شهادة الأعداء بالفضل والكمال للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم











عبد المجيد أسعد البيانوني





لقد " أرسل الله نبيّه مُحَمّداً صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، وطموس من السبل، وعبادة عمياء، للأصنام والأحجار والأشجار، وجهالة جهلاء، غمرت جميع القرى والأمصار، أرسله برسالة عامّة باقية، وشريعة خالدة هادية، قائمة على الآيات البيّنات، ما قامت الأرض والسموات، فكان ولا يزال رحمة للعالمين، كما كانت شريعته ولا تزال هي النور المبين، والمعتصم والملجأ إلى يوم الدين، وليس بينها وبين الإيمان بها، وبأنّها لا يأتيها الباطل من بين يديها، ولا من خلفها إلاّ نظرة صادقة في تاريخ هذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم " انظر كتاب:" من ذخائر السنّة النبويّة " للعلاّمة الشيخ طه محمّد الساكت، جمع الشيخ مجد مكّي 1/134/، وأن يكون الإنسان متمتّعاً بخلق الموضوعيّة والإنصاف، بعيداً عن العصبيّة العمياء، واتّباع الهوى الذي يفسد السيرة، ويطمس البصيرة.

وإنّ شهادات المنصفين التي نعرضها في هذا الباب تشمل ما أثنوا به على الإسلام، كما تشمل شهادتهم وثناءهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ إنّ الثناء على الإسلام لا ينفكّ عن الثناء على النبيّ صلى الله عليه وسلم، الذي بعث به، ولا يتصوّر بدونه، وكذلك العكس.. ومحاولات الفصل بين الطرفين محاولات تنضح بالضغينة، ولا تعرف الموضوعيّة، ولا تستطيع أن تنتقص شيئاً من الحقيقة، ولو أعمت عينها دهراً طويلاً..

وإذا كان الوحي الإلهي قد سجل شهادة من أهل الكتاب أو شهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الشهادة لم تكن واقعة تاريخية فريدة.. إذ إنّ كل قرن من القرون الأربعة عشر الماضية حملت شهادات مشابهة من المنصفين من أهل الكتاب وغيرهم، للإسلام، وللرسول صلى الله عليه وسلم، وللقرآن الكريم.

وإذا كانت حقائق الإسلام الظاهرة، وحججه البيّنة النيرة، لا يحتاج معها المسلمون إلى شهادات غيرهم لدينهم، فإنّ قيمة هذه الشهادات تبدو في إقامة الحجّة على ما يفتريه بعض المتعصبين على الإسلام من زيف.. وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من لغو وإثم..

فكلمة إنصاف واحدة من منصف مخالف في العقيدة والمبدأ، أبلغ تأثيراً من مئة كلمة من حاقد حشي تفكيره أوهاماً باطلة، وما أقوى الشهادة عندما تكون من نوع: " وشهد شاهد من أهلها.!؟

وتبدو قيمة هذه الشهادات أيضاً أنّها حجّة على قائليها، الذين شهدوا بها، ثمّ لم يزالوا مصرّين على ما هم فيه من عقائد باطلة، لقيود تافهة لم يستطيعوا التحرّر منها..

وإذا كان بعض هؤلاء الشاهدين وقفوا حائرين أمام عظمة المصطفى صلى الله عليه وسلم مشدوهين أمام شخصيته، يعترفون ولا يهتدون، ويشهدون ولا يلتزمون بحكم شهادتهم، فإن منهم من يريد أن يهرب من التفسير الصحيح لعظمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، التي لا تدنيها عظمة إنسانية في أي جانب من جوانبها، فلا يعترف بما وراء هذه العظمة.. ومنهم من يظن أن قصارى جهده وإنصافه أن يعترف بها، ويسلم بظهورها.. بعد أن سطعت شمسها على الإنسانية سطوعاً لم تعد تجدي معه مكابرة مكابر، أو إنكار منكر جاحد.. ومنهم من يراها نبوة من النبوات ليست خاتمة ولا ملزمة.. ومنهم ومنهم.. ولكنها تبقى شهادات، لها أثرها المبين، في ردّ المغتربين التائهين، وكسر حدّة المتعصّبين، وخزي ذوي الأحقاد المارقين.

وإنّ هذه الشهادات لتذكرنا بكلمة العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه لأبي سفيان يوم فتح مكة، إذ قال أبو سفيان قبل أن يتمكّن الإيمان في قلبه، وهو يرى جند الإسلام وألوية الحقّ تمضي قدماً باتجاه الفتح المبين: " يا عباس لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً "، فأجابه العباس رضي الله عنه ببداهة سريعة: " ويحك يا أبا سفيان! إنها النبوة! ".


ونحن نقول اليوم: " ويحكم أيها الناس! إنها النبوة الخاتمة.. التي تأبى أن تشتبه بعظمة العظماء، أو تقارن بعبقرية العباقرة الأفذاذ، فهذه أمور أوّل شأنها أنّها تتدرّج وتترقّى، وغاية أمرها أنّها تبقى محدودة بحدود قوى البشر وطاقاتهم، تتبدّى فيها معاناتهم، وسقوطهم مرّة، وارتفاعهم أخرى، وتألّقهم في جانب، وانحدارهم وانحطاطهم في جانب آخر، ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره، ويأبى الله لأنبيائه ورسله إلاّ أن يكون نورهم أتمّ، وأمرهم في العالمين أعظم.