غموض الكتابة
مبارك عامر بقنه

حين أقرأ لكاتب أو فيلسوف، وأجد غموضًا وتعقيدًا في كتابته، فاعلم أنه غير "فاهم" أو غير متمكن مما يقول، فمن لوازم فقه المسائل هو القدرة على تقديمها للقارئ بلغة يسيرة يستطيع القارئ أن يدرك معانيها، وقد يتعلل البعض أن صعوبة الكتابة وتعقيدها هو بسبب صعوبة الموضوع وتعقيده، وحاجة الموضوع لمقدمات ضرورية ليدرك المعنى، والحقيقة هذا التعليل غير صحيح، فالكاتب مطلوب منه البيان والتوضيح، حتى لأعقد الأمور وأصعبها، فإذا كانت يستخدم مصطلحات خاصة به، فعليه أن يبين معناها؛ كي يستطيع القارئ فهم كلامه، وتصل رسالته دون لبس للقارئ.

والذي أراه أن هذا الغموض سببه غموض المعنى لدى الكاتب، أو عدم قدرته على إيجاد لغة صحيحة تحمل المعنى الذي يريد، فالكاتب حين لا يحرر المعنى تمامًا في ذهنه، فلن يكون قادرًا على مخاطبة القارئ بلغة سلسلة شيقة تحمل المعنى كاملًا دون عناء للقارئ، ونحن نجد أن القرآن الكريم تناول أعقد القضايا وأصعبها بلغة جميلة يسرة يستطيع يفهمها كل شخص، فالعمق ليس في التعقيد، وإنما في القدرة على توصيل الفكرة بوضوح دون لبس.

الذين يستخدمون لغة غامضة معقدة هم يهدفون إلى جعل القارئ في حيرة، فالغموض يصيب القارئ بالملل، ويجعله يهجر الكتاب وكاتبه، ولذا نحن نجد أصحاب الكتابات الفلسفية الغامضة لا نجد لكتبهم رواجًا كبيرًا إلا لدى فئة بسيطة جدًّا، وذلك بسبب الملل الذي تسببه كتبهم للقراء، فغموضهم نفَّر الناس منهم، وغالبًا ما تجد القارئ يتساءل: هل الكاتب نفسه يفهم ما يقول؟ وقد تساءل هذا السؤال جيمس جينز في كتابه "الفيزياء والفلسفة" حين تحدث عن كانط، فقال: "قد يكون هنالك مبرر للتساؤل عما إذا كان "كانط" نفسه قد فهم أفكاره"!

الكتابة هي نقل الفكرة من صاحبها إلى الآخرين، ومن شرط النقل هو الوضوح وعدم الغموض، وتعمد الغموض ووضع الطلاسم لا يجعل الفكرة تصل للقارئ، وعندها ينقطع التواصل بين الكاتب والقارئ، فيتوقف القارئ عن القراءة بسبب أن ما يقرأه هي ألغاز لا تُفهم، وكون القارئ لا يفهم كلام الفيلسوف، فليس هذا يدل على عيب في القارئ أو نقص في قدراته الفكرية، بل يتجه العيب للفيلسوف نفسه الذي عجز أن يصل الفكرة للقراء، فالجمود هو في الكاتب وليس في القارئ، وخصوصًا إذا اشتهر الأمر أن كتابات هذا الفيلسوف غامضة لا يفهمها أحد، فإن هذا يعني أن الكاتب بحاجة لتعلم فن التأليف والكتابة، فإجماع الناس على غموضه وتعقيده يعني أنه عاجز عن فهم الفكرة التي يتحدث عنها، فالناس ليس أغبياء لا يفهمون ما يقال لهم.

ومما يستغرب له أن يعتقد بعض القراء أن الغموض دلالة على العمق والتمكن، وأنا استغرب حقيقة لهذا الفهم للغموض، فلماذا لا تعكس المسألة ويقال: إن الغموض دلالة على ضبابية الأفكار وعدم وضوحها لدى الكاتب؛ إذ لو كانت واضحة لديه لتمكن من توضيحها لغيره وبيانها أحسن بيان، فالحقيقة لا يصح النظر للغموض بأنه علو كعب قائلها، بل العكس صحيح، الغموض يعني عدم تمكن الكاتب من إيجاد اللغة الصحيحة في توصيل الفكرة للآخرين، فهو عيب في الكاتب وليس في القارئ.