تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: ستون عامًا على رحيل الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي ستون عامًا على رحيل الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي



    ستون عامًا على رحيل الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي (1-3)









    كتبه/ علاء بكر





    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فإذا كان التاريخ الإسلامي يزخر قديمًا بالكثير من الأبطال المجاهدين الذين تُزين سيرتهم العطرة صفحات التاريخ؛ فإن تاريخنا الحديث -أيضًا- لا يخلو من نماذج من الأبطال المجاهدين، منهم مَن اشتهرت أسمائهم بين الناس: كعمر المختار في ليبيا، وعز الدين القسَّام في فلسطين، وعبد القادر الجزائري في الجزائر، ومنهم مَن قد لا تُعرف بين الناس أسماؤهم، ولكن مِن حق هؤلاء المجاهدين جميعًا -وأيضًا مِن حقِّ أجيالنا الحاضرة- أن نعرفهم ونتعرف على سيرتهم، ونتعلم الدروس المستفادة من جهادهم، وما بذلوه وقدَّموه؛ خاصة وأن أجيالنا صارت تفتقد أمثال هؤلاء القدوة حاضرين الآن أمام أعينهم.

    ومن هؤلاء المجاهدين في عصرنا الحديث: الأمير المغربي عبد الكريم الخطابي -رحمه الله-، والذي وافته المنية في القاهرة في 14 نوفمبر 1962م، ودُفِن بها، ورغم مرور ستين عامًا على رحيله لكن تبقى -ويجب أن تبقى- ذكراه وسيرته في القلوب؛ سواء في المغرب العربي أو في كل بلاد العرب والمسلمين.

    وهذه لمحة وجوانب من سجله الحافل وما تحمَّله وبذله -رحمه الله-؛ عرفانًا وتقديرًا له ولما قدَّم.

    النشأة:

    الأمير عبد الكريم الخطابي من سلالة كريمة وشريفة، احتفظت لنفسها بزعامة منطقتها عبر قرون طويلة؛ فآباؤه وأجداده هم أمراء قبيلة (بنو ورياغل)، الذين احتفظوا بالإمارة فيما بينهم، والتي اكتسبوها -واحتفظوا بها- لما كانوا عليه من كثرة خدمة الأهالي والدفاع عن مصالحهم.

    وكانت أسرته بعيدًا عن مظاهر الرفاهية، يعملون ويكدحون، وكانوا من سكان الجبال الذين يعيشون على ظهور الخيل، ويتولون مسؤوليات القضاء وفض المنازعات بين الأهالي، ولما كانوا يعتبرون أنفسهم في خدمة الأهالي أحبهم الأهالي واعتزوا بقيادتهم، وتنفيذ مشورتهم وطاعتهم.

    ومعروف عن سكان الجبال أنهم أقرب إلى الفطرة بطبيعتهم، محبون للحرية، يتمتع شيوخهم ورجالهم بسبب طبيعة الجبال القاسية بالشجاعة والفروسية والعزيمة ورجاحة العقل وبساطة الملبس، وزاد قوم الخطابي على ذلك باعتزازهم بدينهم الإسلام الذي عاشوا في هديه قرونًا طويلة.

    وكانت ثقافة عبد الكريم الخطابي ثقافة إسلامية عربية؛ فقد تعلَّم العربية وبعض الحساب، ثم تعلم العلوم الدينية في (مليلة) و(فاس)، وتفقَّه في الشريعة الإسلامية؛ ولذا تولى منصب القضاء في مليلة، والتي كانت وقتها إحدى قواعد الحكم الإسباني في شمال المغرب.

    بينما كان أخوه الأمير محمد يمتاز بثقافة عصرية؛ فقد تعلم في (مقلة)، ثم تخصص في هندسة المناجم والتعدين في (مدريد)، وقد ظل الأمير محمد أكبر معاوني أخيه عبد الكريم خاصة في العمليات الحربية التي خاضها في القطاع الغربي من منطقة الريف، وفي منطقة الجبال؛ يشاركه في قيادة الرجال وتنفيذ الأوامر المتفق عليها.

    وقد امتاز الأمير عبد الكريم بالقدرة على التنظيم والقيادة، والقدرة على الاستفادة من طبيعة الأرض، من طرقها وجبالها، ومنابع المياه فيها، مع حسن تقدير للمواقف والرجال، وتدل عملياته الحربية التي خاضها ضد الإسبان والفرنسيين المحتلين على ذلك، والتي أقلقت مضاجع الإسبان والفرنسيين مدة ست سنوات؛ بدءًا من معاركه الأولى الصغيرة التي خاضها بأسلحة بسيطة وقليلة إلى معاركه الكبيرة التي خاضها على امتداد خطوط طويلة، تحتاج قيادتها إلى درجة عالية من الكفاءة وحسن الإعداد والتنسيق، وتكامل الصفوف.

    وكان والد عبد الكريم الخطابي قد استشعر خلال رئاسته للقبيلة أن قبيلته تمتلك في أرضها موارد اقتصادية مهمة؛ ولذا يسعى في التنقيب عنها بعض المستكشفين الأوربيين؛ مما دفعه لمحاولة اقتباس العلوم الغربية، وقد اختار إسبانيا كدولة يمكنه أن يتعامل معها لقربها من إقليمه؛ لذا أرسل ابنه الأصغر إلى (مقلة) في إسبانيا للدراسة، ثم أرسله بعد ذلك إلى مدريد للتخصص في هندسة المناجم والتعدين، بينما أرسل ابنه الأكبر الأمير عبد الكريم الخطابي الذي سيخلفه في الحكم فيما بعد لدراسة العلوم العربية والدينية في فاس؛ خاصة في الفقه والشريعة، ثم استقر بعدها في مليلة واشتغل بالقضاء الشرعي فيها، وعمل في تحرير جريدة (تلغراف الريف)، وقد أكسبته تلك الدراسة والنشأة ثقافة إسلامية وعربية، كما ساهم احتكاكه بالإسبان وعمله بالصحافة في تكوين معارفه وشخصيته.

    ومع إعلان الحماية الإسبانية على شمال المغرب ساءت العلاقات بين والد الأمير عبد الكريم الخطابي والإسبان، وتقدَّم الشيخ بشكواه في عام 1915م إلى الضباط الإسبان الذين جاءوا يمثلون بلادهم في المنطقة، فطلب منه الحضور إلى المندوب السامي الإسباني لتقديم فروض الطاعة والولاء، فرفض، فتم إلقاء القبض على ابنه الأمير عبد الكريم في مليلة وسجنه أحد عشر شهرًا، وفي السجن حاول الأمير الهرب بالقفز من أعلى أسوار سجن مليلة فأصيب في إحدى قدميه إصابة تسببت في إصابته بعرج بسيط كان يؤثر على سيره فيما بعد؛ مما اضطره إلى السير بمساعدة عصا للتغلب على هذا العرج. ولما أخلي سبيل الأمير تم إبقاؤه تحت المراقبة لمدة ستة شهور أخرى.

    انتظر والد عبد الكريم عودة ابنه الأكبر من مليلة، وابنه الأصغر من مدريد ثم أعلن القطيعة مع الإسبانيين، ولهذا اعتبرته إسبانيا عدوًّا مناوئًا لها.

    وصمم والد الأمير عبد الكريم على مقاومة الإسبان وإخراجهم من البلاد، وفي أغسطس 1920م لما قام الإسبان باحتلال (تافارسيت)، التي تقع في أعالي نهر القرط على الطريق الموصل من مليلة إلى الحسيمة، قام الشيخ على رأس قوة من رجاله بمهاجمتهم، ولكنه توفي أثناء الطريق، فخلفه في رئاسة القبيلة ومنطقة الريف ابنه الأمير عبد الكريم الخطابي، الذي عزم كل العزم على الجهاد لإخراج الإسبان من البلاد.

    بلاد الريف في المغرب الأقصى:

    يمكن تقسيم المنطقة الشمالية من المغرب الأقصى إلى قسمين:

    - القسم الشمالي: ويمتد من مليلة إلى سبتة.

    - الجزء الغربي: الممتد من طنجة حتى العرائش.

    وبينما كانت منطقة (الجبال) التي تقع إلى الغرب وإلى الجنوب من طنجة قد تأثرت بالوجود العربي فيها؛ خاصة في ظل وعورة تضاريسها وقلة صعوبة مواصلاتها، فكانت منطقة (الريف) والتي تقع إلى الشرق من المنطقة السابقة وتمتد فيها سلاسل الجبال الشاهقة، يحتفظ أهلها بلغتهم البربرية رغم اعتزازهم بالإسلام، وقد عرفت قبائل الريف تاريخيًّا منذ القدم باسم: (الأمازيغ).

    وهذه المنطقة احتفظت دوما باستقلالها حتى خلال حكم الإمبراطورية الرومانية القديمة لبلاد المغرب، ورغم خضوع الجزائر وطنجة للحكم البيزنطي وقتها.

    وتعتبر قبيلة (بنو ورياغل) أكبر وأشهر قبائل بلاد الريف، وتسكن هذه القبيلة الإقليم المواجه لميناء (الحسيمة)، مما جعلها أكثر تفتحًا على الغرب من غيرها، وهي تمتلك الأراضي الزراعية مما جعلها أكثر قوة من غيرها، وقد زاد احتفاظها بميناء الحسيمة من قوتها وأهميتها؛ خاصة في علاقتها بالخارج مع احتفاظها دوما باستقلالها وحريتها.

    ومع بداية السنوات الأولى من القرن العشرين كانت القبيلة قد اختارت والد الأمير عبد الكريم الخطابي أميرًا لها، فكان بذلك صاحب أكبر قيادة في قلب إقليم الريف.

    وبلاد الريف معقل الأمير عبد الكريم الخطابي هي ذلك الإقليم الشمالي الذي يمتد من حدود الجزائر شرقا حتى مضيق جبل طارق وطنجة غربًا، وله واجهة غربًا تطل على المحيط الأطلسي، تمتد حتى ميناء العرائش عند مصب نهر اللوكوس، وهي بلاد جبلية، فيها سلاسل من الجبال الشاهقة، تمتد من الشرق إلى الغرب، يصل ارتفاع قمم بعضها إلى ثلاثة آلاف متر، ولهذه الجبال سفوح من جهة الشمال، تنحدر صوب البحر الأبيض المتوسط، وغالب انحدارها على طولها انحدارًا صعبًا إلا في بضعة أماكن قليلة؛ ولذلك فمع طولها فموانيها قليلة، مما جعل لهذه الموانئ أهميتها، وترتيب هذه الموانئ من الشرق إلى الغرب هي: مليلة، الحسيمة، تطوان، (لكنه ميناء داخلي)، وأخيرًا سبتة التي لها أهمية إستراتيجية كبيرة؛ لكونها تقع على المدخل الشرقي لمضيق جبل طارق، فلها دور في التحكم في الملاحة والتموين في البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، كما أنها تقع كذلك في مواجهة الساحل الإسباني، أما انحدار تلك الجبال جنوب طنجة وغربا صوب المحيط الأطلسي فهو انحدار بسيط.

    وقد شهدت هذه المنطقة بعد دخول الإسلام فيها واعتناق أهلها له أحداثًا كثيرة وكبيرة، أقام خلالها المسلمون من العرب والبربر دولتهم في الأندلس بتاريخها العظيم حتى سقوطها في عام 1492م، وهي نفس الفترة التي عرفت فيها أوروبا الغربية الاكتشافات الجغرافية والعالم الجديد، فانفتحت آفاق جديدة أمام الإسبانيين لإقامة دولة قوية.

    كانت بلاد المغرب منقسمة مفككة إلى وحدات إدارية فيها أكثر من سلطان، في فاس وفي مراكش وفي إقليم السوس، وقد تمكن الأشراف السعديون من توحيد أقاليم المغرب الأقصى، لكنهم فشلوا من الناحية العملية في فرض سلطتهم المباشرة على إقليم الريف الجبلي، وحينما انهارت سلطة السعديين ظهرت بعدها أسرة العلويين التي عجزت أيضًا بعد حملات متعددة عن إخضاع بلاد الريف إداريًّا أو عسكريًّا، فكان خضوع بلاد الريف خضوعًا اسميًّا يتمثل في الدعاء للسلطان يوم الجمعة بالنصرة.

    وقد شهدت بلاد المغرب صراعًا في القرن السادس عشر بين أمراء البحر الجزائريين المتحدين مع القوة البحرية العثمانية التي كانت تعمل في الموانئ في البحر المتوسط سواء في الجزائر أو في إقليم الريف وبين العلويين أصحاب القوة البرية التي نمت داخل فاس ومراكش في إقليم المغرب الأقصى، والتي انتهت بعقد اتفاق لتحديد الحدود بينهما.

    وهكذا لم تشهد أقاليم المغرب في ظل ظروفها الجغرافية الصعبة وطبيعة تكوينها وحدة فعلية تخضع لقيادة واحدة، لكن بقيت تربط بينها الرابطة الإسلامية.

    ولما زاد ضعف السلطة المركزية في المغرب الأقصى بعد عصر المولى إسماعيل، والمولى محمد بن عبد الله، تفككت السلطنة المغربية وضعف امتداد سلطتها داخل إقليم الريف، وأدَّى ذلك إلى تولي رجال الريف أمور إقليمهم بأنفسهم، وإن كان ذلك لم يكن معترفا به دوليًّا.

    وقد تمكَّنت إسبانيا والبرتغال من احتلال طنجة وسبتة ومليلة والسوس، وكلها تقع على سواحل بلاد الريف حيث كانت مقاومة المجاهدين الجزائريين البحريين فيها ورجال الريف، بينما كان أكثر كفاح السلطان في المغرب الأقصى ضد القوى الأوروبية الاستعمارية المتنامية على السواحل المطلة على المحيط الأطلسي، والتي تبعها عقد اتفاقيات بين الطرفين تنص على وقف القتال أو الصلح.

    الصراع الأوروبي حول المغرب العربي:

    كان النظام الاقتصادي في أوروبا يتطور من نظام إقطاعي إلى اقتصاد صناعي وتجاري يعتمد على رأس المال ويحتاج إلى مواد خام وأسواق للتوزيع، فبدأ اهتمام الدول الأوروبية بالأقاليم المغربية والتصارع عليها؛ خاصة مع الأهمية الإستراتيجية لسواحلها، وزادت تلك الأطماع الأوروبية الاستعمارية في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر.

    ومن الناحية الاقتصادية: كان التبادل التجاري بين دول غرب أوروبا والمغرب العربي في صالح الأوروبيين. كان المغرب العربي يقوم على إنتاج المواد الزراعية والحيوانية، وموارده هي القمح والصوف والجلود.

    وفي المقابل كان المغرب العربي يحتاج إلى الأدوات المصنعة والأنسجة والشاي والسكر، وإلى البنادق والبارود، فكان هناك التبادل التجاري بين الطرفين، وفي فترة انخفاض أسعار المنتجات الزراعية وارتفاع أسعار المنتجات الصناعية كان دائمًا الميزان التجاري في صالح الأوروبيين، وترتب على ذلك حاجة السلطات في المغرب إلى الحصول على رؤوس أموال أوروبية، وبدأت مشكلة الديون الخارجية، مع زيادة فرض الضرائب على الأهالي.

    وشهدت تلك الفترة القضاء على الإقطاع في أوروبا وقيام الثورة الفرنسية، ثم نزول القوات الفرنسية -وهي في أوج قوتها الاستعمارية إذ كانت الإمبراطورية الفرنسية تحكم نحو ثلث سكان العالم- لاحتلال مدينة الجزائر في عام 1830، ومع ضعف السلطة المركزية في المغرب الأقصى في عصر المولى عبد الرحمن، والضغط الفرنسي عليه لم يجد رجال الأمير عبد القادر الجزائري المجاهدون المعاونة المطلوبة من سلطان المغرب في كفاحهم ضد الاحتلال الأجنبي؛ خاصة في ظل المعاهدة التي حددت من قبل الحدود بين المغرب الأقصى والجزائر، ولكن ظل رجال بلاد الريف يساعدون رجال الأمير عبد القادر الجزائري، إذ لم تكن معاهدة تحديد الحدود بين البلدين ملزمة إلا لسلطان المغرب وللسلطات الموجودة في الجزائر، واستمر الأمر على ذلك إلى أن استتب الأمر للفرنسيين في الجزائر.

    وفي إطار الصراع الأوروبي على المغرب العربي؛ ولئلا تنفرد فرنسا بالسيطرة على الملاحة في جبل طارق، فرضت بريطانيا على فرنسا أن تترك لإسبانيا منطقة شمال المغرب الأقصى كمنطقة نفوذ لها، ولفرنسا التوسع في بقية أجزاء المغرب العربي، وعلى هذا كان الاتفاق بين فرنسا وإسبانيا، فركزت إسبانيا قواتها في قواعدها على الساحل، وبدأت في التوغل إلى الداخل لفرض سيطرتها، لتواجه رجال الريف الذين يعيشون في الجبال ولم يعرفوا الخضوع للغير، كما سعت إلى إرسال قواتها إلى مدينة العرائش على ساحل المحيط الأطلسي.

    وكان هذا في الوقت الذي اتفقت فرنسا من جانب آخر مع إيطاليا على إطلاق يد فرنسا في المغرب العربي مقابل عدم معارضة فرنسا لزيادة النفوذ الإيطالي في طرابلس الغرب وبرقة، وهكذا تم الاتفاق والتعاهد بين دول الاستعمار الأوروبية حول بلاد المغرب مع بدايات القرن العشرين، وفي المقابل: لم تنجح محاولات السلطات الفعلية في البلاد في المحافظة على استقلالها، وانتهى الأمر بإجبار فرنسا المولى عبد الحفيظ على التوقيع على معاهدة للحماية عام 1912م.

    الزحف الإسباني:

    رغم أن الاتفاقات الدولية بين فرنسا وإسبانيا تعطى إسبانيا اعترافًا بنفوذها على شمال المغرب الأقصى بما فيها منطقة الريف، ورغم إجبار سلطان المغرب الأقصى على قبول الحماية الإسبانية؛ إلا أن إسبانيا سعت إلى مد احتلالها العسكري الفعلي من قواعدها الموجودة على الساحل الإفريقي إلى الداخل وذلك تمهيدًا لإقامة إدارة لها فيها، وبالتالي تطلب ذلك القيام بعمليات حربية للقضاء على أي صور للمقاومة الوطنية إن وُجِدت، مع ادِّعاء أنها تفعل ذلك لإخضاع البلاد لسلطان المغرب الذي هو تحت حمايتها، بينما هي تعمل لمصالحها الاستعمارية والتجارية، وكانت القوات العسكرية الفرنسية في الجزائر المجاورة قد استطاعت أن تفرض نفسها في مناطق نفوذها بالقوة العسكرية وتخضعها للحماية الفرنسية.

    وقام الإسبان باحتلال المنطقة من ثلاث قواعد:

    - مليلة في الشرق: ومنها كان تقدم الإسبان صوب الداخل في عام 1909م.

    - سبتة: ومنها كان التقدم جنوبًا مع ساحل البحر إلى تطوان، ومصب (ريومارتان) في عام 1911م.

    - شاطئ المحيط الأطلسي: في الشريط الساحلي الواقع بين منطقة طنجة والعرائش، الذي احتله الإسبان في صيف عام 1911م.


    وقد ترتب على ذلك وجود ثلاث قيادات للقوات الإسبانية:

    الأولى: في مليلة في الشرق.

    والثانية: في سبتة المطلة على مضيق جبل طارق.

    والثالثة: في العرائش الواقعة على المحيط الأطلسي جنوب طنجة.

    ورغم الاتصال الجغرافي بين تلك القيادات وقيادتها العامة في شمال إفريقيا؛ فقد كانت كل قيادة منها على اتصال بوزير الحربية في مدريد رأسا، فكان هذا الازدواج في الاتصال يعد صورة من الفوضى تتعارض مع حسن التنظيم.

    وفي عام 1921 م عزم الجنرال الإسباني (سيلفيستر) قائد منطقة مليلة على الزحف والتقدم صوب داخل البلاد، وفي المقابل فقد عزم الأمير عبد الكريم الخطابي على التصدي له ومواجهته مهما كانت العواقب، رغم الفارق الكبير بينهما في العدة والعتاد.

    وللحديث بقية إن شاء الله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: ستون عامًا على رحيل الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي

    ستون عامًا على رحيل الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي (2-3)



    كتبه/ علاء بكر






    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فقد زَحَف الجنرال الإسباني (سيلفيستر) بجيشه من قاعدته في مليلة لاحتلال إقليم الريف المغربي وإخضاع أهله، وكانت مجموع قوات الجنرال سيلفستر 24 ألف جندي، منهم 4 آلاف من مجندي المغاربة، فدفع منهم 21 ألف جندي مجهزين بالأسلحة والمدفعية والمدافع الرشاشة لتحقيق خطته.

    تقدَّم الجنرال بقواته في شهر مايو 1920م إلى غرب نهر القرط، واحتل منطقة (دار داريوس)، ثم احتل (تافارسيت)في شهر أغسطس، ولما لم يلقَ أي مقاومة وطنية؛ واصل تقدمه حتى احتل (أنوال) في 15 مايو 1921م، واحتل في أول يوليو جبل (عبران) الذي يقع على بعد 12 كيلو متر من أنوال، ويطل على ميناء الحسيمة ومنطقة (أجدير) مركز قبيلة (بنوورياغيل) التي تدين للأمير عبد الكريم الخطابي بالولاء.

    في مقابل ذلك، عمل الأمير عبد الكريم الخطابي على زيادة عدد رجاله لدخول المعركة ضد الإسبان الزاحفين نحوه، وقام بتنظيم هؤلاء الرجال وتدريبهم تدريبًا جيدًا، وتوزيعهم على مواقع في الجبال، مع تنظيم عملية الاتصال والربط بينهم.

    كانت المواقع منتشرة على سفوح الجبال وقممها، ونظرًا لطبيعة المنطقة الجبلية، فكانت الطرق والمسالك الموجودة -والتي تسمح بمرور قطع المدفعية وقوافل التموين- قليلة العدد؛ لذا كان من السهل توقع تلك الطرق التي ستمر منها القوات الإسبانية المتحركة، وبالطبع الإعداد لاصطيادها من مواقع منتشرة في كل مكان حول تلك الطرق، وهي مواقع يصعب على العدو اكتشافها بسهولة للعامل معها، وبهذا التنظيم لمجاهدي الريف وحسن الضبط والربط تمت تهيئة الظروف لانتصار المجاهدين.

    وأثناء تلك الفترة حَذَّر الأمير عبد الكريم الجنرال سيلفستر من مغبة الاستمرار في التقدم بقواته والدخول في مناطق لا تعترف بالحماية الإسبانية، ولكن الجنرال كان قد أعماه غروره بنفسه وبقواته؛ فأصم أذنيه عن هذا التحذير، ورد عليه ردًّا جافًّا ذَكَر فيه: أن إسبانيا لها من القوة ما يمكنها من الذهاب أينما شاءت! وقد اعتقد الجنرال بقدرته على فرض حكمه على البلاد؛ خاصة أنه خلال تقدمه الأول لم يجد مقاومة، وحقَّق عدة انتصارات سريعة متتالية خلال أسابيع قليلة، ولم يتوقع الجنرال أن هذا كان استدراجًا متعمدًا له ولقواته مِن قِبَل الأمير عبد الكريم للدخول في المناطق الجبلية الوعرة التي طبيعتها عند المواجهة في صالح الوطنيين.

