الكاتب.. وأزمة الثقة!
محمد عمر المصري





باتت الفجوةُ متسعة جدًّا بين ما يُقال، وبين ما يجب أن يُفعل! تلك حقيقةٌ مؤكدةٌ في عالمِ المعاملات، ربما منذ زمنٍ سحيق، لكنها أضحت اليومَ سمة مميزة تصف تلك الهوة السحيقة والفوارق بين الكلام والفعل، أو بالأحرى بين النظري والتطبيقي في أوساط المتعاملين في كافة مجالات الحياة.

وفي مجال الكتابة والتأليف والنشر تتضح تلك الفجوة من خلال بعض المعالم التي يمكن الإشارة إليها إجمالاً من خلال النقاط الست التالية: [الحماية الفكرية - الذوق العام - الأدوات الكتابية - الطباعة والنشر – النقد - الانسحاب أو التحسين].

فالحماية الفكرية أو حقوق الملكية الفكرية أو حقوق المؤلف كلها تدور حول الحق الأصيل للمؤلف فيما يتعرض له من سرقاتٍ أدبية، وانتهاك لحقوقه الفكرية في أن يقاضي كاتباً آخر إن لم يَعزُ إليه صراحةً ما اقتبسه من مؤلفه حسب طرق التوثيق المشهورة. وتلك نقطة يجب أن يراعيها المؤلف جيداً أثناء بحثه وكتابته، حتى لو كان ما يكتبه عبارة عن مقالٍ قصير! فتقتضي الأمانة العلمية أن ينسب إلى صاحب الحق والمؤلف الأول ما يقتبس من كتبه ومؤلفاته ومقالاته! اللهم إلا إذا خرج علينا المؤلف بجديد لم يسبقه فيه أحد! أو كان السياق في إطار عام وأفكار متداولة. والكاتب الحذق من ينأى بنفسه عن تلك الشبهات والاتهامات.

أما الذوق العام، فالناس فيه صنوف عديدة، لتعدد معياره، وسعة درجاته، كما أن الكاتب أضحى لا يكتب لنفسه فقط، حتى لو كانت كتاباته عبارة عن خواطر وأمور شخصية. ورغم تباين الناس في مسألة الذوق يظل هناك تشابهات لا يمكن الاختلاف عليها من أمور الذوقيات والجماليات، وعلى الكاتب أن يراعي هذا البعد جيداً.

وبالنسبة للأدوات الكتابية فما من عمل أو فن أو مهارة وغير ذلك إلا وله أدواته، فالكاتب كغيره من الناس يُخرج منتوجاً يصير عرضة لآراء الناس وحكمهم ونقدهم، وكلما ضعفت أدوات الكاتب فيما يكتب زاد النقد السلبي تجاهه! وبطبيعة الحال فإن الكاتب ينشد حقًّا الوصول إلى أقصى حد من الجودة فيما يكتب، لكن ربما لا تسعفه أدواته، فعدم تمكنه من اللغة العربية وعلومها المختلفة من نحو وبلاغة، يضيع عليه إضفاء الجماليات التي كان بإمكانه صبغة عمله بها لو كان متقناً لتلك العلوم! وليس هناك أقوى من القراءة لثقل تلك الناحية لدى الكاتب، فبها، أي القراءة، ينقدح الذهن، وتتفتق القريحة، وتسلم اللغة، ويحلو البيان، وتشمر البلاغة عن ساقيها، فيخرج العمل معتصم البناء، جميل السرد والتسلسل، تزينه البلاغة بسجعها وكناياتها وإطنابها وإيجازها وتشبيهاتها.

وتعد مسألة الطباعة والنشر نقطة التحول التي عندها يخرج العمل من مسودة الحرف المكتوب بخط اليد أو عن طريق الحاسب الآلي إلى دائرة الضوء والانتشار. وهنا تتعاظم مسؤولية الكاتب على الأقل تجاه القراء إن رأوا بطبعة الكتاب خللاً، أو أخطاءً نحوية وإملائية، أو عدم تنسيق جيد لصفحات الكتاب، أو إبدال أرقام الصفحات. لذا فإن الكاتب لا بد أن يتحرى دور النشر المشهود لها بالكفاءة والإتقان.

يأتي دور النقد في هذه المرحلة محملاً بسياط التأديب المعنوي التي تنشد اكتمال العمل من مختلف جوانبه، حتى النقد الإيجابي في فكرته الأساسية يعد سوطاً آخر للتحفيز والحث على إظهار ما خفي من جعبة الكاتب من أفكار وجماليات وإبداعات! وفي هذه المرحلة يجب على الكاتب أن يتلقى بوادر النقد بصدر رحب، وعقل ذكي، فما فاته من حسن إبداعاته، يهديه إليه النقاد دون عناء منه.

وفي مرحلة الانسحاب أو التحسين يجد الكاتب نفسه في مأزق حقيقي، فالانسحاب واعتزال الكتابة مأزق، والاستمرار فيها مع تحسينها مأزق آخر أشد وطأة! فالكتاب أصبح مسؤولاً عمَّا يكتب، ومحاسَباً عليه، وإن لم ترتق كتاباته إلى درجة معينة من الكمال والإبداع تُشبع نهم الذوق العام وتتجنب سهام النقاد، وأنى له ذلك! فإن الالتفات لعمل آخر ربما يكون أولى له! فعلى الكاتب أن يهتم بالفكرة الطارئة في خيالاته، ويمتلك أدوات إحيائها بالكتابة، وإظهارها بالنشر وتنقيحها بالنقد.