التدابير الاستعمارية بتونس في مجال التعليم زمن الاستعمار

د. أحمد سوالم





شكَّل التعليم سلاحًا مُكمِّلاً للسيطرة العسكرية بتونس. فكما يقول عابد الجابري: «إن المدفع يدفع الثوار، والمدرسة تجلب السكان»، فالتعليم في تونس خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية لم يكن خاضعًا لمتطلبات التنمية بها، بل كان محكومًا بالمخططات والاختيارات الاستعمارية الهادفة لاستغلال خيراتها وسكانها.

ولمعرفة أبعاد السياسة التعليمية الفرنسية، التي طُبِّقت بتونس إبَّان فترة الاستعمار، يستلزم ذلك الرجوع إلى أدبيات كبار مُنظِّري نظام الاستعمار بها. وما يهمنا هنا أقوالهم حول التعليم؛ لكونها تعكس التدابير الاستعمارية في هذا المجال الذي يُعتبر أهمّ الأدوات لدعم التدخل العسكري، ووسيلة ناجعة لتحقيق الأهداف الاستعمارية.

سنعتمد على آراء كل من:

- جول فيري G. Ferry

- جول جيسرون Jusserand J.

- لوي ماشويل L . Machuel.

فما هي آراؤهم بخصوص السياسة التعليمية التي يمكن تقديمها للأهالي بتونس؟

جول فيري:

وُلِدَ جول فيري، في 5 أبريل 1832م، وتوفي في 17 مارس 1893م، وهو أحد مُنظِّري الاستعمار الفرنسي من جهة، ورائد التعليم الرسمي المجاني من جهة أخرى. عمل وزيرًا للتعليم العمومي في عهد الجمهورية الثالثة. عُرف بمجموعة من القوانين، منها: قانون حرية التجمعات وحرية الصحافة لسنة 1881م، والقانون المُنظِّم لحرية العمل الانتخابي لسنة 1884م، وتقنين نظام جعل التعليم الفرنسي مجانيًا وإلزاميًّا، وتوسيع التعليم الثانوي الحكومي ليشمل البنات. وما يهمنا بالنسبة لجول فيري، هي أفكاره المتعلقة بالتعليم في تونس، والتي يمكن تلخيصها في ثلاثة عناصر:

المحافظة على النظام التعليمي القائم قبل دخول فرنسا كبلد مستعمر؛ احترامًا للهوية الدينية والثقافية، ليس فقط للساكنة التونسية المسلمة، ولكن أيضًا للجالية الإيطالية بتونس؛ من خلال الإبقاء على مدارسهم. يقول فيري: «ليس من النافع أن نُقيم مؤسسات ابتدائية لائكية، مقابلة لما كان يفعله الكاردينال لافيجري، أو مدارس أخرى كاثوليكية أو إسرائيلية، والتي كان لها قبول شعبي في بلد؛ حيث جذوة الدين تلعب دورًا مهمًّا».

فرنسة الساكنة عبر اللغة الفرنسية التي ستصبح أداةً لتعليمٍ يستهدف ليس فقط التونسيين المسلمين ولكن أيضًا الساكنة الأوروبية غير المفرنسة، والتي تعيش بتونس، وتسعى فرنسا إلى إدماجها بهدف تقوية وضعها مقارنة بإيطاليا المُنافِسة المُباشِرَة لها هناك، وعن ذلك يقول عليّ المحجوبي: «.. رأى فيري ضرورة تفويض المدارس الكاثوليكية والإسرائيلية بإدماج السكان الأوروبيين واليهود؛ باعتبار أن هذه المدارس تحظى بمكانة مرموقة في بلدٍ يلعب فيه الوازع الديني دورًا مهمًّا وعظيمًا». واعتبر رئيس الحكومة الفرنسية أن «الإنجاز السياسي والحضاري الذي يجب تحقيقه يتمثل في إنشاء مدارس فرنسية يقوم فيها معلمون عرب بتدريس الفرنسية للسكان العرب».

