صح أن أفضل الأعمال ما دووم عليه وإن قل , وأفضل ذلك ما داوم عليه رسول الله صلى الله عليه سلم .
وما صح أن رسول الله صلى الله وسلم داوم على العمرة في كل عام , ولا أنه تقصَّدها في رمضان وفي العشر الأواخر بالذات .
قال أبو عبد الرحمن الظاهري : إلا أن المسجد الحرام تُشَدُّ إليه الرحال بالنص , وعبادة فيه مضاعفة , فإذا اجتمع فضل المكان والزمان فلا يحصي مضاعفة الأجر إلا الخالق جل جلاله . ومن سهل عليه السفر والنفقة وخفت عوائقه فلا حرج عليه أن يشتاق لبيت الله ويشد الرحال , وتدخل العمرة حينئذ بالتبع .
قال أبو عبد الرحمن الظاهري : إلا أن الناس اليوم ـ في الأعم الأغلب ـ يقصدون العمرة قصداََ في العشر الأواخر من رمضان , وليس هذا من السنّة المؤكدة بل هو من فعل الخير الجائز ما لم يعتقد أن العمرة في العشر الأواخر من رمضان سنة , فليس الأمر كذلك .
وهم مع هذا يهجرون السنّة المؤكدة , وهي الاعتكاف في المساجد في العشر الأواخر , فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وداوم عليه , وتابعه أزواجه وأصحابه رضي الله عنهم وحشرنا في زمرتهم .
والاعتكاف اليوم من السنن المهجورة , وهو غير شاق , ولكن الناس يتهيبون مخالفة الناس لما كان الاعتكاف عندهم معطلا
قال أبو عبد الرحمن الظاهري : من ترك فعل شيء من الخير خشية أن يتهم بالرياء : فحكمه حكم من فعل الخير رياء .
واليوم توجد مساجد فخمة مهيأة بالمرافق والتكييف والفرش الوثيرة إلا أنها تغلق أبوابها في غير أوقات الصلوات وما قبيلها وما بعيدها .
وحق على القائمين على المساجد من أئمة ومؤذنين وسدنة أن يشرعوا أبواب المساجد وأن يذكروا الناس بالسنة المهجورة , وأن يشوقوهم إليها , وأن يصمم على الاعتكاف من يقتدى بهم من أهل الخير .
قال أبو عبد الرحمن : لا أعلم في فضائل الأعمال أفضل من إحياء سنة مهجورة , وقد كنت في قريتي الشقراء منذ خمسة وثلاثين عاما أعي نُزَّاعاً يؤثر عنهم الاعتكاف .
وإليكم بعض مسائل الاعتكاف :
المسألة الأولى : قال الإِمام ابن فارس في مقاييس اللغة : العين والكاف والفاء أصل صحيح يدل على مقابلة وحبس , وذلك إقبالك على الشيء لا تنصرف عنه .
والمعكوف المحبوس قال الله تعالى : ( والهدي معكوفاً أن يبلغ محله ) .
وبمثل هذا قال الراغب الأصفهاني في المفردات إلا أنه زاد بقوله : " العكوف الإِقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له " .
قال أبو عبد الرحمن : جملة " على سبيل التعظيم له " لا تشترطها لغة العرب , وإنما هي من الدوافع أحياناَ , وقد يكون المعتكف أراد حفظ ما اعتكف عليه , أو مراقبة آثاره .
وأما الاعتكاف الشرعي فقال عنه الراغب : (( هو الاحتباس في المسجد على سبيل القربة )) . قال أبو عبد الرحمن الظاهري : هذا تعريف حسن . وقبله الإمام الحبر أبو محمد ابن حزم قال :
" الاعتكاف هو الإِقامة في المسجد بنية التقرب إلى الله عز وجل ساعة فما فوقها ليلا أو نهاراً " .
المسألة الثانية : مشروعية وجواز وسنية الاعتكاف في أي وقت كان قصر أم طال هو الصحيح إن شاء الله على . معهود الأصل الشرعي .
قال سويد بن غفلة : من جلس في المسجد وهو طاهر فهو عاكف فيه ما لم يحدث .
وقال يعلى بن أمية ـ من الصحابة رضوان الله عليهم ـ : إني لأمكث في المسجد ساعة وما أمكث إلا لاعتكف .
وقال عطاء : هو اعتكاف ما مكث فيه , وإن جلس في المسجد احتساب الخير فهو معتكف , وإلا فلا .
قال أبو عبد الرحمن الظاهري : والبرهان على ذلك من وجوه :
أولها : أن الله شرع لنا بالقرآن الكريم الاعتكاف في المساجد . قال أبو محمد بن حزم : " فلم يخص تعالى مدة من مدة وما كان ربك نسيا " .
قال أبو عبد الرحمن : فنحن على هذا المعهود الشرعي العمومي لا نخرج عنه إلا بدليل , ولا دليل .
وثانيها : أن الاعتكاف فعل خير , فلا يجوز المنع من قليله إلا بدليل , ولا دليل .
وهذا البرهان نتيجة للمعهود الشرعي الآنف الذكر .
وثالثها : في صحيح مسلم أن عمر رضي الله عنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك .
قال أبو عبد الرحمن : لا وفاء بالنذر إلا في طاعة مشروعة , ولو كان الاعتكاف لا يجوز إلا في أكثر من يوم وليلة لرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجائز .
المسألة الثالثة : أفعال الخير تتفاضل , والاعتكاف كله فضيلة , ولكن أفضله وآكده ما داوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الاعتكاف في العشر الأواخر , وإنما اعتكف مرة في شوال قضاء .
المسألة الرابعة : من دخل في الاعتكاف وهو ينوي مدة معينة فلا يحل له أن يقطع الاعتكاف لغير عذر موجب , فإن فعل لعذر فالسنة المؤكدة أن يقضي .
وقد رأى بعضهم وجوب القضاء , ولا يطرد هذا المذهب مع أصول الظاهر في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم فعل القضاء ولم يأمر به .
وأحكام الشريعة تفرق بين أحكام الدخول في العبادة وأحكام إتمامها .
ولا يقطع ما نوى من العبادة بغير عذر إلا مالٌّ أو عابث , ولا خير في ذينك .
المسألة الخامسة : أختلف الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم في اشتراط الصوم للاعتكاف فجمهورهم لم يشترطوه منهم علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعطاء وإبراهيم النخعي والحسن والشافعي وإسحاق وأبو سليمان داود وفقهاء أهل الظاهر رضي الله عنهم .
وذهب آخرون إلى اشتراط الصوم منهم ابن عمر , وعائشة والزهري ومالك وأبو حنيفة والليث والثوري والحسن بن حي وعروة بن الزبير رضي الله عنهم . وآخرون روي عنهم القولان وصحا عنهم , وهم ابن عباس , وطاووس , وأحمد بن حنبل رضي الله عن جميعهم .
قال أبو عبد الرحمن : واختلافهم اجتهادي وليس عن حضور نص أو غيابه بدليل ما أسنده سعيد بن منصور إلى أبي سهيل بن مالك .
قال أبو سهيل لعمر بن عبد العزيز : كان على امرأة من أهلي اعتكاف .
فقال عمر : ليس عليها صيام إلا أن تجعله على نفسها .
فقال الزهري لعمر : لا اعتكاف إلا بصوم .
فقال له عمر : عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ .
قال : لا .
قال : فعن أبي بكر ؟
قال : لا .
وهكذا ذكر عمر وعثمان رضي الله عنهم .
واحتج من اشترط الصيام بما رواه أبو داود الطيالسي بإسناده عن عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر : اعتكف وصم .
قال أبو عبد الرحمن : ضعفه ابن حزم والحافظ ابن حجر , وقال أبو بكر النيسابوري : هذا حديث منكر .
ووجه ضعفه أن مداره على ابن بديل , وله ما ينكر عليه من زيادة في المتن والإسناد , ومسند عمرو بن دينار لدى الثقات ليس فيه هذا النص , وهو مخالف لما في صحيح البخاري من أنه أمره بالاعتكاف فحسب .
والعدل قد يكون غير ثقة في ضبطه وحفظه , فليس حديث ابن بديل من زيادة الثقة .
واحتجوا بأن الله ذكر الاعتكاف بعد الصوم , وليس هذا الاستدلال بشيء , لأن عطف شريعة على شريعة لا يعني تلازمهما , ولو قيل بالتلازم لوجب أن الصوم لا يصح إلا بالاعتكاف ولا قائل بذلك .
واحتجوا بأن الاعتكاف لبث في المسجد فالصوم فيه يقاس على الإحرام في عرفة .
قال أبو عبد الرحمن : أحذر طلبة العلم في هذه الصحوة الإسلامية المباركة من الاعتقاد لمثل هذه المقاييس .
ولو كان القياس حقا لقيس لبث في المسجد على لبث في عرفة من ناحية عدم اشتراط الصوم .
قال أبو عبد الرحمن : من لا يشق الصيام عليه فصيامه أفضل , لأنه زيادة خير لقادر عليه , وقد أمرنا بالمسارعة إلى الخير .
ومن شق عليه الصوم فالاعتكاف بلا صوم أفضل , لأنه كلف من الأمر ما يطيق .
والبرهان على أن الصوم ليس شرطا أمور :
أولها : أنه ورد الأمر بالاعتكاف في المسجد لذاته , فكان عبادة مفردة .
فاشتراط الصوم لصحة الاعتكاف دعوى تحتاج إلى دليل , ولا دليل .
وثانيها : لم يرد نص أن المعتكف ينوي الاعتكاف بنية الصوم .
ولو كان الصوم شرطا ما صح الاعتكاف إلا بنيته .
أعني نية العمل المقصود .
وثالثها : أن الاعتكاف جائز ليلة واحدة , ولا صيام في الليل .
ومن قال الاعتكاف بالليل تبع للنهار عكس ذلك عليه وقيل : وما يدريك ؟ فقد يكون النهار تبعا لليل , وقد يكون لا تبعية بحكم الشرع .
ورابعها : اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأول من شوال وفيهن يوم العيد ولا صوم فيه .
المسألة السادسة : محمد بن عمر لبابة من فقهاء المالكية المغاربة رحمه الله , وقد تفرد بالقول بأن الاعتكاف جائز في كل مكان وإن لم يكن مسجداً.
قال أبو عبدالرحمن : لا ننكر أن العزلة فيما فضل من أحوال الاختلاط الواجبة من أفضل القرب والعبادات .
ولكننا لا نجعل هذه القربة هي المعنى الشرعي للاعتكاف الذي يترتب عليه أحكام كعدم وطء النساء .
فلا نعهد في مدلول النص الشرعي ، ولا نعهد في السيرة العملية إلا الاعتكاف في المسجد ، وما عدا ذلك فعكوف لغوي لا شرعي .
قال أبو عبدالرحمن : واقتراف المعصية عمداً بلا سهو أو جهل عكوف على المعصية ، والمأمور به عكوف للطاعة واحتباس عن المعصية ، والله المستعان .
وكتب لكم :
أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري
ـ عفا الله عنه ـ