المكاييل والأوزان في الدولة الإسلامية
النشأة والتاريخ
عبدالكريم السمك



لم يكن العرب قبل الإسلام أهل جهل بعلم الكيل والميزان وأنظمته، وذلك بسبب صلاتهم التجارية مع من جاورهم كالروم والفرس، ومع مولد دولة الإسلام في المدينة المنورة، فقد ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التعامل مع نظام الوزن والكيل، اللذين كانا سائدين في المجتمع العربي، ولهذا فقد كانت المدينة بوصول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لها أرض دولة الإسلام، فمضى في إقامة الشريعة فيها، المعنية بتحكيم شرع الله الذي يحرم الغش وأكل الحرام؛ ومن الحرام نقص الوزن وسوء الكيل، فقد كان في المدينة رجل يكنى بأبي جهينة، وكان تاجراً، فكان يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص، فنزلت السورة الكريمة، "المطففين" كما جاء في الروايات الإخبارية، على أنها نزلت معنية بهذا الشخص، وفي بيان تحريم عدم الإيفاء بالكيل؛ والوزن رديف الكيل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «الكيل كيل أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة»، وهذا الحديث تزامن تاريخياً مع بناء الدولة في المدينة، ولم يقله - صلى الله عليه وسلم - في مكة أرض الدعوة.
فمكة التي عرفت مبعث رسالة الإسلام، كان حالها على الصورة والشكل اللذين لا يصلحان لأن تكون أرضاً لدعوة الإسلام، التي عمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى إقامتها، فهي قائمة في واد غير ذي زرع، ومركز تجاري كبير في الجزيرة العربية، لقريش مركز الصدارة فيه، فمواردها المالية متنوعة فيها الحلال وفيها الحرام، وكلها من التجارة، ومجتمعها مجتمع شركي يعبد الأصنام، يضاف إلى ذلك أن الواقع الاجتماعي فيها ينقسم إلى سادة وعبيد، تسوده الإغارة والصعلكة والوأد بسبب ضيق العيش، فمن أرض هذا الواقع ومن ظل هذه البيئة التي عرفها العرب، ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبناء دولة الإسلام في المدينة المنورة، بعد أن أدرك أن مكة أرض غير صالحة لمثل هذا البناء ومولد هذه الدولة.
فعناصر إقامة الدولة توفرت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة، وهي الأرض بموقعها وجغرافيتها، وشعبها، ومعاشها، وأصول النظام الذي سيحكمها؛ ألا وهو الإسلام، وقد جاءت خصوصيات المدينة عن مكة فيما يلي:
موقعها الجيو استراتيجي على طريق الشام التجاري، الذي سيكون وسيلة ضغط على من حارب الإسلام.
قربها من بلاد الروم وفارس ومصر، فمنها راسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملوك هذه الدول.
المدينة وادي زرع وماء وأهلها هم الأنصار الذين ناصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيها أقيم أول مسجد للإسلام، وأصبح المسلمون يُصلون فيه بشكل علني، بخلاف دار (ابن أبي الأرقم) في مكة، حيث كانت الصلاة فيها سرية، ولقاء المسلمين بعضهم بعضاً فيها كان سرياً، وفي المدينة آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار.
بهذه الخصوصيات انفردت المدينة عن مكة المكرمة، ومن مكونات هذه الخصوصيات ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وضع نظام دولة الإسلام، وخاصة بعد أن تمكن الإسلام في قلوب أهل المدينة وآمنوا به عقيدة وشريعة ورسالة حياة.
ولأهمية العلاقات المالية والتجارية والاقتصادية في حياة أي مجتمع كان؛ ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وضع ورسم أصول هذه العلاقات، لما فيه مصلحة استمرارية الدولة التي يعتزم إقامتها، ولم يجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تعارض بين الاستعانة بنظم وإن كانت بشرية، في العمل بها وفق المنظور الإسلامي، وشرعية هذه النظم وعدم تعارضها مع الإسلام ورسالته، ومن هذا ما كان يسود في المجتمعات العربية في مسألة التعامل بالوزن والكيل والنقد، فقد تعامل رسول الله بالدرهم الفارسي والدينار الرومي والكيل المدني والوزن المكي، فكان اجتهاد الرسول وتشريعه هذا في التقليد، قد فتح للمسلمين باباً عظيماً في مسائل الاجتهاد، على ألا يكون فيه خروج على أصول الشرع، فسورة "المطففين" التي يُرجح أنها مدنية، حسمت الأمر بالنسبة للمعاملات المالية القائمة على الحلال والحرام، من خلال الكيل المدني، والوزن المكي، ويلحق بهما النقد بنوعيه الرومي والفارسي، فكان إقرار العمل بأنظمة هذه الوحدات المعيارية كقاعدة عمل، وأساس لضوابط العلاقات التجارية والمالية في دولة الإسلام، مع مراعاة أحوال المجتمعات الإسلامية المتعددة والمتنوعة، التي كانت تحدد في أغلب الأحيان بالاستناد على العرف، وإلى ذلك يشير ابن خلدون بالقول: "صار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق الشرعية من سكتهم، بمعرفة النسبة التي بينها، وبين مقاديرها الشرعية".
ومن أجل أن تكون ضوابط الكيل والوزن في المجتمع الإسلامي في معاييرها سليمة وصحيحة، كان القضاء والشرطة هما المسؤولين عن مراقبة هذه الضوابط وألحق بهما صاحب الحسبة ومتولي الاحتساب وناظر الحسبة ووالي الحسبة، والمحتسب يشرف على العديد من المهام الموكلة له، ومنها النظر في الأسواق، والإشراف على الموازين والمكاييل، ومراعاة عيار الماء، ومراقبة الأسعار، ومنع الاحتكار، والإشراف على دور الضرب والعيار، ومراعاة إثبات اسم الخليفة على النقد من الذهب والفضة، ومراقبة الصاغة حتى لا يبيعوا الأشياء بجنسها ليحل فيها التفاضل، وحتى لا يبيعوا الحلي المغشوشة إلا بعلم المشترين ولا يسرقوا الحلي أثناء سبكها أو لحامها، وحتى يلاحظ ضرب العيار، وكان على المحتسب أن يراقب طوائف أصحاب الحرف، وكان غالباً ما يتم اختيار عامل من كل صنعة ليكون عريفاً من بين أفرادها، يشرف على أحوال طائفته من قبل أصحاب الاحتساب، كما احتوت كتب الحسبة على إرشادات للمحتسب حتى يكتشف الوسائل المختلفة التي يعمد إليها الصناع للغش والتدليس، كما عليه أن يعمل لديه ميزاناً لكل عمل، وعياراً يقيس عليه الأعمال والمعايير ليتعرف على الصحيح منها والمغلوط، وعليهم كذلك الضرب على أيدي من يذهب في نقص المكيال والوزن.
الوزن والكيل في القرآن واللغة:
1) الوزن: جاءت كلمة الوزن بما يفي بالغرض الشرعي في معناها ودلالتها في كتاب الله، حيث وردت في كتاب الله في ثلاثة وعشرين موضعاً، وهي إما وردت فعلاً أو اسماً فيه الترغيب وفيه الترهيب، كما جاءت في الآيات الكريمة التالية:
﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾ [الأعراف: 8].
﴿ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ﴾ [الكهف: 105].
﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأنبياء: 47].
والميزان مفعال من وزن، كالمكيال، من كال، قالت العرب: وزنت الشيء وزناً وزنة، أي امتحنته بما يعادله، والوزن في اللغة هو التقدير بواسطة الميزان، والوزان من حرفته الوزن، قال الفرزدق:
أخلاقنا تزن الجبال رزانة
وتخالنا جناً إذا ما نجهل
2) الكيل: جاءت كلمة الكيل والمكيال اسماً أو فعلاً في كتاب الله في أربعة عشر موضعاً، فيها الأمر والنهي والترغيب والترهيب من نقص المكيال والعبث فيه:
قال تعالى:
﴿ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ﴾ [هود: 84].
﴿ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ﴾ [يوسف: 65].
﴿ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾ [هود: 85].
والكيل والمكيال اسم يعم جميع ما تُعاير به المكيلات، فمكيال على وزن مفعال والكيل أصله مصدر، كال الطعام وغيره يكيله كيلاً؛ والمكيال مشتق منه، والكيل في اللغة هو: تحديد مقدار الشيء بواسطة آلة لذلك هو الكيل والمكيال، والكيلة اسم هيئة كما جرى في المثل (أحشفاً وسوء كيلة).
ومع اتساع حدود دولة الإسلام خارج المدينة المنورة، كان كيل رسول الله وميزانه هما الأساس الذي عُمم على الأقطار والأمصار الإسلامية، فاستعملت هذه الأقطار فيما يسود عندها من أوزان ومكاييل، ما خطه ورسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أن الإمام مالكاً رضي الله عنه تعقب مكيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن طريق أبناء الصحابة، فأحضروه له وقدر وزنه وكيله فكان وزنه رطلاً وثلث الرطل.
وقد اهتمت كتب أصول الفقه والفقه والسنة بقضية الأوزان والمكاييل وما يلحق بهما، واستطاع أصحاب هذه العلوم حصر أسماء المكاييل السائدة في البلدان والأمصار الإسلامية، وقدرت بحدود الثلاثين كيلاً ويزيد، كما أحصوا الأوزان من خلال مسمياتها فبلغت أربعة عشر صنفاً، كانت سائدة في أقطار العالم الإسلامي ولا يزال البعض منها إلى اليوم، وإن تحولت مسألة الوزن إلى نظام الوزن بالغرام وما زاد عنه أو قل، وحتى لا يقع في الكيل أو الوزن غش في المجتمع الإسلامي، فقد قام أمراء الشرطة والحسبة والولاة بمراقبة الأسواق، إضافة إلى إصدار مكاييل مختومة باسم من يتولى هذه القضية ومراقبتها، وقد حفظت لنا المتاحف الكثير من المكاييل المختومة لضبط عملية الوزن والكيل، وقد عرفت هذه المكاييل التي سادت في المجتمعات الإسلامية بهذه الأسماء:
مد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاعه، القسط، الكيلجة، الختوم، الصواع، السقاية، الجام، المكوك، الحجاجي، الفرق، الويبة، الهشامي، القفيز، العرق، المكتل، المدي، الإردب، الجريب، الوسق، الكر، القنقل، الحلاب، العس، النصيف، السندرة، الفالج والفلج، الرطل، الملحم، القباع، المن، المنى، الزيادي، الخالدي، القب.
أما فيما هو معني بقضية الوزن فقد أحصى العلماء منها أربعة عشر صنفاً وقد عرفت بهذه الأسماء:
الميزان، القيراط، الدانق، الدرهم، الدينار، النواة، النش، الأوقية، الرطل، المن، المنى، القنطار، البهار، المثقال.
هذا وقد حفظت لنا المكتبة الإسلامية العديد من الكتب المعنية بالوزن والكيل، فكان ما هو معني بكتب الفقه وأصوله، وما هو معني بالتاريخ في دراسة تأريخ هذه الأنظمة والعمل بها في المجتمعات الإسلامية، وقد التقت هذه الأنظمة علمياً اليوم مع النظام المالي والتجاري والاقتصادي السائد في سياسات الدول، وقد اعتبر المستشرقون ثراء المكتبة الإسلامية بهذا النوع من العلوم المعنية بنظام المجتمعات الإسلامية في المجالات التجارية والمالية والاقتصادية، من أسمى وجوه الحضارة الإسلامية خلال أربعة عشر قرناً من تاريخ دولة الإسلام، والذي تمخض عن مولد المذهب الاقتصادي الإسلامي، الذي استطاع مواجهة أكبر مذهبين اقتصاديين عالميين، وهما الشيوعي والرأسمالي في تاريخنا المعاصر، وتقديم الإسلام بصلاحية نظامه مع المسلمين فيما بين أنفسهم ومع غير المسلمين في أي زمان ومكان كان.