تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ)

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ)



    (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ) (1)









    كتبه/ أشرف الشريف

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    صورة رعيبة، ومشهد مفزع، وبلاغة آسرة:

    قال الله -تعالى-: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 31). وحُنَفَاءَ لِلَّهِ: جَمْعُ حَنِيفٍ، وَهُوَ: الْمُخْلِصُ لِلَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، المائل عن الشرك، والمعنى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، مُنْحَرِفِينَ عَنِ الْبَاطِلِ قَصْدًا إِلَى الْحَقِّ؛ وَلِذَلِكَ زَادَ مَعْنَى حُنَفاءَ بَيَانًا بِقَوْلِهِ: (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) أَيْ: تَكُونُوا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَقًّا، موحدين لله -تعالى- في ذاته وصفاته، وعباداته، مائلين عن كل الأديان إلى دينه الإسلام، غير مشركين به في أي شيء من الشرك أو الشركاء.

    وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) لِلْمُصَاحَبَةِ وَالْمَعِيَّةِ، أَيْ: غَيْرَ مُشْرِكِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ؛ لأن أعظم ذنب هو الشرك بالله -عز وجل- فهو الذنب الذي لا يغفره الله -تعالى- إن مات صاحبه عليه، لذا كثرت الآيات التي تُحذر منه وتبين سوء عاقبته، وتحرم الخطوات التي قد تؤدي إليه، أو تعكر صفو التوحيد أو تصيبه بشائبة أو شبهة، حتى وإن كان الإنسان لا يقصد، ومع عدم القصد وعدم وجود النية في الشرك؛ سَمَّى الإسلام العمل أو القول شركًا أصغر إن كان صاحبه لا يقصد، وشركًا أكبر إن كان صاحبه يقصد المعنى: كالرَّجُل الذي جاء للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال له -وهو لا يقصد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- شريكًا لله-: (مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ عَدْلًا؟ بَلْ ما شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)؛ ليتبيَّن لنا أن المنع الشرعي من بعض الألفاظ إنما يكون لما تحمله من معاني باطلة ومنكرة حتى وإن حملت معنى حسنًا.

    ومن الآيات الجليلة التي بيَّنت عاقبة الشرك: هذه الآية المجيدة، محل الدراسة هنا، والشرك هنا يشمل جميع أنواع الشرك؛ لا سيما الشرك في توحيد الألوهية وصرف شيء من العبادات لغير الله -عز وجل-، حتى وإن كان صارف العبادة لغير الله لا يعتقد الربوبية فيمن صرف له شيء من العبادة، فإن أهل مكة وغيرهم كانوا يصرفون عبادة الدعاء، والاستغاثة، والذبح للأصنام التي هي صور للعباد الصالحين الذين اتخذوهم واسطة بينهم وبين الله أو كوسيلة كما يحاول بعض المعاصرين تزييف الحقيقة، ويسمي الاستغاثة توسلًا! وأهل مكة على حالتهم تلك لم يعتقدوا في تلك الأصنام الربوبية، فلم يعتقدوا أنها هي التي خلقتهم، أو هي التي ترزقهم، ومع ذلك سمَّى الله فعلهم واستغاثتهم بها ونداءهم لها من دون الله: شركًا، وسمَّى قولهم كفرًا، ووصفهم بالكذب في دعوى عبادتهم لله؛ لأنهم وإن أرادوا الله، لكنهم اتخذوا إليه وسيلة -هي في الحقيقة واسطة- لم يأذن بها الله، وتوجهوا إلى غير الله بالنداء والاستغاثة صراحة، ثم هم يزعمون أنهم يقصدون الله! قال الله -تبارك وتعالى-: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) (الزمر: 3)، وهذا شرك محبط للعمل، وعاقبته وخيمة.


    وللحديث بقية إن شاء الله.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ)



    (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ) (2)









    كتبه/ أشرف الشريف


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فقد ذكر الله -عز وجل- لنا صورة توضيحية لعاقبة الشرك في قوله -تعالى-: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 31)، فقد أعقب الله -عز وجل- نهيهم عن الأوثان بتمثيل فظاعة حال مَن يشرك بالله في مصيره إلى حال انحطاط، وتلقف الضلالات إياه، ويأسه من النجاة ما دام مشركًا، تمثيلًا بديعًا؛ إذ كان من قبيل التمثيل القابل لتفريق أجزائه إلى تشبيهات.

