لهم مُثُول ذكرى اللهو والسرور، ووحشة آثار الديار، ومرارة هجر الحِسَان، وجفاف رياض الأنس.
    فيا لهم من رجال يُصوِّرون بخاطرهم ولبِّهم، ومشاعرهم، ملاعبَ صِباهم، فتهفو إليها أرواحهم، وتضطرم نيرانُ الحنين والأشواق إليها، وإلى الرفاق والأحباب؛ ولذا فإنهم كثيرًا ما يَطلبون مِن سُحب الربيع المبادرةَ بسقْي هذه الأطلال، ميادين الصِّبا، وملاعب الحسان، ومنبت السرور والأشجان، لِتُثمر وتُزهر، محدثة عن عهد الشباب الأزهر.
    وهذا ابن زيدون، يُصوِّر حَنينه إلى موطن أحبابه، ومعهد صباه وشبابه، إذ كانت الذكريات تُرسِل ظلَّها إليه، وتنشر ثوبها عليه، مرسلًا إلى تلك الديار تحيَّة، تفيض حسرة، وتقطر أسًى ولوعة... وها هو - الآنَ - تسيل أدمُعه، كاللؤلؤ، فيقول[14]: [من الطويل]
    على الثَّغَبِ الشهديِّ مني تَحَّيةٌ
    ذَكَتْ وَعَلَى وَادي العقيق سَلامُ


    ولا زال نَوْرٌ في الرُّصافةِ ضاحكٌ
    بأرجائها يَبْكي عَلَيْه غَمَامُ


    مَعاهد لَهْوٍ لم تزل في ظِلَالهِا
    تُدَارُ عليه للمُجونِ مُدامُ


    فإنْ بانَ منِّي عهدُها فبِلَوْعةٍ
    يُشَبُّ لها بَيْن الضُّلُوع ضِرامُ


    تَذكَّرتُ أيامي بها فتبادرتْ
    دُموعٌ كما خان الفريدَ نظامُ[15]



    ذكْريات أضرمتْ في قلبه النيران، وجعلَت الدموع تسيل أنهارا. وفي أثر اللهو والترف عليه، وفي أعلاق شعره، يقول الأستاذ أحمد ضيف: "وكان لأخلاقِ ابنِ زيدون، والبيئة التي عاش فيها، وميول الناس إلى اللهو أثرٌ عظيمٌ في شِعره. فقد كان للمُجُون مسحةٌ خاصَّة في النَّظْم والنَّثْر[16]".
    كان مجونه هو وأهل أوانه، سببًا في طيران صرخاتهم كل مطارٍ، وتعالي صيحاتِ الأنين والحنين إلى الأوطان والأوطار.
    --------------------------------------------

    [1] انظر: تفسير ابن كثير في الآية 13 من سورة محمد حـ 4 / 256، الدر المنثور للسيوطي حـ 6 / صـ 48 ط دار المعرفة. بيروت د. ت.

    [2] سورة النساء: 66.

    [3] القوابل: جمْع قابلة، وهي التي تتلقَّى الولد عند الولادة. اللسان: "ق. ب. ل.".

    [4] انظر: الأدب العربي في الأندلس د / عبد العزيز عتيق صـ 269، 270. دار النهضة للطباعة، والنشر بيروت سنة 1976 م.

    [5] هو "محمد بن أبي عيسى، من بني يحيى بن يحيى الليثي، ولي قضاء الجماعة بقرطبة، وله رحلة، وكان فقيهًا جليلًا عالمًا موصوفًا بالعقل والدِّين، من أهل الأدب والشعر والمروءة والظرف... كان عَلَمَ الأندلس، وعالمها...، ولي القضاء بقرطبة بعد رحلة رحلها إلى المشرق، وجمع فيها من الروايات والسماع كل مُفترق، وجال في آفاق ذلك الأفُق... مات سنة 337 أو 339 هـ، وكان مولده سنة 284 هـ." انظر: جذوة المقتبس صـ 74، 75، برقم 107، بغية الملتمس صـ 111 برقم 218، نفح الطيب حـ 2 / 12: 15.

    [6] انظر: جذوة المقتبس صـ 74، وفيها: «لهو» بدل «أمن»، نفح الطيب حـ 2 / 12، 13.

    [7] يُقال للحمامة: ورقاء؛ للونها... وجمعها: وُرْقٌ؛ بالضم. تاج العروس "و.ر.ق".

    [8] هو "أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد، استوطن وادي آش، من عمل غرناطة، وله شِعر حسن... طال به المقام بالأندلس، بعد رحيله إليها، وُلد سنة 319 هـ، ووصل إلى الأندلس سنة 349 هـ، ومات بها سنة 385 هـ، وُلد في مصر، وخرج منها إلى القيروان... فحُبس بالمهدية، ثم أُطلِق ووصل إلى الأندلس...، وكان أديبًا حكيمًا. سمع مِن خاله أبي بكر أحمد بن مسعود الزهري. ذكره المقري في نفح الطيب مرَّتين؛ الأولى ضمْن حكايات وأشعار أندلسية". انظر: نفح الطيب حـ 3 / صـ 122، 420، معجم الشعراء الأندلسيين. صـ 342.

    [9] انظر: نفح الطيب حـ 3 / 420، وانظر في مثل هذا المعنى لِعبادة بن ماء السماء - الذخيرة ق1 ح2 / صـ 5.

    [10] انظر: ديوان ابن دراج صـ 10، 11، والبيتان الأولان في النجوم الزاهرة لابن تغري بردي الأتابكي
    (813، 874 هـ) حـ 4 / 273. الهيئة العامَّة لقصور الثقافة 2008. شركة الأمل للطباعة والنشر.


    [11] الدِنف: الرجل الذي بَرَاهُ المرضُ حتى أشفَى على الموت. والدنف: "المرض". لسان العرب " د.ن.ف".

    [12] أنهج الثوب: إذا أخذ في البِلَى. لسان العرب: "ن. هـ.ج". "السفى"؛ السافياء التراب يذهب مع الريح، وقيل: السافياء الغبار فقط. اللسان: "س.ف.ا".


    [13] أقْوَتِ الدار: خلَت وأقفَرَت مِن أهلها. اللسان: "ق.و.ا". محت مغانيها: ذهب أثرُها.
    اللسان: "م.ح.ا". وهذه القصيدة أول ما أنشده ابن دراج المنصور بن أبي عامر سنة 382 هـ = 993 م.


    [14] انظر: ديوان ابن زيدون صـ 5 - من المقدمة - صـ 207.

    [15] الفريد: الدُّرُّ إذا نُظِم وفُصِل بغيره. اللسان: "ق.ر.د".

    [16] انظر: بلاغة العرب في الأندلس صـ 64.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •