الومَضَاتْ في عَدَدِ وأوّلِ الغَزَواتْ (1)
بلال فيصل البحر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين... وبعد:
فقد طلب مني بعض الإخوان في مجلس وقع فيه الخوض والجدال في عدد مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعيين أول غزوة منها، أن أجمع مقالات أهل العلم بالسير والأخبار والمغازي في هذا المعنى مع تحقيق الخلاف وبيان المقام في الموضعين.
إذ كان بعض الناس قد نقل الإجماع فيها، وعارضه غيره بانتقاض دعوى الإجماع وبطلانـها، فكتبتُ هذه الومضات في شرح حال هاتين المسألتين وإيضاح دلائلهما ومقالات أهل العلم فيهما.
ولاريب أن العلم بالتاريخ والاطلاع على أخبار السير وأيام الناس، من العلوم الشريفة، المشتملة على فوائد لطيفة، ومباحث منيفة، لا يروم سلوك سبيل معرفتها وعلمها إلا من كان ذا همة عالية، وعزيمة ماضية.
وقد اعتنى بـمعرفتها أسلافنا من الصحابة فمن بعدهم من أهل العلم، وحرصوا على وضع تأريخ للأمة يبتدأ من أهم حدث كان فيها، تنهج عليه الأجيال من بعدهم، كما هو شأن الأمم قاطبة.
ولاريب أن من أجلَّ الحوادث هجرتُه عليه السلام، وقد حكى السهيلي في (الروض الأُنُف) {4/255} وابن كثير في (تاريخه) {3/177} اتفاق الصحابة على أن ابتداء التاريخ بالهجرة النبوية كان على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بـعد أن شاور فيه علياً عليه السلام وكبار الصحابة.
وفي (سيرة عمر) لأبي الفرج بن الجوزي {57} عن ابن المسيب قال: (أول من كتب التاريخ عمر، لسنتين ونصف من خلافته، فكتبه لست عشرة من المحرم بمشورة من علي عليه السلام).
وأخرج الحاكم {4287} وصححه عن ابن المسيب قال: جمع عمرُ الناسَ فسألهم من أي يوم يكتب التاريخ.؟ فقال علي بن أبي طالب: (من يوم هاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وترك أرضَ الشرك) ففعله عمر.
وروى الحاكم {4286} وصححه عن ابن عباس قال: (كان التاريخُ في السنة التي قدم فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، وفيها ولد عبد الله بن الزبير).
وذكر الواقدي عن ابن أبي الزناد عن أبيه أنه قال: (استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة).
وعند ابن إسحاق عن الشعبي قال: (أرّخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرّخوا من بنيان إبراهيم وإسماعيل البيتَ، ثم أرّخوا من موت كعب بن لؤي، ثم أرّخوا من الفيل، ثم أرّخ عمر بن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة).
وبوَّب البخاريُّ في (كتابه) {3934}: (باب التاريخ من أين أرخوا التاريخ) وساق بسنده عن سهل بن سعد قال: (ماعدّوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته، ما عدّوا إلا من مقدمه المدينة).
وذكره في (تاريخه) أيضاً وأخرجه الحاكم {4285} ولفظه عنده: (أخطأ الناسُ في العدد، ما عدّوا من بيعته، ولا من وفاته، إنما عدّوا من مقدمه المدينة).
وقوله (أخطأ الناس) أي: تَخَطَّوا البيعةَ والوفاة وتجاوزوهمافي عدّ التاريخ.
وسبب ذلك فيما ذكر غير واحد من أهل العلم بالتاريخ، أن عمر رضوان الله عليه رُفع إليه صكٌّ لرجل على آخر، وفيه أنه يحلُّ عليه في شعبان، فقال عمر: أيّ شعبان؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها، أو السنة الماضية أو الاتية.؟
ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تأريخ يتعرّفون به حلول الديون وغير ذلك، فقال قائل: أرّخوا كتأريخ الفرس. فكره ذلك عمر. وكانت الفرس يؤرّخون بـملوكهم واحداً بعد واحد.
وقال آخر: أرّخوا بتأريخ الروم. وكانوا يؤرخون بـملك إسكندر بن فيليبس المقدوني. فكره ذلك.
وقال قائل: أرّخوا بـمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: بل بـمبعثه. وقال آخرون: بل بـهجرته. وقال آخرون: بل بوفاته عليه السلام.
فمال عمر إلى التأريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره، واتّفقوا معه على ذلك.
وأخرجه أحمد وأبو عروبة الحراني في (الأوائل) {127} والبخاري في (الأدب) والحاكم من طريق عمرو بن ميمون نحوه، كذا في (الفتح).
وحكى الحافظ سبباً اخر في وضع التاريخ، أخرجه أبو نعيم الفضل بن دُكين في (تاريخه) ومن طريقه الحاكم عن الشعبي أن أبا موسى كتب إلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمرُ الناسَ فقال بعضهم: أرّخ بالمبعث. وبعضهم: أرخ بالهجرة. فقال عمر: الهجرة فرّقت بين الحق والباطل. فأرّخوا بـها، وذلك سنة سبع عشرة، فلما اتّفقوا قال بعضهم: ابدءوا برمضان. فقال عمر: بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجّهم، فاتّفقوا عليه.
وعند ابن أبي خيثمة عن ابن سيرين قال: قدم رجل من اليمن فقال: رأيت باليمن شيئاً يسمونه التاريخ يكتبونه من عام كذا وشهر كذا. فقال عمر: هذا حسن فأرخوا. فلما جمع على ذلك قال قوم: أرخوا للمولد. وقال قائل: للمبعث. وقال قائل: من حين خرج مهاجراً. وقال قائل: من حين توفي. فقال عمر: أرخوا من خروجه من مكة إلى المدينة.
ثم قال: بأي شهر نبدأ.؟ فقال قوم: من رجب. وقال قائل: من شعبان. وقال قائل: من رمضان. فقال عثمان: أرخوا المحرم فإنه شهر حرام وهو أول السنة ومنصرف الناس من الحج. قال: وكان ذلك سنة سبع عشرة وقيل سنة ست عشرة، في ربيع الأول.
ذكره الحافظ {7/269} وقال: (فاستفدنا من مجموع هذه الآثار أن الذي أشار بالمحرّم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم).
والجمهور على أن أول التاريخ الهجري من شهر المحرّم، ونقل ابن كثير أن أبا القاسم السُهيليُّ حكى عن مالك رحمه الله أنه من شهر ربيع الأول، لأنه الشهر الذي هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لقوله تعالى (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) {التوبة 108} أي: من أول يوم حلول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، وهو أول يوم من التاريخ.
ذكره الحافظ ابن كثير {3/207} وتعقبه بقوله: (ولاشك أن هذا الذي قاله الإمام مالك رحمه الله مناسب، ولكنّ العملَ على خلافه، وذلك لأن أول شهور العرب المحرّم، فجعلوا السنة الأولى سنة الهجرة، وجعلوا أولها المحرم كما هو المعروف لئلا يختلط النظام).
والذي في كتاب السهيلي {4/156} أن الصحابة أخذوا التاريخ بالهجرة من هذه الاية، لأنه من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقاً، فتعيّن أنه أضيف إلى شئ مضمر، وهو أول الزمن الذي عزَّ فيه الإسلام، وعبد فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ربَّه آمناً، وابتدأ بناء المسجد، فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهمنا من فعلهم أن قوله (من أول يوم) أنه أول أيام التاريخ الإسلامي.
وهو انتزاع حسن كما قاله الحافظ ابن كثير، وإن كان المتبادر من قوله (أول يوم) أي أول يوم دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة كما قاله الحافظ ابن حجر.
وقال الحافظ في (الفتح) {7/268}: (وقد أبدى بعضهم للبداءة بالهجرة مناسبة فقال: كانت القضايا التي اتفقت له ويـمكن أن يؤرّخ بـها أربعة: مولده ومبعثه وهجرته ووفاته، فرجح عندهم جعلها من الهجرة، لأن المولد والمبعث لايخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما وقع بذكره من الأسف عليه، فانحصر في الهجرة، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم، لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم، إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهلّ بعد البيعةِ والعزمِ على الهجرة هلال المحرم، فناسب أن يـُجعل مبتدأ، وهذا أقوى ما وقفتُ عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم).أ.هـ
وبه يُعلم شذوذ القذافي وضلاله فيما أحدثه من اتّخاذ التاريخ من مولده عليه السلام، وقد قال تعالى (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) {النساء115}.
ووقع في «تاريخ ابن جرير الطبري» (2/511) من طريق ابن جريج عن أبي سلمة عن ابن شهاب هو الزهري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا قدم المدينة، قدمها في شهر ربيع الأول، أمر بالتاريخ.
وهذا غلط من وجوه:
الأول: أن إسناده منقطع من أجل عنعنة ابن جريج؛ فإنه قبيح التدليس مكثر منه كما قاله الدارقطني وغيره، ولم يصرح بالسماع، أو ما يقوم مقامه.
الثاني: أنه من مرسل الزهري، وقد تقرر أن مراسيل الزهري قبيحة لا حجة فيها كما قاله الشافعي؛ لأن الزهري حافظ كبير لا يُرسل إلا لعلة، قاله الشوكاني وغيره.
الثالث: أنه خلاف المحفوظ الذي جرى عليه نقلُ الكافة من أهل العلم بالأخبار والسير والتاريخ كما مرَّ ذكره.
وذكر الحافظ في (الفتح) {7/268} عند قول البخاري: (من أين أرخوا التاريخ) أن البخاري كأنه يشير إلى اختلاف في ذلك، قال: وقد روى الحاكم في (الإكليل) من طريق ابن جريج عن أبي سلمة عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم لـمّا قدم المدينة أمر بالتاريخ، فكُتب في ربيع الأول.
قال الحافظ: (وهذا معضل، والمشهور خلافه).
وفيه قولٌ ثالث أن أول من أرّخ التاريخ يعلى بن أمية حيث كان باليمن، ذكره الحافظ في (الفتح) {7/268} وقال: (أخرجه أحمد بن حنبل بإسناد صحيح، لكن فيه انقطاع بين عمرو بن دينار ويعلى).والله أعلم