إعطاء الساكنة تعليمًا هادفًا وتكوينًا مهنيًّا يُزوّد المؤسسات العمومية أو الخاصة التي ستستقر بتونس باليد العاملة المؤهلة الضرورية لتشغيلها. إذ يقترح إحداث مؤسسات للتكوين الابتدائي وللتعليم الخاص والمهني يتم انتقاء تلامذته (ما بين 11 و12 سنة) من الذين يتابعون دراستهم بالمدرسة الصادقية أو المدارس الدينية. وتكون مدة الدراسة بها 5 سنوات، ومقرراتها متشابهة لمدرسة تيركو Trigot بباريس. ويرى جول فيري أن «هذه المدرسة ستُخرّج قبل كل شيء مستخدمين في التجارة ومحاسبين وأعوان الإدارة». ويرى إمكانية إضافة أشياء أخرى حتى تساير التطور.

جول جيسرون:

أما جول جيسرون Jules Jusserand، فقد كان موظفًا ساميًا بوزارة الشؤون الخارجية، مكلفًا بالشؤون التونسية؛ فأفكاره تساير أفكار جول فيري حول نوعية التعليم الذي يجب أن تقدّمه فرنسا للتونسيين؛ إذ يرى:

ضرورة التشجيع المالي لمدارس الفتيات والذكور التي يُديرها الرهبان والراهبات، والتي تتمتع بثقة الساكنة الأوروبية.

أهمية تعليم الأهالي التونسيين بعد الاحتلال؛ لكونهم لا يترددون على المدارس الدينية المسيحية؛ وذلك بتشجيع إنشاء المدارس بجميع أنواعها، وتنمية التعليم وخصوصًا بالفرنسية، ويقترح توظيف مدرسين جزائريين لتدريسها، لتجنُّب رَفْض التونسيين للنظام التربوي الجديد.

إعداد مؤسسة ابتدائية عليا لاستيعاب الأوروبيين القادمين إلى تونس، ويقترح أن يُديرها أساتذة فرنسيون.

هذه بعض أفكار منظّري السياسة التعليمية بتونس، وميزتها أنها صادرة عن رجالات الإدارة المركزية بباريس، ورؤيتهم لما ينبغي تقديمه للأهالي التونسيين في مجال التعليم. وسنحاول تقديم آراء أول مدير للتعليم العمومي بتونس. إنه المستعرب لوي ماشويل Louis Machuel.

لوي ماشويل:

لوي ماشويل، هو مستشرق فرنسي، وابنٌ لواحدٍ من أقدم مديري المدارس الفرنسية العربية بالجزائر، تعلَّم منه كيفية التعامل مع الأهالي، وتعلَّم اللغة العربية بالمدرسة الفرنسية العربية والمدرسية القرآنية، مستفيدًا من نشوئه في وسط مُعرّب (مستغانم بالجزائر)، مما يجعله وسيطًا بين ثقافتين مختلفتين، وأكسبه تجربة حول التعليم الإسلامي في جميع حالاته، وسمح له ببلورة سياسة لغوية تربوية تحترم لغة الأهالي.

عمل ماشويل متفقدًا للتعليم العربي بالجزائر، وفي سنة 1980م عيَّنه الوزير خير الدين على رأس لجنة لدراسة وضعية التعليم بتونس؛ من أجل العمل على إعادة تنظيم التعليم بالمسجد الأعظم وبالمعهد الصادقي، وفي 6 مايو 1883م تولى إدارة التعليم العمومي بتونس، واستمر فيها إلى سنة 1908م. فما أهم أفكاره فيما يخصّ نوع التعليم الذي كان يجب تقديمه للأهالي في تونس؟

يمكن إجمال أفكاره فيما يلي:

ضرورة الاستفادة من تجربة فرنسا بالجزائر في ميدان التعليم؛ تلك التجربة القائمة على الإدماج التام والفرنسة، مع تهميش اللغة العربية والهوية الإسلامية والعادات والتقاليد الخاصة بالبلد، مما جعل التعليم الاستعماري يَلْقى مقاومةً من طرف الأهالي. كان ماشويل يرى ضرورة تجنُّب مثل هذه الأخطاء؛ نظرًا لكون تونس تتوفر على جامعة إسلامية -الزيتونة- مُوغلة في القدم، ولضمان نجاح وإقبال التونسيين على التعليم الجديد نجده حرص في سياسته التعليمية على الأخذ بعين الاعتبار ما كان يُعبّر عنه بالعقلية الإسلامية، من خلال تجنّبه الاحتواء، ولجأ بدلاً من ذلك إلى التسرُّب بهدوء.

تعليم اللغة الفرنسية للطبقة الموسرة في الإيالة بهدف تكوين معاونين من الأهالي يدينون بالولاء التام لسلطات الاستعمار. مع العمل على منح الأهالي تعليمًا قائمًا على ازدواجية لغوية وتربوية؛ من خلال المدارس الفرنسية العربية القائمة على تعليم عربي يحترم الشخصية العربية والهوية الوطنية، ويعطي الثقافة العربية مكانتها مع انفتاحه على الجوانب الإيجابية للاستعمار. وهذه المدارس تعتمد على برامج هدفها فرنسة الأفكار.

ضرورة احترام الثقافة العربية الإسلامية من طرف المدرسين أثناء تقديمهم للدروس للأهالي؛ لما تكتسبه من أهمية في وجدان المواطن العربي؛ تجنبًا للأخطاء التي تم الوقوع فيها بالجزائر؛ حيث عمد المدرسون إلى محاولة القيام بحملات تبشيرية في وسط المتمدرسين كاستعمال مقاطع من الإنجيل في حصص الإملاء، مما أثار حفيظة السكان. فلوي ماشويل كان حساسًا فيما يتعلق بالبُعد الديني؛ وذلك رغبةً منه في استمرار تقبُّل الأهالي لنوع التعليم الذي أتى به الاستعمار والهادف أساسًا إلى الفرنسة، ولكن بتدرُّج.

الحرص على أن لا يخلق عمل فرنسا التعليمي مثقفين لا منتمين، غير مندمجين في آلة الاحتلال الفرنسي. وفي ذلك يقول ماشويل: «.. يجب أن لا نعمل بسرعة كبيرة، يجب التفكير جيدًا في متطلبات المستقبل الضرورية، إن ما يحتاجه التونسيون اليوم هو التعليم الابتدائي بمختلف درجاته: التعليم المهني والتجاري والفلاحي والصناعي يجب أن نُكوّن هنا عمالاً وفلاحين وتجارًا، ويجب أن نتجنَّب بالخصوص تكوين اللامنتمين اللامندمجين».

الحرص على بقاء الشبيبة التونسية في تونس؛ من خلال تقديم تعليم يحترم اللغة العربية. لكون غيابها يدفع الأسر التقليدية الغنية إلى إرسال أبنائهم للبلدان المجاورة، كالمغرب لتلقي التعليم العربي.

فرنسة الجاليات الأوروبية بالبلاد التونسية، لكي تصبح تحت النفوذ الفرنسي؛ من خلال سياسة تربوية تهتم بالدرجة الأولى باستيعاب الجاليات الأوروبية، وخلق الظروف الملائمة للمهاجرين الفرنسيين والأوربيين؛ وذلك لمنع أيّ تأزم على الصعيد الدولي من جهة، ولشَحْذ عزيمة الفرنسيين من جهة ثانية. وفي ذلك يقول ماشويل: «.. لا يوجد اليوم أيّ حي يضم مجموعة صغيرة من الأوروبيين، لم تُفتح فيه على الأقل مدرسة فرنسية، في حين بقيت كثير من المراكز التي يسكنها الأهالي محرومة من ذلك».

هكذا نكون قد وقفنا على بعض آراء مُنظِّري السياسة التعليمية الاستعمارية في تونس. والتي تمتاز بكونها واضحة، تبين نوعية التعليم الواجب تقديمه للأهالي.
-------------------------
المراجع المعتمدة

1- الجابري محمد عابد، التعليم في المغرب العربي: دراسة تحليلية نقدية لسياسة التعليم في المغرب وتونس والجزائر، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1989م.

2- سوالم أحمد، التعليم في المغارب خلال الاستعمار الفرنسي: تونس والمغرب نموذجًا1956-1881 - دراسة مقارنة -، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، مطبعة أصكوم، القنيطرة، 2019.

3- المحجوبي علي، انتصاب الحماية الفرنسية بتونس، سراس للنشر، تونس، فبراير 2006م، الطبعة الثالثة.

4 - Noriyuki. (N) , la pédagogie bilinge de louis Machuel et la politique du protectorat en Tunisie à la fin du XIX siècle , revue japonaise de la diadactique du français , N0 1 , juillet 2006 , pp.96- 115.

5 - Mahjoubi. (A) , létablissement du protectorat français en Tunisie, publications de luniversité de Tunis , faculté des lettres et sciences humaines ; Tunis , 1977.

6 - Sraieb. (N) , lidéologie de lécole en Tunisie coloniale (1881- 1945), in Revue du monde musulman et de la méditerranée , N0 68- 69 , 1993 , pp. 239- 254.