الفتوى وضوابطها في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية


الفتوى شأنها عظيم، وخطرها كبير؛ فهي تبليغ عن رب العالمين، ونيابة عن إمام المفتين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وإذا كان المفتي قائمًا مقام الشارع في تبليغ شرعه، تعين عليه التبليغ على وفق مراده ومقصده في تشريع أحكامه، بأن تكون فتواه موافقة لمقاصد الشريعة وملائمة لها، ومحققة للمصالح التي قصدها الشارع من تشريع الأحكام، وألا تفضي إلى مصادمتها، وعلى هذا يلزم الفقيه أن يراعي في فتاواه مقاصد التشريع، ويجتهد في اعتبارها في النظر والاستدلال، وأن يزن فتواه بميزان الشرع، ولأجل ذلك نص الفقهاء على أهمية معرفة المقاصد الشرعية بالنسبة للفقيه، وأنها أولى الشروط لبلوغه درجة الاجتهاد؛ إذ يستند إليها في معرفة أحكام الحوادث والمستجدات، كما يعتمد عليها في فهم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وتفسيرها ومعرفة دلالاتها، والتوفيق بين الأدلة المتعارضة في نظره، والترجيح بينها، وكذلك الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة والمتزاحمة، ومن هنا تظهر أهمية الفتوى وخطورتها وضرورة مراعاة الفتوى لمقاصد الشريعة في الفتوى.
الآثار السلبية من تجرؤ بعض الناس على الفتوى
في البداية بيَّنَ أهم الآثار السلبية على المجتمع المسلم من تجرؤ بعض من ليسوا أهلا للفتوى على الإفتاء فقال: إنّ الإفتاء مقامٌ عظيم، ومنصبٌ خطير، حرصت الشريعة الإسلامية على العناية به، والتوجيه له، والتأصيل فيه؛ منْ حيث بيان شروطه، وآدابه، وقواعده التي يستنبط بها الحكم الشرعي، ذلك أنّ الإفتاء هو: بيان الحُكم الشّرعي للسائل والمُسْتفتي، وهذا الحكم الشرعي إنّما هو بمثابة توقيع عن الله -تعالى-، وعن رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأمانة يُسأل عنها الفقيه يوم يقوم الناس لربّ العالمين، «وأولُ مَنْ قام بهذا المَنْصب الشّريف سيدُ المرسلين، وإمامُ المتقين، وخاتم النبيين، فكان يُفْتي عن الله بوحيه المُبْين، وكان -كما قال له أحْكم الحاكمين-: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِي نَ}، فكانت فتاويه - صلى الله عليه وسلم - جوامع الأحكام، ومُشْتملة على فَصْل الخِطاب، وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحدٍ من المُسلمين العدول عنهما ما وجد إليهما سَبيلا، وقد أمر الله عباده بالرد إليهما؛ حيث يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: ٥٩).
النهي عن القول على الله بغير علم
وقد جاءت النصوص الشّرعية من الكتاب والسنة تنْهى أشدّ النهي، عن القول على الله -عزّوجل- دون علم، وجاءت أقاويل السلف الصّالح متكاثرة ومتوافرة، في النّهي عن التصدي للفتوى دون علم، والتجرؤ عليها، وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- والسلف الصّالح يتدافعون الفتوى، في رواياتٍ كثيرة مَحفوظة معروفة عنهم، فقد حرم الله -تعالى- التساهل في أمر الفتوى؛ فلا يجوز أنْ يتولاها إلا عالمٌ بكتاب الله، وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال -تعالى- مُوجّها ومخاطباً المستفتين والسائلين: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النحل:43). يعني: اسألوا أهل العِلم بالكتابِ والسّنة لا غيرهم.
سؤال أهل الذكر واجب
كما قال -تعالى- مُخاطباً المُفتين وعامّة المُسلمين: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} النحل:116، فسؤال أهل الذكر واجب، كما أرشدنا الله، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} أي ارْجعوا إلى أهل المَعرفة والاختصاص، وأهل الخِبرة بالشّرع، وهذه قاعدة في الحياة كلّها، كما أنّ الإنسان إذا مرض أو مرض ولده، يرجع إلى أهل الاختصاص في الطّب، وكذلك في كل أمرٍ من الأمور، يرجع للمختصين فيها، كذلك أمور الدين والشرع يرجع فيه إلى أهله.
ومِنْ ثَمّ قرّر العلماء: أنَّ مَنْ أفتى وليس بأهل للفتوى، فهو آثمٌ عاص لله -تعالى-، وهو بمنزلة مَنْ يدل الركب والمسافر وليس له علم بالطريق، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يُطبّب الناس، بل هو أسْوأ حالاً من هؤلاء كلهم، فالفتوى لا تكون إلا مِنْ أهلها، وكان السلف -رضوان الله عليهم- يُنْكرون أشدَّ الإنكار على مَنْ اقتحم حِمى الفتوى، ولمْ يتأهل لها، ويعدون ذلك ثُلمة في الإسلام، ومُنكراً عظيماً يَجب أن يُمنع، قال -[-: «إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكنْ يقبضُ العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً، اتخذ الناسُ رُؤوسا جُهَّالا، فسُئِلوا، فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلوا». رواه البخاري وغيره، وهذا كله بكلمة من هذا المفتي، ومن ثم يترتب على الفتوى إمّا الهداية وإما الضلال.
ضوابط الفتوى
- وعن أهم الضوابط التي يجب أن يراعيها المفتي في فتواه قال الشيخ النجدي:
يمكن حصر أهم ضوابطِ الفتوى فيما يلي:
الضابط الأول: أهلية المفتي
لأنّ الإفتاء إخبارٌ عن حكم الله -تعالى-، والفتوى توقيع عن الله، فلا بدَّ للمتصدر للفتوى أن تتحقق فيه الأهلية الشرعية، من حفظ القرآن الكريم، والعلم بالأحاديث النبوية، وأقوال السلف فمن بعدهم من العلماء وأئمة الدين.
الضابط الثاني: الاعتمادُ على الأدلة الشَّرعية في الفتوى
فأولُ ما يجب توافره في الفتوى لتكون محلًّا للاعتبار: اعتمادُها على الأدلة الشرعية الصحيحة المعتبرة عند أهل العلم، وأول هذه الأدلة: كتاب الله -تعالى-، وثانيها: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز للمفتي أنْ يتعداهما إلى غيرهما قبل النظر فيهما، ثم الاعتماد عليهما، كما لا يجوز مخالفتهما اعتماداً على غيرهما.
الضابط الثالث: التَّحلّي بصفات الإفتاء
بما أنّ وظيفة المُفْتي وظيفةٌ جليلةٌ، ومهمته عظيمة، كان لا بدّ أنْ تتوافر فيه الأهليّة للقيام بهذه المهمة، ولا بدَّ له أن يتحلَّى بمجموعةٍ من الصفات، حتى يكون أهلًا للقيام بعمله على أكْملِ وجه، فمن الصفات التي لا بدّ أنْ يتحلّى بها مَنْ يتصدّر للإفتاء، ما رُويَ عن الإمامِ أحمد بن حنبل أنه قال: «لا ينبغي للرجل أنْ ينصب نفسه للفُتْيا، حتى يكون فيه خمس خِصال:
- أولها: أن تكون له نيّة، فإن لم يكن له نية، لمْ يكنْ عليه نُور، ولا على كلامه نور.
- والثانية: أنْ يكون له علمٌ وحِلْم ووقار وسكينة.
- والثالثة: أنْ يكون قويًّا على ما هو فيه، وعلى معرفته.
- والرابعة: الكفاية، وإلا مَقَته الناس. والخامسة: معرفة الناس». انظر: (إعلام الموقعين 4/199).
الضابط الرابع: تعلّق الفتوى بموضوع الاستفتاء
الفتوى إذا تعلَّقت بموضوع الاستفتاء بلغت بالمُستفتي حاجته، وحصل منها على مُرادَه، فإذا خرجت عن ذلك فإنّها لا تسدُّ له حاجة، ولا تحلُّ له مشكلة، ولا تنقذه منْ مُعضلة، ولمْ يشرع الإفتاء إلا للإجابة عن التساؤلات، وحلّ ما يَعرضُ للإنسانِ منْ مشكلات.
ويجوز أنْ تكون الفتوى أشملَ مِنْ موضوعِ الاستفتاء، بحيثُ يُجيب السائل بأكثرَ ممّا سأل عنه لفائدةٍ يَرى أنّها تُفيد السائل؛ فقد سَأل الصحابةُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن ماءِ البحر، فقالوا له: «إنَّا نَرْكبُ البَحر، وليس مَعنا ما نتوضّأ به، أفَنَتوضأ مِنْ ماءِ البَحر؟ فقال: «هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلّ مَيْتته». أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، فقد أجابهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ميتة البَحر، رغم أنّهم لمْ يسألوا عنها؛ لمَا في ذلك من فائدة لهم في هذا البيان، وقد بوَّب البخاري لذلك في صحيحه، فقال: «باب مَنْ أجابَ السائل بأكثرَ مما سأل عنه» ثم ساق من الحديث ما يدلُّ على ذلك.
كما يجوز العدول عن موضوع الاستفتاء إلى موضوع آخر، يكون أنفعَ للسائل ممّا سأل عنه، أو يكون موضوع الاستفتاء لا يترتب عليه عمل، أو لكون السائل لا علم له، يدلُّ على ذلك قولُ الله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} البقرة: 189.
فقد سألوه عن سبب ظُهور الهلال خفيًّا، ثم لا يزال يتزايد فيه النور على التدريج حتى يكمل، ثم يأخذ في النُّقصان، فأجابهم عن الحكمة من ذلك: هو ظُهور مواقيت الناس التي بها تمام مصالحهم في أحوالهم ومعاشهم، ومواقيت أكبر عبادتهم وهو الحج.
كما يجوز العدول عن موضوع السؤال أو الإمساك عن الجواب، إذا ترتّب على الجواب فتنة للسّائل؛ فقد قال ابن عباس - رضي الله عنه - لرجلٍ سأله عنْ تفسير آية: وما يؤمّنك أني لو أخبرتك بتفسيرها، كفرت به. أي: أنكرت هذا الحُكم.
الضابط الخامس: تيسير الفَتْوى
فقد فطرَ اللهُ -سبحانه وتعالى- الإنسانَ على حُبِّ التيسيرِ والسَّعةِ، وكراهةِ العسرِ والحرجِ، ولا شكَّ أنَّ مِنْ خصائصِ الشريعةِ الإسلاميةِ السماحةَ واليسرَ، ورفعَ الحرجِ، والأدلةَ على رفعِ الحرجِ في هذه الأمةِ بلغت مبلغَ القطعِ، ومن يتتبعْ أحكامَ الشريعةِ يجدْ ذلك واضحاً جليّاً، ومن ذلك: قوله -تعالى-: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} المائدة: 6، وقوله -تعالى- في آية الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة: 185.
ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يسّرُوا ولا تُعْسّروا، وبشّروا ولا تنفروا». أخرجه البخاري ومسلم، والتيسيرُ مأخوذٌ من اليسرِ الذي هو بمعنى السُّهولة، والتيسيرُ: التسهيلُ والتوسعةُ والتخفيفُ، والبُعد عن التَّصعيبِ والتضييقِ والإحْراجِ والإعْناتِ الذي هو مضمون كلمة التعسير.
الضابط السادس: سلامة الفتوى مِنَ الغُمُوض
لما كان مقصود الفتوى بيان الحكم الشرعي، وتَحمِلُ في طياتها تبليغه للسائل، وجب تقديمُها بأسلوب مُبين، وكلام واضح قويم؛ فقد أمر الله -تعالى- نبيَّه الكريم بالبلاغِ المبين، فقال -سبحانه-: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} النور: 54، ومنْ وضُوح الفتوى خلوُّها مِنَ المُصْطلحات التي يتعذَّر على المستفتي فهمُها، وسلامتُها من التردُّد في حسمِ القضيةِ المَسْؤول عنها.
تقييد الفتوى وتوحيدها
- وعن إمكانية تقييد الفتوى وتوحيدها وجعلها في المجامع الفقهية فقط قال الشيخ النجدي:
أقدم ما يعرف من وجود لفكرة توحيد القول والفتوى، ما يُذكر في كتب التاريخ: أنَّ الخليفة هارون الرشيد استشار الإمام مالكًا في أنْ يُعلق الموطأ في الكعبة، ويَحْمل الناس على ما فيه، فقال له: أمّا تعليق المُوطأ، فإنَّ الصّحابة اخْتلفوا في الفُرُوع وتفرّقوا، وكلٌّ عند نفسِه مُصيب. وقال: لا تفعل فإنّ الناس وما هم عليه.
قال الشوكاني: التقليد لمْ يحدث إلا بعد انقراض خير القرون، ثمَّ الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وحدوث التمذهب بمذهب الأئمة الأربعة، إنما كان بعد انقراض الأئمة الأربعة. اهـ، ونجد هذا متمثلاً في قول من أوجب التزام أحد المذاهب الأربعة، حتى لما أراد بعض أهل اليابان عام 1357هـ الدخول في الإسلام قال لهم جمع من أهل الهند: ينبغي أن يختاروا مذهب أبي حنيفة، وقال جمع من أهل أندونيسيا: يلزم أن يكون مذهبهم شافعيا، فكان ذلك مانعا من إسلامهم.
أهم صفات القائم بالإفتاء
- ثم بين الشيخ النجدي أهم الصّفات التي يجب أن تكون في القائم بالإفتاء وذكر منها:
اشترط الأصوليون لتحقّق هذه الأهلية شروطًا مُعينة، وصفاتٍ محددةً، نجملها فيما يلي: «أن يكون مكلفاً، مُسلماً، ثقةً، مأموناً، مُتنزّهاً عن أسْباب الفِسْق ومُسْقطات المروءة؛ لأنّ مَنْ لمْ يكنْ كذلك، فقوله غير صالحٍ للاعتماد، حتى وإنْ كان مِنْ أهل الاجتهاد، ويكون مع ذلك مُتيقظاً، فقيهَ النَّفس، سليمَ الذهن، رصينَ الفكر، صحيحَ التصرُّف والاستنباط»، وقد سئل ابن المبارك فقيل له: «متى يُفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالماً بالأثر، بصيراً بالرأي»، ونحوه عن يحيى بن أكثم، وقد أجمل الإمامُ أحمدُ بن حنبل صفات مَنْ يفتي بقوله: «لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسَه للفُتيا حتى يكونَ فيه خمسُ خصالٍ: أولها: أن تكون له نية؛ فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة. والثالثة: أنْ يكون قويًّا على ما هو فيه وعلى معرفته. والرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس. والخامسة: معرفة الناس». انظر: (إعلام الموقعين 4/199).
ضبط الفوضى في مسألة الإفتاء
- وعن كيفية ضبط الفوضى في مسألة الإفتاء، ولا سيما مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي قال الشيخ النجدي:
- أولا: لابد من الحَجر على المُفتي الجاهل والماجن: وهذا مقرر عند أهل العلم، وهو من واجبات الراعي وحقوق رعيته عليه؛ وذلك لأنه يَحرم على المفتي الإفتاء فيما لا يعلم؛ لقوله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الأعراف: 33، وقد كان الخلفاء يمنعون مَنْ لم يتأهل من الإفتاء؛ فروى إبراهيم بن عمر بن كيسان قال: أذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحج منادياً يصيح: لا يُفْتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح، فإنْ لم يكن عطاء؛ فعبد الله ابن أبي نجيح، وقال ابن القيم: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقره من ولاة الأمر على ذلك فهو آثم أيضا.
وعن أهمية الفتوى وضوابطها وأركانها قال رئيس لجنة الإفتاء باتحاد علماء أفريقيا وعميد الكلية الأفريقية للدراسات الإسلامية في السنغال د. محمد أحمد لوح: مما يدل على أهمية الفتوى أمور:
الأمر الأول: قد تولاها رب العالمين
قال -تعالى-: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلَالَةِ} (النساء:176)، وقال -تعالى-: وَيَسْتَفْتُونَ كَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} (النساء:127)، وقال -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ} (البقرة:189)، وقال -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} (البقرة:217)، وعلى هذا فالمفتي بمثابة الموقِّع عن رب العالمين.
الأمر الثاني: الفتوى وظيفة
سيد المرسلين
ولرفعة شأن الفتوى فقد جعلها الله وظيفة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - فقال -تعالى-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل:44) فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - للناس ما نزل إليهم فعلَّم المتعلمين وأفتى المستفتين وما ترك خيرا إلا ودلَّ عليه، ولا شرا إلا وحذر منه، وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
الأمر الثالث: حرَّم الله -تعالى- التساهل في أمرها
ولرفعة مكانة الفتوى وشرف قدرها فقد حرم الله -تعالى- التساهل في أمرها فلا يجوز أن يتولاها إلا عالم بكتاب الله وسنة رسوله، قال -تعالى- مخاطبا المستفتين: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النحل:43) يعني أهل العلم بالكتاب والسنة، وقال -تعالى- مخاطبا المفتين: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (النحل:116).
أركان الفتوى
وعن أركان الفتوى قال د. لوح: للفتوى أربعة أركان: مفتٍ، ومستفتٍ، ومستفتىً عنه، ومفتىً به.
الركن الأول: المفتي
هو الذي يصدر الحكم الشرعي، ويشترط فيه شرطان أساسان:
الشرط الأول: العلم
ودليله: قوله -تعالى- ناهيا نهي تحريم عن القول في دين الله بغير علم-:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} (الإسراء:36)، وقوله -تعالى-: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} (النحل:116)، وفي الحديث المتواتر: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».
ويدخل تحت هذا الشرط أمور لابد منها:
- أن يكون عارفا بأدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح.
- أن يكون ملما بعلوم القرآن والحديث والنحو واللغة والتصريف ومواضع اختلاف العلماء واتفاقهم ما يمكنه من الاستنباط والاستدلال الصحيح.
- أن يكون سليم الذهن.
- أن يكون عارفا بمقاصد الشريعة، قادرًا على المقارنة بين المصالح والمفاسد، خبيرا بفقه المآلات مراعيًا ذلك كله في فتاواه.
- أن يكون خبيرًا بواقع الناس وأحوالهم، قال ابن القيم: «ينبغي للمفتي أن يكون بصيرا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم فإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ».
الشرط الثاني: كونه عاملا بمقتضى علمه
ودليل شرطية العمل بمقتضى العلم قوله -تعالى-: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة:44) وقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصَّف:2-3)، وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه؛ فيجتمع أهل النار عليه فيقولون:أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه».
الركن الثاني: المستفتي
ويلزمه أمور عدة أهمها ما يلي:
- أن يستفتي عن حكم الله مبتعدًا عن حكم غير الله، قال -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النساء:60)، وقال -تعالى-: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء:65)
- لا يجوز له الحياء من السؤال عما أشكل عليه من أمر دينه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين»، وقالت أم سلمة -رضي الله عنها-: «إن الله لا يستحيي من الحق؛ فهل على المرأة شيء إذا احتلمت؟».
- ألا يسأل على سبيل التعنت وإظهار العلم والذكاء.
الركن الثالث: المستفتى عنه
وهو المسألة المسؤول عنها، ويجب أن تكون واقعة تحتاج إلى بيان حكمها، أما افتراض غير الواقع من المسائل البعيدة والخوض فيها بالرأي والاجتهاد فمنهي عنه، والأصل في النهي عن الخوض فيما لم يرد به وحي لقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة:101) ولما فيه من الاشتغال بما لا يعنيك عما يعنيك وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه»، وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم :- «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته».
الركن الرابع: المفتى به
هو الحكم المستمد من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الذي كملت شروطه.
ضوابط الفتوى
1. الاستمداد من الأدلة الشرعية: ويعني الأخذ بما أجمع عليه أئمة الهدى، وإذا تعددت الأقوال في المسألة أخذ بأرجحها وهو الأقوى دليلا.
2. تحقيق مناط الفتوى: ومعناه تنزيل الفتوى على واقعها وذلك يتطلب فقه المفتي بالواقع حتى لا يسهل في غير محله، ولا يشدد في محل التسهيل، ولا يخرج الفتوى عن ظروفها وملابساتها الزمانية والمكانية.
3. التحري للإيضاح والتبيين: فيتحرى وضوح عبارات الفتوى وسلامتها من التعقيد اللفظي حتى لا تكون ألفاظه حمالة أوجه قابلة للتأويل والتلاعب.
4. الاستفسار من المستفتي: فيسأله عن حقيقة مسألته، حتى يفهم المراد قبل إصدار الحكم، فإن كثيرا من المستفتين لا يجيدون طرح السؤال.
5. إفادة المستفتي بما لم يسأل عنه: والأصل في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - للصياد الذي سأله عن الوضوء بماء البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».
6. الإعراض عما لا يفيد والإفتاء بما يفيد: والأصل فيه قول الله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} (البقرة:189)؛ حيث قالوا: ما لها تبدو صغارا؟ ثم تكبر ثم تعود صغارا؟ فترك -تعالى- الجواب عن هذا السؤال لكونه لا يفيدهم وأفتاهم بما يفيدهم فقال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ}.
7. ألا يتسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر إذا لم تتقدم معرفة له بالحكم المسؤول عنه، وأما إذا سبقت معرفته بحكمه فلا بأس بالمبادرة.
8. أن يقول لا أدري: إذا سئل عما لا يدري، ففي حديث جبريل المشهور: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.» وروى الإمام أحمد بن حمدان الحنبلي في كتابه القيم (صفة الفتوى والمفتي والمستفتي) عمن سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي البلاد شر؟ فقال: لا أدري؛ فسأل جبريل فقال: لا أدري فسأل ربه -عز وجل- فقال: «أسواقها».
9. ألا تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الرخص والحيل المحرمة أو المكروهة.
10. الحذر من الإفتاء في حال تشوش فكره: بغضب أو عطش أو حزن أو نعاس أو ملل أو تعب شديد أو مرض ونحوها من كل ما يخرجه عن حد الاعتدال.
11. التفريق بين مسائل الفتوى ومسائل القضاء: فينبغي أن يكون المفتي حذرا من الوقوع والبت فيما هو من شأن القضاء.
12. التيسير في مواطن الخلاف؛ فإن منهج السلف الصالح من هذه الأمة قائم على ضرورة تسامح المسلمين فيما بينهم فيما اختلفوا فيه، إذا كان المختلف فيه مسألة من مسائل الاجتهاد قابلة للاختلاف.
أهمية الاجتهاد الجماعي في الفتوى
في هذا العصر يتطلب الأمر الابتعاد -قدر الإمكان- عن الإفتاء الفردي، ولا سيما في المسائل التي تعم بها البلوى، ويمكن أن يترتب على الخطأ فيها تشتيت شمل الأمة، أو إيقاع شبابها في فتن لا مخرج لهم منها، وقد تصطلي الأمة كلها بنيرانها؛ ولهذا يرى عامة أهل العلم عدم تصدي الأفراد للاجتهاد في النوازل العامة، وكان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع أعيان الصحابة وعلمائهم عندما تنزل نازلة عامة ولا يكون فيها وحي من عند الله، وكذلك كان منهج خلفائه -رضوان الله عليهم- أجمعين، ومن هنا تتجلى أهمية الاجتهاد الجماعي لكونه يقلل الخطأ، ويدرأ شبهة اتباع الأهواء.
مقترحات ضرورية
قال د. محمد أحمد لوح: إن الفوضوية التي تعيشها بعض الدول الإسلامية في مجال الإفتاء تجرنا إلى عرض بعض المقترحات وهي:
- تأسيس مجالس وطنية للإفتاء يشترك فيها من العلماء والفقهاء من توفرت فيهم شروط الإفتاء إلى جانب مد جسور من التعاون مع إخوانهم من كبار العلماء في العالم الإسلامي.
- إقامة دورات توعوية للإفتاء وإيجاد برامج إعلامية لتحذير العامة ومن في حكمهم من التصدي للإفتاء، وتنبيههم إلى خطورة ذلك حالا ومآلا.
- تعاون الجماعات والمؤسسات الإسلامية على تأسيس معاهد علمية لإعداد كوادر متخصصة في الإفتاء، من حيث ضوابطه، وشروطه، وآدابه.


وائل رمضان