بين الكتاب والمقال صورة من فنون المناظرة
د. عبدالمنعم مجاور

تَنَاظَرَ "الكِتَابُ" و"المقال" كلٌّ يَدَّعي لنفسِهِ الفضلَ والسَّبْق، واحتكما إلى أهل الحَلِّ والعَقْد من رجال القضاء، وسَدَنَة العدل، فلما دخلوا القاعة وعُقدت المحكمة للفصل بين المُتَنَاظِرَين ِ وإصدار الحكم بأحقية أحدهما في التقديم، وتبعية الآخر له - نظر الكتاب إلى المقال نظرة ازدراءٍ وإقلالٍ، وأخذ يرمُقه مستصغرًا حجمَه؛ إذ رآه يجلس على طرف كرسيٍّ صغير، لا يشغل من حيزه إلا بمقدار ما يشغل الكرسي من قاعة المحكمة الفسيحة، وأخذ ينظر لنفسه، وقد كثُرت أوراقُه، فَرَاقَه منظرُه، واغترَّ بكثرة عَدَدِه، فشمَخ بأنفه، وانتفش كالديك المزهو بريشه.

طرق القاضي على المنصة طرقات ثلاث مُعلنًا بدءَ المناظرة، وقد خيَّم على الحضور من الجمهور صَمتٌ مَهيب، وبدأ القاضي بالسؤال: أتَّفقتما على مَن منكما يبدأ الكلام أم نحتكم للاقتراع؟ فَرَدَّ المقال قائلًا: فليبدأ الكتاب؛ فالإيثارُ في ديننا معروفٌ، ومذهبُ أهل الصلاح فيه مألوفٌ، وإني لأرجو أن أكون من أهله، ممن قال الله فيهم: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9].

فرماه الكتاب بنظرة الكِبْر والفَخَار، ثم التفت إلى القاضي وقال متعجِّبًا: لا أدري لِمَ عُقدتْ المناظرةُ، وما الدّاعي إلى المحاكمة؟! فسأل القاضي: ما قصدُك بسؤالِك؟ أَفْصِحْ، أَبِنْ، أتراها محاكمة عبثية؟! أم تعدَّها مناظرة هزلية؟! فاستطرد الكتاب في كلامه غير آبِهٍ بسؤال القاضي ولا مَقامِه، فقال: تُعقد المناظرات عادةً بين المتكافِئَينِ منزلةً، المتقاربين مكانةً، ولا أرى المقال يحوز من ذلك كرامةً أو شَرَفًا، فأجعل منه خصمًا أو طرفا، فقاطعه أحد القضاة: هلَّا حدَّدت مَرامَك المقصود دون الحديث في العموم، فأردف الكتاب قائلًا: يُحَكم على الشيء بشكله وجوهره، فإن مالَ جانبٌ عوَّضه صِنوه وأخوه، فانظروا - رحمكم الله - إلى هذا المسكين وقد هدَّه الهُزال، وخفَّ ما فيه من الأحمال، فلا شكلًا حاز فملأ العين، ولا جوهرا أجاز فكَدَّ الفكر أو شغل الخاطر، ومن أين له هذا وأوراقه معدودة، ومعلوماته محدودة؟! يُسوِّدها صاحبُه في جلسة أو جلستين، ثم يرمي بها إلى دورية عابرة، أو صحيفةٍ سَيَّارة، فما تشفي لباحث غُلَّة، ولا تروي لطالبِ علمٍ ظمأً! وما عساه أن يُقدِّم وما أراه إلا جزءًا من أجزائي المبتورة، أو فصلًا من فصولي المنثورة، اجتزأه صاحبه رغما عني، أو خلعه من متني على حين غفلة مني، وما ضرَّ قارئه لو أنه قلَّب صفحاتي، وأتى بالأمر من بدايته إلى انتهائي، فما أراه - لو فعل ذلك - إلا موفقا مُسدَّدًا، مُحصِّلًا للعلم الرصين ومؤصِّلًا.

يا حضرات القضاة الأجلاء، أيستطيع أحدكم أن يخبرني كيف جلس على هذه المنصة؟ وكم كتابًا قرأ حتى استوت له هذه الجلسة؟! هل منكم من أحد اكتفى بمقال قرأ، أو بمجلة تَصفَّحَ أوراقها، فاكتفى بها عن الكتب، ما خُطَّ منها أو ما جُلِّد وطُبع؟ وهل استقر لعالِم مقامُه، واستوى له من العلم أركانُه إلا بالكتاب، ومزاحمة العلماء فيه بالمناكب والرُّكَب؟! وهكذا كان دأب الأوائل من المشايخ والعلماء، حتى قالوا: "لا تأخذوا العلم عن مُصْحَفي"، وما ذلك إلا لفضل الكتاب وشَرَف تَلَّقيه، فالعلم علمان: علم رواية، وعلم دراية، وما كان للثاني أن يكون إلا بعد أن يُحصِّل من الأول بالقدر الذي يعينه على مواصلة الطريق، فيقيس على الأشباه والنظائر، ويبني على أساس سليم؛ ففي متني أعطى الكاتبُ لكل شيء حقَّه، واستوفى منه مستحقه، لم تلهبه سُرعة، ولم تستفزه عَجلة، فيكون "كالمُنبتِّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى"، وإنما تأنَّى وتريث، وتثبَّتَ وتحقَّق، حتى ما تكون شاردة إلا وعَرَف لِمَ شردت، ولا واردة إلا ودرى من أين وردت، فاستكمل ما نقص، ووفَّى كل مسألةٍ مطروحة حتى كأنها شغله الشاغل، ليس له هَمٌّ غيرها، فإذا اتفق له منها ما أراد غادرها إلى غيرها وكان له معها ما كان لسابقتها معه، وهكذا دواليك حتى أكون - أنا الكتاب - بين أيديكم، قد عركتني التجارب، وهدَّ مفاصلي تقليبُ الصفحات، وكثرة التدقيق والمراجعات، فأكون شاخصًا أمامكم كائنًا مكتملًا فمن يراني لا يرى مِن تعبي ولا من جهد صاحبي في تأليفي بقدر ما يفيد من محتواي، أو ينتقد من قضاياي، يقلِّب الناس صفحة من صفحاتي، وما عرفوا كم من الوقت أُنفقَ من أجلها، ولا كم كتابًا قُرئ كي تستوي على سوقها؟ ولا عرَفوا من حال مؤلفي شيئًا يعترف له فيه بفضل إذا أجاد، أو يلتمس له من عذرٍ إذا سها أو غفل أو جانبَه التوفيق، ما عرفوا من حاله وقد ترك أسرته وعياله، واحتجب عمن يحب ويهوى لأجل تأليفي، والسهر على ترتيبي وتبويبي وتصنيفي، ثم يأتي بعد ذلك غِرٌّ صغير لا تتجاوز صفحاته أصابع اليد، ولا يدري من حالي مقدار الكد، فيدَّعي التفوق والسبق، وما درى المسكين أن للعلوم أعرافًا وأصولًا، وللتآليف أصنافًا وفنونًا، فيرمي إلى نسفها، ويدَّعي زورًا بَزَّها وسبقها بداعي أن زماني قد ولَّى، وأن عصري قد أدبر، ونجمي قد أفل، متخذًا من الكلمات المعسولة، والعبارات الطنانة، والمصطلحات البرَّاقة - وسيلةً تستهوي كل غرٍّ حديثِ عَهدٍ بقلم، فتجد من ذلك ما لاكته الأفواه، وملَّته المسامع، وضجِرت منه الأفئدة، وعافته الأذواق السلمية - مما عمَّت به البلوى في هذه الأيام - من مثل: الحداثة، والمعاصرة، والتقدمية، ومواكبة روح العصر، إلى آخر هذه المقولات التي في ظاهرها حقٌّ مزيف، وفي باطنها باطل شائن، أَبَعْدَ هذا كله يا سادتي تَرونني متجاوزًا إذا أردتُ إنهاء المناظرة، وتعدونني متطاولًا إذا قصدت إلى أن أضع الأمور في نصابها؟ وماذا تتوقعون أن يقول من يُسمَّى بـ"المقال" بعد ما ذكرتُ وسردتُ، وإن كان ما ذكرته غيضًا من فيض، وما سردته قليلًا من كثير..

فردَّ القاضي قائلًا: لقد سمعنا منك، وأَعْجَبَنا حديثُك، ودَمَاغَةُ حُجَّتِك، وحُسن بيانك، ولكن أترانا منصفين إن أجزناك، وعلى صاحبك قدَّمناك من غير أن نسمع منه، فنعطيه من الوقت ما أعطيناك، ونُعيره من السمع ما أعرناك؟! إننا إن فعلنا ذلك ما لاقَ بنا هذا المكان، ولا استحق أحدنا هذا الموضع والمقام، وكان حالنا كحال داود "عليه السلام" لَمَّا أصدر حكمه على أحد المتخاصمين بعد سماعه من أحدهما دون الآخر، فسجَّل القرآن مقاله: ﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ﴾ [ص: 24].

فدعنا نسمع لخصمك، فنقابل حُجَّتَه بحُجَّتك، وأيهما ظهرت حجَّتُه، وعلا برهانُه ودليله، حكمنا له وقدَّمناه، وأشار القاضي إلى "المقال" أنْ هاتِ ما عندك، وادلُ بدلوك، فقام "المقال" من مكانه، ووقف أمام منصة القضاء، واتخذ له مكانًا، فجعل ظهره للجدار، وجعل القضاة عن يمينه، وجموع الحاضرين عن يساره وبدأ الحديث، وقد وزَّع على الجهتين نظراته وكلامه، فكان مما قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى وسلم على نبيه محمد صلى اله عليه وسلم: لقد سمعتُ كما سمعتُم ما قاله الكتاب، وقد أعجبني من كلامه بعض ما أعجبكم منه، غير أن الأمر في كثير من حديثه على غير ما ذهب إليه؛ إذ إنني لم أنكر عليه شيئًا من فضله، ولم أنزع عنه ثوبًا قد ستر به عيبه، وإنّما أردت استكمالَ بناءٍ قد شَيَّدَ هو أعمدته وأركانه، فكان له سبق الفضل فيه دون أن يستأثر هو بالخير كله، فالزمان على ما تعلمون متغير دوَّار، والتجديد فيه والتطور سنة من سنن الله عز وجل في خلقه، لا ينكرها إلا جاحدٌ، ولا يغض الطرف عنها إلا مجحفٌ، وإنما قصدت إلى استكمال فضائل بدأها، ونشر خير في طريق عبَّدها ومهَّدها، ولم يكن يدور بخَلَدي أن يضيق أُفُقُه على ما ادَّعى فيه من سَعة، أو أن يستبدَّ به من غضب على ما عُرف عنه من حِلم وأناة، أو أن ينكر فضلًا أعطاه الله غيره، فسبحان مَن وزَّع الحظوظ والأرزاق، ولولا خشيتي من أن أُتَّهم بقلة الحيلة، وضعف الحُجَّة، ووَهن الدليل والبيِّنة، لتصدقتُ بما نلتَ منِّي يا صديقي عليك، ولكنْ أنا هنا رسولٌ لغيري، ونائب عن إخوة لي أخاف إن قصَّرتُ أن ينالهم من تقصيري، فأكون قد ضيَّعت أمانة وُسِّدَتْ إليَّ، وخنت عهدا قَطَعْتُه معهم على نفسي بأن أجلوَ الحُجَّة، وأُظهر من الأمر ما استتر منه؛ لأعطيَ الحقَّ لأصحابه وإن كانوا غائبين، وآخذَ الحقَّ من مُدَّعيه وإن كانوا حضورا ظاهرين، وعليه فإنك قد عِبتني - ومن على شاكلتي - بقلة العدد، ووصمتني وغيري بالهزال، ولو كان الأمر بالعدد ما خلَّد الله ذِكر أهل بدر ولم يجاوزوا ثُلُث المشركين في العدد إلا قليلًا، فمن يذكر الآن المشركين بأسمائهم إلا في موضع الذم المتبوع بدعاء عليهم؟! أمَّا الثلة القليلة فقد رفع الله ذكرهم، وخلَّد مآثرهم، وأَتْبَعَ اسمَ كلِّ واحدٍ منهم بدعوةٍ بالرضا تنمو وتزدهر إلى يوم الدِّين، فما رأيك في كثرة العدد وقِلَّتِه، هل فَضُلتِ الكثرة على القِلَّة؟!

أما عن الشكل والمظهر، فَتَأَمَّلْ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ )، تجد أن مدار الأمر على الجوهر لا العَرَض، وعلى لُبِّ الأمور وحقيقتها لا على قشورها وظواهرها، على أن جواهر الأمور ولُبابها لا تقاس بعدد الصفحات، ولا بمُجمل السطور والكلمات، فليس كل ما كبُر وزاد، وسُوِّدت فيه الصفحات بخيرٍ كله، بل ربما كانت الزيادة وبالًا عليه، وعامل نقصٍ فيه، وكم من كتابٍ زادت صفحاته، فكسدت تجارته، وبارت سلعته؛ ذلك لأن "كثيرَ الكلام يُنسي بعضُه بعضًا" كما يقال، وكم من كتابٍ صغير الحجم، قليلِ السطور ذاع صيته، وعُرِف خبره، وشُهدَ له، والشواهد على ذلك في كل أبواب العلم معروفة، وفي كافة فنون الأدب مشهورة مألوفة، وهل تظن يا سيدي أن كثرة عدد صفحات كتابٍ ما دليلٌ على نجابة صاحبه، أو على فَضْلٍ فَضَلَ به غيره؟! قد يكتب كاتب في موضوع ما مئات الصفحات، ويكتُب غيره في نفس الموضوع، فلا يزيد فيها عن العشرات، ويفوق الثاني الأولَ قيمة واعتبارًا؛ لأن الأول كان كحاطب ليلٍ، جَمَعَ كل ما صادفه جَمْعَ ولاءٍ من غير تفكيرٍ ولا تدقيق أو تمحيص، فما قدَّم دليلًا، ولا أقام أَوَدَ حُجة أو برهان، وجاء الثاني ففكَّر ودقَّق ومَحَّص وانتقد، وأخذ ما يفيد موضوعه ليصل إلى مبتغاه، وألقى بالزيادات الزائدة جانبًا إلى أن يحين وقت معالجتها والإفادة منها إن وَجَدَ فيه فائدة، فلمن يُنسَبُ الفضل؟! وعلى من تكون المؤاخذة؟!

أما عن قولك بأن "المقالات" لا تَشفي غُلَّة ولا تروي ظمأً، فأقول لك: بل هي مفاتيحُ للكتب، وكشاف لها ودليلٌ عليها، فكم من مقال أحال القارئ إلى كتاب غاب عنه، أو إلى بعض المَظَانِّ التي خَفَيتْ عليه؛ ذلك أن تأليف الكتب يستطيعه كلُّ أحد، أما كتابة المقال فليست على هذه الشاكلة؛ لأنها بحاجة إلى كاتب ماهر حاذق متمرسٍ، يعرف ما يأخذ، وما يَدَع، وليس في ذَرْعِ كُلِّ أحدٍ واستطاعته أن يفعل مثل فِعْلِه، إنها مَلَكةٌ وموهبة، تعتمد التكثيف منهجًا، والقصد إلى الغاية مسلكًا ومأربًا.

أما عن حُجَّتك بأن العلماء الأفذاذ ما تَربَّوْا إلا على مائدة الكتب، فأنا معك متفق، ولك مُقرٌّ وموافق على أن لذلك عِللَه وأسبابه، لعل أظهرها عدم ذيوع المجلات والصحف السيَّارة، والدوريات العلمية ذيوعها اليوم، ولو أنهم ظفروا بها قديمًا ما تركوها، بل ربما اتَّخذوها معراجًا للعلم عليها يعرجون، وأداة بها للعلم ينشرون.

هذا وإننا - معاشر المقالات - لم نُنكر لك فضلًا، ولا نسينا لك دورًا، ولا قَلَّلْنا لك من شأن، بل إننا ندرك معاناتك، ونقدِّر حجم خلواتِ كاتبِك، وبعده عن أحبابه وجلسائه، ولكن أليس هذا كله لأجل أجرٍ يلتمسه من سبيلك، ورضا من ربِّه يطلبه من خلالك، وثمنٍ في الآخرة يرتجيه عبر نافذتك؟! والنبيُّ الكريم يقول: "ألا إنِّ سلعة الله غالية، ألا إنَّ سلعة الله الجنة"، ألا إنَّ أخشى ما أخشاه عليك يا صديقي أنْ تلتمسَ الأجر بعيدًا عن ذلك، في شكر زائل هنا، أو ذِكْرٍ فانٍ هناك، فيضيع فضلك، ويذهب أثَرُك هباءً منثورًا أعيذك ونفسي والقارئ الكريم من ذلك، فراجع - مع نفسك - حسابك، وجدِّد النية في كل أعمالك يصبح لك شأن عظيم، ويُضْحِي لك ذِكْرٌ في كل ملأ كريم.

وإذا كنتُ - كما زعمتَ - جزءًا من أجزائك المبتورة، أو فصلًا من فصولك المنثورة، فما يضير الكبير إذا أراد أن ينفصل عنه جزؤه ليكون له دوره وأثرُه، وهل تريدنا أن نكون نسخًا مكررة، وأشباهًا متكررة؟! فكم من ابن فاق في المجد أباه، وطالبِ علمٍ زاد علمه على شيخه، فما كرِه الأب، ولا أنكر الشيخ، بل كانا به سعيدين، وكانا له شاكرَينِ؛ إذ به يمتدُّ الذِّكْر والأثر، وينتشر في الدنيا العلم والخبر، وهذا غاية ما يرجوانه!

ودَعْني أهمِس في أذنك غير مزعجٍ لك، ولا شامت فيك، فأقول: إن هذا العصر هو عصر "المقالة"، فهذا الجيل غير سابقه، فُتحتْ عليه الدنيا، وضَخَّتْ له السماوات المفتوحة ما لم نكن نتصوره أنا ولا أنت، ولا أجيال سابقة أدَّت ما عليها في حدود ما ملكت، وما تيسَّر لها، فإن لم نواكب هذا السيل المتدفق بوسائله الحديثة، وأدواته المتطورة، فكيف نُجَابِهُ هذا الطوفان الكاسح؟! أم تُراك تريدنا أن نعيش في الحاضر بفكر الماضي؟!

إن "المقال" في عصرنا هذا - يا سيدي - أشبه بما يسمونه الـ"Take Away"، يناسب السرعة التي يعيشها شبابنا؛ إذ لم يعُد الأبناء ينتظرون أباهم حتى يعود من عمله؛ ليتناولوا معه وجبة الغداء أو العشاء، فيحكي لهم عن مغامراته في عمله، أو فتوحاته في وظيفته، وإنما أصبح لكلٍّ هَمُّه وما يشغله، ولم يعد مناسبًا لهذا العصر كتاب نقرؤه على "سفرة الغداء" بقدر ما هو مناسبٌ مقالٌ نتصفحه، ونناقش ما فيه، فيُحيلنا إلى كتاب كذا، أو مرجع كذا، فنعود إليهما عند الحاجة إليهما؛ لنأخذ منهما ما يفيدنا في كتابة مقال، فالبغية الفائدة، والطلبة النتيجة والأثر!

لقد أضحت الكتبُ مقارنة بالمقالات أشبه بمتحف فيه نوادر لا تقدَّر بثمن، نقتنيها، ولا نستطيع أن نفيد منها قدر إفادتنا من مقال متخصص، فإذا أردنا الاستزادة والتوسع والاستفاضة، عدنا متوسلين إليها أن تمدَّنا بمكنوناتها، لا لتمجيدها فحسب، بل لمواصلة رحلة البحث والتقصي، "ومواكبة روح العصر"، وأعتذر - سيدي - عن تلك الجملة التي أغضبتك؛ إذ لم يعُد بيدي تجاهُلها، أو التغاضي عنها، وقد أصبحت من ضرورات عصر أعيشه إن أردتَنا بحقٍّ أن نعيشَه، ففي المثل: من "عَزَّ بَزَّ"؛ أي مَن غلب أخذ السَّلَبَ، ولعلك قد عرفت يا سيدي السبب، فبطل منك العجب!

وبمجرد أن أنْهَى "المقال" كلامه ضجَّت القاعة بالتهليل، فنظر القاضي إلى الجميع من تحت نظارته السميكة نظرة لوم وعتاب، ثم تبسَّم تَبَسُّم المعجَب بما دار بين يديه وجرى، وقال: لا أدري لأيِّكما أحكُم، ولا أيَّكما أقدِّم، ولكني أقول: "أنتما بحقٍّ وجهان لعملة واحدة"، لا غنى بالكل عن الجزء، ولا بالجزء عن الكل"، فأنتما كالشجرة الطيبة، لا غنى لها عن جِذعٍ هو أصلها، ولا عن غُصنٍ هو فرعها، فبارك الله فيكما، وفي أمة تقرأ كُتبها ومقالاتها، ولا تتركهما لعوداي الزمن وغوائل الأيام"؛ رُفعت الجلسة".