    معركة أنوال:

    ما إن احتل الإسبان جبل (عبران) حتى قام رجال (بنوورياغل) بمهاجمتهم في نفس الليلة، وتمكَّنوا من احتلال الجبل، وكانت القوة الإسبانية الموجودة على الجبل تتكون من 250 جنديًّا مسلحًا، منهم مائتان من المجندين المغاربة، وما إن بدأ القتال حتى أسرع المجندون المغاربة بترك مواقعهم وانضموا بما معهم من أسلحة إلى إخوانهم المغاربة المهاجمين.

    واصل أبناء الريف هجومهم على كلِّ مواقع الإسبان التي احتلوها ومحاصرتها، واضطرت حامية (إيجربين) الإسبانية إلى طلب النجدة السريعة من الجنرال سيلفستر، وقد حاول الجنرال نجدتها بإرسال طابور عسكري للقيام بذلك، ولكن الطابور الإسباني فشل في فك الحصار أو الاتصال بالقوات المحاصرة.

    ولتدارك الموقف السيئ، اضطر الجنرال سيلفستر إلى تجميع جميع قواته كلها الموجودة في قطاع مليلة، وتركيزها في أنوال، ثم الانطلاق منها لفك حصار (أجربين)، وبدأ محاولة فك الحصار في 21 يوليو، ولكن رجال الريف الذين حصنوا خطوطهم ردوا الإسبان القادمين من جديد، وأمام تردي الأوضاع قرر الجنرال الإسباني إنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ فأصدر أمره بإخلاء أيجربين والانسحاب منها.

    ولما شعر الجنرال أنه قد فقد السيطرة على الموقف، وأن قواته الرئيسية التي جمعها في أنوال انخفضت روحها المعنوية، وباتت مهددة بعد تطويق رجال الريف لها؛ أصدر أمره بالانسحاب من أنوال نفسها، والعودة إلى مليلة، فكان التقهقر والهزيمة الساحقة.

    ومع اندفاع القوات الإسبانية على الطريق الموصل إلى مليلة، سادت حالة من الذعر والفوضى، وفرَّ معظم جنود الحاميات الإسبانية من مواقعهم العسكرية الموزعة على الطريق بين أنوال ومليلة، ومَن بقي منهم في مكانه اضطر إلى التسليم، بينما قام المجندون المغاربة في القوات الإسبانية بالانفصال عن تلك القوات والانضمام إلى إخوانهم من رجال الريف، ولم يأتِ يوم 25 يوليو إلا وكان كل الإقليم حتى أسوار مليلة قد وقع في أيدي المجاهدين.

    تمكَّنت بقايا من القوات الإسبانية المتقهقرة من الوصول إلى ما يقرب من 40 كيلو متر من مليلة بعد أن فقدت قطع المدفعية ومعظم أسلحتها وذخائرها وموادها التموينية، ثم تعرَّضت إلى الحصار الشديد في مواقعها أمام مليلة من قبل القوات المغربية، فلم تستطع الوصول إلى قاعدتها الرئيسية، وفشلت محاولات القائد العام الإسباني الذي قدَّم إلى مليلة يوم 23 يوليو في إنقاذ بقايا الجيش؛ إذ لم يستطع الإسبان الخروج من المدينة أو الاتصال بالقوات المحاصرة.

    وفي النهاية اضطر قائد القوات المحاصرة إلى الاستسلام مع قواته لقوات التحرير المغربية في 9 أغسطس، وحمل القائد أسيرًا إلى الأمير عبد الكريم الخطابي، وطبقًا للمصادر الإسبانية فقد اعترفت إسبانيا بفقد 14772 من جنودها، وفقد 29504 بندقية، و392 مدفع رشاش، و129 مدفع ميدان؛ بالإضافة إلى وقوع 570 جندي في الأسر؛ فكانت هذه هزيمة ساحقة لم تعرف مثلها الجيوش الأوروبية فيما وراء البحار! وترتَّب على ذلك أن شغلت -وبقوة- المسألة المغربية ومشكلة بلاد الريف، الرأي العام في إسبانيا.

    في مواجهة الجنرال بيرنجر:

    رغم الانتصار التاريخي للأمير عبد الكريم على الإسبان في معركة أنوال، لكنه لم يزحف لاحتلال قاعدتهم في ميناء (مليلة) رغم ما كانت عليه حاميتها الضعيفة، وذلك لافتقار أبناء الريف لوسائل الدفاع البحرية والساحلية.

    وفي المقابل: ركَّز الأمير عبد الكريم جهوده على تزويد قواته بالمعدات والأسلحة والذخائر من خلال الغنائم التي حصل -ويحصل- عليها من الإسبان، ومن الأموال التي تسلمها في مقابل إطلاق سراح الأسرى من الإسبان، وحرص كذلك على ضم كل رجال الريف و(الجبالا) إليه لمشاركته في مقاومة الإسبان.

    وخلال الأسابيع التالية أرسلت إسبانيا قوة بلغت 60 ألف جندي إلى مليلة بقيادة الجنرال (بيرنجر)، الذي قام بهجوم مضاد في 12 سبتمبر 1921م، لكنه عجز عن احتلال جبل (خورخو) الذي يتحكم في مليلة من الجنوب الغربي إلا في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر، واحتاج إلى شهر آخر لبلوغ خط نهر القرط، ثم احتلال الشريط الساحلي الواقع بين نهري القرط والمليلة قبل نهاية العام.

    وفي 10 يناير 1922م احتل (دارداريوس) في أعالي وادي القرط بعد أن بلغ تعداد قواته 150 ألف جندي، واكتفى الجنرال بيرنجر بهذا الحد؛ فأوقف هجومه المضاد على قطاع البلاد الشرقي في مليلة حيث رأى ضرورة إخضاع القطاع الغربي من البلاد قبل الاستمرار في إخضاع باقي القطاع الشرقي؛ خاصة بعد عجز الجنرال عن الحصول على المزيد من الانتصارات الجديدة في مواجهة رجال عبد الكريم الخطابي؛ نظرًا لحاجته للحصول على انتصارات جديدة لإرضاء الرأي العام في إسبانيا لإعادة ثقة الإسبان في قادتهم العسكريين. وكان موقف الإسبان في القطاع الغربي قد ساء؛ خاصة في ظل وجود تعاون مشترك بين رجال الريف ورجال المقاومة في القطاع الغربي.

    وكانت قوة من رجال الريف المجهزة بالمدفعية التي سبق الاستيلاء عليها من الإسبان قد قامت في 21 أكتوبر 1921م بالهجوم على المواقع الإسبانية الواقعة على خط المواصلات بين (تطوان) و(شفشاون) بمساعدة من رجال القطاع الغربي، وبعد معارك عنيفة استطاع الإسبان بصعوبة سحب حامياتهم في 19 نوفمبر.

    ورغم نجاح قوات الجنرال بيرنجر في (الجبالا) من الاستيلاء على (تازاروت) في القطاع الغربي إلا أن الجنرال اضطر إلى الاستقالة حينما شعر أن حكومة مدريد تنوي التضحية به إرضاءً للرأي العام الإسباني؛ خصوصًا بعد اتهامه بتوريط الحكومة الإسبانية في شمال المغرب.

    في مواجهة الجنرال برجيت:

    جاء الجنرال (برجيت) خَلَفًا للجنرال (بيرنجر)، فسعى إلى التفاوض مع رجال القطاع الغربي من البلاد حتى يتسنى له تركيز قواته في قطاع الأمير عبد الكريم، وأسفرت المفاوضات التي امتدت من 6 أغسطس حتى 28 سبتمبر 1922 عن قبول الإسبان للجلاء عن (تازاروت)، وقبول دفع تعويضات عما سببته عملياتهم الحربية من أضرار في المنطقة، وقبول نقل جميع الضباط والموظفين الإسبان والوطنيين ممَّن لا يرضى عنهم أهالي المنطقة، وقد قبل الجنرال برجيت كل هذا الثمن الباهظ للتفرغ لمواجهة قطاع مليلة، ورغم إحراز الإسبان لبعض الانتصارات المحلية في القطاع؛ إلا أنهم منوا بهزيمة ساحقة في (تيزي عزة) أوقفت تقدمهم نهائيًّا.