    فمَن يشرك بالله فهو بمنزلة مَن سقط مِن السماء، وعرّض نفسه لأَبشع صورة من صور الهلاك حيث يتمزق قطعًا، ويتناثر أَشلاءً (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ): وتتناول أَجزاءَه، فلا تبقي له أَثرًا، (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ): أَو تشبه حاله بحال مَن عصفت به الريح في مكانٍ بعيدٍ، فكان فيه من الهالكين، وفي كلا التشبيهين تيئيس للكافر من النجاة؛ حيث لا يستطيع أَن يدفع عن نفسه الهلاك الذي ينزله الله به في الآخرة، وتلك صورة رعيبةٌ تجعل المرء يدفع عن نفسه أي شبهة أو فعل، أو قول، أو خاطرة قد تقربه ولو قليلًا من الشرك، أو تجعل فعله أو قوله محل خلاف بين أهل العلم؛ فهذا يكفره، وذاك يفسقه، وثالث يبدِّعه أو يخطئه في توحيده وعقيدته.

    وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو سيد الموحِّدين يستعيذ بالله من أن يشرك بالله، ولو شركًا أصغر خفيًّا، وحثَّنا على ذلك بقوله: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُك َ لِمَا لاَ أَعْلَمُ) (أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).

    وفي هذه الآية وجدنا للبلاغة أثرًا عجيبًا بديعًا في تجسيد الصورة القبيحة للشرك بالله من خلال نتيجته وسوء عاقبته في مرتكبه، وتهزك تلك البلاغة هزًّا حين يطرق سمعك في بداية الآية؛ هذا الشرط بأداته الجازمة (مَنْ) التي تحمل في طياتها النعيَّ على هؤلاء الذين أكرمهم الله بالفطرة والعقل، لكنهم انقلبوا عليهما وانسخلوا منهما في صلف، وكبر وعناد، وجحود وتكذيب، وإعراض، والشرط مِن مهامه الجليلة جذب الأسماع وإلهاب النفوس وتشوفها لما يكون من نتائج وجزاء، مع براعة فائقة في التأكيد على جلال القضية وما تتضمنه من أحكام، لا تقبل الهزل ولا المراء، ولا السفسطة.

    ومَنْ يشرك بالله؛ فهو مجرم ارتكب أعظم الموبقات، وأكبر المنكرات، واستحق في مقابله جزاءً تقشعر له الجلود، وتندك له الجبال، وتخرُّ من هوله هدًّا، وهذا الجزاء لا مراجعة فيه، بل هو حكم مؤكد، والقضية برمتها بهذا الشرط وأركانه واضحة، لا يتسرب إليها الريب والشك، ومن هنا نعلم أنّ الحقائق اللغوية بين التراكيب تتجاوب مع الموضوعات وتنساق لها، وأن التعامل مع النص القرآني يقتضي دراسة الخطاب، ونسيجه اللغوي الذي يرفد النص بمدلولات لا متناهية، وقد أزبد أسلوب الشرط والتقيد به في بيان جريمة الشرك وعاقبتها بلغة مثمرة وآفاق متسعة، وبدا ذلك في صورة بلاغية كان لها أثرها المتدفق بعناصر القوة والجمال في خطاب ينبض بالحيوية والحركة.

    ومِن هذا استحضار تلك الصورة المليئة بالهلاك لمَن خالف فطرته وقسرها وغصبها على خلاف ما فُطِرَت عليه من التوحيد لرب العبيد، مع جرس صوتي ذي وقع شديد يستحيل معه التغافل والانفكاك عن تلك الصورة الحاضرة، (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ).

    وتلحظ أن (خَرَّ) ترتبط بارتفاعٍ بعيدٍ، خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ بحيث لا تستطيع قوة أنْ تحميه، أو تمنعه؛ لا بذاته، ولا بغيره، وقبل أن يصل إلى الأرض تتخطفه الطير، فإنْ لم تتخطفه؛ تهوي به الريح في مكانٍ بعيدٍ وتتلاعب به، فهو هالك هالك لا محالةَ، ولو كانت واحدة من هذه الثلاث لكانت كافية.

    قال الزمخشري في التفسير: "يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق، فإن كان تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا فَكَأَنَّهُ قال: مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ إِهْلَاكًا ليس بعده نهاية، بأن صور حاله بصورة حال مَن خرَّ مِن السماء فاختطفته الطير، فتفرق مزعًا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة. وإن كان مفرقًا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء، والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوّح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة".

    وقد أحسن الزمخشري في الجانب الأول من كلامه، لكن بقية الكلام فيه نظر؛ قال ابن المنير السكندري في حاشيته على الكشاف: "وفي تقريره تشبيه الأفكار المتوزعة للكافر بالطير المختطفة، وفي تشبيه تطويح الشيطان بالهوى مع الريح في مكان سحيق، نظر؛ لأن الأمرين ذُكِرا في سياق تقسيم حال الكافر إلى قسمين، فإذا جعل الأول مثلًا لاختلاف الأهواء والأفكار، والثاني مثلًا لنزغ الشيطان؛ فقد جعلهما شيئًا واحدًا؛ لأن توزع الأفكار واختلاف الأهواء مضاف إلى نزغ الشيطان، فلا يتحقق التقسيم المقصود.

    والذي يظهر في تقرير التشبيهين غير ذلك، فنقول: لما انقسمت حال الكافر إلى قسمين لا مزيد عليهما، الأول منهما: المتذبذب والمتمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة، فهذا القسم من المشركين مشبه بمن اختطفته الطير وتوزعته فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر، وذلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه ونزل عما كان عليه. والثاني: مشرك مصمم على معتقد باطل، لو نشر بالمباشير لم يكع ولم يرجع لا سبيل إلى تشكيكه، ولا مطمع في نقله عما هو عليه، فهو فرح مبتهج لضلالته، فهذا مشبه في إقراره على كفره باستقرار مَن هوت به الريح إلى واد سافل فاستقر فيه، ونظير تشبيهه بالاستقرار في الوادي السحيق الذي هو أبعد الأخباء عن السماء، وصف ضلاله بالبعد في قوله -تعالى-: (أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ)، و(ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا) أي: صمموا على ضلالهم، فبَعُد رجوعهم إلى الحق، فهذا تحقيق القسمين. والله أعلم).




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ)



    (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ) (3)









    كتبه/ أشرف الشريف

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

    فما زلنا مع قوله -تعالى-: (*وَمَنْ *يُشْرِكْ *بِاللَّهِ *فَكَأَنَّمَا *خَرَّ *مِنَ *السَّمَاءِ *فَتَخْطَفُهُ *الطَّيْرُ *أَوْ *تَهْوِي *بِهِ *الرِّيحُ *فِي *مَكَانٍ *سَحِيقٍ) (الحج: 31)، والذي يبدو أن الآية بيَّنت حال كلِّ مشرك كلٌ على حسب جرمه؛ ليكون الجزاء من جنس العمل.

    قال الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في تفسيره: "يَعْنِي أَنَّ الْمُشْرِكَ لَمَّا عَدَلَ عَنِ الْإِيمَانِ الْفِطْرِيِّ وَكَانَ فِي مِكْنَتِهِ فَكَأَنَّهُ كَانَ فِي السَّمَاءِ فَسَقَطَ مِنْهَا، فَتَوَزَّعَتْهُ أَنْوَاعُ الْمَهَالِكِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ فِي مَطَاوِي هَذَا التَّمْثِيلِ تَشْبِيهَاتٍ كَثِيرَةً لَا يَعُوزُكَ اسْتِخْرَاجُهَا ، وَالسَّحِيقُ: الْبَعِيدُ فَلَا نَجَاةَ لِمَنْ حَلَّ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) تَخْيِيرٌ فِي نَتِيجَةِ التَّشْبِيهِ... أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرِينَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ شِرْكُهُ ذَبْذَبَةٌ وَشَكٌّ، فَهَذَا مُشَبَّهٌ بِمَنِ اخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ فَلَا يَسْتَوْلِي طَائِرٌ عَلَى مِزْعَةٍ مِنْهُ إِلَّا انْتَهَبَهَا مِنْهُ آخَرُ، فَكَذَلِكَ الْمُذَبْذَبُ مَتَى لَاحَ لَهُ خَيَالٌ اتَّبَعَهُ وَتَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَقِسْمٌ مُصَمِّمٌ عَلَى الْكُفْرِ مُسْتَقِرٌّ فِيهِ، فَهُوَ مُشَبَّهٌ بِمَنْ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي وَادٍ سَحِيقٍ، وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ شِرْكُهُ لَا يُرْجَى مِنْهُ خَلَاصٌ كَالَّذِي تَخَطَّفَتْهُ الطَّيْرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ شِرْكُهُ قَدْ يَخْلُصُ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ إِلَّا أَنَّ تَوْبَتَهُ أَمْرٌ بَعِيدٌ عَسِيرُ الْحُصُولِ... و(فَتَخْطَفُهُ): مُضَاعَفُ خَطِفَ لِلْمُبَالِغَةِ ، الْخَطْفُ وَالْخَطَفُ: أَخْذُ شَيْءٍ بِسُرْعَةٍ".

    لقد صفَّق شيوخ البلاغة -وحقَّ لهم- للوأواء الدمشقي حينما قال في مقام الغزل:

    فأَمْطَرَتْ لُؤْلُؤًا مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ وَرْدًا وَعَضَّتْ عَلَى الْعُنَّابِ بِالْبَرَدِ

    وهذا بيت فيه من الحسن والرونق والخيال التصويري، والاستعارات البديعة، ما لا خفاء به، ففي هذه الكلمات العشر التي تكوَّن منها البيت الشعري خمسُ صور شعرية في غاية الروعة والجمال؛ فقد صوَّر الدمع باللؤلؤ، والعيون بالنرجس، والخدود بالورد، والشفاه بالعناب، والأسنان بالبرد، من خلال الاستعارة التصريحية، وتلك الصورة بهذه الروعة تفتقِر إلى مقام الغزل أو الوصف، ولعل هذا ما أضفى عليها هذا الجمال في هذا البيت الشعري.

    ومع ذا فعند تدبرنا للصورة البلاغية في خطاب العقيدة في القرآن الكريم؛ ندرك عِظَم الفارق وبديع الفائق، لنخرَّ ساجدين من بلاغة القرآن الكريم، مقرين بأن الصورة القرآنية صورة عبقرية معجزة، متفردة ملهمة ذات مقاصد ومدلولات متنوعة، كما في قوله -تعالى-: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) بضع عشرة كلمة ليست في مقام الوصف أو الغزل الذي تكثر فيه الصور الماتعة وتحلو، إنما جاءت في مجال العقيدة والتوحيد الذي يكثر فيها الجدل العقلي والجدية، والتشنج، والأدلة، والعصف المنطقي.

    لقد رَسَمَتْ لنا هذه الكلمات القليلة صورة ظاهرة هي في غاية الروعة والجمال من حيث تأديتها للمراد منها، وهي الترهيب من الشرك بالله -عز وجل-؛ فلو أن نائمًا رأى في منامه أنه خَرَّ من السماء وتريد الطير أن تتخطفه أو تهوي به الريح في قاع سحيق؛ لهبَّ مذعورًا من كابوسه قبل أن يلقى مصيره الشنيع.


    وهذه الصورة الظاهرة العاصفة تتماوج داخلها عشرات الصور البديعة ذات الدلالات العميقة التي تحتاج عصفًا ذهنيًّا خارقًا، وحالة طوارئ ذهنية لكي يستطيع المرء الإحاطة بها، وحسبي أني حاولتُ قَدْر الجهد.

    انظر وتأمل في دِقَّة اختيار لفظ: (خَرَّ)؛ للتعبير عن السقوط!



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •