تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: الومَضَاتْ في عَدَدِ وأوّلِ الغَزَواتْ

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    46,449

    افتراضي الومَضَاتْ في عَدَدِ وأوّلِ الغَزَواتْ

    الومَضَاتْ في عَدَدِ وأوّلِ الغَزَواتْ (1)

    بلال فيصل البحر



    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين... وبعد:

    فقد طلب مني بعض الإخوان في مجلس وقع فيه الخوض والجدال في عدد مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعيين أول غزوة منها، أن أجمع مقالات أهل العلم بالسير والأخبار والمغازي في هذا المعنى مع تحقيق الخلاف وبيان المقام في الموضعين.

    إذ كان بعض الناس قد نقل الإجماع فيها، وعارضه غيره بانتقاض دعوى الإجماع وبطلانـها، فكتبتُ هذه الومضات في شرح حال هاتين المسألتين وإيضاح دلائلهما ومقالات أهل العلم فيهما.

    ولاريب أن العلم بالتاريخ والاطلاع على أخبار السير وأيام الناس، من العلوم الشريفة، المشتملة على فوائد لطيفة، ومباحث منيفة، لا يروم سلوك سبيل معرفتها وعلمها إلا من كان ذا همة عالية، وعزيمة ماضية.

    وقد اعتنى بـمعرفتها أسلافنا من الصحابة فمن بعدهم من أهل العلم، وحرصوا على وضع تأريخ للأمة يبتدأ من أهم حدث كان فيها، تنهج عليه الأجيال من بعدهم، كما هو شأن الأمم قاطبة.

    ولاريب أن من أجلَّ الحوادث هجرتُه عليه السلام، وقد حكى السهيلي في (الروض الأُنُف) {4/255} وابن كثير في (تاريخه) {3/177} اتفاق الصحابة على أن ابتداء التاريخ بالهجرة النبوية كان على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بـعد أن شاور فيه علياً عليه السلام وكبار الصحابة.

    وفي (سيرة عمر) لأبي الفرج بن الجوزي {57} عن ابن المسيب قال: (أول من كتب التاريخ عمر، لسنتين ونصف من خلافته، فكتبه لست عشرة من المحرم بمشورة من علي عليه السلام).

    وأخرج الحاكم {4287} وصححه عن ابن المسيب قال: جمع عمرُ الناسَ فسألهم من أي يوم يكتب التاريخ.؟ فقال علي بن أبي طالب: (من يوم هاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وترك أرضَ الشرك) ففعله عمر.

    وروى الحاكم {4286} وصححه عن ابن عباس قال: (كان التاريخُ في السنة التي قدم فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، وفيها ولد عبد الله بن الزبير).

    وذكر الواقدي عن ابن أبي الزناد عن أبيه أنه قال: (استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة).

    وعند ابن إسحاق عن الشعبي قال: (أرّخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرّخوا من بنيان إبراهيم وإسماعيل البيتَ، ثم أرّخوا من موت كعب بن لؤي، ثم أرّخوا من الفيل، ثم أرّخ عمر بن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة).

    وبوَّب البخاريُّ في (كتابه) {3934}: (باب التاريخ من أين أرخوا التاريخ) وساق بسنده عن سهل بن سعد قال: (ماعدّوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عدّوا إلا من مقدمه المدينة).

    وذكره في (تاريخه) أيضاً وأخرجه الحاكم {4285} ولفظه عنده: (أخطأ الناسُ في العدد، ما عدّوا من بيعته، ولا من وفاته، إنما عدّوا من مقدمه المدينة).

    وقوله (أخطأ الناس) أي: تَخَطَّوا البيعةَ والوفاة وتجاوزوهمافي عدّ التاريخ.

    وسبب ذلك فيما ذكر غير واحد من أهل العلم بالتاريخ، أن عمر رضوان الله عليه رُفع إليه صكٌّ لرجل على آخر، وفيه أنه يحلُّ عليه في شعبان، فقال عمر: أيّ شعبان؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها، أو السنة الماضية أو الاتية.؟

    ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تأريخ يتعرّفون به حلول الديون وغير ذلك، فقال قائل: أرّخوا كتأريخ الفرس. فكره ذلك عمر. وكانت الفرس يؤرّخون بـملوكهم واحداً بعد واحد.

    وقال آخر: أرّخوا بتأريخ الروم. وكانوا يؤرخون بـملك إسكندر بن فيليبس المقدوني. فكره ذلك.

    وقال قائل: أرّخوا بـمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: بل بـمبعثه. وقال آخرون: بل بـهجرته. وقال آخرون: بل بوفاته عليه السلام.

    فمال عمر إلى التأريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره، واتّفقوا معه على ذلك.

    وأخرجه أحمد وأبو عروبة الحراني في (الأوائل) {127} والبخاري في (الأدب) والحاكم من طريق عمرو بن ميمون نحوه، كذا في (الفتح).

    وحكى الحافظ سبباً اخر في وضع التاريخ، أخرجه أبو نعيم الفضل بن دُكين في (تاريخه) ومن طريقه الحاكم عن الشعبي أن أبا موسى كتب إلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمرُ الناسَ فقال بعضهم: أرّخ بالمبعث. وبعضهم: أرخ بالهجرة. فقال عمر: الهجرة فرّقت بين الحق والباطل. فأرّخوا بـها، وذلك سنة سبع عشرة، فلما اتّفقوا قال بعضهم: ابدءوا برمضان. فقال عمر: بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجّهم، فاتّفقوا عليه.

    وعند ابن أبي خيثمة عن ابن سيرين قال: قدم رجل من اليمن فقال: رأيت باليمن شيئاً يسمونه التاريخ يكتبونه من عام كذا وشهر كذا. فقال عمر: هذا حسن فأرخوا. فلما جمع على ذلك قال قوم: أرخوا للمولد. وقال قائل: للمبعث. وقال قائل: من حين خرج مهاجراً. وقال قائل: من حين توفي. فقال عمر: أرخوا من خروجه من مكة إلى المدينة.

    ثم قال: بأي شهر نبدأ.؟ فقال قوم: من رجب. وقال قائل: من شعبان. وقال قائل: من رمضان. فقال عثمان: أرخوا المحرم فإنه شهر حرام وهو أول السنة ومنصرف الناس من الحج. قال: وكان ذلك سنة سبع عشرة وقيل سنة ست عشرة، في ربيع الأول.

    ذكره الحافظ {7/269} وقال: (فاستفدنا من مجموع هذه الآثار أن الذي أشار بالمحرّم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم).

    والجمهور على أن أول التاريخ الهجري من شهر المحرّم، ونقل ابن كثير أن أبا القاسم السُهيليُّ حكى عن مالك رحمه الله أنه من شهر ربيع الأول، لأنه الشهر الذي هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لقوله تعالى (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) {التوبة 108} أي: من أول يوم حلول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، وهو أول يوم من التاريخ.

    ذكره الحافظ ابن كثير {3/207} وتعقبه بقوله: (ولاشك أن هذا الذي قاله الإمام مالك رحمه الله مناسب، ولكنّ العملَ على خلافه، وذلك لأن أول شهور العرب المحرّم، فجعلوا السنة الأولى سنة الهجرة، وجعلوا أولها المحرم كما هو المعروف لئلا يختلط النظام).

    والذي في كتاب السهيلي {4/156} أن الصحابة أخذوا التاريخ بالهجرة من هذه الاية، لأنه من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقاً، فتعيّن أنه أضيف إلى شئ مضمر، وهو أول الزمن الذي عزَّ فيه الإسلام، وعبد فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ربَّه آمناً، وابتدأ بناء المسجد، فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهمنا من فعلهم أن قوله (من أول يوم) أنه أول أيام التاريخ الإسلامي.

    وهو انتزاع حسن كما قاله الحافظ ابن كثير، وإن كان المتبادر من قوله (أول يوم) أي أول يوم دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة كما قاله الحافظ ابن حجر.

    وقال الحافظ في (الفتح) {7/268}: (وقد أبدى بعضهم للبداءة بالهجرة مناسبة فقال: كانت القضايا التي اتفقت له ويـمكن أن يؤرّخ بـها أربعة: مولده ومبعثه وهجرته ووفاته، فرجح عندهم جعلها من الهجرة، لأن المولد والمبعث لايخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما وقع بذكره من الأسف عليه، فانحصر في الهجرة، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم، لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم، إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهلّ بعد البيعةِ والعزمِ على الهجرة هلال المحرم، فناسب أن يـُجعل مبتدأ، وهذا أقوى ما وقفتُ عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم).أ.هـ

    وبه يُعلم شذوذ القذافي وضلاله فيما أحدثه من اتّخاذ التاريخ من مولده عليه السلام، وقد قال تعالى (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) {النساء115}.

    ووقع في «تاريخ ابن جرير الطبري» (2/511) من طريق ابن جريج عن أبي سلمة عن ابن شهاب هو الزهري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا قدم المدينة، قدمها في شهر ربيع الأول، أمر بالتاريخ.

    وهذا غلط من وجوه:

    الأول: أن إسناده منقطع من أجل عنعنة ابن جريج؛ فإنه قبيح التدليس مكثر منه كما قاله الدارقطني وغيره، ولم يصرح بالسماع، أو ما يقوم مقامه.


    الثاني: أنه من مرسل الزهري، وقد تقرر أن مراسيل الزهري قبيحة لا حجة فيها كما قاله الشافعي؛ لأن الزهري حافظ كبير لا يُرسل إلا لعلة، قاله الشوكاني وغيره.

    الثالث: أنه خلاف المحفوظ الذي جرى عليه نقلُ الكافة من أهل العلم بالأخبار والسير والتاريخ كما مرَّ ذكره.

    وذكر الحافظ في (الفتح) {7/268} عند قول البخاري: (من أين أرخوا التاريخ) أن البخاري كأنه يشير إلى اختلاف في ذلك، قال: وقد روى الحاكم في (الإكليل) من طريق ابن جريج عن أبي سلمة عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم لـمّا قدم المدينة أمر بالتاريخ، فكُتب في ربيع الأول.

    قال الحافظ: (وهذا معضل، والمشهور خلافه).

    وفيه قولٌ ثالث أن أول من أرّخ التاريخ يعلى بن أمية حيث كان باليمن، ذكره الحافظ في (الفتح) {7/268} وقال: (أخرجه أحمد بن حنبل بإسناد صحيح، لكن فيه انقطاع بين عمرو بن دينار ويعلى).والله أعلم


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    46,449

    افتراضي رد: الومَضَاتْ في عَدَدِ وأوّلِ الغَزَواتْ

    الومَضَاتْ في عَدَدِ وأوّلِ الغَزَواتْ (2)

    بلال فيصل البحر



    فصل

    ومعلوم أن معرفة سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخباره وأيامه، وما مرَّ به عليه السلام من الحوادث والوقائع، هو من علوم التاريخ، بل هو أشرف مباحثه وعلومه؛ إذ شرف العلم بشرف المعلوم.

    وقد اشتملت السير على أحكام وفوائد لايسع التخلف عن علمها، ولاسيما للفقهاء والمفتين، وقد حكى أبو حيان التوحيدي في (البصائر) {2/11} عن القاضي أبي حامد المروروذي رحمه الله وكان أبو حيان من أصحابه خصيصاً به، وكان يقول عنه: (هذا الرجل أنبلُ من رأيتُه فى عمري، كان بـحراً يتدفقُ حفظاً للسير، وقياماً بالأخبار، واستنباطاً للمعاني، وثباتاً على الجدل، وصبراً فى الخصام).

    قال: وكان القاضي أبو حامد يقول: (السّيرَ بحرُ الفتيا، وخزانة القضاء، وعلى قدْر اطلاع الفقيه عليها يكون استنباطه) ذكره ابن السبكي في (الطبقات) {3/13}.

    ومن فوائد هذا الفن التمييز بين الصحيح والمعتل، والحق والباطل، فضلاً عن فهم حوادث الدهور، ووقائع الأيام والعصور.

    وقد وقع على عهد الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي أن اليهود الخيابرة ادعوا عند الوزير أبي القاسم بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسقط عنهم الجزية عام خيبر، فطالبهم الوزير بدليل، فأخرجوا له كتاباً يدّعون أنه عَهْدُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، وعليه خاتمه، وفيه شهادة جماعة من الصحابة منهم: معاوية بن أبي سفيان وسعد بن معاذ، وأنه بـخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.!

    فتحيّر الوزيرُ وما درى ما يصنع، حتى استدعى الخطيبَ البغداديَّ وأطلعه على ذلك الكتاب، فنظر الخطيبُ فيه نظرة، ثم قال: هذا الكتاب مزور كذب؛ لأن فيه شهادةَ معاوية، ولم يكن أسلم يومَ خيبر، وقد كانت خيبر سنة سبع من الهجرة، وإنما أسلم معاويةُ عامَ الفتح، وفيه شهادةُ سعد بن معاذ، وقد مات قبل خيبر عام الخندق سنة خمس، فافتضح اليهود، واستحسن الناس هذا من الخطيب، وشكروا له واعترفوا بفضله وعلمه.

    ذكر هذه الحكاية الذهبيُّ في (تاريخه){29/101} وذكرها غيره أيضاً، وقد وقع نظيرها قبل ذلك لأبي جعفر الطبري فسلك في إبطال الكتاب مسلك الخطيب، وتكرر حصول هذه الواقعة على عهد الحافظ أبي طاهر السلفي، فذكر نحواً من ذلك، ونبّه على وضع الكتاب.

    ثم تكررت على عهد أبي العباس ابن تيمية، فتكلّم على إبطال الكتاب من عشرة وجوه لخصها ابنُ القيم في (المنار المنيف) {193} غالبها مستند إلى معرفة التاريخ والاستبحار في علم السير، وقيل إنه رحمه الله أبان عن كذب الكتاب بدلائلَ يرجع بعضها إلى نوع الخط والكتابة والورق، وقد أفرد الحافظ ابنُ كثير جُزءاً في الكلام على هذه الواقعة وشرح حالها.

    وهذه الحكاية ظاهرة الدلالة على فضل علم التاريخ، وحاجة المشتغل بالعلوم إليه، ولاسيما تاريخه صلى الله عليه وآله وسلم.

    وأيضاً فإن العلم به شرط في تعيين الناسخ من المنسوخ، فإن المقرر في «أصول الفقه» أن النسخ لا يثبت إلا بعد العلم بالتاريخ، فيعلم المتأخر من المتقدم من أحد الخبرين حتى يصح أن يقال إن المتأخر نسخ المتقدم، ولا سبيل إلى تيقن العلم بذلك إلا بعد معرفة السير والتاريخ.

    ومن فوائد علم التاريخ أنه يعين على فهم الوقائع والحوادث السياسية، وإدراك وجه تصرفات الساسة وبُعد غورها، فإن التاريخ يتكرر والحوادث تتعد، ولا يعقل معرفة السياسة وإدراك غوامضها على وجهها، دون معرفة التاريخ والاطلاع عليه، وقد عُلم بـهذا فضله وشرفه والحاجة إليه.

    فصل

    والمقصود هنا إنما هو الكلام والبحث في مسألتين تتلعقان بالسيرة النبوية على صاحبها أزكى الصلاة والسلام.

    أولاهما: عدد مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي غزاها بنفسه. ثانيهما: تعيين أول غزوة منها.

    وقد رأيتُ العلماء مختلفين في ذلك تبعاً لاختلاف النصوص الواردة في هذا الباب، والمسألتان في الأصل واحدة يجمعها نص واحد.

    واعلم أن أصل الغزو القصد، يقال: مغزى الكلام، أي: مقصده والغرض منه، وسمي الغزو غزواً لأنه يقصد به حرب من يراد حربه.

    قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): «والمراد بالمغازي ما وقع من قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكفارَ بنفسه، أو بجيش من قبَله، وقصدهم أعمُّ من أن يكون إلى بلادهم أو إلى الأماكن التي حلّوها حتى دخل مثل أحد والخندق» اهـ.

    وقد ينعكس الأمر كأحد والخندق، فإن الكفار هم من قصد المسلمين فيهما، ولا يشترط في تسمية وقائع وحروب النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزوات، أن يكون هو القاصد فيها لحرب الكفار، بل يكفي في ذلك وقوع قصد الحرب من أحد الطرفين.

    ووهم من يظن أن الغزوة لا بد كي تسمى بذلك أن يحصل فيها قتال، بل مجرّد القصد للحرب يكفي لعدّها من الغزوات، وبـهذا اصطلح علماء السير والمغازي على تسمية مثل الأبواء وتبوك غزوة، مع أنه لم يقع فيهما قتال كما هو معروف.

    وقد اختلف في عدد مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي غزاها بنفسه وأيتهن كانت الأولى.؟

    والأصل في هذا ما رواه البخاري{3949} ومسلم{3/143} من حديث أبي إسحاق السبيعي قال: «كنتُ إلى جنب زيد بن أرقم، فقيل له: كم غزا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة؟ قال: تسع عشرة، قيل: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة، قلت: فأيهم كانت أول؟ قال العشير أو العسيرة. قال شعبة: فذكرت لقتادة فقال: «العشيرة».

    والعشيرة والعشير والعسيرة والعشيراء: أسماء لمسمى واحد وهو الموضع الذي انتهى إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج غازياً يريد عيرَ قريش التي صدرت من مكة إلى الشام للتجارة، فسُميت الغزوةُ بذلك الموضع، ولم يلقَ عليه السلام فيها حرباً، وفاتته عيرُ قريش، وكان ذلك في سلخ جمادى الأولى ومستهل جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة، ووادع فيها بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة، واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الله الأسدي فيما قال ابن هشام في « السيرة » [2/240].

    قال الحافظ في « الفتح » [7/350]: « وقول قتادة هو الذي اتفق عليه أهل السير وهو الصواب، وأما غزوة العسيرة بالمهملة فهي غزوة تبوك، قال تعالى ﴿الذين اتبعوه في ساعة العسرة﴾ وسُميت بذلك لما كان فيها من المشقة.. وأما هذه فنُسبت إلى المكان الذي وصلوا إليه، واسمه العشير أو العشيرة، يذكر ويؤنث، وهو موضع». اهـ.

    والعشيرة: موضع بين مكة والمدينة من ناحية ينبع، وسمي بذلك نسبة إلى شجرة فيه كما قاله ياقوت في «المعجم» [4/143 – 144] وهي شجرة صمغية تسمى العشيرة، كما في «اللسان» [4/575].

    وقد نص الحافظ ابن كثير وغيره على أنـها بالشين (العشيرة والعشيراء) وبالسين المهملة: (العَسير والعُسير والعُسيراء) كما في «تاريخه» [3/246] وسيرته المختصرة المسماة «الفصول» [ص: 123].

    فغاية ما يفيده كلام قتادة أن المشهور في لغتها بالشين المثلثة لا بالسين المهملة، وهذا لا ينافي أن يكون فيها لغة أخرى بالسين المهملة، لا سيما أن قتادة لم ينكر كلام زيد بن أرقم، ويبعد أن يكون زيد رضي الله عنه قد اشتبه عليه اسم هذه الغزوة باسم غزوة تبوك، وهو الذي شهدها، وقد تقرر في اللغة أن الحروف المتقاربة في مخرجها تتعاقب كالسين والشين والدال والذال وغيرها، فالصحيح في اسمها العشيرة أو العشير أو العشيراء وهو الأشهر، وورد في اسمها بالسين المهملة، ولو لم يكن إلا قول زيد بن أرقم في إثبات ذلك لكفى.

    ويقوي هذا أن غزوة تبوك إنما تسمى العُسرة بلا ياء نسبة إلى ما أصاب المسلمين فيها من الإعسار في النفقة والحر، كما أوضحناه في الجزء الذي أفردناه في الكلام على فوائد ومعاني غزوة تبوك، وأما العسيرة فهي بالياء التحتية، فالجزم بغلط الراوي عن الصواب بمعزل والله أعلم.

    وقد أفاد هذا الخبر أمرين:

    الأول: أن أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه هي غزوة العشيرة.

    الثاني: أن عدد مغازيه صلى الله عليه وآله وسلم التي خرج فيها بنفسه تسع عشرة غزوة على ما حكاه زيد بن أرقم رضي الله عنه.

    وقد خولف زيدٌ في المسألتين..

    فأخرج الطبراني كما في (المجمع){6/68} وابن سعد{2/8} وابن عدي{1599} من طريق إسماعيل بن أبي أويس أخبرنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال: «غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول غزوة غزاها الأبواء» ( ).

    فتمسك بظاهر هذا الخبر الجمهور ومنهم أهل العلم بالمغازي والسير فأطبقوا على ذكر الأبواء على رأس غزواته صلى الله عليه وآله وسلم، ونصوا في مصنفاتـهم على عدّها أول غزوة له عليه السلام.

    واحتجوا بإجماع أهل السير والمغازي عليه، وهم أهل الشأن والمرجع فيه إليهم، وقد تقرر في الأصول اعتبار إجماع أهل الفن، ولا يُلتفتُ إلى خلاف من خالفهم إذا لم يكن من المختصين في ذلك العلم المدعى الإجماع فيه على مسألة من مسائله.

    وأيضاً: فإن خبر كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده صريح في أن الأبواء أول غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجده عمرو بن عوف صحابي أدرك الغزوة، وهو أكبر من زيد بن أرقم، فلا يعارض خبرُ زيدٍ خبَرَه.

    وأيضاً: فإن خبر زيد بن أرقم لا يفيد عدم اعتبار الأبواء أول غزوة إلا بالمفهوم، في حين إن خبر عمرو بن عوف يفيد ذلك بالمنطوق، وقد تقرر في الأصول أن المنطوق أرجح.

    وأيضاً: فإن في خبر عمرو بن عوف زيادة علم فيجب قبولها، ثم خبره مُثبت، وخبر زيد لو كان نافياً لوجب تقديم خبر عمرو عليه؛ لأن المثبت مقدّم على النافي، كيف وحديث زيد ليس فيه نفي كون الأبواء أول غزوة إلا بالمفهوم، وقد مرَّ عدم انتهاضه لمقابلة منطوق خبر عمرو.

    وتأوّلَ الجمهورُ حديث زيد على أنه إنما عدّ العشيرةَ أولَ غزوة لأنه لم يشهد ما قبلها، وأنه عنى بقوله هذا، أن العشيرة أول غزوة شهدها هو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قاله ابن التين وغيره، وهذا لا ينافي أن يكون قبلها غزوات لم يشهدها كما هو ظاهر.

    وأبدى الحافظ في (الفتح) {7/280} احتمال أن يكون إنما خفي على زيد ما قبل العشيرة من الغزوات لصغر سنّه، بدليل ظاهر رواية مسلم التي وقع فيها جزم زيد بأن العشيرة أول غزواته عليه السلام مطلقاً.

    وتوجيه ابن التين أجود لما رواه أبو يعلى الموصلي {2242} عن أبي إسحاق سمعت زيد بن أرقم يقول «غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضع عشرة غزوة».

    وتصرّف البخاري في «كتابه» {3949} يقتضي أنه يختار هذا القول، فإنه صدّر أول باب من «المغازي» فيه بقول ابن إسحاق: «أول ما غزا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأبواء ثم بواط ثم العشيرة».

    ويقويه أنه اعتمد هو والترمذي روايةَ كثير بن عبد الله المزني ومشّاها كما قال الحافظ {7/384} مع أن كثيراً ضعيف عند الأكثر كما يأتي.

    وأما مسلم فإن تصرّفه في «الصحيح» {3/143} يخالف البخاريَّ، وكأنه يميل إلى قول زيد بن أرقم.

    وقد ذكر البخاريُّ كُثيراً المزني هذا في التاريخ المطبوع على أنه (الصغير) {2/152} وسكت عنه، وقال فيه الشافعي وأبو داود «ركن من أركان الكذب» وضرب أحمد على حديثه، وتركه الدارقطني وغيره، وقال أبو حاتم «ليس بالمتين». وقال النسائي «ليس بثقة». وقال ابن حبان «له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة». وقال مطرّف وهو أعلمُ به «رأيته وكان كثير الخصومة ولم يكن أحد من أصحابنا يأخذ عنه». انتهى من «الميزان» [3/6943].

    فالحديث على هذا ضعيف، لكنَّ الترمذيَّ حسَّن حديثه كما ذكر الهيثمي في «المجمع» [6/68] والوجه في تحسينه له والله أعلم أن عمل أهل السير والأخبار والمغازي عليه، وقد عُلم من تصرّف الترمذي في كتابه أنه يـُحسّن الحديث الذي جرى عليه عمل الناس وتلقوه بالقبول، وإن كان في إسناده مقال، وهذا المعنى أصل حسن، قد أطبق عليه أهل العلم، فالاعتراض على أدلة الجمهور بضعف خبر كثير هذا، غير متّجه.

    فحديث كثير المزني هذا وإن كان معلولاً إلا أن له من الشواهد ما يقوي معناه ويعضد كونه أصلاً في ترجيح قول أهل السير في أول الغزوات.

    فمن الشواهد والقرائن تواطؤ أهل السير والمغازي والأخبار على أن أول غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأبواء (ودّان).

    وهذا التواطؤ يجري مجرى عمل أهل المدينة النقلي الذي هو حجة عند كافة العلماء، وإن كان ليس هو الإجماع القطعي الذي يلزم اتباعه ويحرم مخالفته، إلا أنه مرجح ولا أقل من الاحتجاج به.

    يقويه ما قرره الأصوليون من أن إجماع أهل علم ما، على مسألة من مسائله، مع وجود مخالف لهم من غيرهم، فإن هذا الإجماع قوي معتبر، وفي الغالب يكون المخالف لهم مجانباً للصواب، ولا يُعلم مصنف من أهل السير والمغازي إلا وهو يعدّ الأبواء أول غزوة.

    وهذا هو معنى ما ذُكر من إجماع أهل السير والمغازي في هذا المعنى، وليس مراد من أطلقه الإجماع المعروف عند أهل الأصول، وهو إجماع الكافة الذي هو حجة قاطعة لاتجوز مخالفتها، وإنما أراد إجماع أهل الفن وتتابعهم على نقل ذلك في تصانيفهم.

    وأيضاً فإن خبر زيد هذا متروك الظاهر ولم يقل به أحد من أهل السير والمغازي، فإنـهم تتابعوا في كتبهم على خلافه، ومن قال به قديـماً من السلف فقد درس خلافه ولم يعد له أثر، لاستقرار إجماع أهل المغازي على خلافه، وقد تقرر أن الإجماع المنعقد بعد انقراض المخالف وزواله حجة.

    وأيضاً فإنه خلاف نادر، وقول الكافة على خلافه، ولأهل الأصول قولان معروفان في الاحتجاج بقول الكافة وعدم الاعتداد بالخلاف الشاذ النادر، والتحقيق اعتباره مرجحاً وهو اختيار الشيخ أبي محمد الجويني ومال إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في (نقد إجماعات ابن حزم) ويتقوى القول بحجيته إذا جرى العمل عليه، كهذا الخبر في عدّ الأبواء أول غزاة، فقد جرى عليه عمل المصنفين في المغازي والسير فيتقوى معناه بذلك وإن كان ضعيف المخرج، ويكون مخالفه وهو خبر زيد ضعيفاً مطّرحاً وإن صح مخرجه.

    فإذا ضم هذا الإجماع النقلي لأهل المغازي على عدّ الأبواء أول غزوة، إلى خبر كثير بن عبد الله المزني الصريح في عدّها أول غزوة، وجمع ذلك مع ما ذكره الحافظ ابن حجر عن أبي الأسود أنه ذكر في «مغازيه» عن عروة ووصله ابن عائذ كما قال الحافظ رحمه الله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما وصل الأبواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين رجلاً، فلقوا جمعاً من قريش، فتراموا بالنبل، فرمى سعد بن أبي وقاص بسهم، وكان أول من رُميَ بسهم في سبيل الله».

    وقد حسنه الحافظ بسكوته عليه كما هو شرطه في كتابه، ثم هو مرسل صحابي وهو حجة إذا صح الإسناد إلى الصحابي.

    فهذا الخبر صريح في خروجه صلى الله عليه وآله وسلم غازياً إلى الأبواء، وهي بالاتفاق قبل غزوة العشيرة، فإن هذه الأخيرة كانت في السنة الثانية من الهجرة، ووقعت الأبواء في أول الهجرة، أول مقدم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المدينة.

    فنقل أهل المغازي مع حديث ابن عباس هذا مما يقوي خبر كثير المزني، ولعله لأجل ذلك مشى البخاريُّ حديثَ كثير المزني، وتبعه الترمذي.

    ومما يحسن التنبيه عليه هنا أن علماء الرواية لا يشددون في تناقلهم لأخبار المغازي تشددهم في نقل أحاديث الأحكام، فينقلون من أخبار المغازي والسير ما قامت الشواهد والدلائل على صدقه وصحته، وإن كان الخبر في نفسه ليس صحيحاً لتهمة في راويه أو لضعف ناقله، ولكنهم يقبلونه إذا قامت الشواهد على صحته من خارج ولم يخالف شرعاً ثابتاً أو واقعاً محسوساً.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طليعة (الرد على ابن المطهر) {1/56} عند كلامه عن خبر الشعبي في وصف الرافضة ومشابـهتهم لليهود، الذي نقله عنه عبد الرحمن بن مالك بن مِغْوَل، قال: «وكثير من الناس لا يحتج بروايته –ابن مغول- المفردة، إما لسوء حفظه، وإما لتهمة في تحسين الحديث، وإن كان له علم ومعرفة بأنواع العلوم، ولكن يصلحون للاعتضاد والمتابعة، كمقاتل بن سليمان ومحمد بن عمر الواقدي وأمثالهما، فإن كثرة الشهادات والأخبار قد توجب العلمَ، وإن لم يكن كل من المخبرين ثقة حافظاً، حتى يحصل العلم بـمخبر الأخبار المتواترة، وإن كان المخبرون من أهل الفسوق، إذا لم يحصل بينهم تشاعر وتواطؤ، والقول الحق الذي يقوم عليه الدليل يقبل من كل من قاله، وإن لم يقبل بمجرد إخبار المخبر به».

    وهذا يقوله ابن تيمية مع أن ابن مغول هذا قد تركه أحمد والدارقطني، وكذّبه أبو داود.!

    والحق أن أول غزواته صلى الله عليه وآله وسلم هي الأبواء كما نقله الواقدي وتبعه ابن سعد، ونقله ابن إسحق وموسى بن عقبة وغيرهم من أهل العلم بالسير والمغازي.


    والمتعين هنا تأويل حديث زيد رضي الله عنه وحمله على أنه أراد أول غزوة شهدها هو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أن العشيرة هي أول غزواته مطلقا، كما قاله ابن التين، أو خفيت عليه لصغر سنّه كما هو توجيه الحافظ ابن حجر.

    ويحتمل أن زيد بن أرقم رضي الله عنه لم يكن يعدُّ الأبواء وبواط من الغزوات، فلهذا لم يذكرها لما سأله أبو إسحاق السبيعي، إما لقلّة عدد من خرج فيها من الجيش، أو لأنـها لم يقع فيها كبير قتال، أو لأنـها لم تطل مُدَّتـها ونحو ذلك، فأشبهت البعوث والسرايا دون الغزوات. والله أعلم

    وقال الحافظ ابن كثير في (تاريخه) {3/264} «وهذا الحديث -حديث زيد- ظاهر في أن أول الغزوات العشيرة... اللهم إلا أن يكون المراد غزاةً شهدها مع النبي الله صلى الله عليه وآله وسلم زيدُ بن أرقم العشيرةَ، وحينئذ لا ينفي أن يكون قبلها غيرها لم يشهدها زيد بن أرقم، وبـهذا يحصل الجمع بين ما ذكره محمد بن إسحاق وبين هذا الحديث» اهـ



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    46,449

    افتراضي رد: الومَضَاتْ في عَدَدِ وأوّلِ الغَزَواتْ

    الومَضَاتْ في عَدَدِ وأوّلِ الغَزَواتْ (3)

    بلال فيصل البحر

    فصل



    وأما المسألة الثانية التي يتعلق بـها حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه فهي كما تقدم عدد الغزوات التي غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، وقد تنازع الناس في ذلك على أقوال، ساقها مرتبة الكنكوهي في «لامع الدراري»[8/247]:

    القول الأول: وهو ما أفاده منطوق حديث زيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزا تسع عشرة غزوة.


    ووافقه على ذلك بريدة بن الحصيب رضي الله عنه كما رواه مسلم {12/196 نووي} عنه أنه قال: «غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسع عشرة غزوة قاتل في ثمان منهن».

    وروي هذا القول عن مقسم مولى ابن عباس رضي الله عنهما ذكره عبد الرزاق {9660} لكن مع الشك: هل هي ثماني عشرة أو تسع عشرة.

    وقاله قتادة فيما رواه عنه أحمد في (مسنده) حكاه الحافظ ابن كثير.

    القول الثاني: وهو قول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فإنه نص على أنـها إحدى وعشرون غزوة، على ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي {1239} من طريق أبي الزبير عن جابر قال: (غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحدى وعشرين غزوة) وصححه الحافظ في «الفتح» {7/328}.

    القول الثالث: وهو قول سعيد بن المسيب فيما رواه عبد الرزاق [5/9659] والفسوي في (المعرفة والتاريخ) {3/261} عن معمر عن الزهري قال: سمعت ابن المسيب يقول: «غزا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثماني عشرة غزوة» قال الزهري: وسمعته مرة أخرى يقول: «أربعة وعشرين غزوة» فلا أدري أكان وهماً منه أو شيئاً سمعه بعد ذلك.

    قال الحافظ في (الفتح) {7/328} «إسناده صحيح».

    وعليه يكون لابن المسيب في عدد الغزوات قولين.

    القول الرابع: وهو قول مكحول، ذكره يعقوب بن سفيان الفسوي الحافظ في (تاريخه) {3/261} عن الهيثم بن حميد أخبرني النعمان عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزا ثمانية عشر غزوة قاتل في ثمان غزوات..» ثم عدّهن.

    وإسناده صحيح، رجاله ثقات، وهو مسلسل بالشاميين، وهو قولٌ لابن المسيب، وشكَّ فيه مقسم كما تقدّم.

    القول الخامس: وهو قول محمد بن إسحاق وجماهير علماء السيرة والتاريخ والمغازي كابن جرير الطبري وموسى بن عقبة وخليفة بن خياط والواقدي وابن سعد وأبي معشر وغيرهم من علماء الأخبار والسير والمغازي، أن غزواته صلى الله عليه وآله وسلم سبع وعشرون غزوة.

    واختاره الحافظ شرف الدين الدمياطي والعراقي وغيرهم من متأخري أصحاب الحديث، وبه جزم أبو الفرج بن الجوزي.

    القول السادس: نقله الزرقاني في (شرح المواهب) {2/220} عن المحب الطبري أنه ذكر في كتابه «خلاصة السير» أن المشهور من غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنـها اثنتان وعشرون غزوة.

    وهذا جملة ما وقفت عليه من الأقوال في هذه المسألة.

    فأما القول الأول فلا يدل على أن غزواته صلى الله عليه وآله وسلم محصورة بـهذا العدد؛ لأن مراد زيد بن أرقم أن الغزوات التي غزاها هو مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسع عشرة، بدليل ما رواه أبو يعلى الموصلي {2242} عن أبي إسحاق سمعت زيد بن أرقم يقول «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضع عشرة غزوة».

    والمراد بالبضع هنا تسع عشرة بقرينة رواية الصحيحين عنه، فإنـها مفسرة للبضع بأنه تسع عشرة، والروايات كما تقرر يفسر بعضها بعضاً، والبضع في اللغة من الثلاثة إلى التسعة كما هو معلوم.

    وأما قول بريدة رضي الله عنه الموافق لقول زيد فلا يمكن تأويله وحمله على ما حمل عليه قول زيد بن أرقم لما رواه مسلم عنه أنه غزا ست عشرة غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {12/197 نووي}.

    ولكنه أيضا لا يدل على انحصار الغزوات بـهذا العدد، بدليل أن استقراء سيرته عليه السلام ينبئ أن غزواته أكثر من تسعة عشر على القطع، فلا بد من تأويل قول بريدة هذا على أن هذا هو ما بلغه، أو أنه أدخل بعضَ الغزوات في بعض إما لتقاربـها أو لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج إليها خروجاً واحداً، لا سيما أن بريدة تأخر إسلامه عن الغزوات الأُوَل.

    ويدل عليه ما وقع عن مسلم {12/19 نووي} عن حديث جابر قال «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، لم أشهد بدراً ولا أحداً، منعني أبي، فلما قُتل عبدُ الله يوم أحد لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قط».

    قال النووي رحمه الله: «هذا صريح بأن غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن منحصرة في تسع عشرة، بل زائدة، وإنما مراد زيد بن أرقم وبريدة بقولهما تسع عشرة أن منها تسع عشرة...».

    وبنحوه يجاب عن قول ابن المسيب والمحب الطبري أنـهما إنما ذكرا المشهور من الغزوات، وقد صرّح بذلك المحب نفسه، فالتحقيق ما ذهب إليه ابن إسحاق ومن معه من جمهور أهل العلم بالمغازي والسير والأثر، فإنه رحمه الله تتبعها وعدها فوجدها تبلغ سبعاً وعشرين غزوة، وهكذا عدّها الواقدي وتبعه ابن سعد واختاره النووي وغيره.

    وأما من عدها دون ذلك فيحمل قوله على أن هذا الذي ذكره هو مشهور الغزوات كما ألمع إليه الطبري، أو أنه ضم بعض الغزوات إلى بعض لتقاربـهن، أو أنه لا يعتد بـها غزوة لعدم وقوع قتال فيها، أو لكونه عد الغزوتين واحدة لخروجه صلى الله عليه وآله وسلم فيهما خروجاً واحداً، أو لغير ذلك من الاعتبارات والاحتمالات الواردة.

    فهذا موسى بن عقبة لما عدّ الغزوات التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر قريظة، وعلل ذلك الحافظ ابن حجر بقوله «وأهمل غزوة قريظة لأنه ضمها إلى الأحزاب لكونـها كانت في إثرها، وأفردها غيره لوقوعها منفردة بعد هزيمة الأحزاب، وكذا وقع لغيره عدّ الطائف وحنين واحدة لتقاربـهما». اهـ.

    وكذا وقع لابن هشام عدّها ستاً وعشرين لأنه أهمل غزوة وادي القرى، لوقوعها متّصلة بخيبر، فكأنه عدّهما غزوة واحدة كما قاله السهيلي.

    وقال الكنكوهي {8/247} «وقد اختلف في عدد الغزوات، ومنشأ الاختلاف اعتبارات الرواة، فكم من راو جعل السفرة الواحدة من المدينة غزوةً واحدة، وإن تضمنت غزوات، فعدّ على رأيه هذا غزوةَ الفتح وطائفاً وحُنيناً وأوطاس واحدة، ولا ضير فيه، وآخر نظر إلى وقوع محاربة ولو قليلاً، إلى غير ذلك من الاختلاف مع أن مفهوم العدد لا معتبر به عند الثقات». اهـ.

    وقال الزرقاني في «شرح المواهب» {2/220} «ويمكن الجمع على نحو ما قال السهيلي بأن من عدّها دون سبع وعشرين، نظر إلى شدة قرب بعض الغزوات من غيرها، فجمع بين غزوتين وعدّهما واحدة». اهـ.

    فالصحيح في عدد مغازيه صلى الله عليه وآله وسلم أنـها سبع وعشرون غزوة كما قاله أهل السير، وبه يُعلم غلطُ شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الذي صنفه في نقض كلام ابن المطهر الحلي {4/81} فإنه أطلق أن قول القائل إن النبي صلى الله عليه وسلم غزا سبعاً وعشرين غزوة ليس بصحيح، وحكى إجماع أهل العلم بالسير على أنـها أقلّ من هذا العدد.!

    كذا قال، وقد عرفت ما فيه، على أن له رحمه الله في هذا التصنيف أوهاماً متكاثرة، تتبعه عليها جمع من الحفاظ منهم أبو بكر بن المحب الصامت وابن عبد الهادي والحافظ ابن حجر وغيرهم، والعذر له رحمه الله أنه إنما صنَّفه من حفظه حال كونه في السجن.

    وقد نظم عددَ غزواته عليه السلام الحافظُ العراقيُّ في (ألفية السيرة) فقال:

    سبعاً وعشرين اعددنّ الغزوا أوّلـُها ودّانُ وهي الأبوا

    ثمّ بواط بعدُ فالعُشيرا............ ...فبدرٌ الأولى، فبدرُ الكبرى

    فقينقاع، فالسّويق، غطفانْ..........وهي فذو إمر، فغزو بحِرانْ

    فأحدٌ بعدُ، فحمراءُ الأسدْ.........ثمّ بنو النّضير، ثَمَّ في العددْ

    ذاتُ الرّقاع، ثمّ بدرُ الموعدِ فدومةٌ، فالخندقُ اذكرْ واعدُدِ

    قريظةٌ، لحيانُ، ثمّ ذو قردْ.........ثمّ المريسيعُ على القول الأسَدْ

    ثمّ تليها عمرةُ الحديبيهْ............ ......فخيبرٌ، فعمرةُ القضيّهْ

    ففتحُ مكّةَ، حنينٌ، وتلا..............غزاة ُ طائفٍ، تبوكٌ قاتلا

    منها بتسع: أحدٍ، والخندقِ بدرٍ، بني قريظةَ، المصطلقِ

    خيبرَ والفتحِ، حُنينٍ، طائفِ...وقد حكوا عن قول بعض السّلفِ

    بأنّه قاتلَ في النّضيرِ..........وغ ابةٍ، وادي القرى المشهورِ

    آخره

    والحمد لله رب العالمين



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •