مالي بين فرنسا الآفلة وروسيا الطامعة


د. هشام عليوان




يُعَدّ الخامس عشر من آب/أغسطس الماضي يومًا مشهودًا في تاريخ العلاقة التاريخية بين فرنسا ومالي المستعمرة السابقة في غرب إفريقيا، عندما خرج آخر جندي فرنسي من القاعدة الواقعة في مدينة غاو شمال البلاد، بضغط من السلطة العسكرية الانقلابية في باماكو، وإنفاذًا لقرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 17 شباط/فبراير من العام الجاري، مُنهيًا بذلك وجودًا عسكريًّا مباشرًا دام تسع سنوات دونما انقطاع، ابتداءً من عملية سرفال Serval التي انطلقت في كانون الثاني/يناير 2013م بهدف صدّ زحف القوات التابعة للحركات الإسلامية والقومية، من طوارق وعرب، من الشمال نحو العاصمة باماكو، وانتهت في تموز/يوليو 2014م.. إلى عملية برخان Barkhane (الكثيب الرملي) التي انطلقت في 1 آب/أغسطس 2014م بقيادة فرنسا في دول الساحل (هي كالساحل للصحراء - المحيط)، وتضمّ تشاد، وموريتانيا، ومالي، وبوركينا فاسو، والنيجر -مركز القيادة في نجامينا بتشاد- لمواجهة انتشار الحركات الجهادية في المنطقة، وبالتعاون مع القوات العسكرية في تلك الدول.

وأتبع ماكرون الإعلان الأول، بإعلان ثانٍ في 9 تشرين الثاني/نوفمبر، انطوى على إيقاف عملية برخان أيضًا، على أن تحدّد باريس استراتيجية جديدة للدور الفرنسي في إفريقيا خلال ستة أشهر.

السبب الظاهري لإنهاء الوجود الفرنسي العسكري في مالي، هو سيطرة الجيش المالي على مقاليد الحكم في باماكو، في انقلابين متتاليين عامي 2020 و2021م، وانتفاض العسكر أثناءهما على دور فرنسا ونفوذها، انسحابًا من مجموعة دول الساحل، ونقضًا للاتفاقيات الدفاعية الموقّعة مع باريس، التي تحوّلت بين ليلة وضحاها، من شريكة مالي في مكافحة الإرهاب، إلى مُتَّهَمَة من السلطة العسكرية فيها بدعم الإرهاب الذي جاءت أصلاً لتُحاربه، وكي تمنع سقوط مالي كلها بيد حركات المعارضة، ومنها جماعات جهادية احتلت المشهد علنًا بشكل مفاجئ، بعدما كانت تتَّخذ من الصحراء الشاسعة التي تتوسط دول الساحل والصحراء ملاذًا آمنًا لسنوات طويلة.

قراءة الأزمة مختلفة من جانب باماكو، فهي ترى فشلاً فرنسيًّا في مواجهة الحركات الجهادية على غرار فشل الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وهو ما دفَع السلطة العسكرية الجديدة إلى استجلاب الدعم الروسي؛ من خلال مرتزقة شركة فاغنر المقرّبة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهم بدؤوا يصلون إلى مالي في كانون الأول/ديسمبر 2021م، وبمؤازرة من جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB)، ومن الجيش الروسي، وتموضعوا في قواعد مجهّزة لعملياتهم ضد الجماعات الإرهابية، وذلك قبل أن ينسحب الجنود الفرنسيون من مالي بشكل كامل، بل قبل اتخاذ القرار الرسمي بالانسحاب، بأشهر عدة، حتى يمكن القول دون مواربة: إن روسيا طَرَدت فرنسا من إحدى مستعمراتها السابقة.

وهو ما يَطرح السؤال: هل هي بداية النهاية للاستعمار الفرنسي غير المباشر، والذي هو امتداد عضوي للاستعمار السابق، وسِمته الأبرز احتلال عسكري مباشر؟ وإذا كان هذا صحيحًا، فهل يدلّ انتشار قوات مجموعة فاغنر في أكثر من بلد إفريقي على دور روسي متعاظم في القارة السمراء؟ وما علاقة ذلك بمحاولة بوتين الانقضاض على نظام القطب الواحد في العالم، بالترافق مع الحرب الشرسة ضد أوكرانيا منذ مطلع العام الحالي؟ هل تريد موسكو حصتها من النهب المنهجي لثروات إفريقيا، تعزيزًا لقدراتها العسكرية والتنافسية؟

جمهورية مالي: ولادة ملتبسة وأزمات مزمنة

جمهورية مالي، هي دولة برية مغلقة في غرب إفريقيا. ثامن أكبر دولة في القارة؛ حيث تبلغ مساحتها أكثر من مليون و240 ألف كلم مربع. يبلغ عدد سكانها 21.9 مليون نسمة. عاصمتها وأكبر مدنها، باماكو. تتكوّن دولة مالي من ثماني مناطق، وتمتدّ حدودها من الشمال؛ حيث عمق وسط الصحراء الكبرى التي توازي مساحتها الإجمالية مساحة الولايات المتحدة، أي أكثر من 9 ملايين كلم مربع، فيما يقع الجزء الجنوبي من البلاد في منطقة السافانا السودانية؛ حيث يعيش غالبية السكان، ويمرّ فيها نهرا النيجر والسنغال. يتركّز اقتصاد البلاد على الزراعة والتعدين. ويُعدّ الذهب من أبرز الموارد الطبيعية في مالي؛ إذ هي ثالث أكبر مُنْتِج للذهب في إفريقيا.

كانت مالي الحالية جزءًا من ثلاث إمبراطوريات قوية وغنية للغاية في غرب إفريقيا، وتسيطر على التجارة عبر الصحراء: إمبراطورية غانا (بلغت أَوْج قوتها أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر الميلادي)، وإمبراطورية مالي، وأشهر ملوكها منسا موسى (حكم بين عامي 1312 و1337م) واستمرت حتى عام 1460م، وإمبراطورية سونغهاي (بين عامي 1464 و1591م)[1].

كانت إمبراطورية مالي خلال حكم مانسا موسى (موسى الأول) من أغنى ممالك إفريقيا، وكان هو من بين أغنى الأفراد في العالم. انتشرت مملكة مالي القديمة عبر أجزاء من مالي الحالية، والسنغال، وغامبيا، وغينيا، والنيجر، ونيجيريا، وتشاد، وموريتانيا، وبوركينا فاسو. جعل مانسا موسى مدنًا مثل تمبكتو وغاو منارات علم في العالم الإسلامي. وأحضر مهندسين معماريين من الشرق الأوسط ومن جميع أنحاء إفريقيا لتصميم مبانٍ جديدة في مدنه[2].

في الحقبة الاستعمارية الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر، تمدّدت فرنسا إلى مالي. وفي عام 1893م، عيّن الفرنسيون حاكمًا مدنيًّا للمنطقة التي أطلقوا عليها اسم السودان الفرنسي Soudan français. لكنَّ المقاومة بقيت نشطة حتى عام 1905م. كان السودان الفرنسي جزءًا من اتحاد غرب إفريقيا الفرنسي. وفي عام 1958م، أُطلق على السودان الفرنسي، اسم الجمهورية السودانية. حازت الجمهورية على استقلال داخلي كامل، وانضمت إلى المجموعة الفرنسية.

في أوائل عام 1959م، تأسس اتحاد مالي مكوّنًا من الجمهورية السودانية والسنغال، وحصل الاتحاد على الاستقلال الكامل عن فرنسا، في 20 حزيران/يونيو 1960م، لكنه بقي عضوًا في المجموعة الفرنسية. انسحبت السنغال من الاتحاد في آب/أغسطس 1960م، فأصبحت مالي دولة مستقلة في 22 أيلول/سبتمبر 1960م، وأصبح موديبو كيتا رئيسًا لها، الذي سرعان ما أسَّس دولة الحزب الواحد، مع الانسحاب من المجموعة الفرنسية في عام 1962م، حيث تبنّى توجّهًا إفريقيًّا واشتراكيًّا مستقلّاً، وأقام روابط وثيقة مع الكتلة الشرقية الشيوعية[3]. ومنذ ذلك التاريخ، خضعت مالي لنوبات من الحكم العسكري الانقلابي، والحكم العسكري المقنَّع تحت عنوان ديموقراطية الحزب الواحد، إلى أن سقط الاتحاد السوفييتي عام 1991م. كما تعرّضت العلاقات الثنائية مع فرنسا، لحالات مختلفة من التعاون الوثيق والافتراق المتوتر، منذ عام 2005م، في أقل تقدير، وحتى اليوم[4].

أما الأزمة العِرْقية بين الطوارق في الشمال الصحراوي المهمل والجنوب الغني الذي تتركّز فيه السلطة والثروة، فلم تهدأ إلا لتنفجر مرة أخرى، في الأعوام 1963، و1990، و2006م، وأخيرًا عام 2012م، وهي الثورة الأخطر التي استدعت التدخل الفرنسي المباشر. وفي كل مرة، كانت تُقمَع بقسوة دون معالجات حقيقية، على الرغم من اتفاقات السلام التي ترعاها الجزائر[5]. الثورة الرابعة، داخَلتها جماعات جهادية عابرة للقومية والحدود الموروثة. لذلك فشلت فرنسا في احتواء الموقف، بل انتشر التمرّد على مدى الصحراء والساحل. ومع خروج فرنسا من مالي، يُطرَح التساؤل عن مجمل المرحلة السابقة وأدواتها، وما هي عوامل التدخل الروسي وأهدافه من أجل إيضاح الموقف.

أدوات الاستعمار الفرنسي الجديد في إفريقيا

مع عجز الدول الأوروبية عن متابعة نمط الاستعمار المباشر لدول العالم الثالث، ومنها إفريقيا، بسبب الخسائر الهائلة التي أصابت أوروبا إبَّان الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، وتصاعد موجة حركات التحرير، لجأت دول الاستعمار القديم، وعلى وجه الخصوص فرنسا في إفريقيا، إلى تغيير جلدها، وتبديل الأسلوب دون المضمون، وهو ما سُمِّي بالاستعمار الجديد، الذي ما زالت معالمه ومظاهره وآثاره، ماثلة وحاضرة في الأزمات الوجودية التي تعيشها تلك الدول، مع خضوعها إلى هذه الدرجة أو تلك، ثقافيًّا واقتصاديًّا، للدولة المستعمِرة السابقة، ولجوئها إليها عسكريًّا عند بروز أيّ خطر داخلي أو خارجي.

وتتمثّل الأذرع الثلاثة للهيمنة الفرنسية على عدد من مستعمراتها السابقة -ومنها مالي إلى وقت قريب- هي: الفرنكوفونية والمؤسسات التابعة لها، والسيطرة على السياسات المالية من خلال طباعة الفرنك الإفريقي، والتدخل العسكري المنتظم لحلّ الأزمات في تلك الدول.

أولاً: الربط الثقافي من خلال اللغة الفرنسية:

ظهر مصطلح “الفرنكوفونية” في نهاية القرن التاسع عشر، على يد الجغرافي الفرنسي أونسيم ريكلو Onésime Reclus، لوصف كل الشعوب والبلدان التي تَستخدم اللغة الفرنسية. وبدأت تتطور الفكرة مع الوقت؛ من رابطة الكُتّاب باللغة الفرنسية (Adelf) عام 1926م، فالاتحاد الدولي للصحفيين الناطقين بالفرنسية عام 1950م، ومؤتمر وزراء التعليم (Confemen)، عام 1960م، ووكالة التعاون الثقافي والتقني (ACCT) عام 1970م (21 دولة)، وهي التي أصبحت عام 1998م الوكالة الحكومية الدولية للفرنكوفونية، وفي عام 2005م، المنظمة الدولية للفرنكوفونية (OIF)[6]. ومنذ عام 1986م، انعقدت 17 قمة للفرنكوفونية. وتضم المنظمة 54 دولة كأعضاء، و7 دول كشركاء، و27 دولة كمراقبين[7]. هذه المجموعة الكبيرة من الدول الناطقة رسميًّا أو جزئيًّا بالفرنسية، تُعتبر أداة فعَّالة لبسط النفوذ السياسي من خلال الثقافة المشتركة، واللغة المشتركة.

ثانيًا: الربط المالي من خلال الفرنك الفرنسي الإفريقي:

بحسب موقع وزارة الخارجية الفرنسية؛ فإن لدى باريس اتفاقيات تعاون نقديّ مع ثلاث مناطق نقدية إفريقية، ووفق هذه الاتفاقيات، أنشأت فرنسا الفرنك الإفريقي “CFA franc”، في ثلاثينيات القرن الماضي عشية الحرب العالمية الثانية. يُطْبَع في فرنسا، وينتشر في ثلاث مناطق، ولكلّ منها بنكها المركزي وعملتها الخاصة. والمجموعات هي: الاتحاد النقدي والاقتصادي لغرب إفريقيا (WAEMU) المكوّن من 8 دول أعضاء، وهي: بنين، وبوركينا فاسو، وساحل العاج، وغينيا بيساو (ليست دولة فرنكوفونية)، ومالي (خرجت مؤقتًا)، والنيجر، والسنغال، وتوغو. تستخدم هذه البلدان فرنك غرب إفريقيا (XOF)، والمجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا(CEMAC) ، المكوّنة من 6 دول أعضاء، هي: الكاميرون، وإفريقيا الوسطى، وتشاد، والكونغو، وغينيا الاستوائية، والغابون. تستخدم هذه البلدان فرنك وسط إفريقيا(XAF) ، واتحاد جزر القمر، وعملته: (KMF).

ويطرح الموقع المذكور فائدة هذا التعاون النقدي للدول الإفريقية المشاركة فيه، حين يوفِّر إطارًا اقتصاديًّا مستقرًّا للسياسات الاقتصادية. أما ارتباط الفرنك الإفريقي باليورو، فيُضْفِي عليه مزيدًا من المزايا: فهو يمنح الاقتصادات مرونةً أفضل في مواجهة صدمات الاقتصاد الكلّي، ويساعد في السيطرة على التضخم من خلال ضمان استقرار العُمْلَة، ممَّا يؤدّي إلى نمو التجارة والاستثمارات.

ليس الفرنك الإفريقي عُملة تفرضها فرنسا، كما تقول وزارة الخارجية الفرنسية، ولكل بلد الحرية في مغادرة منطقة الفرنك، إما مؤقتًا (مثل مالي) أو بشكل دائم (مثل غينيا وموريتانيا ومدغشقر) أو الانضمام إليه من خارج المنظومة الفرنكوفونية (مثل غينيا بيساو) والبقاء هناك. وتخضع اتفاقيات التعاون إلى تعديلات ومراجعات منذ عام 2019م، بما يوفر للدول الإفريقية استقلالية أكثر عن السلطات النقدية الفرنسية[8]. هذا الربط النقدي، حتى لو كان اختياريًّا من حيث المبدأ، إلا أنه منح فرنسا القدرة على التحكّم بمفاصل اقتصادات الدول المنضمة إلى منطقة الفرنك، لجهة تسعير العملة، وكميتها، وحجم الاستيراد ونوع التصدير، بما يؤمّن مكاسب جمة للدولة المُشرفة والراعية[9].

ثالثًا: الربط من خلال الدعم العسكري:

بعد حقبة الاستقلال في ستينيات القرن الماضي، وقَّعت فرنسا حوالى عشرين اتفاقية دفاعية مع مستعمراتها الإفريقية السابقة. وبمقتضى هذه الاتفاقيات، تدخَّل الجيش الفرنسي ما يقرب من أربعين مرة على الأراضي الإفريقية في غضون نصف قرن، ما بين عامي 1960 و2010م، أي قبل التدخل الطويل نسبيًّا في مالي بين عامي 2013 و2022م. استغرقت بعض العمليات الفرنسية بضعة أيام فقط، بخلاف عمليات أخرى استطالت أكثر بكثير، وتطلّبت نشر قوات فرنسية بهدف دعم نظام سياسي يواجه تمرُّدًا عسكريًّا، أو إحباط انقلاب عسكري ما، أو إسقاط نظام وإبدال رئيس بآخر. وهذا الدور يمنح باريس مكاسب شتى، على مختلف المستويات، ويجعل العامل الفرنسي عنصرًا داخليًّا بالضرورة في تلك البلدان[10].

الأهداف الاستراتيجية لروسيا في إفريقيا

يكشف كتاب “روسيا وامتدادها العالمي: تقدير الأمن وإدارة الحكم Russias Global Reach: A Security and Statecraft Assessment” الصادر عام 2021م، استراتيجيات روسيا ورئيسها بوتين في القارة الإفريقية، من ضمن خطة أوسع نطاقًا تهدف إلى التأثير سلبًا في نفوذ حلف الناتو، عن طريق التوسع في إفريقيا على حساب القوى الأوروبية الاستعمارية السابقة. وفي الأثناء، الحصول على الموارد الغنية في الدول التي تعاني من اضطرابات كيانية. فقد تدخَّل مرتزقة فاغنر في ليبيا (مقابل استغلال حقول النفط في الشرق، واستعمال مرافئ المياه العميقة في شرق المتوسط، والاقتراب من المحاور التي يمكن أن يستعملها الناتو خلال الأزمات، ومنها قناة السويس لعرقلة تحركاته)، وإفريقيا الوسطى (استغلال مناجم الذهب والألماس في الشمال)، والسودان (استغلال مناجم الذهب في الغرب) وموزامبيق (فيها مناجم الجواهر الثمينة وحقول الغاز). وعقدت روسيا مع مالي اتفاقية تعاون أمني عام 2019م. وبعد عام، وقع انقلاب عسكري في 20 آب، أطاح بالرئيس السابق إبراهيم أبوبكر كيتا، المعروف بولائه لفرنسا. وحمل بعض المتظاهرين المؤيدين للانقلاب العلم الروسي وصور بوتين مع لافتات تشكر الدعم الروسي. وبالمقابل، انتشرت حملة في وسائل التواصل الاجتماعي ضد فرنسا[11].

ومن أجل فهم الصورة بشكل أفضل، لا بد من حساب الاستراتيجية الروسية في إفريقيا ربطًا بسعي بوتين لاسترجاع قوة موسكو عالميًّا، وإحياء دوائر الهيمنة التي كانت أيام الاتحاد السوفييتي الغابر.

وبحسب تقرير صادر عن البرلمان الأوروبي عام 2019م تحت عنوان: “روسيا في إفريقيا: موقع جديد للتنافس الجيوبوليتيكي” A new arena for geopolitical competition Russia in Africa، فإن إفريقيا كانت جبهة مهمة في الحرب الباردة في التنافس على النفوذ العالمي بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي. وأثناءه، انجذب عدد من البلدان الإفريقية إلى الأيديولوجية الماركسية اللينينية المناهضة للإمبريالية الغربية. وفي مراحل مختلفة، كانت إثيوبيا، والصومال، وموزمبيق، وأنغولا، ومصر، وليبيا، حلفاء أساسيين لموسكو. لكن في الثمانينيات، ومع تعرّض الاقتصاد السوفييتي للضغط، ترادفًا مع تحسّن العلاقات مع الغرب، انخفض اهتمام موسكو بإفريقيا. وفي حقبة الاضطرابات الاقتصادية والسياسية في التسعينيات مع انهيار الاتحاد السوفييتي، افتقرت روسيا إلى الموارد الكافية؛ فأغلقت عددًا من سفاراتها، وقنصلياتها، ومراكزها الثقافية في إفريقيا. لكن منذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 2000م، اعتمد سياسة خارجية روسية أكثر حزمًا تجاه الغرب. وفي عام 2009م، كانت جولة الرئيس الروسي آنذاك ديمتري ميدفيديف في أربع دول إفريقية بمثابة إحياء لاهتمام موسكو بالقارة. منذ ذلك الحين، اتبعت روسيا نمطًا مختلفًا في مناطق أخرى متنوعة؛ مع استخدام مجموعة من الأدوات العسكرية والاقتصادية، ووسائل القوة الناعمة لإعادة بناء نفوذها تدريجيًّا.

ومع أن روسيا الحديثة بعيدة كل البُعْد عن أن تكون على قدم المساواة مع المنافسين الجيوسياسيين لها، مثل الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي. لكنها استغلت بمهارة نقاط القوة المتخصصة، مما مَكَّنها من إلقاء ثِقَلها في عدد من البلدان الإفريقية، وتأكيد نفسها كلاعب رئيسي. فمنذ عام 2015م، وقَّعت روسيا اتفاقيات عسكرية مع أكثر من 20 دولة إفريقية، وفيها أشكال مختلفة من التعاون، بما في ذلك: بيع الأسلحة، والوصول إلى الموانئ البحرية والقواعد الجوية الإفريقية، تدريب الضباط الأفارقة في الأكاديميات العسكرية الروسية، مكافحة الإرهاب، حفظ السلام، وإرسال مستشارين عسكريين روس.

أما حجم التجارة والاستثمار لروسيا في إفريقيا فهو صغير جدًّا باستثناء القطاعات الاستراتيجية في مجالات الطاقة والتعدين: النفط، والغاز، والماس، والذهب، والألمنيوم، والنيكل من بين المعادن الإفريقية التي تستخرجها الشركات الروسية، والتي هي قريبة من مساعدي بوتين. ومع أن تجارة روسيا مع إفريقيا شهدت ازدهارًا لا سيما الصادرات (ارتفعت بنسبة 84٪ في عام 2018م)، لكنها ما تزال تمثّل 3٪ فقط من إجمالي التجارة الدولية لروسيا، و2٪ فقط من التجارة الإجمالية لإفريقيا.

وفي مجال السياسة الخارجية، رأى التقرير أن روسيا غالبًا ما تتبع الآن نهج “الحاصل الصفري”، أي رابح وخاسر، وهي تسعى إلى ترويج نهجها الخاص، وجدول أعمالها، من خلال مهاجمة المصالح الغربية. فيما كانت في الماضي، تتعايش أنشطتها في إفريقيا مع أنشطة اللاعبين الآخرين، بدون الكثير من الصدام، لكنْ ثمة علامات على أن ما تفعله روسيا مع أوروبا الشرقية، والبلقان الغربي، والشرق الأوسط، هو مثال لسلوكها في إفريقيا التي أصبحت جبهة التنافس الجيوبوليتيكي بين روسيا والغرب على النفوذ العالمي[12].

وبالنسبة للنشاط العسكري الروسي المستجدّ في القارة السمراء، عن طريق مرتزقة فاغنر، فيرصد تقرير للمؤسسة البحثية الأمريكية راند RAND، نشاطًا متزايدًا للمجموعة القريبة من بوتين. التقرير صدر العام الحالي، بعنوان: “الحضور الروسي المتنامي في إفريقيا: تقدير جيواستراتيجي Russias Growing Presence in Africa A Geostrategic Assessment”، ويؤكد أن يفغيني بريغوزين Yevgeny Prigozhin مالك الشركة العسكرية الخاصة، يقدّم خدمات استشارية سياسية للنظم السياسية في 19 دولة إفريقية[13].

خاتمة

لم يبلغ التدخل الروسي في إفريقيا بعدُ منافسة الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي على نحوٍ خطر، بما يهدّد وجوديًّا نفوذ الدول الاستعمارية السابقة أو الراهنة باستعمالها المتصاعد للقوة الناعمة. لكن الروس يستغلون نقاط الضعف، ويدعمون الانقلابيين والمستبدين، ويستثمرون في مشاعر الكراهية بإزاء الغرب خاصة.

والضربة الاستراتيجية التي طالت فرنسا في مالي، لا تقتصر على حدود دولة كبرى جغرافيًّا، بل هي تقيم رأس جسر في غرب إفريقيا الموالي لفرنسا تقليديًّا، وتربك الخطط الأمنية والعسكرية. وفي الوقت نفسه، تحصل روسيا، أو الدائرة الضَّيِّقة لبوتين، على موارد ضرورية للصمود أمام الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. وتزداد أهمية الغزوات الروسية الخفيفة في إفريقيا مع استعار الحرب في أوكرانيا. فموسكو بأمسّ الحاجة أكثر من أيّ وقت مضى إلى كنوز إفريقيا السائبة.





[1] David C. Conrad, Empires of medieval West Africa : Ghana, Mali, and Songhay, USA, Chelsea House, 2010, 32, 46, 57, 138.

[2] https://education.nationalgeographic...sa-musa-i-mali

[3] https://web.archive.org/web/20220227...files/Mali.pdf

[4] https://www.theafricareport.com/1732...-love-you-not/

[5] https://thinkafricapress.com/causes-...n-mali-tuareg/

[6] https://www.francophonie.org/une-his...rancophonie-23

[7] https://www.francophonie.org/88-etat...vernements-125

[8] https://www.diplomatie.gouv.fr/en/co...ca/franc-zone/

[9] لمزيد من التفاصيل، انظر رسالة الماجستير في العلاقات الدولية المقارنة (العام الدراسي 2019-2020م)، بعنوان: French monetary neo-colonialism:the CFA franc، وهذا الرابط: :

http://dspace.unive.it/bitstream/han...pdf?sequence=2

[10] https://www.rfi.fr/fr/afrique/201007...caises-afrique

[11] https://www.marshallcenter.org/en/pu...-influence-and

[12] https://www.europarl.europa.eu/RegDa...)642283_EN.pdf

[13]  https://www.rand.org/pubs/research_reports/RR4399.html