البلاغة العربية تنعى نفسها


د. محمد عاطف التراس






لعل الناظرَ في علوم العربية قاطبةً يلمَح التقصير البالغ في خدمة علم البلاغة بأقسامه الثلاثة، لحساب علوم أخرى استحوذتْ على أقلام الكُتَّاب وأذهانهم وعقولهم، ودُور نشرهم؛ لأن السوق عرضٌ وطلبٌ كما يقال، وعلم البلاغة من العلوم التي لا يكاد الناظر يَمنةً ويَسرةً أن يرى بصيصَ ضوءٍ يُبشِّر بخيرٍ فيها حتى الآن، اللهم إلا بعض المحاولات التي تركتْ بصمتها على الساحة البلاغية، ويُعدُّ على رأس هذه المحاولات الجادة «معجم المصطلحات البلاغية وتطورها»؛ للعلامة أحمد مطلوب.



فعلى الساحة التعليمية مِن لدُن المراحل التعليمية الأساسية، ثم الثانوية والجامعية، وما تلاها - ترى التقصيرَ الفادح الواضح لكل ذي بصيرة؛ بداية من الوقت الذي يحصِّل فيه الدارس مادته العلميةَ، مرورًا بالمعلم الفقير بلاغيًّا إلا مَن رحِمَ ربي، ولا ننسى أيام دراستنا أن حصص البلاغة كانت تُدَّخر لنهاية العام؛ ليحصُل الطالب على جُرعة لا تُغني عنه من العلم شيئًا، وانتهاءً بالامتحان الذي تُختزَل فيه درجةُ البلاغة مقارنةً بدرجة سائر أفرُع اللغة، بل مقارنة بالخط العربي، وليس معنى هذا التهوين من شأنِ الخط، لكنه لا يقارن بالبلاغة التي هي ثمرة علوم العربية كلها، وكأن البلاغة هي الابن العاقُّ لأبيه، الذي استحقَّ أن يُحرمَ من الميراث جرَّاء ما اقترفتْ يداه!



فإذا صُرِفت أبصارُنا تلقاءَ عالم تحقيق التراث، فإنك لا محالة - أخي القارئ - سيرتدُّ إليك البصرُ خاسئًا وهو حسير حسيرٌ؛ فإن كُتب البلاغة العربية من لدن السكاكي والقزويني وتلاميذهما، لم تلقَ أدنى عناية من محقِّقي التراث، اللهم إلا ما ندَر!



وأضرِب لكم مثالًا على ذلكم الإهمال الجسيم في حق كُتب التراث البلاغي بكتاب (شروح التلخيص)، كتاب مطبوع يحوي خمسة كتبٍ؛ هي: المفتاح للقزويني، وحاشية السعد التفتازاني عليه، ومواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح؛ لابن يعقوب المغربي، وعروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح؛ لبهاء الدين السبكي، ومن دونهم حاشيتان أُخريان: إحداهما للتفتازاني، والأخرى للدسوقي!



لك أن تتخيَّل معي - أخي القارئ - أنكَ موزَّعٌ بين خمسة كُتب، كأنكَ العبد الذي تنازعَه عدةُ شُركاء مُتشاكسون، لكل كاتبٍ من هذه الكتب الخمسة أمثلتُه وآراؤه وترجيحاته، واستدراكاتُه وتعليلاته، كلٌّ منهم له رأيه الذي ينافح عنه، لا تدري كيف ترضيهم جميعًا؟





فمَن ذا الذي يفضُّ لنا هذا الاشتباك، ويُخرج لنا كل كتاب بدراسة جادة في صدارته، ثم يَختمه بكشَّاف للفهارس يُعين الباحثين على استخراج كنوز هذه الكتب، مستعينًا بمخطوطات معتمدة؟ فهذا مشروع علميٌّ كبير يحتاج إلى جهود المحققين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.






[*] مدرس العلوم اللغوية وتحقيق التراث بجامعة عين شمس.