قال ابن عثيمين رحمه الله
قالَ تَعالى: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33].
قَالَ بَعْضُ المُفَسِّرينَ: هَذِهِ الآيَةُ عَامَّةٌ في كُلِّ حُجَّةٍ يَأتي بِها أَهْلُ البَاطِلِ إِلى يَوْمِ القِيَامةِ.
انتهى
لا يَأْتِي مُبْطِلٌ بِحُجَّةٍ على باطِلِهِ إلاَّ وفي القرآنِ ما يُبَيِّنُ هذهِ الحُجَّةَ الباطلةَ، بلْ إنَّ كلَّ صاحِبِ باطِلٍ اسْتَدَلَّ لِباطِلِهِ بِدليلٍ صحيحٍ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ فهذا الدَّليلُ يَكونُ دَليلاً عليهِ، كما ذَكَرَ شيخُ الإِسلامِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في مُقَدِّمةِ كِتابِهِ: (دَرْءُ تَعارُضِ النَّقلِ والعقلِ) أنَّهُ ما مِنْ صاحِبِ بِدْعةٍ وباطلٍ يَحْتَجُّ لِباطِلِهِ بشيءٍ مِن الكتابِ أوْ مِن السُّنَّةِ الصَّحيحةِ إلاَّ كان ذلكَ الدَّليلُ دَليلاً عليهِ، وليسَ دَليلاً لهُ.
قالَ المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ مُسْتَدِلاًّ على أنَّ الرَّجلَ المُوَحِّدَ ستَكونُ لهُ حُجَّةٌ أَبْلَغُ وأَبْيَنُ مِنْ حُجَّةِ غيرِ المُوَحِّدِ مهْما بَلَغَ مِن الفَصاحةِ والبَيانِ،
كما قالَ تعالى:
{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}
أيْ: لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ يُجَادِلونَكَ بهِ ويَلْبِسُونَ الحقَّ بالباطلِ إلاَّ جِئْناكَ بالحقِّ وأَحْسَنَ تفسيرًا؛
ولِهذا تَجِدُ في القرآنِ كثيرًا ما يُجِيبُ اللهُ تعالى عنْ أسئلةِ هؤلاءِ المُشرِكِينَ وغيرِهم لِيُبَيِّنَ عزَّ وجلَّ للنَّاسِ الحقَّ، وسيَكونُ الحقُّ بَيِّنًا لكلِّ أحدٍ.

ولكنْ ها هُنَا أمْرٌ يَجِبُ التَّفطُّنُ لهُ، وهوَ: أنَّهُ لا يَنْبَغِي للإِنسانِ أن يَدْخُلَ في مُجادَلةِ أحدٍ إلاَّ بعدَ أنْ يَعْرِفَ حُجَّتَهُ، ويَكونَ مُسْتَعِدًّا لِدَحْرِها والجوابِ عنها؛ لأنَّهُ إذا دَخَلَ في غيرِ معرفةٍ صارت العاقبةُ عليهِ، إلاَّ أنْ يَشاءَ اللهُ، كما أنَّ الإِنسانَ لا يَدْخُلُ في مَيْدانِ المعركةِ معَ العَدُوِّ إلاَّ بسلاحٍ وشجاعةٍ.
ثمَّ ذكَرَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أنَّهُ سيَذْكُرُ في كِتابِهِ هذا كلَّ حُجَّةٍ أتَى بِها المشرِكونَ لِيَحْتَجُّوا بها على شيخِ الإِسلامِ -رَحِمَهُ الله- ويَكْشِفُ هذهِ الشُّبُهاتِ؛ لأنَّها في الحقيقةِ لَيْسَتْ حُجَجًا، ولكنَّها تشبيهٌ وتَلْبِيسٌ (1).
قال الشيخ صالح الفوزان
{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}
فَلاَ تُوجَدُ شُبْهَةٌ في الدُّنيا، أو باطِلٌ في الدُّنيا يُدْلِي به كَافِرٌ أو مُلْحِدٌ إلاَّ وفي القُرْآنِ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ، لَكِنْ لاَ يَتَبيَّنُ هَذَا إلاَّ بِمَعْرِفَةِ القُرْآنِ والتَّفَقُّهِ فيه ودِرَاسَتِهِ حَقَّ الدِّرَاسَةِ، حَتَّى يُعْرَفَ مَا فيه مِن الكُنُوزِ، وَمَا فيه مِن السِّلاَحِ، ومَا فِيهِ مِن الذَّخِيرَةِ الَّتِي نُقَاوِمُ بِهَا أَعْدَاءَنَا، فَنُقْبِلُ عَلَى كِتَابِ اللهِ حِفْظًا وتَفَهُّمًا وتِلاَوَةً وتَدَبُّرًا وَعَمَلاً، حَتَّى نَكُونَ مُسَلَّحِينَ بِهَذَا السِّلاَحِ، أمَّا مُجَرَّدُ وُجُودِ القُرْآنِ عِنْدَنَا مِن غَيْرِ أَنْ نَعْتَنِيَ بِهِ ونَدْرُسَهُ فَلاَ يَكْفِي، وأَهْلُ الكِتَابِ ضَلُّوا وكَفَرُوا وعِنْدَهُم التَّورَاةُ والإِنْجِيلُ لَمَّا تَرَكُوا تَعَلُّمَهُمَا والعَمَلَ بِهِمَا.
قال الشيخ صالح ال الشيخ
(وقد منَّ الله علينا بكتابه الذي جعله الله: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ })
هذه الكلمة تأصيل؛ لأن الردود على المشركين وكشف الشبه الأصل فيها كتاب الله جلّ وعلا، كل حجة عندنا فإنما هي في القرآن في هذا الأمر العظيم، أمر التوحيد، ومضادة الشرك وأهله،
هي في القرآن، لم؟
لأن القرآن كما قال جلّ وعلا: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }
فقوله:
{تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} فما فيه بيانُ كل الأشياء، وأعظم الأشياء حاجة إلى تبيانها مسألة التوحيد والشرك، وبيان التوحيد وبيان الشرك، وهذا هو أعظم ما يحتاج إليه العباد، فكان هذا داخلاً دخولاً أولياً في قوله: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}.
فإذاً: الرجوع في التبيان والبيان والحجة إلى القرآن،وهذا كما سيأتي في أن كل الحجج إنما هي من القرآن، والسنةُ مبينة للقرآن.
قال: (فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها)
وهذا قاعدة عامة في كل شيء، في مسائل العقيدة، والتوحيد،
وكل مسألة يحتاج فيها إلى حكم الشرع، فإنها في القرآن، كما قال جل وعلا: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} على أحد وجهي التفسير.

قال: (إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها؛ كما قال تعالى:
{وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً})
المثل: ليس المراد به ما يسير مسير؛ كما يقال: في الأمثال كذا وكذا،
وإنما المثل هو: القول الذي يسير في الناس.

القول إذا كان له حجة، وله مسير في الناس من جهة القناعة به لشبهة فيه قيل له: مثل،
ولهذا قال -جل وعلا- هنا:
{وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ}
يعني: بحجة باطلة في تحسين الشرك، أو في إيراد الشبه، وأنهم ليسوا بكفار ولا مشركين
{إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ}
يعني: في رده وبيان بطلانه وبيان الحق في ذلك
{وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}وأوضح تبياناً، وأحسن تأويلاً
وشرحاً لذلك المثل وللحق الذي فيه؛
لأن القرآن غالب.

(قال بعض المفسرين: هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة).