لماذا لا يقتصُّ الله للمؤمنين من الكفار في الدنيا عاجلًا وفي كل حال؟

هذا السؤال يتردَّد من كثير من المتعجِّلين والجهَّال، وبعضهم يصيغه بسؤال (تأخر النصر) أو لماذا لا يوجد نصر بلا تبعات ومغالبة ومدافعة وشهداء من أهل الحق، ويجيب عليه الفضلاء بأجوبة عديدة، ولكنْ في القرآن جواب متعلِّق بآثار أسماء الله الحسنى، سأصيغه بصياغتي ثم أذكر دليله.

فأولًا: صراع أهل الحق والباطل يتفاوت فيه أهل الحق بما يُقدِّمون للدين، وتحصل منهم الأحوال العلية التي يستحقون بها الثواب العظيم، مثل الهجرة والجهاد والشهادة وغيرها من الأحوال الشديدة، فيستحقُّون بذلك الرزق العظيم من الله عز وجل الذي أعدَّه لمن نال هذه المنازل.

ثانيًا: تأمُّل المؤمن لحِلم رب العالمين على أعدائه وإمهاله لهم، يجعل المؤمن أعظمَ رجاءً لله عز وجل، ثم إن هناك من هؤلاء الأعداء من يتوب وتحسُن توبته، وقد ورد في الحديث "يضحك الله إلى رجلين" وذكر أن أحدهما يَقتُل الآخر وكلاهما يدخل الجنة، وتفسيره أن كافرًا يقتل مسلمًا ثم يُسلم الكافر ويستشهد في سبيل الله.

وهذه المعاني ذُكرت في القرآن مرارًا، ومن هذه المواطن قوله تعالى: "وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُ مُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُ مْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ"

فآخر الآية الأولى التي فيها "لَيَرْزُقنَّ م اللهُ رزقًا حسنًا وإن الله لهو خير الرازقين" وأول التي تليها "ليُدخِلَنَّه مُدخلًا يرضونه".

فيه بيان الشق الأول من الحكمة وهو أن الله شاء أن يكون المؤمنون متفاوتين في الثواب بحسب بذلهم للحق، وأعدَّ رزقًا حسنًا سبحانه للأعلى منهم، فكانت مدافعة أهل الباطل مما يَظهر به تمايُزهم وتفاضلهم واستحقاق الثواب (وقولنا استحقاق تجوُّز، وإلا فالثواب أعظم من الأعمال بكثير)، وإذا استحضر المرء الثواب العظيم المُعَدَّ لأهل الحق؛ هان عليه ما يراه مما يلحقهم من البلاء في الدنيا، وليس معنى هذا تطلُّب البلاء أو الرضا بالخنوع، فالآية نفسها فيها الحثُّ على المدافعة واتخاذ الأسباب.

ثم قوله سبحانه "وإن الله لعليم حليم" فيه بيان الشق الثاني من الحكمة.

وفي الجمع بين اسم (العليم) واسم (الحليم) حكمة بالغة، وهي أن الإنسان في الدنيا قد يكون حليمًا لجهله بعظيم أثر الجناية، لذا يحلم على أهلها، فجاء أن الله تقدَّس اسمه ليس كذلك، فهو حليم مع علمه بكل شيء، وهذا أعلى الحلم، ولله المثل الأعلى سبحانه.

وتأمَّل اقتران ذكر (الرزق) مع (العلم) و (الحِلم)، فالمرء فينا يضعف حِلمه على الجاني كلما كان فضلُنا على الجاني أكثر وعلمُنا بجنايته أعظم، غير أن رب العالمين (خير الرازقين) (الحليم) (العليم) يحلم على عباده الأشقياء ويُمهِلهم ويرزقهم مع علمه بجنايتهم وسبِّهم له وأذيتهم لأوليائه، حتى يهتدي منهم من يهتدي بعد طول عداء للحق، وقد ورد هذا المعنى في الحديث "مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ"، وهذا العلو في صفات الجمال معه أيضا صفات الجلال، فعند حد معيَّن يستوجب المرء العقوبة، كما يقع مع المرتد وكما في عقوبة الآخرة.

وإذا تأمَّل المرء المؤمن هذه الحال مع العباد الأشقياء فسيقول فكيف بالأولياء ومَن كانوا برَكْب الأولياء، فيعظُم رجاؤه ويُقبِل على الله بكليته، ويبذل ولا يرى ما يبذله شيئًا أمام الرزق الحاضر والرزق الموعود، وكان أبو بكر يفهم هذا، فإذا آذاه المشركون قال: سبحانك ربي ما أحلمك.

فهذه الأمور كلها في حقيقتها دروس في الأسماء والصفات إن فهمها العبد وَجَدَ لذَّة في عبادته التي لأجلها خُلِق.

والمعطِّل رغمًا عن أنفه سيفهم الحلم والعلم، لن يدَّعي التأويل أو التفويض، وَلَن يزعم أن القدر المشترك يعني التشبيه!
كتبه/ عبدالله الخليفي