امتداح علماء اللغة لمصنفاتهم
د. معمر العاني

ليس بضائر أنْ استفتح قوابل الحديث بقول النّووي ـــ رحمه الله ــ في كتابه الأذكار؛ لأحتفي به في الاستدلال على المقصد: (واعلم أنّ ذكر محاسن النّفس ضربان: مذموم ومحبوب: فالمذموم: أن يُذكر للافتخار، وإظهار الارتفاع، والتّميّز على الأقران، وشبه ذلك،
والمحبوب: أن يكون فيه مصلحةٌ دينيّة، وذلك بأن يكون آمرًا بمعروف أو ناهيًا عن منكر، أو ناصحًا بمصلحة ...، فيذكر محاسنه ناويًا بذلك أن يكون هذا أقرب إلى قبول قولِه، واعتمادِ ما يذكره).

وكأنَّي بدقة هذا التفريق الحامل لمسوغ مدح النفس ينبئ عن إمكانية إدخال مدح عدد من العلماء لتآليفهم في هذا الحيّز، فيسعفنا مضرب القول الفائت بأنْ نحدق في سدفة الزمان؛ لنرقب محمود آثار أهل العربية، ونبصر طيفًا من ذلكم المدح مما نراه ــ والله أعلم بالمراد ــ أنَّه ليس من فضول القول عند ذوي العلم والرجحان، ثم أمضي لطيتي متخذًا هذا التقسيم:
في ابتداع فن من فنون العربية: أول من ألّف علم البديع بالبلاغة الخليفة عبدالله بن المعتز، وفيه قال: ما جمع قبلي فنون البديع أحد، ولا سبقني إلى تأليفه مؤلف.

في منهج الاختيار والجمع: وصف السيوطي كتابه جمع الجوامع: فإن لنا تأليفًا في العربية جمع أدناها وأقصاها، وكتابًا لم يغادر من مسائلها صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها.

في تزكية باب من أبواب اللغة: ومنه قول الشاطبي في (المقاصد الشافية) عند كلامه عن دخول التصريف الحروف: وما زعم ابن جني من دخول الاشتقاق فيها، فغير صحيح، وقد بينت ذلك في الكتاب المسمى بـ (عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق) بما لا يحتاج معه إلى غيره بحول الله.

في علوم متعلقة بلغة البيان: ومن أَثْقَب عينًا لأغماض مفاهيمٍ في إعجاز القرآن من عين الخطابي، قال: قلت: في إعجاز القرآن وجهًا آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرف إلا الشاذ من آحادهم ، ذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس.

فإذا اعتصمت بمحاسن إشارات العلماء لتآليفهم، وبما انطوى فيها من طريف الموضوع، ورائق العبارة، أمكن أنْ أصرح بما روي عن الأصمعي: ‏كُتِبَ كتابُ حكمةٍ فبقيتْ منه بقيةٌ، فقالوا: ما نكتب؟ قال: اكتبوا: يُسأَل عن كل صناعةٍ أهلُها، ومن أحسن من علماء العربية القدماء صناعة، ولعمري إننا نجد في كثير من تصنيفاتهم منهجية واضحة الاستدلال، ومتونًا خالية من الهذر، وقضايا مركزة تقرب لنا المناطات بوضوح، ولعل ذلك من أسباب وجودها عبر العصور، فلم تزلْ تشدّ القارئ، وتحرّض ذائقته، وتهذب مَلَكاته، فلا شية في ذكر محاسنها ممن مدّه الله بالبصيرة في الاختيار، وبالحكمة في القراءة ، وبالسداد في ميزان الأشياء، وبالبعد عن الجفاء في الأفكار، وبالسكينة في نفحات العربية، من غير الإغفال عن جهود معاصرة لها حظ القراءة والانتفاع بما ارتضته من طلب للحقيقة، وعدم الالتفات إلى تكثير السواد على البياض في غير ما منفعة أو عائدة.


__________________