    تمكَّن الأمير عبد الكريم في هذه المدة من مدِّ نفوذه إلى كل بلاد الريف؛ فتوحَّدت قبائل شمال المغرب لأول مرة تحت حكومة موحدة، وتم اتخاذ (أجدير) عاصمة لتلك الدولة الجديدة، وهي قرية صغيرة تبعد بضعة كيلو مترات من خليج الحسيمة، الذي كان الإسبان يعسكرون على ساحله الضيق أسفل الجبل.

    وقد قام أبناء الريف بتحصين عاصمتهم، وتمكَّنت مدفعيتهم من ضرب وإغراق السفن الإسبانية التي تقوم بتفريغ حمولتها من الذخائر والتموين في الحسيمة، وذلك ردًّا على قرار حكومة مدريد بتطبيق الحصار البحري على سواحل الريف الذي صدر في 18 مارس عام 1922م.

    شهد شهر يناير 1923 مفاوضات بين مندوبي إسبانيا والأمير لإخلاء سبيل مَن بقي مِن الجنود الإسبان الأسرى نظير أربعة ملايين (بسيطة) إسبانية، مع إخلاء سبيل المغاربة نزلاء سجون مليلة وسبتة وتطوان، وأغلبهم من المسجونين السياسيين.

    وفي صيف 1923م شدد الأمير هجومه على خطوط الإسبان، وفي شهر يونيو شن رجال الأمير هجومًا مفاجئًا على المواقع الإسبانية في (وادي لاو)، الذي يمر فيه الطريق الموصل بين (تطوان) و(شفشاون) في القطاع الغربي، ورغم التفوق العددي الكبير للإسبان؛ فإن جبهة (وادي لاو) انكسرت خلال شهر أغسطس، وقد تمكَّن رجال القبائل من قطع الطريق بين تطوان وشفشاون نهائيًّا، كما استطاعوا محاصرة قوة إسبانية كبيرة بلغت ثلاثة آلاف جندي على مسافة 50 كيلو متر من قاعدتهم، كما قاموا كذلك بقطع الطريق الموصل بين تطوان وطنجة.

    وفي أوائل شهر سبتمبر أخذ رجال الريف يهاجمون الإسبان على مسافة لا تبعد أكثر من ثلاثة كيلو مترات من تطوان نفسها التي تعد مقر الحماية الفرنسية.

    وفي 29 سبتمبر تمكَّن الإسبان من فك حصار شفشاون بعد معارك استمرت لمدة عشرة أيام، بينما حقَّق أبناء الريف انتصارات أخرى في بلاد الجبالا، وقد انسحب عددٌ كبيرٌ من الإسبان من مواقعهم للعودة إلى مشارف تطوان حيث القوات الإسبانية المدعومة.

    وقد تكبَّدت القوات الإسبانية في مدة الستة أشهر الأخيرة من عام 1924م خسائر بلغت 21250 بين قتيل ومفقود وأسير من الضباط والجنود؛ مما ألجأها للانسحاب إلى الساحل، وعرضت حكومة إسبانيا على الأمير الحكم الذاتي تحت الحماية الإسبانية، لكن الأمير رفض، طالبًا استقلال دولته وانسحاب الإسبان منها، ودفع إسبانيا تعويضات عن خسائر سنوات الحرب.

    من جديد نجحت القوات الإسبانية في إعادة فتح الطريق بين طنجة وتطوان، واستخدامه كممر بين الثوار المغاربة، مع تطويق منطقة طنجة لمنع القبائل الثائرة من بيع محصولاتها فيها أو شراء حاجاتها الضرورية، كما قامت أيضًا بحصار (الإنجارا) في آخر شهر يناير 1925م، وقامت بضرب القرى بقنابل الطائرات.

    في المقابل: استمر الأمير عبد الكريم في تدعيم سلطته ومد نطاق دولته في منطقة الجبالا، وفي شهر مايو 1925م بدأت المفاوضات للوصول إلى هدنة، على أساس وقف القتال وعدم تحرك القوات أو الحاميات الإسبانية من مواقعها، ولكن هذه المفاوضات انقطعت ولم تستمر.

    توغل فرنسا في بلاد المغرب:

    في أوائل عام 1924م قامت القوات الفرنسية بالتقدم في منطقة نفوذها في بلاد المغرب المتفق عليها من قبل مع إسبانيا، فقامت باحتلال إقليم (وزان) الواقع في السهول المطلة على المحيط الأطلسي والمجاور للحد الغربي للمنطقة الإسبانية؛ هذا في الوقت الذي كان الفرنسيون يسيطرون فيه على ممر (تازا) الذي يفصل قبائل الأطلس عن قبائل الريف الثائرة، ويسعون للوصول إلى منطقة أعالي وادي (الورغة) التي تقع بين وازان وتازا وإلى الشمال من فاس؛ خاصة في ظل عدم وجود الرسم النهائي بين المنطقتين: الفرنسية والإسبانية هناك.

    اتفقت فرنسا بعد احتلال ما يخصها في منطقة نفوذها في المغرب مع القيادة الإسبانية، أن تتقدم قوات كل منهما من الجنوب ومن الشمال لاحتلال المنطقة المشتركة بينهما، وبالفعل تقدَّم الفرنسيون في شهر مايو 1924م، وعبروا نهر (الورغة) دون التعرض لأي مقاومة، ثم تمكَّنوا من صد محاولة من أبناء الريف لتطويق المنطقة.

    ونظرًا لانسحاب القوات الإسبانية إلى الساحل لم تتصل القوات الفرنسية المتوجهة شمالًا بأي قوات إسبانية، بل وجدت نفسها في مواجهة الثوار من أبناء الريف، فوقعت عمليات كثيرة بينهما ذاقت فيها القوات الفرنسية مرارة الهزيمة؛ لذا قرَّر الفرنسيون إنشاء خط دفاع ثابت للدفاع عن منطقتهم في مواجهة أبناء الريف، ثم تقدَّم الفرنسيون في سبتمبر 1924م في اتجاه شمال الورغة، وفي اتجاه الركن الشمالي الشرقي للمنطقة الإسبانية، لمطاردة أهل الريف داخل الحدود الإسبانية.

    صمم الأمير عبد الكريم على تحرير المناطق التي احتلتها فرنسا خلال عام 1924م، لكن لم تكن فرنسا لتقبل أن يهدد الأمير نفوذها في شمال إفريقية، ولم تكن لتقبل التراجع عما حصلت عليه في المغرب الأقصى، بل سعت لمد النفوذ الفرنسي إلى أقصى درجة ممكنة؛ لذا كان لا بد من وقوع الصدام بين المعسكرين، وهكذا قبل أن يسوي الأمير نزاعه مع إسبانيا، أصبح كذلك في مواجهة مع فرنسا التي كانت في ذلك الوقت أكبر دولة حربية في العالم الغربي.

    وكان احتلال فرنسا لأعالي نهر الورغة يجبر الأمير عبد الكريم على مواجهتها؛ فوادي الورغة هو المورد الأساسي للغلال لأهل الريف، وكانت القبائل التي تسكن أعالي الوادي قد قَبِلَت الانضمام لدولة الأمير؛ خاصة وقد عَمِل من قَبْل على تحريرهم من الإسبان، كما أن عددًا من أهالي قبيلة الأمير كانت تسكن المنطقة؛ كل ذلك أوجب على الأمير مواجهة فرنسا وإسبانيا معًا في وقتٍ واحدٍ وجهًا لوجه.

    مواجهة فرنسا:


    في 13 أبريل 1925، بدأ هجوم رجال الريف على القوات الفرنسية في المغرب الأقصى والتي بلغ عددها 72500 جندي، واستطاع الثوار التوغل في الخطوط الفرنسية وإثارة بعض القبائل خلفها، وقد تأزم الوضع في قطاع (تازة) حين حاول رجال الريف الوصول إلى المناطق التي لم تكن قد خضعت بعد للفرنسيين جنوب المدينة، والوصول كذلك إلى منطقة الأطلسي، ولكن لم تكلل جهود رجال الريف بالنجاح بعد خوض معركة عنيفة (معركة تازا)، لكنهم تمكَّنوا من قطع السكة الحديد في المنطقة الواقعة بين تازا وجرسيف.

    أثارت انتصارات الأمير عبد الكريم الرأي العام في فرنسا، فتم تغيير القيادة الفرنسية وزيادة إمداداتها، والعمل على التعاون مع الإسبان في المغرب الأقصى.

    التعاون الفرنسي الإسباني:

    سعت فرنسا منذ شهر يوليو 1925 للتعاون مع إسبانيا وتوحيد مجهوداتهما في مواجهة الثورة التحررية في شمال المغرب، وكان الرأي العام الإسباني في ذلك الوقت متقبلًا للتعاون مع فرنسا بعد هزائم إسبانيا المتكررة، وخسائرها الكبيرة في منطقة الريف، كما أن الانتصارات التي سجَّلها الثوار ضد القوات الفرنسية، جعلت فرنسا أيضًا تسير في اتجاه توحيد القوتين في مواجهة الثوار.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,451

    افتراضي رد: ستون عامًا على رحيل الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي

    ستون عامًا على رحيل الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي (3-3)






    كتبه/ علاء بكر




    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فقد بدأت في شهر يوليو عام 1925 المفاوضات بين فرنسا وإسبانيا لمواجهة الأمير عبد الكريم الخطابي معًا، وكان هذا يمثِّل خطرًا كبيرًا على الأمير ودولة الريف؛ فالأمير وإن كان قد حارب الدولتين من قبل، لكن دون أن يكونا متحدين معًا في مواجهته، فتكتلهما معًا عبء جديد يجبره على زيادة مجهوداته.

    اتفقت الدولتان على عقد مؤتمر بدأ في يوم 17 يونيو 1925م، وظل حتى يوم 25 يوليو لبحث سبل التعاون بينها في مواجهة الأمير عبد الكريم، وتقرر في المؤتمر:

    - ضرورة منع وصول المواد الحربية والذخائر إلى الأمير عبد الكريم الخطابي؛ لذا وقَّعت الدولتان على اتفاقية في 24 يونيو تقضي بفرض رقابة بحرية مشتركة على معظم السواحل المغربية، مع السماح للسفن الإسبانية الحربية باللجوء إلى بعض الموانئ الجزائرية التي تحتلها فرنسا للتموين، وتم إخطار باقي الدول الأوروبية بتلك الاتفاقية.

    - التوقيع على اتفاقية ثانية في يوم 21 يوليو لمراقبة التهريب من منطقة (طنجة) الدولية.

    رغم توقيع هاتين الاتفاقيتين فإنهما لم يؤثرا تأثيرًا كبيرًا على الأمير عبد الكريم؛ لكونه لديه كميات من الأسلحة والذخائر التي حصل عليها من عملياته الحربية مع المستعمرين.

    - عقد اتفاقية تسمح لطائرات كل منهما بالطيران فوق منطقة نفوذ الأخرى لتعقب الثوار وراء الحدود بين المنطقتين، بعد الاتفاق المبدئي على رسم خط مؤقت للحدود بينهما.

    - تعهد الدولتين في اتفاقية سياسية وقع عليها في 11 يوليو بعدم عقد صلح منفرد مع الأمير، مع الاتفاق سرًّا على الشروط العامة التي لا يمكن قبول أي صلح بدونها.

    وكانت هذه الاتفاقية السياسية أشد الاتفاقات بين الدولتين خطرًا على الأمير؛ خاصة وأن الأمير كان قد بدأ في مفاوضات مع إسبانيا بشأن عقد هدنة بينهما، لكنها توقفت مع بدء المباحثات الفرنسية الإسبانية، وعليه أعلنت إسبانيا أنها لن تعقد صلحًا منفردًا مع الأمير.

    وقد وجدت إسبانيا في التعاون مع فرنسا فرصة سانحة لتصفية مشكلة الريف بالقيام بعمليات حربية جديدة وتصحيح فشل انسحابها إلى الساحل، وقد أثار الأمير عبد الكريم مسألة شروط الصلح مع الإسبان والفرنسيين، وتقدم بشروط دبلوماسية لا تبتعد كثيرًا عن الواقع تتضمن الاعتراف بالضفة الشمالية لنهر الورغة على أنها الحد الجنوبي لدولة الريف، والاعتراف بدخول كل منطقة الجبال داخل حدود تلك الدولة، مع إمكانية احتفاظ إسبانيا بقواعدها الأصلية في سبتة ومليلة علاوة على الاحتفاظ بمناجم الحديد التي تقع على بعد خمسة كيلومترات إلى الجنوب من مليلة.

    ولما كانت شروط الاتفاق بين فرنسا وإسبانيا تتعارض مع شروط الأمير عبد الكريم للصلح أعلنت حكومتا الدولتين أنه لا يمكن الاعتراف باستقلال الريف المغربي، وأن الحرب ستستمر.

    وكانت فرنسا في ذلك الوقت أشد حرصًا من إسبانيا على الدخول في عمليات عسكرية كبيرة؛ خاصة بعد جمعها لقوات عسكرية ضخمة من كل بلاد المغرب.

    هجوم الدولتين الاستعماريتين:

    عمل الفرنسيون على استعادة المواقع التي خسروها في شمال وادي الورغة، فاستخدموا في قطاع عملياتهم أحدث فنون الحروب إذ بدأوا بضرب القطاع كله بالمدفعية الثقيلة ضربًا متصلًا في 10 سبتمبر، ثم بدأوا الهجوم في اليوم التالي حيث أخذت القوات الفرنسية تتقدَّم بطريقة منتظمة ولمسافات قصيرة حتى تتمكن من فصل ومحاصرة وتطهير كل مرتفع في الانتقال إلى المرتفع التالي، وقد استمرت تلك العمليات في هذا القطاع حتى يوم 27 أكتوبر، بعدها أقام الجنود الفرنسيون مواقع ثابتة لهم في القطاع لكي يمضوا فيها فصل الشتاء، حيث يتعذر استمرار العمليات للظروف الجوية.

    وقد تمكَّنت حملة إسبانيه في المدة بين 11 و16 سبتمبر من النزول على الساحل عند نقطة تقع إلى الغرب من خليج الحسيمة، ثم توغلت ابتداءً من 2 أكتوبر في سهل أجدير، بينما كانت القوة الفرنسية الزاحفة من (تازا) تسابق العوامل الجوية للوصول إلى مقدمة القوات الإسبانية الزاحفة من مليلة وأجدير.

    وقد اتصل خيالة الفرنسيين المتقدمين من تازا في يوم 6 أكتوبر بخيالة الإسبانيين المتقدمين من مليلة، بينما وصلت قوات الحملة الإسبانية الزاحفة على طريق أجدير إلى (سيدي علي بورقبة) التي تقع على 40 كيلومتر من أجدير في يوم 10 أكتوبر، ولكن الاتصال بين القوات الفرنسية الزاحفة تجاه الشمال والقوات الإسبانية الزاحفة تجاه الجنوب لم يتم.

    ومع ازدياد الأمطار توقفت العمليات؛ فاضطرت فرنسا إلى سحب فرسانها من (سيدي علي بورقبة) إلى سوق السبت، وسحب مشاتها إلى مرتفعات خط تقسيم المياه بين الريف وحوض الملوية، وهكذا منعت الظروف الجوية فرنسا وإسبانيا من استكمال العمليات الحربية، بينما اضطر الأمير عبد الكريم إلى نقل عاصمته ومقر قيادته إلى الداخل، إلى الجنوب الغربي من (تارجست).

    وقد تمكَّن رجال الأمير في أثناء هذه العمليات من احتلال 9 مواقع فرنسية ونسف موقعين، وإجبار العدو على إخلاء 32 موقعًا؛ أي: أن الفرنسيين خسروا 43 موقعًا من جملة 66 موقعًا لهم، ولكن الفرنسيين تمكَّنوا من استعادة 21 موقعًا، وأنشأوا لهم مواقع جديدة خاصة في قطاع تازا، كما احتلوا مرتفعات تقسيم المياه التي تشرف على جنوب أجدير.

    كانت قوات الأمير عند بداية هجوم الربيع قد بلغت 35 ألف مجاهد، منهم 25 ألفًا من الريف و10 آلاف من الجبالا، ثم انضم إليهم رجال كثيرون من القبائل المحررة في منطقة النفوذ الفرنسي، فقدر الفرنسيون قوات الأمير بنحو 100 ألف مقاتل، لكنه خسر ما يقرب من 20 ألف خلال تقهقره في فصل الخريف أمام تقدُّم القوات الفرنسية واحتلالها لأراضي بعض هذه القبائل.

    أما القوات الفرنسية فقد بلغت بعد وصول الإمدادات الكبيرة لهم في المغرب في أوائل شهر يوليو 11 كتيبة من الفرنسيين، وقوة كبيرة من وحدات المدفعية والوحدات المساعدة؛ بالإضافة إلى المجندين من التونسيين والجزائريين والمغاربة الذين جندتهم فرنسا في قواتها الاستعمارية، وعند بداية الهجوم الفرنسي في الخريف في 10 سبتمبر كان هناك 7 فرق كاملة تحت القيادة الفرنسية، اثنتان في كل قطاع على الجبهة من القطاعات الثلاث، وواحدة تمثِّل قوة احتياطية في مدينة (فاس)، وقد اشتملت تلك الفِرَق السبع على 114 كتيبة مشاة، و25 كتيبة فرسان و22 سربًا من الطائرات في كل سرب منها 6 طائرات، فكان مجموع هذه القوات 158 ألف جندي، منهم 12 ألف من الفرنسيين، و12800 من أجناس أوروبية، و133 ألف من أهالي ومجندي بلاد المغرب، أي: بنسبة 85 % من مجموع القوات، وذلك أن فرنسا أصبحت تعتمد على القوة البشرية الموجودة في شمال إفريقية للمحافظة على حكمها في مناطق نفوذها؛ إذ إن الرأي العام الفرنسي كان قد أجبر الحكومة على السير في هذه السياسة نتيجة لانخفاض نسبة المواليد في فرنسا، ونتيجة لخسائر فرنسا في الحرب العالمية الأولى، وعدم ترحيب الرأي العام الفرنسي بالخدمة في شمال إفريقية.

    وقد بلغت خسائر الفرنسيين مع نهاية شهر يوليو 1275 قتيلًا و5306 جريحًا، ولكنها زادت خلال الهجوم الخريفي المضاد من أول أغسطس حتى 15 أكتوبر بعدد جديد بلغ 891 قتيلا و2991 جريحا، لكن كان القسم الأكبر منهم من أبناء المغرب العربي الذين خسروا إسلامهم فباعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، وقد كلفت العمليات الحربية فرنسا حتى 21 أكتوبر مبلغ 950 مليون فرنك علاوة على معدات أرسلت من فرنسا قيمتها 400 مليون فرنك.

    أما القوات الإسبانية الموجودة في شمال إفريقية؛ فقد بلغ عددها 69290 إسبانيا بعد انسحاب عام 1924 علاوة على 15 ألف جندي من المغاربة، وقد زادت القوات مع الإمدادات في هجوم الخريف إلى 118 ألف جندي أغلبيتهم الساحقة من الإسبان، وهذا يعني أن مجموع القوتين الفرنسية والإسبانية في شمال المغرب بلغ نحو 280 ألف جندي في مواجهة 60 ألف من المجاهدين.

    وقد أثبت واقع الأمر بعد توقف العمليات بسبب الأحوال الجوية أن الصراع بين الطرفين المتحاربين سيكون صعبًا وطويلًا؛ فبعد أن نجح الأمير عبد الكريم في هجومه في الربيع في تحطيم خط الدفاع الفرنسي عند الورغة والوصول إلى أبواب تازا، فإن الفرنسيين والإسبان قد نجحا في هجومهما المضاد في الخريف، وحقَّقوا انتصارات جديدة ضد قوات الأمير.

    جاء الشتاء على المجاهدين بما فيه من البرد القارس وسقوط الأمطار، وتغطية قمم الجبال بالثلوج وانهيار بعض جوانب الطرق، بما يعني صعوبة المواصلات، ونقص التموين في ظل تطويق القوات الاستعمارية البرية من الجنوب، وتطويق سفن الأساطيل الفرنسية والإسبانية للسواحل الشمالية، وقد ساهم ذلك في إنهاك قوى المجاهدين، وفي التأثير على روحهم المعنوية رغم بقاء الإصرار على المقاومة.

    وكانت ضخامة إمكانيات القوى الاستعمارية في مواجهة المجاهدين تجعل الفارق كبيرًا بين معدات وأسلحة وتموين الطرفين؛ خاصة في ظل التعاون بين فرنسا وإسبانيا، فمع ازدياد عدد القوات والأسلحة والمعدات ظهرت أسلحة جديدة منها المدرعات (المصفحات) ومدافع الجبال مع زيادة في عدد الطائرات لاستخدامها في عمليات الاستكشاف وتوجيه المدفعية مما يصير معها فاعلية أكبر للقوات، وأصبح بالتالي على الثوار مواجهة المصفحات الفرنسية على الأرض والطائرات الفرنسية المغيرة في السماء.

    وزاد الأمر صعوبة: ترابط المصالح الاقتصادية بين الدول الأوروبية الاستعمارية، وازدهار الاقتصاد الأوروبي القائم على التسلُّط على بقية العالم واستغلال مناطقه، مع فقد المجاهدين معه تحرك الضمير العالمي أو حتى وساطة من الدول.

    كانت دوافع فرنسا للوصول إلى نتيجة حاسمة في حربها في المغرب تنبع من خشيتها من امتداد نفوذ ثورة المجاهدين إلى ثورات أخرى موازية لها أو متعاونة معها، كما كان الموقف السياسي في فرنسا نفسها يضغط على الحكومة الفرنسية للحل الحاسم في ميدان العمليات، أما دوافع إسبانيا فترجع إلى أن ثورة المجاهدين هي في مناطق نفوذها، وتهدد وجودها فيها.

    وقد كان توغل القوات الفرنسية داخل منطقة الريف يهدد بتقسيمها ويؤثر على سهولة الاتصال فيها، وقد سعت القيادة الفرنسية في المغرب من خلال قوات غير نظامية إلى الدخول في أراضي القبائل المجاورة للأمير وإجبار الأهالي على الدخول تحت طاعة الفرنسيين وتقديم الخدمات لهم، كما حدث مع أبناء مصباح من قبائل صنهاجة.

    محاولة التفاوض:

    ومع توالي استعدادات فرنسا وإسبانيا لمواصلة العمليات الحربية في فصل الربيع استشعر الأمير عبد الكريم خطورة الموقف، فأعلن عن استعداده للتفاوض من أجل الصلح، وعرض السماح للأسرى الفرنسيين والإسبان بالاتصال بذويهم وإرسال الملابس والأدوية والأطعمة لهم، وعليه توجهت بعثة طبية أوروبية إلى (تارجست)، وصحب ذلك اقتراحات جديدة للمفاوضات، ولكن حكومتا فرنسا وإسبانيا كانتا غير راغبتين في ترك الفرصة المواتية لهما أن تفلت منهما، وسعتا بإصرار إلى استغلال تفوق إمكانياتهما المادية والعسكرية في فرض الشروط التي يرغبا فيها بالقوة على رجال الريف.

    استمرت المفاوضات بين الطرفين في مؤتمر للصلح من 27 أبريل 1926م إلى 6 مايو، وتأزمت المفاوضات حول نزع سلاح القبائل والاعتراف بالمولى يوسف سلطان المغرب الذي هو تحت الحماية الإسبانية، مقابل الحصول على استقلال ذاتي مشروط.

    استئناف القتال:

    بدأ الهجوم الفرنسي الإسباني بغارات الطيران وإلقاء قنابلها يوم 7 مايو 1926م، ثم تقدم القوات الفرنسية والإسبانية في صبيحة اليوم التالي صوب (تارجست) من اتجاهين، ورغم المقاومة التي كبدت المهاجمين خسائر كبيرة احتلت القوات الإسبانية (أنوال) يوم 18 مايو، ودخلت قوات غير نظامية من المغاربة (تارجست) يوم 23 مايو، وبين المدينتين أصبح الطريق إلى إقليم (بنووبياغل) مفتوحًا، فطالب الأمير عبد الكريم بوقف القتال.

    العودة إلى المفاوضات:

    رأى الأمير عبد الكريم أنه في موقف لا يحسد عليه، فرغم نجاحه في تنظيم رجاله وتسليحهم والنزول بهم إلى العمليات الحربية، ولكنه مع طول مدة الحرب وضعف الإمكانيات، مع فرض الحصار البحري عليه، وتفوق العدو في العدد والعدة، بالإضافة إلى أن الإقليم الصغير الفقير قد تناقصت فيه جهود الزراعة والرعي والإنتاج الضرورية لتوفير القوت للمجاهدين؛ بسبب الانشغال بالعمليات الحربية والإعداد لها؛ فأصبح -في رأي الأمير- الاستمرار في الحرب أطول من ذلك أشبه بعملية انتحارية، وأن دخول قوات الأعداء لنزع سلاح القبائل بالقوة يعني انتشار القتل والسلب والنهب وهتك الأعراض، وما يحمله ذلك من خراب ودمار؛ لذا أجبره كل ذلك على التفاوض.

    وقد حاول الأمير في هذا التفاوض أن يحصل على أحسن الشروط الممكنة لبلاده قبل أن تكون لنفسه، وقد عَلَّق الأعداء في هذا التفاوض على الأهمية الكبرى لتسليم الأمير نفسه.

    وفي يوم 26 مايو 1926 أمر الأمير عبد الكريم الخطابي بإطلاق سراح الأسرى الأوروبيين الموجودين لديه، وفي صبيحة اليوم التالي دخل الأمير بفرسه وسط خطوط الفرنسيين ليسلِّم نفسه، وقد قابلته القوة الفرنسية مقابلة القائد العسكري فقامت بتحيته التحية العسكرية، وسافر الأمير في اليوم التالي إلى تازا، وقد اتفقت حكومتا فرنسا وإسبانيا على إرسال الأمير عبد الكريم مع أسرته وبعض أتباعه المقربين إلى المنفى في (جزيرة ريونيون).

    الأمير في المنفى:

    استسلم الأمير لقضاء الله تعالى وقدره، فعاش في المنفى في عزلة من عام 1926م إلى عام 1932م ممتنعًا عن الشكوى؛ رغم سوء المعاملة، وسوء جو الجزيرة الذي لا يناسب رجل من رجال الجبال، حيث كانت درجة الحرارة مرتفعة، ونسبة بخار الماء في الهواء كبيرة تؤثِّر على رئتيه، فكان يقضي أوقاته في قراءة القرآن والصلاة، ورعاية أولاده، والتدريس لهم بنفسه.

    بدأ الأمير بعد هذه السنوات الست في الشكوى لحاكم الجزيرة بسبب سوء الأحوال المناخية ومعاناة عائلته؛ خاصة أن أولاده قد شبوا واحتاجوا إلى المزيد من التعليم، وليس هناك داع لتعرضهم للعقوبة معه في هذه الجزيرة المعزولة، ولكن فرنسا التي كانت تحتفل وقتها بمرور مائة عام على احتلالها للجزائر لم توافق على الملاينة مع الأمير.

    اختارت فرنسا المولى محمد بن يوسف الابن الثالث للمولى يوسف لكي يصبح سلطانًا على المغرب الأقصى بعد وفاة أبيه عام1927م، وخلال -وبعد- الحرب العالمية الثانية أظهر سلطان المغرب نضجًا وتطورًا، فرأى الوقوف إلى جانب حركة حزب الاستقلال الذي قادها عددٌ من رجال المغرب الأقصى مطالبين بالحصول على بعض حقوق المغرب من فرنسا؛ فتدهورت علاقة فرنسا بالسلطان نتيجة تأييده لحركة حزب الاستقلال، الذي اتخذ قرارًا بمنح سلطان المغرب لقب الملك محمد الخامس.

    وقد رأت فرنسا في ازدياد نفوذ الملك تعارضًا مع مصالحها وامتيازاتها، فقررت فيما قررت من إجراءات لمواجهة الملك، الإفراج عن الأمير عبد الكريم وأسرته وأتباعه، وعودته، لكن إلى فرنسا نفسها، وذلك في الأسبوع الأخير من شهر مارس 1947م ليكون ورقة تلوح بها في وجه محمد الخامس بإمكانية عودة الأمير إلى بلاده.

    الأمير في القاهرة:

    أعدت فرنسا مقرًّا للأمير بالقرب من مرسيليا للعيش فيه، وركب الأمير ومَن معه إحدى السفن، وخلال سير السفينة في قناة السويس، طلب الأمير ومَن معه اللجوء السياسي على مصر، وأعطته القاهرة هذا الحق.

    قامت القاهرة مع نهاية الحرب العالمية الثانية بدور رئيسي في تجميع قوى التحرر في العالم العربي؛ خاصة بعد إنشاء الجامعة العربية؛ لذا شهدت مجيء الكثير من الملوك والرؤساء للتشاور بخصوص القضايا والمشكلات العربية، كمشكلة فلسطين ومشكلة استقلال ليبيا، ومشكلة التحرر في دول المغرب العربي، وكانت القوى العربية النامية قد أخذت في النضوج والتكتل للحصول على حقوقها، خاصة بعد ما تعرَّضت له الدول الاستعمارية الأوروبية خلال الحرب العالية الثانية، وظهور دول أخرى كبيرة: كأمريكا، والاتحاد السوفيتي، والصين، وإنشاء منظمة الأمم المتحدة وبعد الإعلان عن حقوق الإنسان.

    ورغم أن لجوء الأمير السياسي إلى القاهرة كان يمنعه من الاشتغال بالسياسة؛ إلا أن أحدًا لم يكن في وسعه منع الرجل من ذلك، فشارك في عملية التنظيم والتوجيه للعناصر الجزائرية والمغربية التي كانت تقيم بالقاهرة، واتخذت من الكفاح السياسي سبيلًا لها، والتي كانت تزوره بصفته مجاهدًا وقائدًا، وأبًا روحيًّا لها، وقد شهدت القاهرة نشأة مكتب المغرب العربي، فكان المكتب هو مركز نشاط الأمير السياسي.

    بعد ثورة يوليو 1952 أصبح التحرير هو شعار القاهرة، وظهرت جبهة تحرير المغرب فواجهتها فرنسا بالشدة والعنف مما أشعل حركة المقاومة المسلحة بتأييد من القاهرة لتحرير بلاد المغرب العربي، ومع عجز فرنسا عن مواجهة قوات التحرير وجماعات المقاومة، وبعد سيطرة جيش التحرير المغربي على الأقاليم الشمالية والوسطى من البلاد في المغرب، قررت فرنسا إعادة الملك محمد الخامس للبلاد بعد أن كانت قد نفته من قبل، فاستقبله الشعب استقبالًا شعبيًّا كبيرًا، فكانت عودته تعني انتهاء نظام الحماية والاعتراف باستقلال المغرب.


    استمر الأمير عبد الكريم في إقامته بالقاهرة، وقد شعر أنها مركز ثقل التحرر للعالم العربي، مما جعله يؤجل عودته لبلاده رغم دعوة الملك محمد الخامس له للعودة إلى بلاده عام 1959؛ خاصة بعد أن تقدَّم سن الأمير وثقلت حركته، واحتاج إلى الرعاية الطبية؛ مما جعله يرغب في أن يدفن في القاهرة، فتحقق له ما أراد فدفن بها بعد وفاته بها في نوفمبر 1962م.

    للاستزادة راجع:

    - (عبد الكريم الخطابي) د. جلال يحيى - سلسلة أعلام العرب رقم 78 - ط. دار الكاتب العربي - يونيو 1968 م.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •